الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92614
تحميل: 7033


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92614 / تحميل: 7033
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وثُمَّة نصّ للشيخ جعفر سبحاني في كتاب ((معالم الحكومة الإسلاميّة)) يمكن أن يفيد أنّ البرنامج وأسلوب التنفيذ هو ممّا يقع خارج دائرة الفقه، حيث يقول: ((وبعبارة أخرى: للحكم والقانون ثلاث مراحل:

١ ـ مرحلة التشريع، وهي لله خاصّة بالأصالة.

٢ ـ مرحلة التشخيص، وهي للفقهاء العدول.

٣ ـ مرحلة التخطيط، وهي للمجلس النيابي، والأخير هو الّذي يجتمع فيه جماعة من ذوي الأطّلاع والاختصاص، وممّن يحملون معلومات مختلفة، فيخطّطون لبرامج البلاد حسب الضوابط الإسلاميّة))(٢٩) . كما أنّ لابن رشد كلاماً حول صلاة الأموات، يمكن أن يكون مفيداً في ما نبحث عنه. في مسألة كيفيّة القيام بصلاة الميّت فيما لو كان هناك عدد من الجنائز بعضها للرجال وبعضها للنساء، ذُكِرَت أقوال عدّة، فقد ذهب بعضهم إلى أنّه توضع جنائز النساء أوّلاً، ثُمَّ تردف بجنائز الرجال، ثُمَّ يقف الإمام بعد ذلك. على حين ذهب بعضهم إلى عكس هذا الترتيب، فيما ذهب فريق ثالث إلى الفصل بين الرجال والنساء، فيصلّى على الرجال بصورة مستقلّة عن النساء، وعلى جنائز النساء أوّلاً، ثُمَّ تردف بجنائز الرجال، ثُمَّ يقف الإمام بعد ذلك. على حين ذهب بعضهم إلى عكس هذا الترتيب، فيما ذهب فريق ثالث إلى الفصل بين الرجال والنساء، فيصلّى على الرجال بصورة مستقّلة عن النساء، وعلى جنائز النساء بصورة منفصلة عن الرجال.

والمهمّ في هذه المسألة تعقيب ابن رشد عليها، حيث يوضّح سبب الاختلاف كما يأتي: ((وسبب الخلاف، ما يغلب على الظنّ باعتبار أحوال الشرع من أنّه يجب أن يكون في ذلك شرع محدّد، مع أنّه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده؛ ولذلك رأى كثير من الناس أنّه ليس من أمثال هذه المواضع شرع أصلاً))(٣٠) .

لو تأملنا في هذا المثال جيّداً، لاستنتجنا أن ما وقع محلاً للخلاف، هو أسلوب إجراء الحكم المتمثّل بالصلاة على الأموات، فقد بيَّنت الشريعةُ الحكمَ. أمّا أسلوب التنفيذ، فقد تُرِك دون بيان.

ــــــــــــــ

(٢٩) معالم الحكومة الإسلاميّة، ص٣٠١.

(٣٠) ابن رشد، بداية المجتهد، ج١، ص٢٣٧، المسألة الخامسة.

٢١

تنظيم الاستدلال والمناقشة

لو أردنا تنظيم استدلال الرؤية الّتي تذهب إلى محدوديّة دائرة الفقه، وأنّه لا يشمل التخطيط العملي وبرامج التنفيذ، لكان من الممكن إرجاء ما ذكره أصحاب هذه الرؤية إلى النقطتين التاليتين:

الأولى: استدلّ بعضهم على عدم الغنى البرنامجي بسيرة الأئمّةعليهم‌السلام ؛ حيث إنّهم لم يكونوا مبادرين لعرض برنامج على هذا الصعيد، بل كان المسلمون يسألون؛ أي يعرضون البرنامج، والأئمّة يجيبون(٣١) .

الثانية: استدلّ د. سروش على أنّ دور الفقه يبرز في اللحظة الّتي تبرز فيها الخصومة؛[حيث ]لا يتصرّف الناس[عندها] على وفق نهج العدل، وهذه الحالـة هي جزء من مشـكلات المجتمع وليـس كلّـها(٣٢) ، هذا أهمّ ما يَستدل به أصحاب هذه الرؤية.

ويبدو أنّ النقطتين كلتيهما غيرُ صحيحتين، أضف إلى ذلك أنّ الّتيار الّذي يزعم أنّ الفقه لا شأن له بالبرنامج لم يحدّد ما يعنيه من هذا المصطلح بصيغة دقيقة.

في البدء ينبغي أن يُلحظ أنّ أكثر الأسئلة الّتي كان يوجّهها الرواة إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كانت تتحرّك في دائرة عدم العلم، بمعنى أنّ الأسئلة كانت توجّه من أجل الفهم والحصول على العلم بالحكم الشرعي، وليس من أجل كسب تأييد الإمام لموقف يتبنّاه الراوي أو السائل. إذا أخذنا هذه الملاحظة بنظر الاعتبار، فما هو مقدار النسبة المئويّة للأسئلة الّتي يهدف السائل من ورائها كسب الّتييد من بين الأسئلة والأجوبة الموجودة في الروايات المدوّنة؟

على أنّه يكون من السائغ عرض البرنامج حين يتولّى الإمام المعصوم بنفسه مهمّة التنفيذ، في حين نعرف أنّ أكثر أئمّة أهل البيت صُدُّوا عن موقعهم في إدارة

ــــــــــــــ

(٣١) كيهان فرهنكي، السنة السادسة، العدد١، ص١٥.

(٣٢) كيان، العدد٢٧، ص١٣، بالفارسيّة.

٢٢

المجتمع... على ضوء هذا الموقع الّذي لا يكون فيه الإمام متصدّياً لقيادة الدولة والمجتمع، بعيداً عن مصدر القرار، كيف يكون السؤال، بمعنى عرض البرنامج، ويكون الجواب تأييداً له؟. لو أنّ أنصار هذا الاتّجاه عرضوا لنماذج تسند موقفهم من عهد حكومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة، أو من عهد حكم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في السنوات الخمس، لكان الحقّ معهم في هذه النقطة.

