الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92481
تحميل: 7026


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92481 / تحميل: 7026
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نفسه في المرحلتين لا يعني الانفصال الواقعي بين الموقف المبدئي ومعطيات الشريعة، بل نعتقد أن التعاطي والتبادل بين الموقفين المبدئي والشرعي قائم، وكلٌّ بدوره يؤثّر في الآخر، وكلاهما يساهمان في تحديد الصورة النهائيّة، والموقف الأخير، من الموضوع.

المرحلة الأولى:

نطاق الفقه على ضوء الموقف المبدئي

يمكن البحث حول الشريعة والفقه ونطاقه على مستوى التنظير (الموقف المبدئي الفلسفي)، دون مرحلة الإثبات(٢) ، من خلال أطروحات ثلاث:

الأولى: أطروحة التوجيه المباشر.

الثانية: أطروحة التوجيه عبر العناوين الكبرى.

الثالثة: أطروحة الفصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي.

وبعد البحث عن هذه الأطروحات يأتي الحديث عن مرحلة الإثبات؛ أي البحث من داخل الشريعة نفسها، دائرتها ودائرة الفقه، من خلال ما ورد في الشرع (وهذا ـ كما هو واضح ـ بحث من داخل الشريعة وليس من خارجها).

وسوف نتحدّث عن هذه الأطروحات الثلاث بشيء من التفصيل. وقبل الولوج في البحث عنها، وعن مدى تطابقها مع واقع الشرع الإسلامي، يفترض البدء ببيان المقصود من الشريعة والفقه في اللُّغة والاصطلاح.

ـ الشريعة والفقه

أ ـ الشريعة

الشريعة في اللُّغة، تُطلق على الطريقة المستقيمة، ومن ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)(٣) .

ــــــــــــــ

٢ ـ البحث الإثباتي: بحث من داخل المجال الديني، وليس من خارجه. ويأتي الحديث عنه بعد البحث عن مرحلة الثبوت والتنظير.

٣ ـ سورة الجاثية: الآية ١٨.

٤١

وسمّيت الشريعة كذلك لاستقامتها وعدم انحرافها عن الطريق المستقيم. وقال بعضهم: سمّيت الشريعة شريعة تشبيهاً بشريعة الماء(٤) .

و((الشريعة)) في الاصطلاح: ما شرّعه الله للناس من قواعد الدين، سواء كانت متعلّقة بالعقيدة الدينية أم بالأخلاق أم بأفعال المكلّفين من عبادات ومعاملات. وهذا المفهوم يساوق معنى الفقه في صدر الإسلام(٥) .

وبتعبير آخر، ((الشريعة)) هي النُظُم الّتي شرَّعها الله، أو شرَّع أصولها، ليأخذ الإنسان نفسه في علاقته بربه (وسبيلها أداء الواجبات الدينية كالصلاة والصيام)، وعلاقته بأخيه المسلم (وسبيلها تبادل المحبّة والتناصر على الدوام، والأحكام الخاصّة بتكوين الأسرة والميراث)، وعلاقته بأخيه الإنسان (وسبيلها التعاون في تقدّم الحياة العامّة، والسلم العام)، وعلاقته بالحياة (وسبيلها التمتّع بلذائذ الحياة الحلال دون إسراف أو تقشّف)(٦) .

ويمكن تقسيم قواعد الشرع الإسلامي، حسب هذا التعريف(٧) ، إلى ثلاث فئات:

الأولى: قواعد العقيدة الدينيّة؛ وتتناول ما يتّصل بذات الله تعالى وصفاته، والإيمان به، وبرسله، واليوم الآخر. بما فيه من حساب وثواب وعقاب. ومحل دراستها علم الكلام أو العقائد.

ــــــــــــــ

٤ ـ مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني (ت٤٢٥ هـ. ت)، تحقق: صفوان عدنان داودي، ط٢، دمشق، دار القلم، ١٩٩٧م ـ ١٤١٨ هـ، ص٤٥٠.

٥ ـ انظر: د. محمد مصطفى شلبي، المدخل في الفقه الإسلامي، بيروت، الدار الجامعية، ١٩٨٥، ص٢٧، ود. سمير عاليه، علم القانون والفقه الإسلامي، ط٢، بيروت، المؤسسة الجامعية، ١٩٩٦، ص٤٢.

٦ ـ الشيخ محمود شلتوت (شيخ الجامع الازهر)، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة، دار العلم، (د. ت)، ص٢.

٧ ـ يؤخذ على هذا التعريف وأمثاله إدخاله لقضايا العقيدة والأخلاص ضمن القضايا التشريعية الّتي يرجع أمرها إلى الشارع، في حين أنّ أساس الالتزام في القضايا المعتقدية ينشأ من خارج دائرة الشرع (الأمر والنهي الإلهيّين). كما أنّ القضايا الخُلقية راجعة أساساً إلى أمور معيارية يستقل بمعرفتها العقل (الرأي المعتمد لدى حكماء المسلمين)، فمن الصعب تصنيف المعتقد والأخلاق ضمن الشريعة (الّتي تفترض مصدراً إلهيّاً لها).

٤٢

الثانية: القواعد الأخلاقيّة؛ وتتناول كيفيّة تهذيب النفس وإصلاحها، وضرورة تمسّك المسلم بالمُثُل العليا. ومحل دراستها علم الأخلاق، أو التصوف والعرفان.

الثالثة: القواعد العملية، وتتناول العبادات والمعاملات بين الأفراد والجماعات والدول من جميع جوانبها، ومحل دراستها علم الفقه(٨) .

وقد حصر البعض الشريعة بخصوص الفئة الأخيرة، وعرّفها بما يلي:

((الشريعة)) هي كلّ حكم أُخذ من القرآن الكريم أو من أحاديث النبيّ وأهل بيته (صلوات الله تعالى عليه وعليهم)، أو ما ثبت عند المذاهب الإسلاميّة جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعـد الفقهيـة، وهو الّذي يصطلـح عليه بـ ((السنّة))، ويقابـل ذلـك مصطلـح ((البدعة))(٩) .