أمّا بشأن ما ذكروه من أنّ دور الفقه يبرز في مواضع الخصومة، فهو غير صحيح؛ وذلك لأنّ علاقات الحياة الإنسانيّة تتطلّب وجود القانون، والقانون هو الّذي يجعل سلوك هؤلاء يقوم على أساس منهج العدل. وإذا ما حاد الإنسان عن طريق العدل في هذه المرحلة، فسيأتي دور قانون وبرنامج آخر لكي يرفع الخصومة.

وبحسب الرؤية القرآنيّة(٣٣) ، فإنّ القانون يؤدّي مهمّتين: الأولى: تنظيم العلاقات. الثانية: رفع الاختلاف والخصومة.

ثُمَّ حتّى لو نظرنا إلى القوانين الّتي يضعها البشر أنفسهم، فإنّنا لا نجدهم يسنَّونها لحل الخصومات فحسب، بل إنّ أكثر القوانين يتكفّل تنظيم العلاقات قبل مرحلة الخصومة والاختلاف والاصطدام. على أنّ الكتب الفقهيّة نفسها هي على خلاف رؤية هذا الّتيار، فأوّل ما يعمد إليه الفقهاء في كتب المعاملات هو بيان الأحكام، ثُمَّ ينتقلون إلى موارد النزاع والاختلاف. أجل، من الصحيح القول: إنّ القانون وُضِع ليحول دون الخصومة والنزاع. بيدَ أنّ هذه المقولة تختلف عن المقولة الّتي تفيد أنّه حيثُمَّا كانت الخصومة كان القانون!. أمّا كلام الغزالي الّذي استند إليه سروش، فهو على عكس ما يريد، فالغزالي يقول: ((ولو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطّل الفقهاء))؛ إذ يشير إلى أنّ

ــــــــــــــ

(٣٣)( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ... ) البقرة: ٢١٣.

٢٣

الانقطاع يكون بعد ممارسة العدل. على أنّ من الطبيعي أنّ هذه الممارسة الّتي تفضي إلى انقطاع الخصومات، تكون على أساس القوانين والأحكام الفقهيّة، لا أنّ الفقه والقانون يمارسان حاكميّتهما في نطاق الخصومة. على أنّ كلام الغزالي نفسه هو كلام مثالي، يمكن أن يكون صحيحاً في إطار المدينة الفاضلة.

إذا ما تجاوزنا ذلك، فإنّ الأمثلة الّتي تضمّنها كلام الدكتور سروش حول البرنامج، قد جاءت بعدد من الصيغ، يمكن الإشارة إليها كما يلي:

١ ـ لا ريب أنّ بعض الأمور الدنيويّة هي بعهدة المجتمع نفسه والدولة الحاكمة، حيث يتعيّن عليهما اتّخاذ القرارات اللاّزمة بشأنها. وفي هذه الدائرة لا يدّعي الفقيه أنّه يحلّ هذه الأمور بالفقه والفتوى. فقضايا التلوّث، وبنوك الدم، والازدحام في الطرقات، والزراعة وما شابه، تقع ضمن هذا السياق. وليس صحيحاً الزعم القائم بأنّها تُحَلّ بالفقه والفتوى، ولو أنّ أحدهم استفاد مسألة زراعيّة من إطلاق حديث وعمومه، فليس معنى ذلك أنّ الفقه بادر لحلّ مشكلة زراعيّة، وإنّما معناه أنّ الفقيه وضع فكره الّذي كان متّسقاً مع ذلك الحديث، في عداد الفقه.

٢ ـ إنّنا نعتقد أن البرنامج هو أسلوب تنفيذ القوانين وطريقة تطبيق الأحكام عمليّاً. وما ينبغي التنبيه إليه هو أنّ القانون يحتاج في تطبيقه بالإضافة إلى معرفة الحكم نفسه، إلى معلومات خارجية أخرى؛ إذ لا يكفي مجرّد معرفة الحكم والعلم به لتنفيذه، يستوي في ذلك المجتمع البدائي البسيط والمجتمع الجديد المعاصر. وبذلك ليس صحيحاً أنّه لم تكن في السابق حاجة إلى البرنامج والآن برزت هذه الحاجة، أو أنّ البرامج كانت تعرض في السابق بدون علم ومعرفة.أمّا اليوم، فهي بحاجة إلى الاستفادة من العلوم.

ومن البديهي، أنّ امتداد العالم المعاصر وسعته، وتنوّع الوسائل واختلاف الأدوات أكسب برامج تطبيق القانون، ووسائل تنفيذه صيغة أخرى وجعلها تبرز بوجه آخر.

ثُمَّ أليست أساليب القضاء، والحِكَم الّتي تضمّنتها النصوص النبويّة، ونصوص الأئمّة، وتلك الّتي تنطوي عليها سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وعمله؛ هي بنفسها ضرب من البرنامج؟

٢٤

ثُمَّ ألا تُعد طريقة جمع الخراج وتقسيمه بين المسلمين برنامجاً؟، أجل، هناك مجال للبحث في هذه البرامج الّتي تضمّنتها نصوص هؤلاء القادة المعصومين وسيرتهم، وفيما إذا كانت تعدّ حجّة في الوقت الحاضر أم لا. وهذه المسألة تقوم على عدد من الفرضيّات الّتي إذا ثبتت، فستكون تلك البرامج معتبرة في الزمن الحاضر أيضاً.

يخلص البحث في هذه النقطة إلى نتيجة تفيد أنّه لا يمكن إثبات نفي البرنامج عن الفقه بشكل مطلق؛ بحيث يُعهد به إلى العلوم البشريّة. وفي المقابل لا يمكن الركون إلى دعوى الغنى البرنامجي في الفقه، وادّعاء أنّ الفقه يتضمّن في بنيته وصميمه وقوامه، عرض برامج التنفيذ كما يتضمن بيان الأحكام.

على أنّه ينبغي أن يُلحَظ أنّه في الموارد الّتي تكون بها برامج التنفيذ خارج دائرة الفقه، وبعيدة عن مجاله، يتحتّم رعاية الضوابط، والقيم، والأحكام الدينيّة في صوغ تلك البرامج.