وهناك تعريف آخر، اعتمده بعض الفقهاء، يرجـع إلى تحليل الإسـلام اصطلاحيّاً إلى جزئيـن: ((العقيدة والشريعة))، قاصداً بـ((العقيدة)) مجموعة المفاهيم أو المعلومات الجازمة الّتي يعقد عليها القلب، و((بالشريعة)): ((مجموعة القوانين والأنظمة الّتي جاء بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّتي تعالج الحياة البشرية كافة، الفكرية منها والروحيّة والاجتماعيّة، بمختلف ألوانها من اقتصادية وسياسية وغيرها))(١٠) .

ويظهر من هذا التعريف أنّ الأخلاق قد تمّ دمجها في الشريعة من خلال تفسيرها ((بالقوانين والأنظمة)). والأنظمة تتناول بإطلاقها النظام التربوي والأخلاقي في الإسلام، كغيره من الأنظمة الإسلامية.

ب ـ الفقه

الفقه في اللّغة له معنيان:

الأول: مطلق الفهم، يقال: فلان يفقه الخير والشر؛ أي يفهمها.

ــــــــــــــ

٨ ـ د. سمير عاليه، مرجع سابق، ص٤٩ (بتصرف).

٩ ـ السيد محمد حسين فضل الله، فقه الشريعة، ط١، بيروت، دار الملاك، ١٩٩٩ ص٧.

١٠ ـ السيد محمد باقر الصدر، أصول الدستور الإسلامي، الأساس رقم (١)، المطبوع ضمن: شبلي الملاط، تجديد الفقه الإسلامي، ترجمة: غسان غصن، ط١، بيروت، دار النهار، ١٩٩٨م. ص٣٣.

٤٣

والثاني: فهم قصد المتكلم من كلامه (أي الفهم الدقيق)، قال تعالى:(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) (١١) ، أي يفهموا المقصود من كلامي.

وغلب استعمال الفقه على العلم بأحكام الدين لشرفه، يقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ((إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين))(١٢) .

وكان الفقه يُطلق في صدر الإسلام على العلم بالقواعد الشرعيّة بجميع أنواعها، اعتقادية كانت أم أخلاقيّة أم عمليّة(١٣) .

ولمّا تمايزت العلوم والمعارف، ضاقت دائرة الفقه، وأصبح مختصّاً بجزء مـن أجـزائه، وهـو ((القواعد العمليّة)) فقط. من هنا، جاء تعريف الفقه في الاصطلاح: بأنّه ((العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلّتها التفصيليّة))(١٤) . فالشرع هو الأساس في بناء الفقه، والفقه هو الجانب المرن، وغير الثابت، من الشريعة(١٥) ؛ لأنّه يرتبط بمدى فهمنا للثابت، وهو ((النّصّ الشّرعي))، ومن هنا، فإن الفقه يأتي في الدرجة الثانية بعد الشرع من حيث القوّة الملِّزمة.

هذا، وتقتضي الدقّة في الاصطلاح عدم إطلاق اسم الشرع على الآراء الفقهيّة المحضة، وحصرها بالفقه فقط؛ لأنّ الشرع من عند الله، وهو مستقرّ لا يمكن تبديله وتغييره، فإذا أجزنا إطلاق اسم الشرع على الآراء الفقهيّة الّتي تقبل التغيير، لأدّى ذلك إلى القول بجواز تغيير بعض قواعد الشرع، وهو غير جائز في الإسلام(١٦) .

ــــــــــــــ

١١ ـ سورة طه: الآية ٢٧.

١٢ ـ كنز العمال، ح/ ٢٨٦٩٠.

١٣ ـ محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الاسلام، ص٢٣، ورد في: د. سمير عاليه، مرجع سابق، ص ١٦.

١٤ ـ الشيخ حسن زين الدين، معالم الدين وملاذ المجتهدين، ط عبد الرحيم، ص٢٢.

١٥ ـ انظر: محمد مصطفوي، أهداف الفقه ومقاصد الشريعة (من فلسفة الفقه ـ ١)، ص٤٩.

١٦ ـ نظام الدين عبد الحميد، مفهوم الفقه الإسلامي، ص١٩. ورد في: د. سمير عاليه، مصدر سابق، ص٦٩.

٤٤

نعم، إذا استند رأي فقهي إلى دليل شرعي، فهو بمثابة الشرع عند أغلب الفقهاء، ويصحّ عندها ـ إطلاق الشرع عليه، كما أنّه بمرتبته ـ عندهم ـ من حيث درجة الإلزام.

وعلى ما بيّنا، فإنّ الفقه يرتبط ارتباطاً مباشرا ًبعملية الاجتهاد، الّتي تعني فيما تعني بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة من مصادرها المعتبرة.

وبعد هذا التوضيح المفهومي للفقه وللشريعة، نستعرض الأطروحات الثلاث الّتي يمكن من خلالها تفسير الشريعة ودورها في حياة الإنسان، على مستوى التنظير والموقف المبدئي (الفلسفي).

١ ـ أطروحة التوجيه المباشر

الأطروحة الأولى (والمعتمد لدى فقهاء المسلمين) في فهم الشريعة والفقه، ودورهما ودائرتهما، هي: أطروحة التوجيه المباشر؛ والّتي تعني أن الشريعة تتولّى تفاصيل حركة الإنسان في الحياة؛ لأنّ الشريعة، حسب هذه الأطروحة، منهاج كامل لإدارة حياة الإنسان، ولا يقتصر دورها على العبادات والنواحي الخُلقية، بل يمتدّ إلى أنظمة الحكم والتشريع. وتتضمّن الشريعة قواعد تنظِّم شؤون الدولة والمجتمع، وتهتم ـ مضافاً إلى اهتمامها بتنظيم علاقة الإنسان بربه ـ بتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس، وكذلك علاقة الإنسان بالكون. ولا يستغني الإنسان حسب هذه الأطروحة عن الشريعة في كلّ قضاياه الجزئيّة والكلّية، العامّة والخاصّة؛ لأنّ الشريعة معنيّة بتحديد تفاصيل حركة

٤٥

الإنسان في الحياة، ورسم ما يحتاج إليه، والتخطيط له منذ ولادته إلى وفاته (بل قبل ولادته وبعد وفاته)، على الصعيد الفردي والاجتماعي. فليس هناك شأن من شؤون الحياة إلاّ وتناوله الشرع، وأوضح فيه الخير والشر، وميّز الصحيح عن الفاسد(١٧) .

وحسب التوجيه المباشر، يجب على الإنسان الانقياد لكلّ ما يدعو إليه الشرع والالتزام به. وليس له أن يتخطّى الحدود المرسومة له؛ لأنّ الشارع المقدّس لا يجيز لأيِّ جهة أخرى غيره أن تعالج قضايا الإنسان والتشريع له(١٨) . وللشريعة السيادة والسلطان المطلق( إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (١٩) .

فأطروحة التوجيه المباشر للشريعة لتفاصيل قضايا الحياة، تعني:

ــــــــــــــ

١٧ ـ انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج٦، ص٢٥٦ وما بعدها. والشيخ أبو الأعلى المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، جدة، الدار السعودية، ١٩٨٥، ص١٣٦ ـ ١٣٧. و د. وهبة الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١٩٨٧، ص٨ ـ ٩.

١٨ ـ انظر: عبد القادر عودة، الإسلام بين جهل أبناءه وعجز علمائه، ص٨. وسيد قطب، معالم في الطريق، ص١٨، ومناع القطان، التشريع والفقه في الاسلام، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١٩٨٣.

١٩ ـ سورة يوسف: الآية ٤٠.

٤٦

أولاً: إنّ للشرع موقفاً وحكماً في كلّ صغيرة وكبيرة من قضايا الحياة الإنسانيّة.

ثانياً: الرأي الشرعي يختلف في جوهره عن كلّ الآراء الّتي تصدر عن غيره لمعالجة قضايا الإنسان.

ثالثاً: الرأي والحكم الشرعيّان هما الصواب، أو على الأقل هما المشروعان، ولا مشروعيّة لباقي الآراء. من هنا، لا يسمح الشرع بمعالجة قضايا الحياة برأي سواه.

والمصدر الأول والأساس لاستبيان الرأي الشرعي في هذه الأطروحة هو النصّ؛ لأنّ النصّ الإسلامي كتاباً وسنّة هو الحكم الأعلى والسلطة الّتي لا تعلوها سلطة، وهو القاعدة الكبرى الّتي قام عليها المجتمع الإسلامي، بل هو السلطة المؤسِّسة والمنظِّمة للجماعة، والدولة، والحضارة(٢٠) .

لقد شكّل النصّ، منذ البداية، الأساس لكلّ شيء في الجماعة المتكوّنة في رحابه. فهو الفصل، وهو الحكم، والمأدبة والغذاء اليومي لهؤلاء الّذين التفّوا حول النبيّ البشر(٢١) .

وحيث لا تفي النصوص الخاصّة(٢٢) بمعالجة كافّة القضايا الحياتيّة للإنسان، يأتي دور الاجتهاد لاستنطاق النصوص في مجالها التداولي، لبناء قواعد عامّة كلّيّة واستخدامها في مجالات مختلفة. من هنا، نشأ علم أصول الفقه لدراسة العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط الفقهي.

وقد لا يمكن استخدام القواعد العامّة لاستكشاف الحكم الشرعي، فيلجأ الفقيه إلى استخدام قواعد عامّة بديلة تؤدّي إلى تحديد الوظيفة العمليّة للمكلَّف (والطرق البديلة مأخوذة أساساً من نصوص شرعيّة تقرّر قواعد

ــــــــــــــ

٢٠ ـ زيد علي الوزير، تصحيح المسار (بريطانيا، مركز التراث اليمني، ١٩٩٢) ص٢٠٤، ورد في: راشد الغنوشي، الحرّيات العامة في الدولة الاسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٩٣، ص١٠١.

٢١ ـ رضوان السيد، الأمّة والجماعة والسلطة، القاهرة، دار إقرأ، ١٩٨٤، ص١١.

٢٢ ـ النصوص الخاصّة، هي: النصوص الّتي تعالج مشكلة بعينها، ونشأت أساساً لتَبيّن حكمها.

٤٧

عمليّة(٢٣) ، وقد لا تكون قاعدة شرعيّة مأخوذة من النصّ، بل قاعدة عقليّة محضة كالبراءة العقليّة).

وعلى أيّ حال، هناك أصل أوّلي يرجع إليه الفقيه في حالة فقدان النصّ، وهذا الأصل الأوّلي يتأرجح (نتيجة الاتّجاه الكلامي للفقيه) بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان (أصالة الإباحة أو البراءة العقليّة)(٢٤) وأصل حقّ الطاعة(٢٥) ، أو قاعدة الاحتياط والاشتغال.

وهذه الأطروحة تعتمد على المرتكزات التالية:

أولاً: الاختلاف الجوهري بين الحكم الشرعي وغيره من الأحكام؛ حيث إنّ الحكم الشرعي يختلف في جوهره عن الأحكام الّتي تصدر من جهات تشريعيّة بشريّة لمعالجة قضايا الإنسان والحياة؛ وذلك للاختلاف في مصدر الحكم؛ إذ إنّ مصدر التشريع في أحكام الشريعة هو الله تعالى، في حين أنّ مصدر التشريع في الأحكام الصادرة من جهات تشريعيّة وضعيّة هو الإنسان (الأعم من الفرد والمجتمع الإنساني).