وما يدور الآن في أروقة مجلس الشورى الإسلامي في التجربة الإيرانيّة يرجع في حقيقته إلى هذين النوعين من البرامج، فبعض أعمال مجلس الشورى وما يدور فيه من بحوث و نقاشات إنّما ينصبّ على أمور دنيويّة ينبغي للمجتمع أن يتّخذ القرار المناسب بشأنها. وبعض آخر يدور حيال أساليب إجراء الأحكام ويرجع إلى كيفيّة تطبيق القوانين الدينيّة.

على أنّ قيمة هذه القوانين الّتي يشرّعها المجلس منوطة بعدم معارضتها للشرع والدستور؛ أي بعدم مغايرتها للقيم والأحكام الدينيّة.

٢٥

وبتعبير آخر: إنّ أجزاءً واسعة من البرامج بكلا معنييه تقع على عاتق الناس أنفسهم؛ استناداً إلى قوله:( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (٣٤) ، وإن كان للفقه مسؤوليّته في التشريع وبيان الحكم في بعض الأجزاء أيضاً.

٤ ـ الفقه والإطار المنظومي

هل يستطيع الفقه، أو هل ينبغي له، أن يكتسب إطاراً منظوميّاً وتنظيريّاً، وذلك بالمعنى الّذي ينهض بعملية بناء منظومة، وطرح نظريات منسجمة في مختلف أبعاد الحياة، وعلى المستوى الاقتصادي، والسياسي، والثقافي وغيره، من خلال ثنايا الأحكام المتفرّقة؟، أم أنّ عملية استمداد الأحكام المتفرّقة لبناء نظرية، أو منظومة، هي من الأمور الخارجة عن نطاق الفقه، ومن ثُمَّ لا ينبغي للفقيه أن يهتمّ بها؟

إنّ ما نواجه في هذه المسالة هو آراء ونظريّات قليلة، حتّى ليصحّ القول إنّنا بإزاء موضوع بكر؛ وذلك لأنّه لم يتم التعاطي مع هذه القضيّة على نحو جادّ، لصياغة إطار منظومي لها.

من بين الفقهاء يصرّح الشهيد الصدر أنّ بمقدور الفقه أن يتحوّل إلى صاحب نظرية ومنظومة، بحيث يعدّ هذا الأمر أحد التحوّلات الضرورية الّتي ينبغي أن تطرأ على الفقه. يقول: ((من الناحية العموديّة أيضاً لابدّ من أن يتوغّل هذا الاتِّجاه الموضوعي في الفقه، لابدّ وأن يُنفَذ عموديـاً، لابدّ وأن يصل إلى النظريات الأساسيّة، وأن لا يكتفى بالنباءات العلويّة، لابدّ وأن ينفذ من خلال هذه البناءات العلويّة إلى النظريات الأساسيّة، الّتي تمثّل وجهة نظر الإسلام؛ لأنّنا نعلم أنّ كلّ

ــــــــــــــ

(٣٤) الشورى: ٣٨.

٢٦

مجموعة من التشريعات في كلّ باب من أبواب الحياة وترتبط بنظرات أساسيّة، ترتبط بتطوّرات أساسيّة. تشريعات الإسلام في مجال الحياة الاقتصاديّة ترتبط بنظرية الإسلام، بالمذاهب الاقتصاديّة في الإسلام... لا ينبغي أن يُنظَر إلى ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه، بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه))(٣٥) .

كما سجّل الصدر أيضاً أنّ عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام تملي على الباحث فيه أن يتحرّك من القوانين والأحكام إلى بلورة النظام وصياغته(٣٦) .

وفي سبيل توضيح هذا البُعد يكتب قائلاً: ((على أساس ما تقدّم، يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام الإسلام وتشريعاته، الّتي تعتبر بناءً فوقيّاً للمذهب، في نطاق عملية اكتشاف المذهب... لأجل هذا سوف يتّسع البحث في هذا الكتاب [اقتصادنا] لكثير من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق الّتي تنظّم العلاقات الماليّة بين الأفراد، كما يتّسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات الماليّة بين الدولة والأمّة، وتحديد موارد الدولة وسياستها العامّة في إنفاق تلك الإيرادات))(٣٧) .

يعرض الشهيد الصدر في أحد مؤلّفاته للسؤال التالي: ما الداعي لإتعاب أنفسنا في سبيل تحصيل هذه النظريات العامّة للدين في المجالات المختلفة، مع أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعل ذلك؟، ليجيب عليه بقوله: ((الحقيقة أنّ هناك اليوم ضرورة أساسيّة لتحديد هذه النظريات. النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطي هذه النظريّات، ولكن من خلال التطبيق، من خلال المناخ القرآني العام الّذي كان يبيّنه في الحياة الإسلاميّة، وكان كلّ فرد مسلم في إطار هذا المناخ، يفهم هذه النظرية، ولو فهماً إجماليّاً ارتكازيّاً؛ لأنّ المناخ والإطار الروحي، والاجتماعي، والفكري، والتربوي، الّذي أوجده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان قادراً على أن يعطي النظريّة السليمة))(٣٨) .

ــــــــــــــ

(٣٥) المدرسة القرآنية، ط دار التعارف، بيروت، ص٣١ ـ ٣٢.

(٣٦) اقتصادنا، ط دار التعارف، بيروت، ص٣٨٨ ـ ٣٩٤.

(٣٧) المصدر نفسه، ص٣٩٤.

(٣٨) المدرسة القرآنيّة، ص٣٤.

٢٧

ويمثِّل لتقريب هذه الفكرة بإنسان يعيش بين أهلِ لغةٍ من اللّغات، وفي أعماق هذا العرف، فهو يستطيع أن يُدرك المعاني، ويمارس التقييم السليم للكلمة الصحيحة، تبعاً للمدلولات والقواعد الموجودة في ذهنه وجوداً إجماليّاً ارتكازيّاً، من دون حاجة إلى معرفة تفصيليّة بنظريّات تلك الثقافة اللُّغويّة وإطارها العرفي. أمّا الإنسان الّذي يطلّ على هذه اللّغة من خارجها، فهو بحاجة إلى أن يتعلّم نظريّات تلك اللّغة، ويكون على دراية بقواعدها(٣٩) . ولقد جسّد الشهيد الصدر إيمانه بهذه العقيدة وطبّقها عمليّاً من خلال كتاب ((اقتصادنا)) كخطوة أولى. من جهة أخرى، نلحظ أنّ الأستاذ محمد رضا حكيمي قد أبدى تأييده لهذا المنحى بصيغة ضمنيّة؛ فقد أكّد في إطار التقرير الّذي كتبه في تقييم المجلّدات الثالث إلى السادس من مشـروع موسوعـة ((الحياة))، على النقطة التالية: ((على هذا الضوء يتّضح أنّ المقصود من تدوين هذه الفصول وتصنيفها، ليس أمراً بسيطاً وقليل الأهميّة، بل المقصود هو تبيين مذهب الإسلام الاقتصادي، الّذي لم يبيّن كما ينبغي حتّى الآن))(٤٠) .