ثانياً: عدم مشروعيّة الأحكام الصادرة من جهات بشريّة؛ ذلك أنّ الرأي ذا المصدر البشري لا يتمتّع بالمشروعيّة، وللأسباب التالية:

أ ـ فقدان الصلاحيّة:

إنّ التشريع عمل مُعقّد يتطلّب المعرفة التامّة، والوعي الكامل لأبعاد الإنسان ومتطلباته، وهذا الوعي لا يتوفّر للإنسان (لأسباب تتعلّق بنواقص معيّنة فيه). من هنا، لابدّ للشريعة من أن تقوم بهذا الدور؛ لأنّه بإمكانها أن تنفذ إلى أعماق الإنسان وأبعاده المختلفة، من خلال عالمي الغيب والشهادة(٢٦) . وهذا ما يتطلّب التوجيه المباشر والتفصيلي للشريعة في شؤون الحياة.

ــــــــــــــ

٢٣ ـ أنظر بهذا الصدد، السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص٥٠٣ وما بعدها.

٢٤ ـ أنظر: سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج١، ص١٣٠، والسيد محمد حسين البرودردي، فوائد الأصول، ج٣، ص٣٢٨. (تقرير الشيخ حسين علي المنتظري).

٢٥ ـ راجع: السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة ـ ٢)، ص١٨١ وما بعدها. والسيد محمد تقي الحكيم، مرجع سابق، ص٥٢١ وما بعدها.

٢٦ ـ راجع: السيخ عبد الله جوادي الآملي، فلسفة حقوق الإنسان (بالفارسيّة)، ص١٠٦ ـ ١٠٧.

٤٨

ب ـ التزاحم في الولاية:

إنّ التشريع الإنساني يتوقف على ثبوت الولاية للإنسان في ذلك. وعلى فرض ثبوت الولاية للإنسان على نفسه (بالأصل)، وعلى غيره (بالتفويض والوكالة)، تصطدم هذه الولاية مع الولاية المطلقة الإلهيّة، ومع ما ورد في القرآن من نفي الولاية لغير الله(٢٧) .

ج ـ المخالفة لمبدأ العبوديّة:

إنّ مبدأ التوحيد، قاعدة الأديان السماويّة، كما يدعو إلى التوحيد في الألوهيّة والخَلق، يدعو إلى التوحيد في الربوبيّة والعبادة. والتدخل المباشر والتفصيلي للشريعة في قضايا الحياة والإنسان أكثر انسجاماً مع روح العبودية المطلقة لله تعالى. كما أنّه أكثر أمناً واطمئناناً من الوقوع في شراك مشاركة غير الله في الطاعة والعبوديّة. والطاعة من مقتضيات التشريع ولوازمه.

ثالثاً: جامعيّة الشريعة وإن لم تكن ذات مفهوم واضح ومحدّد في الفقه الإسلامي، ولكن من المسلّم به، عند فقهاء المسلمين، أنّ مِن معاني الجامعيّة قدرة الشريعة على إعطاء الحلول المناسبة للحاجات التشريعيّة للإنسان، من خلال جهاز الاستنباط الفقهي وعملية الاجتهاد. وعادة يتم إثبات الجامعيّة(٢٨) بمعانيها المختلفة من داخل المجـال الدينـي كالآيـات والروايات الّتي قد توحي بذلك(٢٩) .

يعتمد الاتّجاه الشمولي في تصوّره هذا، على تفسير خاص للإنسان والحياة والشريعة، والّذي ينطلق أساساً من إدراك يقوم على نفي استقلال الإنسان بعقله الطبيعي وحرّيّته الذّاتيّة في التشريع والتخطيط لشؤون الحياة. والنظر إلى العلاقة القائمة بين قضايا الحياة والمعرفة الدينيّة (الشريعة) على أنَّها علاقة ترجع بالأساس إلى طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهي أساساً علاقة طاعة مطلقة

ــــــــــــــ

٢٧ ـ الشورى: ٩ و٢١، يوسف: ٢٠، المائدة: ٤٤ وغيرها.

٢٨ ـ راجع: أهدف الفقه ومقاصد الشريعة (فلسفة الفقه ـ ١)، ص٢١، ٢٢.

٢٩ ـ راجع النحل: ٧٥، الأنعام: ٣٨ و٥٨، النحل: ٨٩، المائدة: ٣٠، والروايات: الكافي: ج١، ص٢٣٨. ووسائل الشيعة: ج١٩، ص٢٧١؛ والكافي: ج١، ص٦١؛ وبحار الأنوار: ج٩٢، ص٩٨؛ والكافي: ١، ص٥٩ و...

٤٩

(خُلق الإنسان ليطيع) والطاعة ((هي الّتي تُؤَدَّى بناءً على الأمر، لا على ما يسرّ ويتلذّذ))(٣٠) ، أو بالأحرى هي ((موافقة الأمر))(٣١) الإلهي.

وبناء على هذا التصور، يأتي دور الفقه ((في استنطاق النصّ الشرعيّ بحثاً عن الأمر والنهي الإلهيّين))، وينتهي هذا البحث تارة إلى أحكام صارمة بصيغتي الوجوب والحرمة (الحكم الملزِم)، وأخرى إلى أحكام غير صارمة بصيغتي الاستحباب والكراهة، وثالثة إلى الإباحة؛ ليجسّد بذلك الطاعة بكلّ تفاصيلها.

من هنا، نجد أنّ الفقه يتحوّل إلى ((علم التكليف))؛ مستنداً إلى ((نظرية التكليف)) الّتي تأخذ شرعيّتها من مبدأ ((حق الطاعة)) كأصل أساسي ورجعي، يُحتكَم إليه في كلّ مورد ،لا نملك الدليل على الخلاف فيه، لإثبات التكليف واشتغال الذمّة(٣٢) . ونصوص الشريعة دالّة من حيث الأساس (على ضوء هذا التفسير) على التكليف، بل هي عين التكليف. وأما سائر العلوم الّتي تقنِّن للشريعة كالكلام واللُّغة والفقه وغيرها، فإنّها تتمركز كلّها باتجاه تلك النظريّة الأم، وبناء عليه، فإن دائرة البحوث الفقهيّة هي عينها دائرة ((علم التكليف)).

ــــــــــــــ

٣٠ ـ أصول الدين للبغدادي، ص٢٥؛ انظر بهذا الصدد: التبصير في الدين، ص٨٠، وشرح المواقف، ص٥٢٧.

٣١ ـ التوحيد، الماتريدي، ص٣٦٩.

٣٢ ـ أنظر: السيد محمد تقي الحكيم: مرجع سابق، ص٥٢٠.

٥٠

ومن خصائص هذا الاتجاه سلطة النصوص الدينيّة في عمليّة الاستنباط الفقهي، ومعالجة النصوص إثباتاً ودلالّة وتقويماً داخل المجال الديني، والانسحاب الخجول للعقل الإنساني في بعض الاتجاهات أمام النصّ الشرعي، وقراءة النصوص الخاصّة قراءة منعزلة، في الغالب، عن الأهداف والعناوين الكبرى للشريعة، وهيمنة النظرة الفردية إلى الشريعة. ولا يخفى في هذا المجال دور جهود علماء كبار حاولت تصحيح النظرة إلى الشريعة(٣٣) ، والسعي للحيلولة دون سقوط الفقه الاسلامي إلى مستوى ((الفقه البدْوي الجامد)) على حد تعبير الشيخ محمد الغزالي، أو أن يؤدّي إلى ((زوال الحضارة الجديدة)) على حدِّ تعبير الإمام الخميني(٣٤) .

إذاً، على هذا الأطروحة الّتي تبتني على شمولية الشريعة وجامعيّتها لقضايا الحياة، فإنّ دائرة الفقه تمتدّ نظريّاً بامتداد دواعي الحياة المتجدّدة، وتتسع لجميع الحاجات التشريعيّة للإنسان في حياته الفردية والاجتماعية. ولكن هل بإمكان هذا الاتّجاه أن يعكس نظاماً متكاملاً؟

ــــــــــــــ

٣٣ ـ أنظر بهذا الصدد: الإمام الخميني، صحيفة نور، ج٢١، ص٣٤، ٩٨، السيد محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة. واقتصادنا، ص٧٢١ ـ ٧٢٨ و٤٠٠ ـ ٤١٤. والشيخ يوسف القرضاوي: عوامل السعة والمرونة، ص١١، والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص١١٤، ١١٩.

٣٤ ـ صحيفة نور، ج٢١، ص٣٤.

٥١

الجواب نظريّاً بالإيجاب، ولكن بما أنّ تكوين النظام الإسلامي السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو التربوي أو... يتوقّف على الأحكام والمفاهيم، فهو انعكاس لاجتهاد معين؛ لأنّ تلك الأحكام والمفاهيم ـ الّتي يتوقّف عليها تكوين النظام ـ نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص. وما دامت الصورة الّتي نُكوِّنها عن النظام الإسلامي اجتهادية، فليس بالضرورة أن تكون هي الصورة الواقعيّة؛ لأنّ الخطأ في الاجتهاد يبقى وارداً. ولأجل ذلك كان من الممكن للمفكّرين الإسلاميّين، أن يقدموا صوراً مختلفة للنظام الإسلامي في حقوله المختلفة(٣٥) .

٢ ـ أطروحة التوجيه عبر العناوين الكبرى

الأطروحة الثانية لتفسير الشريعة وفهم دورها، هي: أطروحة التوجيه عبْر العناوين الكبرى الّتي ترتكز على المعاملات بالمعنى العام دون العبادات. وتقوم على الاعتبارات الآتية:

أوّلاً: الشريعة معنيّة بالإطار العام

إنّ دور الشريعة أساساً هو رسم الخطوط العريضة والإطار العام لحياة الإنسان، دون الاستغراق في التفاصيل. وتمارس الشريعة هذا الدور من خلال تحديدها للعناوين الكبرى (القيم والمبادئ العامّة) مثل: مبدأ العدالة الاجتماعية، والمسؤولية العامّة والمشتركة للإنسان، والدعوى إلى الخير، والأمر بالمعروف

ــــــــــــــ

٣٥ ـ راجع: السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص٣٨١.

٥٢

والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وحفظ النظام العام، ومبدأ المساواة أمام القانون والشرع (قاعدة الاشتراك في أحد معنييه)، ومبدأ حرّيّة التعاقد و...، ويترك للإنسان (الفقيه) أن ينخرط في التفاصيل ويندمج في إطارها المفروض من دون أن تكون الشريعة معنيّة بالتفاصيل، كونها مرتبطة بعوامل متغيّرة لا يمكن ضبطها وتقنينها.

ثانياً: التفاصيل الشرعية: تطبيقات ومصاديق

إنّ ما ورد من آراء شرعية تفصيلية في معالجة القضايا الجزئيّة (في دائرة المعاملات بالمعنى العام) يُفَسَّر على ضوء نظرية التوجيه عبر العناوين الكبرى بأنّها مصاديق وتطبيقات لتلك العناوين، والتطبيق يخضع في أساسه لعاملي (الزمان والمكان) والواقع الّذي ينشئه.

وعليه، فإنّ ما يرجع إلى المصاديق، والجانب التطبيقي للعناوين الشرعية الكبرى لا يشكّل أمراً ثابتاً؛ بحيث يصلح لكلّ زمان ومكان، ولا تشمله الأدلّة الواردة حول أبديّة الأحكام الشرعيّة.

من هنا، يكون دور الاجتهاد أساسيّاً في تحديد الأصول الأبدية للشريعة (العناوين الكبرى)، والأحكام القابلة للتغيير نتيجة المتغيّرات المتتالية في حياة الإنسان، من جهة، والجمع بين الأصول الأبدية والأحكام المتغيّرة من جهة ثانية(٣٦) .

ثالثاً: التنظيم الديني يلتقي مع التنظيم الدنيوي

الاتّجاه التوجيهي لا يعلن القطيعة مع نظريات وأفكار وحلول تأتي من خارج إطار الشريعة وتعالج قضايا الإنسان وتلتقي مع العناوين الكبرى والمبادئ العامة للشريعة؛ وذلك لأنّ الشريعة تنظر إلى الحياة وقضاياها بنظرة موضوعيّة لا

ــــــــــــــ

٣٦ ـ أنظر بهذا الصدد: محمد إقبال اللاّهوري، تجديد الفكر الديني في الإسلام.