ولقد بادر بعض آخر إلى الكتابة تحت عنوان: ((الفقه التقليدي والإطار المنظومي))(٤١) ، بَيْد أنّ هذه المحاولة لم تأت بمطلب مهمّ ودالّ على هذا الصعيد.

٥ ـ الفقه والموضوعات

هل تدخل عملية تبيين الموضوعات في نطاق الفقه؟، أم أنّ رسالة الفقه تقتصر على بيان الحكم وحسب؟، توجد في هذه المسألة آراء مختلفة، وهي لم تشهد عملاً جدّياً حتّى الآن، وإن كانت قد صُنّفت مؤخّراً مقالات عدّة في الموضوع(٤٢) . ففي إطار مبحث الاجتهاد والتقليد، ولا سيما عندما تُدرس دائرة جواز التقليد، يتمّ طرح الموضوع التالي: هل يقع بيان الموضوع على عهدة الفقيه؛ بحيث ينبغي للمقلِّد أن يقلّد في ذلك أيضاً؟، في إطار الجواب على

ــــــــــــــ

(٣٩) المصدر نفسه، ص٣٤ ـ ٣٧.

(٤٠) الحياة، تقرير عن المجلّدات الثالث إلى السادس، ص٢٤.

(٤١) فقه سنتي ونظام سازى (الفقه التقليدي وصياغة النظم)، المقدّمات، مجمع العلوم الإسلاميّة، بالفارسيّة.

(٤٢) مرجعيت وموضع شناسى (المرجعية ومعرفة الموضوع)، مجلة حوزه، العدد المزدوج ٥٦ ـ ٥٧. أيضاً: جايكاه موضوع شناسى در اجتهاد (موقع معرفة الموضوع في الاجتهاد)، مجلة نقد ونظر، العدد٥، ص٨٧ ـ ٩٩، بالفارسيّة.

٢٨

السؤال قُسِّمت الموضوعات في المقام إلى أربع مجموعات، هي: الموضوعات الشرعية، الموضوعات العرفية، الموضوعات اللُّغوية، والموضوعات الصرفة (الأعيان الخارجيّة).

ولقد عدّوا المجموعة الرابعة خارجة عن دائرة التقليد، كما ذكروا أنّه تقع على عاتق الفقه مسؤوليّة تبيين موضوعات المجموعة الأولى. أمّا المجموعتان المتبقِّيتان، فقد اختلف الكلام حولهما؛ إذ عدّهما بعض خارجتين عن وظائف الفقيه، في حين ذهب بعض آخر إلى أنّهما داخلتان في حيطة عمل الفقيه ومن جملة وظائفه(٤٣) .

وهنا نقطة دقيقة أشار إليها البعض تفيد أنّه لو اعتبرنا أنّ بيان الموضوع هو من وظيفة الفقيه، فإنّ هذا لا يعدّ دليلاً على ورود هذا الأمر في الفقه. لقد ذكر هذا المطلب صاحب الحاشـية علـى (المعالم)، وعرض له كاحتمال(٤٤) .

وإنّ المتأمل في عمل الفقهاء يجد أنّ سيرتهم قائمة على تبيين كثير من الموضوعات، وذلك من قبيل: الغناء، والعدالة، والمكاسب المحرّمة، وغير ذلك من الأمور الّتي صارت موضعاً لتدقيق الفقهاء وبحوثهم الجدّية.

لقد قمنا حتّى الآن بعرض المسألة، وبيان الأبعاد المحتملة للفقه. وقد تمَّ في ثنايا ذلك العرض التوصيفي ذِكْرُ بعض الأقوال والرؤى ونقدها. لا شكّ أنّه لم يكن هدف الدراسة تفصيل المسألة، وتسجيل موقف علمي إزائها، بل المراد هو بيان أبعاد الموضوع، وعلى مستوى ((مدخل تمهيدي)) وحسب.

ثانياً: المسلّمات الفرضيّة المسبَّقة

يجب على الباحث في هذه المسألة تحديد موقفه من مجموعة من الفرضيّات، قبل أن يختار رأياً أو يتبنّى نظريّة محدّدة. بتعبير آخر، يستند موضوع

ــــــــــــــ

(٤٣) العروة الوثقى، ج١، ص ٢٥، التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج١، ص٤١٢ ـ ٤١٣، مستمسك العروة الوثقى، ج١، ص١٠٥.

(٤٤) هداية المسترشدين، ص٤.

٢٩

((مجال الفقه)) إلى مجموعة مسلّمات قبليّة، بحيث يؤثّر الرأي الّذي يتمّ انتخابه هناك على طبيعة الموقف هنا.

بالإضافة إلى المسلّمات العامّة الّتي تدخل في فهم الاستنباط والاجتهاد والمعرفة الدينيّة، ثَمّة عدد آخر من المطالب الخاصّة الّتي تُعدّ بدورها مسلّمات خاصة بهذه المسألة.

سنعرض فيما يلي، وعلى نحو موجز، لهذه المسلّمات المفترضة الخاصّة بالمسألة، وذلك من خلال العناوين الآتية:

١ ـ منطقة الفراغ

من النقاط الّتي تُسهم في تعيين حدود مجال الفقه تحديد ((منطقة الفراغ)) أو ((منطقة العفو)). فإذا ما اتّضحت طبيعة الأجزاء الحياتيّة الّتي عُهِد بها إلى الإنسان، على مستوى الحاكم والرعيّة معاً، فمن الطبيعي عندئذ أن تتّضح منطقة الفقه، وتتحدّد ثغورها.