٥٣

ذاتيّة(٣٧) ، والواقع له نصيب كبير في تحديد مسار الرأي الشرعي، والاتجاه الّذي ينبغي أن يتَّجه الفقيه إليه في تقرير حكم، أو إبداء رأي، أو أخذ موقف تجاه قضيّة من القضايا. كما أنّ ذلك مقتضى الجمع بين الأصالة والحداثة، والإسلام ومنجزات العصور الحديثة. ومن هنا، صحّ القول: ((إنّ التنظيم الدنيوي أساس متين لاستقامة نظام الدين))(٣٨) ؛ ذلك أنّ الدين كنظام عقائد، وعبادات، وأخلاق وأحكام تشريعية، جزء لا يتجزّأ من الحياة الدنيا، ولكنّه محتاج لعلماء حكماء هداة يفسرون أصوله بحسب مقتضى الأحوال(٣٩) .

ويترتّب على الاتّجاه التوجيهي عبر العناوين الكبرى إفساح المجال الواسع للطاقات والخبرات الإنسانيّة، ((والدعوة ((إلى بناء الحياة كلّها على التفكير))(٤٠)، ويسمح للفكر الإنساني أن يعبّر عن توجُّهات الشريعة من خلال الطاقات والخبرات الإنسانية وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان، كما يدعو إلى الاجتهاد في تحديد المقاصد والأهداف العامّة للشريعة(٤١) ، من خلال المعالم العامّة لها. من هنا، يكون للعامل الإنساني وعنصـر العمل البشـري دور فاعل للتعبيـر عن الشـريعة وفقاً ((لمقتضيات الحكمة الزمانيّة))(٤٢) .

إنّ الاتجاه التوجيهي (عبر العناوين الكبرى) يبني تصوّراته من موقع إخفاق الاتجاه الشمولي في مجالات فكرية، واجتماعية، وسياسية.

فكرياً، لم يستطع الاتّجاه الشمولي إعطاء تفسير شامل للشريعة، ينسجم ومتطلبات الحياة في العصور الحديثة. مقارباته للقضايا النظرية متَّصفة بالإطلاق والتعميم، في حين أنّ المعرفة تفقد قيمتها كلّما اقتربت من هاتين الصفتين.

ــــــــــــــ

٣٧ ـ ذلك فيما يرتبط بالمعاملات والقضايا المرتبطة بالشأن العام، دون العبادات ذات الصبغة التعبدية.

٣٨ ـ خير الدين التونسي، أقوم المالك في معرفة أحوال الممالك، بيروت، دار الطليعة، ١٩٧٨، ص١٠٦.

٣٩ ـ راجع: عبد الرحمن الكواكبي، الأعمال الكاملة، ص٣٦٠ وما بعدها. وناصيف نصار، تصورات الأمّة المعاصرة، بيروت، أمواج، ١٩٦٦، حول علاقة الدين والدنيا، عند الكواكبي.

٤٠ ـ عمار الطالبي، آثار ابن باديس، ج٣، ص١٣١.

٤١ ـ أنظر: أبي اسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار المعرفة، ص٦ وما بعدها.

٤٢ ـ عبد الرحمن الكواكبي: مصدر سابق، ص٣٦٥.

٥٤

وقد ابْتُلي هذا الاتجاه أيضاً بفقدان الوعي التاريخي العلمي المبني على مبادئ وقوانين قادرة على تفسير الحاضر، والاستفادة من الماضي، فضلاً عن استشراف المستقبل. وعدم النجاح في فهم الواقع فهماً علميّاً واقعيّاً، ومقاربته بأدوات مفهومة، إسلاميّة، أصيلة، قادرة على معالجة القضايا الفكرية والنظرية المعاصرة بأدواتها الخاصّة، معالجة شاملة ودقيقة وواضحة.

اجتماعيّاً، ركَّز الاتّجاه الشمولي على مستوى المسلم الفرد وأهمل سائر المستويات، أي مستوى المجتمع المسلم، ومستوى الإنسانيّة جمعاء. وبالتالي، عمَّم الحلول المقترحة على مستوى الحياة الفرديّة (الخاصّة) إلى مستوى الحياة العامّة.

سياسيّاً، ابتعد أصحاب الاتّجاه الشمولي عن مراكز القرار السياسي في الغالب، ولم يعايشوا الساحة السياسية والاجتماعية بشكل مباشر وفاعل، وتبدّل الفقه عندهم إلى العلم الافتراضي؛ بحيث ((أصبح الفقه يثُمَّر من النظر والافتراض أكثر ما يثُمَّر من الوقائع والعمل))(٤٣) .

هذه الأمور وغيرها أدّت إلى البحث عن نظريات بديلة، تأخذ على عاتقـها مهمّـة التوفيـق بيـن ((الثوابت الشرعية)) ومتطلّبات الحياة في العصور المختلفة.

والمنطق العام الّذي استعمله أصحاب الاتّجاه التوجيهي أقرب إلى الطابع التجريبي العملي منه إلى النظري المُبلور؛ ولذلك تبدو محاولات هؤلاء، جريئة وملتوية، طموحة ومتحفّظة، واضحة ومرتبكة، واسعة وناقصة.

ــــــــــــــ

٤٣ ـ الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دمشق، مطبعة جامعة دمشق، ١٩٥٧، ص١٢٥ ـ ١٢٦.

٥٥

إن هذا الاتجاه لم يُبلوَر نظرياً بشكل دقيق، ولم تحدَّد معالمه بقلم المنتمين لهذا الاتّجاه، ولم يدوَّن بشكل كامل ليعبر عن تصور شامل له أصوله، وحدوده، وأفكاره، وتقنياته، وآليّاته، ومبانيه الاجتهادية. وما نجده عند هؤلاء، هو النقد الضمني، أو الصريح، للاتّجاه التقليدي، وطرح بعض الأفكار العامّة، والدعوة إلى قراءة جديدة للشريعة، وأحكامها، ونصوصها، من دون أن يتمكَّنوا من تجسيد ((منهج بديل)) قادر على منافسة ((المنهج التقليدي للاجتهاد)) وقادر على التفاعل مع معطيات العصر الحديث في مجال العلم والمعرفة.

وفي مطلق الأحوال، فإنّ ((دائرة الفقه)) على ضوء الاتّجاه التوجيهي للشريعة عبر العناوين الكبرى تُحدَّد بحدود النصوص الشرعية الثابتة، المتمثِّلة بالنص الكتابي والسنّة القطعية. وأمّا فيما وراء ذلك، فإنّ الاتّجاه التوجيهي لا يطلب من الفقه أن يباشر تفاصيل قضايا الحياة وتحديد الموقف منها من خلال مناطات فقهية بحتة، بل يدعو أهل الاختصاص إلى تحديد ما هو الصواب، وما هو الأصلح ضمن دائرة مجالهم التخصصي (فيما يرتبط بالشأن العام وقضايا المجتمع)، ومن ثَمَّ عرْض ما يتوصَّلون إليه على الفقه ليعْرضها بدوره على العناوين الكبرى للشريعة. وبالتالي، الحكم على تلك الجهود من خلال تصوّرات الشريعة العامّة.

٥٦

وبالأحرى، يكفي على ضوء هذا الاتّجاه أن لا يتصادم مجهود نظري أو عملي إنساني مع المبادئ العامّة للشريعة، بما فيها النصوص الثابتة(٤٤) .

من هنا، فإنّ الفقه هو الجهاز المقوِّم للنظر والعمل، من خلال مبادئ الشريعة وأحكامها الثابتة، وليس المنهج لهما. الفقه علم معياري، مهمّته الأساسيّة التوفيق بين جهود أصحاب الاختصاص الحقلي وبين المبادئ العامّة للشريعة والنصوص القطعية وضروريات الدين.

ويتَّضح ممّا بيّنا، موقف الاتّجاه التوجيهي في خصوص تكوين النظام الإسلامي في حقول مختلفة؛ حيث إنّ النظام القائم على تصوّرات فقهيّة بحتة ليس له وجود خارجي على ضوء هذا الاتّجاه، بل النظام الإسلامي هو النظام المنبعث من واقع حاجات الناس المتوافق مع تصوّرات الشريعة العامّة للحياة والإنسان، سواء كان في حقل السياسة أم الاجتماع أم الاقتصاد أم غيرها. بل هناك رأي لدى بعض أصحاب الاتجاه التوجيهي مفاده: عدم قدرة الفقه على تجسيد النظام؛ معلِّلاً وجهة نظره هذه بأنّ الفقه لم يُدوَّن أساساً لمعالجة قضايا كهذه، بل مجاله الإجابة على أسئلة السائلين(٤٥) .

ــــــــــــــ

٤٤ ـ وهذا ما يقوم به مجلس صيانة الدستور في جمهورية إيران الإسلامية؛ حيث تتمّ صياغة القوانين في مجلس الشورى الإسلامي منطلقا من حاجات المجتمع والحكم، من دون أن يكون للنصّ الشرعي دور في هذه الصياغات، ومن ثَمَّ يمارس مجلس صيانة الدستور دوره القانوني في عرض تلك التشريعات على المبادئ العامّة للشريعة ونصوصها وأحكامها، إضافة إلى مقارنتها بمبادئ الدستور في الجمهورية الإسلامية. وما يهمّ هذا المجلس هو صيانة الدستور وأنّ لا تتعارض تلكم التشريعات مع المبادئ والأحكام الشرعية والدستورية. وأخيراً يبرّر إشراف مجلس الصيانة على الدستور بحكم ولي الفقيه الّذي يمثّل السلطة العليا للحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران.

٤٥ ـ انظر بهذا الصدد: محمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنت (بالفارسيّة)، ص١٠.

٥٧

وممّا يختلف النظر فيه، بين أطروحة التوجيه المباشر وأطروحة التوجيه عبر العناوين الكبرى، ممّا يرتبط بتفسير ((المباح)) وتحديد ((دائرته))؛ حيث إن أصحاب أطروحة التوجيه المباشر يرون أن ((المباح)) حكم شرعي كسائر الأحكام الشرعيّة (أي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة)، ويحيلون في تحديده إلى الشرع بالاحتكام إلى آليّة الاستنباط الفقهي وتطبيق القواعد والضوابط المرعيّة في الاستنباط على الإباحة أيضاً. واتصاف الأحكام المستخرجة ضمن دائرة الإباحة بأنّها ربانيّة وشرعية، كباقي الأحكام الشرعية.

في حين أنّ أصحاب أطروحة التوجيه عبر العناوين الكبرى يُصنِّفون ((الإباحة)) خارج دائرة الحكم الشرعي(٤٦) ، ويعدُّون ((الإباحة)) إنشاءاً من الشرع الإسلامي لدائرة الحرّيّة الإنسانية.

وحيث تُرِك الأمر والتدبير في هذه الدائرة للإرادة الانسانية الحرّة، وخارج نطاق الحكم الشرعي؛ بحيث إذا صدر حكم في تلك الدائرة فـ ((لا يستند ذلك إلى الله تعالى، وإنّما يستند إلى أولي الأمر، أو السلطة الحاكمة المسلمة الّتي من حقّها الاجتهاد داخل دائرة المباح بإيجاب بعض المباحات، أو بحظر بعضها. وطاعتها في ذلك واجبة شرعاً. ولكنّها طاعة موقوفة بزمانها ومكانها لا تمتدّ امتداداً مؤبَّداً في أجيال الأمّة... إنّ دائرة المباح في النهاية... ليست أكثر من إفساح شرعي معترف به لمجال يُراد تمليكه لحركة التاريخ بمعطياتها الأيكولوجيّة، والعقليّة، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والنفسية، والفكريّة بوجه عام، بحركة الإنسان مع المكان والزمان))(٤٧) .