يعدّ مصطلح ((منطقة الفراغ)) اصطلاحاً مستحدثاً، لم يتبيّن معناه والمقصود منه على نحو واضح. لذلك برزت على السطح رؤىً تعترض على أصل وجود هذه المنطقة أساساً.

ولقد أعلن بعض الفقهاء مخالفتهم لها بشدّة، وذهبوا: ((إلى أنّه ليس عند الشيعة فراغ قانوني، حيث بُيّن حكم كل ّما تحتاج إليه الأمّة الإسلاميّة في الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة، وعلى نطاق الأمور الدنيوية والمعنوية. ومن ثُمَّ فليس لدينا منطقة فراغ قانوني، ولـيس للفقيه حقّ التشريع))(٤٥) .

في المقابل هناك شخصيّات آمنت بوجود هذه المنطقة، كالشهيد الصدر من علماء الشيعة(٤٦) ، والدكتور يوسف القرضاوي من علماء أهل السنّة(٤٧) .

ــــــــــــــ

(٤٥) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة (كتاب البيع)، ج١، ص٥٥٣.

(٤٦) السيّد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص٣٦٢، ٧٢١، الإسلام يقود الحياة، ص١٩.

(٤٧) الخصائص العامة للإسلام، ص٢٣٣ ـ ٢٣٨، عوامل السعة والمرونة، ص١١.

٣٠

تبرز في مبحث ((منطقة الفراغ)) ثلاث مسائل أساسيّة ينبغي درسها وتركيز الحوار حولها، هي:

١ ـ أصل وجود منطقة الفراغ في الشريعة الإسلاميّة أو عدمه.

٢ ـ على فرض التسليم بوجودها، فينبغي عندئذ تحديد مجال هذه المنطقة، وسعة دائرتها.

٣ ـ كيفيّة ملء هذه المنطقة.

وقد اختلفت وجهات النظر على مستوى المحاور الثلاثة بأجمعها(٤٨) . وقد تقدّمت الإشارة إلى الخلاف حول المحور الأول من هذه المحاور.

ومن الأمور الّتي يمكن أن تُساهم في تعيين دائرة ((منطقة الفراغ)) ويكون لها دور في ذلك، هي:

١ ـ هل يوجد سبيل للتشريع في المباحات؟.

٢ ـ هل الأمور الإمضائيّة الشرعية أبديّة، أم أنّ الإمضاء يختصّ بزمن خاصّ فقط؟.

٣ ـ هل تحظى الأوامر الّتي ترشد إلى العرف أو العقلاء، بصفة الدوام والثبات؟.

٢ ـ سيرة المعصوم وفعله

الموضوع الثاني الّذي يأتي كفرضيّة مسبَّقة، لها دور خاصّ في تعيين مجال الفقه، تتمثّل بما يلي: هل تعدّ جميع أفعال المعصومينعليه‌السلام وسيرتهم في الأمور الشخصيّة وإدارة المجتمع، جزءاً من الوحي والشريعة، ومن ثَمَّ فهي مصدر في الاستنباط، أم لا؟.

من الطبيعي أنّه إذا كانت الإجابة بالإثبات، فإنّ كثيراً من البرامج والأساليب التنفيذيّة، ستأخذ موقعها في مجال الفقه أيض

ــــــــــــــ

(٤٨) يُنظر في هذا المجال: رؤية تأريخية في مسار الفقه والزمان، مجلّة آينه بزوهش (مرآة التحقيق)، العدد ٣٦، ص١٩، بالفارسيّة، أنوار الفقاهة (كتاب البيع)، ج١، ص٥٥٢ ـ ٥٨٥؛ منطقة الفراغ، محمد رحماني، مجلة نقد ونظر، العدد٥، ص٢٤٨ ـ ٢٧٦، اقتصادنا، ص٧٢٢ ـ ٧٢٥.

٣١

وتكون جزءا ًمنه. أمّا إذا جاءت الإجابة بالنفي، فعندئذ ستكون البرامج وأساليب التنفيذ خارجة عن حياض الفقه ودائرته. إنّ الحاجة إلى البرنامج تنبثق في اللّحظة الّتي يراد فيها تنفيذ القانون، وإلاّ فإنّ القانون المدوّن لا يحتاج إلى برنامج ما دام باقياً في إطاره النظري المدوّن، وإنّما تبرز الحاجة إلى البرنامج عندما تحين لحظة التطبيق.

يميل عدد من الكتّاب إلى الرؤية الّتي تذهب إلى أنّه لا يمكن إدخال جميع أفعال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة (عليهم السلام) في دائرة الوحي(٤٩) . على حين بادر بعض آخر إلى طرح المسألة بالصيغة التالية: ترى هل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يفتقرون إلى الحالة الفردية، والسلوك الشخصي، بحيث إنّ كلّ ما بدر منهم، وقاموا به، إنّما كان بعنوان ((كونه أئمّة)) ومصدراً للتشريع(٥٠) ؟

لقد تمَّ عرض هذا الموضوع بين أهل السنّة أيضاً، حيث ذهب بعض الكتّاب إلى تقسيم أفعال النبيّ إلى ستّة عشر قسماً، عُدّ بعضها مصدراً للتشريع، دون بعضها الآخر(٥١) . على ضوء ذلك كلّه يتبيّن أنّ دراسة هذه المسألة وانتخاب رأي محدّد هنا، سيكون له تأثيره الفعّال في طبيعة الموقف المتّخذ حيال مقولة مجال الفقه.

لقد عمدت الكتب الفقهيّة إلى تناول هذه المسألة بصيغة أخرى، وذلك من خلال التعاطي مع الرواية أحياناً على أنّها ((قضية في واقعة))، ومن ثَمَّ لم تبادر إلى تعميمها. أو أنّها تعدّ بنظر الفقهاء قضية خارجية وشخصية، وبالنتيجة لا يبادرون إلى استخراج حكم كلّي منها. على أنّ هذا النمط من التعاطي لا يمثّل نهجاً عامّا، فقد يُصار أحياناً إلى استنباط حكم كلّي من رواية جاءت بشأن مورد خاصّ، وربَّما عدّوها أحياناً مختصّة بالمورد. ومهما يكن الحال، فإنّ تحديد

ــــــــــــــ

(٤٩) مجلّة كيان، العدد ٢٨، ص٥٦، مقال: الله والآخرة هما هدف بعثة الأنبياء، مهدي بازركان، بالفارسيّة.