ثُمَّ إنّ دائرة الإباحة ((تختلف سعة وضيقاً بالنظر إلى الاتجاهين السابقين. فحسب أطروحة التوجيه المباشر، فإنّ دائرة الإباحة تضيق من خلال مصادر غير نصيّة كالإجماع، والقياس، والاستحسان، وغيرها عند أهل السنة، وحكم العقل

ــــــــــــــ

٤٦ ـ انظر: شبستري، مباني الاجتهاد (ندوة)، نقد ونظر، العدد الاول، ١٤١٥ هـ. ق، ص٣٦.

٤٧ ـ عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام... ط١، بيروت، المركز الثقافي العربي، ١٩٨٨، ص٥٣.

٥٨

وتنقيح المناط و... عند الإماميّة. في حين أنّ ((دائرة الإباحة)) لها سعة ومجال واسع حسب أطروحة التوجيه عبر العناوين الكبرى، فإنْ لم يوجد نص قطعي ومعتبر يدخل في دائرة الإباحة. ويقول ابن حزم الأندلسي إنّ قولهم: ((هذه مسألة لا نصّ فيها قول باطل وتدليس في الدين؛ لأنّ كلّ ما لم يحرِّمه الله تعالى على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن مات فقد حلَّله بقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًاً ) وقوله تعالى:( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) ، وكلّ ما لم يأمر به فلم يوجبه. وهذه ضرورة لا يمكن أن تقوم في عقل أحد غيرها))(٤٨) .

فإنّ جزءاً كبيراً من الثروة الفقهية المتضخِّمة، الناشئة من مصادر غير نصيّة، كان من نتاجات الاتجاه الّذي يرى في دائرة الإباحة توجيهاً شرعيّاً مباشراً. في حين أنّ الاتّجاه الثاني يرى نفسه في حلّ من إلزاميّة الأحكام الّتي لها أساس توجيهي مباشر؛ لأنّ ((قانون النصّ يعمل من خلال دائرة المباح داخل الواقع البشري في زمن بعينه ومكان بعينه، معترفاً له بدوره الطبيعي في حركة التشكيل. وإنّ ذلك يتمّ في مفهوم الإسلام وبمباركته كتحصيل حاصل يمثّل القاعدة؛ (إذ الإباحة هي الأصل) وليس الاستثناء))(٤٩) .

٣ ـ أطروحة الفصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي (العلمانيّة)

تدعو هذه الأطروحة إلى الفصل بين دائرة الأمر القدسي (secradreaim) ودائرة الأمر الدنيوي؛ حيث إنّ الأمر القدسي والديني يأخذ اعتباره من ما وراء الطبيعة (methaphisics)، ولا يبني أفكاره وتصوراته على المنفعة والفائدة الدنيويّين (utilitarian)، ولا يلتزم أساساً بالتبرير (justification) لأفكاره وتصوّراته. وبالتعبير المنطقي، فإنّ الأمر القدسي (قضايا قياساتها معها).

وعلى عكس ذلك تماماً القيم والتصورات الدنيويّة؛ حيث تبتني على النفع

ــــــــــــــ

٤٨ ـ ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، ج٤، ص٦٥٣.

٤٩ ـ عبد الجواد ياسين، مرجع سابق، ص٥٣.

٥٩

يقول المفكّر الفرنسي (إميل دور كهايم)، بعد ربطه بين أشكال العقد الاجتماعي (socialBand) والتقدّم البشري: ((إنّ النقطة النوعية الّتي حصلت في حياة البشرية نتيجة العقد الاجتماعي هو الفصل بين الأمر القدسي والأمر المفيد، وباقي الفروقات راجعة إليه))(٥٠) .

وقد نشأت هذه النظرية من خلال إرهاصات عديدة وصراعات مريرة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب. وبإمكاننا القول: إنّ ((الحركة العلمانيّة)) بدأت في أوروبا مع عصر النهضة (Renaissace)؛ ذلك أنّ أوروبا كانت خاضعة خلال العصر الوسيط لسلطان الكنيسة الكاثوليكيّة الّتي علّمت أنّ جسد الإنسان والأرض الّتي هي جزء منها مأخوذان بخطيئة آدم. ومن هنا، فهما لا يستحقّان من المسيحي الصحيح أكثر من الازدراء. فلما بزغ عصر النهضة وانغمس الإنسان الحضري في ملاذ الحياة الدنيا، وجذبه سحرها، ورغب في تحصيل الكسب المادي، وُجِد في وضع يتعارض مع تعاليم الكنيسة تعارضا كاملاً: الكنيسة تدعوهم إلى احتقار الجسد وهم يلهثون وراء كلّ ما يلبّي حاجات الجسد ومطالبه. والكنيسة تطالبه بإهمال الدنيا وهم يجدونها مصدر الثورة ويعملون لها في المقام الأول. وهكذا بدا الانقسام بين الكنيسة وقطاعات كبيرة من أتباعها. حتّى إذا حاولت الكنيسة أن تعرض وجهات نظرها على هذه القطاعات تمرّد القوم عليها ودعوا إلى الأخذ بالعلمانيّة؛ أي تحرير النشاطات والمؤسسات على اختلافها من سلطات الكنيسة ورجالها. وأيّاً كان، فإنّ العلمانيّة لم تتَّخذ شكلاً فلسفيّاً نظاميّاً إلاّ في منتصف القرن التاسع عشر، وفي رأس مسلّماتها حرّية الفكر، وحرّية كلّ أمرئٍ في مناقشة جميع المسائل الجوهرية من مثل وجود الله، وخلود الروح، وأُسس الالتزام الأخلاقي(٥١) .

ــــــــــــــ

٥٠ ـ ورد في: جهانكير صالح بور، مجلّة كيان (الفارسيّة)، العدد ٢٤.

٥١ ـ منير البعلبكي، موسوعة المورد، ج٩، ص١٧.

٦٠