(٥٠) كراسة فلسفة الفقه، حوار مع الأستاذ ملَكيّان، ص٧ ـ ٨، بالفارسيّة.

(٥١) محمد سليمان الأشقر، أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية، ج١، ص٩، وج٢، ص١ فما بعد.

٣٢

الضابطة في هذا الأمر، واتخاذ رأي خاصّ فيه، له أثره الكبير في تعيين مجال الفقه.

ولا يخفى أنّ ما يظهر من السلوك العملي للفقهاء، ومسارهم على هذا الصعيد، هو حجيّة سيرة المعصوم في جميع الأبعاد، بحيث يمكن الاستناد إليها بهذا العنوان، إلاّ ما قامت عليه قرينة تفيد تخصيص ذلك المورد.

٣ ـ حدود تدخل العقل

ما هو المدى الّذي يُساهم به العقل في عملية التقنين والتخطيط للحياة الإنسانية؟، وما هي النتيجة الّتي تترتّب على هذا الدور؟، لا ريب أنّ تحديد الموقف من هذه المسألة له أثره الكبير في الموضوع الّذي يدور من حوله البحث.

المقصود من هذه النقطة تحديداً: ما هي شؤون الحياة الّتي عُهد بها إلى الإنسان، بحيث يعالجها بمعونة العقل؟، ثُمَّ هل يُعدّ ما يصيبه العقل فقهاً، أم قانوناً بشريّاً؟. إنّ هذا السؤال يصدق على جميع الموارد الّتي تُرِكَ كشف القانون فيها إلى الفكر البشري، سواء كان عقلاً وعلماً وتجربة، أم شهوداً وعرفاناً، أم عُرفاً عامّا وخاصّاً.

ويمكن استكمال السؤال المذكور من خلال الصياغة التالية: إذا ما عَهِد الدين بأمور إلى الإنسان في مجال الفهم والكشف، فهل تُعدّ حصيلة هذا الجهد الإنساني وما يثُمَّره في هذه الدائرة جزءاً من الشريعة أم لا؟، إذا ما كان جواب السؤال بالإيجاب، فإلى أيّ مدى يمكن قبول هذه النتيجة والإذعان لها؛ إذ لا ريب أنّ الإنسان يفهم كثيراً من الأمور الدنيوية، فهل تعدّ هذه ديناً أيضاً؟

أو ينبغي أن تصاغ المسألة على النحو التالي: ليس كل ما يفهمه العقل، أو يصيبه الفكر البشري ديناً، وإنّما كل ما يعهد به إلى العقل والفكر البشري،

٣٣

يعدّ فقهاً. يؤمن بعض العلماء بشمولية الفقه والشريعة، ليستدلّوا في نهاية المطاف بالأسلوب التالي: ما دام الشرع قد عدّ العقل حجّة، فإذن، كلّ ما يصيبه العقل يُعدّ شرعاً(٥٢) . هل هذا الاستدلال مقبول يمكن الركون إليه؟، وهل بالإمكان تثبيت هذا النمط من الكلام بالاستناد إلى الأحاديث الّتي عدّت العقل حجّة باطنة والأنبياء حجّة ظاهرة؟(٥٣) .

ما نلحظه من خلال هذا العرض، أنّ كلّ رؤية نؤمن بها، ونتبنّاها، تسوقنا إلى رأي خاصّ في تحديد مجال الفقه. على سبيل المثال يذهب الشهيد مطهري إلى أنّ إقحام العقل في حريم الدين، يُعدّ أحد عوامل بقاء الدين ودوامه على صعيد مواجهة تحوّلات الحياة(٥٤) .

ثالثاً: أسلوب البحث والاستدلال

سلفت الإشارة فيما سبق إلى أنّ هناك خمسة أبعاد يمكن إخضاعها للدراسة والحوار على مستوى البحث في موضوع ((مجال الفقه)). وقد رأينا أنّ هناك اختلافاً في وجهات النظر إزاء كلّ واحد من المحاور الّتي تمّ ذكرها، بحيث تعدّدت الأقوال بين الإثبات والنفي، وتفاوتت بين السعة والضيق. لكن، مع الأسف، يلحظ أنّ حداثة المسألة لم تدع السبيل إلى ممارسة الاستدلال وإراءة الدليل من قبل الموافق والمخالف على حد سواء؛ بحيث غلب على ساحة البحث الادّعاء، أكثر من السعي إلى إثبات نظرية علمية.

وما نحرص عليه في هذه المرحلة من البحث هو إضاءة فضاء المسألة، ببيان الطرق المحتملة للاستدلال والإثبات على صعيد هذا الموضوع. لكن قبل الدخول في بيان طُرق الاستدلال، ينبغي ذكر عدد من النقاط، هي:

١ ينبغي لأيّ رأي يتمّ اتّخاذه في هذا المضمار أن يكون مستنداً إلى المصادر

ــــــــــــــ

(٥٢) المجموعة الكاملة لمقالات مؤتمر دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ج١٠، بحث ((شمولية الشريعة))، ص٢٩١ ـ ٢٩٢، بالفارسيّة.

(٥٣) الأصول من الكافي، ج١، ص١٦.

(٥٤) ختم نبوّت، ص٧٧، بالفارسيّة.

٣٤

الدينية ذاتها؛ والباعث إلى ذلك هو أنّ الدين هو الحاكم، وكلمته هي الفصل في المسائل الدينية.

٢ ـ يمكن الاعتماد على الاستدلالات غير الدينية [الآتية من خارج الدين ونصوصه]؛ وذلك في الحالة الّتي يكون بمقدورها أن تكشف عن عدم إمكان قبول النصّ الديني، لتكون بمثابة القرينة العقلية المنفصلة. وعندئذ ينبغي أن يُصار إلى تأويل النص.

٣ ـ إنّ الغاية القصوى الّتي بلغها أي استدلال تتمثّل في الحالة الّتي يستطيع أن يكشف بها عن ضعف الاستدلالات المقابلة.

٤ ـ في المسائل الأساسية، كتلك الّتي تحيط بالفقه كلّه، لا يمكن الركون إلى خبر الواحد، أو التمسّك بالإطلاق والعموم، بل ينبغي للسند و الدلالة أن يكونا بحيث يبعثان على الاطمئنان العقلي؛ والباعث إلى ذلك، أنّ هذه الدائرة ليست مجالاً للتعبّد، وبالنتيجة، فإنّ الملاك والميزان فيها هو خصوص العلم والمعرفة، تماماً كما أشار الأصوليّون إلى ذلك بتأكيده على أنّ السند والدلالة ينبغي أن يكونا قطعيّين في أمثال هذه المسائل(٥٥) .

بعد هذه الملاحظات نلقي فيما يلي نظرة إجماليّة عامّة إلى الطرق الّتي يمكن استعمالها استدلاليّاً لتحديد مجال الفقه:

١ ـ أهداف الدين

لقد رام بعضهم أن يستند إلى أهداف الدين الرفيعة، وغايته الشاملة، في إثبات شمولية الفقه. يكتب أحد هؤلاء في شرح هذا النمط من الاستدلال: ((يتحصّل من الأهداف الّتي رسمها القرآن لنفسه، والمقاصد الّتي عرضها للإسلام، أن دائرة أحكام الدين الإسلامي وتعاليمه والمدى الّذي تمتدّ إليه مسائل القرآن

ــــــــــــــ

(٥٥) مصباح الأصول، ج٢، ص٢٣٥ ـ ٢٣٩، فوائد الأصول، ج٣، ص٣٢٤، تفسير الميزان، ج٨، ص٦٢، ٦٦.

٣٥

وموضوعاته، تتخطّى كثيراً محض الاقتصار على عدد من المسائل والموضوعات الأخلاقية، والعبادية الفردية؛ وصرف علاقة الإنسان بالله، لتشمل مسائل وموضوعات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وحقوقية، وما إلى ذلك. كما أنّها تمتدّ لتستوعب بعض العلوم الإنسانيّة مثل علم الاجتماع، والإنثربولوجيا، وعلم النفس، وغير ذلك))(٥٦) .

تتمثّل زبدة هذا الاستدلال بما ذهب إليه من أنّه ما دامت للدين أهداف سامية، وله إحاطة ومعرفة بدنيا الإنسان وآخرته، فمن الطبيعي أن لا تتحقّق هذه الاهداف وتتجسّد عمليّاً من خلال أي طريق أو سلوك كان. فلا يسع الدين أن يعرض لأهداف محدّدة ثُمَّ يسمح بممارسة أي طريق ووسيلة كانت لتطبيق تلك الأهداف، بل ينبغي له أن ينهض بنفسه بمهمّة تبيين الطريق وتقنينه، أو أن يعهد ببعض الموارد إلى وكيل موثّق هو العقل.

من الواضح أنّ هذا الأسلوب في إشراك العقل يستند إلى مسلَّمة مسبَّقة، تفيد أنّ ما يصل إليه العقل في تلك الموارد يعدّ شرعاً.

٢ ـ الآيات والأحاديث ذات الدلالة على الشموليّة

يذهب هذا الضرب من الاستدلال إلى إمكانية تحديد مجال الفقه بالاستناد إلى الآيات والأحاديث الّتي تحدّثت عن شمولية الدين وامتداده.

وتوجد أكثر من ثلاث مجموعات من الآيات، وما يزيد على عشرات الأحاديث الّتي تمّ الاستناد إليها في هذا المجال، حيث تمّ من خلال ذلك إثبات المطلوب(٥٧) .

٣ ـ تحليل الموضوعات القرآنيّة والحديثيّة

من خلال تحليل الموضوعات الّتي توفّر عليها القرآن والحديث، يمكن لنا أن نحدّد المجال الفقهي ومنطقته. على سبيل المثال، تعرَّضت آيات القرآن لمواضيع

ــــــــــــــ

(٥٦) حسين غفَّاري، المجموعة الكاملة لبحوث مؤتمر دور المكان والزمان في الاجتهاد، ج١٠، ص٢٥٨، البحث المعنون: ((الشموليّة من وجهة نظر القرآن الكريم))، و ص٢٣٨ فما بعد.

(٥٧) المصدر نفسه، ص١٠٦ ـ ١١٨، وكذلك: ص٢٣٩ ـ ٢٥٥.

٣٦

مثل: السياسة، الاقتصاد، الحقوق، العبادات، الأحكام، المعاملات، العلاقات الأُسريّة، وعشرات المواضيع الأخرى. كما أنّ هناك موضوعات ومسائل كثيرة عالجتها الأحاديث في مضامينها وثناياها، ما يوفّر مادّة للدراسة، يمكن من خلالها تحديد مجال الفقه وسعة دائرته.

لقد استند بعضهم إلى هذا النمط من الاستدلال في إثبات شمولية الدين(٥٨) ، لكن من الواضع أنّه يمكن توظيفه في مضمار تحديد مجال الفقه أيضاً.

٤ ـ الأدلة العقليّة

تمسّك بعضهم لإثبات الشمولية بقاعدة اللّطف والحكمة الإلهيّة، فقال: ((لمّا كان العلم البشري محدوداً، خاصّة فيما يرتبط بعلاقة أعمال الإنسان وسلوكه في هذه الدنيا بمصيره في العالم الآخر، وما دامت الأبديّة غير قابلة للمعرفة من قبل الإنسان نفسه، وأنّ السعادة الواقعيّة للإنسان إنّما تتحقّق من خلال هذه الأعمال، إذن، تُملي الحكمة الإلهيّة على الله أن يضع بين يدي الإنسان جميع احتياجاته عن طريق الوحي، وإلاّ نتج عن ذلك نقض الغرض))(٥٩) .

بينما حاول بعضهم إثبات الشمولية من خلال الخاتَميَّة. ومُؤدَّى منطق هؤلاء، أنّ البشر لا يستغنون عن الوحي، وبذلك ينبغي أن تكون هناك خصوصيّة في خاتَم النبيّين تُغني عن تجديد النبوّة والشريعة. والقدر المتيقّن من هذه الخصائض هي الشمولية والكمال.

وإلاّ إذا ما ذهب إنسان إلى عدم شمولية ما في القرآن من تعاليم وأحكام، وعدم كماله، للزم من ذلك أن تأتي قوانين وأحكام جديدة فيما بعد، تنسخ السابقة، أو تكَمِّلـها، وهذا ما يتنافـى والخاتـميّة(٦٠) .

ــــــــــــــ

(٥٨) المصدر نفسه، ص٢٣٨.

(٥٩) المصدر نفسه، ص٢٨٢ ـ ٢٨٣ أيضاً: ١١٨ ـ ١١٩.

(٦٠) المصدر نفسه، ص١٢٠.

٣٧

٥ ـ المفردات القرآنيّة

من الممكن أن يُصار إلى طريق آخر للاستدلال، ففي القرآن مفردات مثل الدين والشريعة، والملة والمنهاج، ومن خلال تحليل المجال الاستعمالي لهذه المصطلحات، وتظهير دلالتها، يمكن أن نصير إلى تحديد مجال الفقه ودائرة الشريعة.

لقد استُعملت مفردة ((المنهاج)) مرّة واحدة في القرآن، و((الشريعة)) ومشتقاتها خمـس مـرّات، و((الأمة)) خمس عشر مرّة، و((الدين)) أكثر من تسعين مرّة. إنّ دراسة وتحليل هذه الآيات وتحديد التفاوت بين هذه المفردات في الثقافة القرآنيّة، يمكن أن يُساهم، إلى حد ما، في الكشف عن مجال الفقه ودائرة الشريعة.

هذه نبذة مختصرة عن ضروب الاستدلال الّتي يمكن توظيفها في مضمار هذا البحث. من الواضح أنّ هذه الطرق الخمسة بحاجة إلى الفحص والتأمّل لكي تتبيّن صحّتها من عدمها، ثُمَّ يُصار بعدئذ للعمل بها، والإفادة من النتائج الّتي تترتّب عليها.

ولا ريب أنّ ازدهار البحث حول ((مجال الفقه)) يتوقّف على مساهمة علماء الحوزة، ومشاركة الباحثين البارزين، في الدراسة والتحليل، ولا يمثِّل هذا البحث أكثر من مدخل إلى الموضوع، ونافذة على هذا المسار.

٣٨

نطاق علم الفقه بين الموقف المبدئي ومعطيات الشَّريعة

السيّد محمد مصطفوي

تمهيد:

ما هو نطاق الفقه الإسلامي؟، وما هو دوره في رسم الخطوط العامّة أو التفصيليّة لحركة الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية؟.

السؤال عن دور الفقه في حياة الإنسان، يؤدّي بنا، إلى السؤال مسبقاً عن دور الدين في حياة الإنسان. ولو افترضنا أنّ دور الدين يتجسّد أساساً في هداية الناس إلى الصراط المستقيم؟، فماذا تعني الهداية بالنسبة إلى الإنسان؟، هل الهداية تقتضي إراءة الطريق أم تتطّلب الإيصال إلى المطلوب؟، وبتعبير آخر، هل يتطّلب دور الدين أن يلازم حركة الإنسان في الحياة ليتأكّد من سيره الدقيق على الطريق الصحيح؟.

وعلى افتراض أنّ الجواب، عن السؤالين الأخيرين، يكون بالإيجاب ، فما هو سبيل الدين لتحقيق هذه الغاية؟، هل الدين (الإسلام) يحقق غاياته من خلال الشريعة؟، وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي علاقة الشريعة بالعقل الإنساني وحرّيته الذّاتيّة؟، هل الشريعة تأخذ اعتبارها من معقوليّتها؟، أم العقل يأخذ اعتباره

٣٩

من مشروعيّته؟، وبتعبير آخر، هل الدين يسبق العقل أم العقل يسبق الدين؟، وبتعبير ثالث، هل العقل يبرّر الدين أم الدين يبرّر العقل؟.

ولو افترضنا أنّ العقل يسبق الدين، فهل معنى ذلك أنّ القضايا الدينيّة تخضع لرقابة العقل، وتأخذ جدوائيّتها من حكمه. وبطبيعة الحال، يأتي الحديث عن العقل الّذي يُحكَم على أساسه على الدين وقضاياه، والعكس أيضاً صحيح.

ثُمَّ هل الحلول الّتي تقدّمها الشريعة لمشاكل الإنسان، من شأنها أن تغطّي كلّ مساحة حياة الإنسان؛ بحيث لا يبقى فراغ يسدّه غيرها، أم أنّ هناك، نقاط فراغ ومناطق عفو، في الشريعة؟، وبالتالي، يُطرح السؤال عن كيفيّة ملئها بالعقل أم بالشرع. أو أنّ الشريعة تتولّى تحديد المعالم العامّة لحركة الإنسان في الحياة، وتتمّ عمليّة التوجيه الشرعي من خلالها، من دون مباشرة التفاصيل، إلا بقدر الحاجة والضرورة؟.

أم ينحصر دور الشريعة في مجال النسك والطقوس والشعائر الدينيّة، وليس من شأنها الدخول في مجال الحياة العامّة؟.

يتولّى علم الكلام وفلسفة الدين الإجابة التفصيليّة عن هذه الأسئلة وغيرها. ولا نريد أن نقف عندها طويلاً خوفاً من الإسهاب، بل نكتفي بحديث موجز عن الاتِّجاهات الثلاثة الأخيرة؛ لصلتها بتحديد دائرة الفقه ونطاقه، ونحيل البحث التفصيلي حول الأسئلة السابقة إلى الكتب المتخصّصة في مجال فلسفة الدين وعلم الكلام.

من هنا، سوف نتحدّث في هذه الدراسة عن مرحلتين بالنسبة إلى دائرة الفقه ونطاقه، ففي المرحلة الأولى نتناول الموضوع من خلال الموقف المبدئي(١) . وفي المرحلة الثانية نتناول الموضوع من خلال المعطيات الشرعيّة والأدلّة القائمة بخصوص الفقه والشريعة. وتجدر الإشارة مسبقاً، إلى أن البحث حول الموضوع

ــــــــــــــ

١ ـ نعني بالموقف المبدئي، الموقف الّذي يتكوّن نتيجة الرؤية الكَونية، والاجتماعية، وعوامل ذاتيّة وموضوعيّة، تساهم في تحديد هذا الموقف.

٤٠