الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92616
تحميل: 7033


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92616 / تحميل: 7033
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من هنا، جاء تعريف العلمانيّة على النحو الآتي: ((هي جملة من التدابير جاءت وليدة الصراع الطويل... بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، واستهدفت فكّ الاشتباك بينهما، واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، بما يضمن حياد هذه تجاه الدين، ويضمن حرّية الرأي... ويمنع رجال الدين من إعطاء آرائهم.. صفة مقدَّسة))(٥٢) .

وهذا هو التوجّه الّذي يؤكّد على التخلّص من هيمنة الكنيسة على شؤون السياسية، وتحرير السلطة السياسية من أيّ تأثير مباشر أو غير مباشر من قبل السلطة الدينية المتمثّلة بسلطة الإكيلروس الديني المسيحي.

وكما يبدو من خلال أدبيات هذه النظرية، فإن مصطلح العلمانيّة (Secularism) يطلق على مجالين مرتبطين:

الأول: المفاهيم والقيم

الثاني: السلطة

ففي المجال الأول، ترى العلمانية أنّ المفاهيم والقيم إن كانت من القضايا الحقيقيّة، فلابدّ أن تتّصف بالعقلانيّة (Rational)، وإن كانت سلوكيّات وقضايا اعتبارية (Morm) كالفقه والقانون، فلابدّ من اتصافها بالعقلائية (Rationalize).

والأمور العقلائية هي ما لا يوجب فعله أو تركه ذمّ العقلاء بما هم عقلاء، ويتولّى العقلاء الحكم عليها بالحسن أو القبح. وفي المجال الثاني، فإنّ العلمانيّة ترمي إلى الفصل بين المؤسّسة الدينية والمؤسّسة السياسية ـ (church-state diffen-tiaton)، وهو ما يطلق عليه فصل الدين عن السياسة.

وكما يصرّح عادل ضاهر، فإنّ ما يكمن في الواقع وراء إصرار العلماني على عدم حسبان الدين الأساس الأخير للالتزام السياسين هو اعتقاده باستقلاليّة العقل وبأسبقيّته على النقل. وحسب قوله، فإنّ المسألة الّتي لها أهميتها القصوى، بناء

ــــــــــــــ

٥٢ ـ شبلي العيسمي، العلمانية والدولة الدينية، (بغداد، وزارة الإعلام، ١٩٨٦)، ص١٩، ورد في: عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، لندن، دار الساقي، ١٩٩٨م، ص٤٠٠.

٦١

على فهمنا للعلمانية، ليست النتائج المترتبة، واقعيّاً وموضوعيّاً، على الطابع الكلياني للدولة الدينية، وبالتالي على جعل الدين المصدر الأخير للشرعية وللالتزام السياسي. إنّ هذه النتائج، لا شكّ، لها أهميتها للعلماني، إنّما هناك مسألة أخرى، تفوقها أهميّة، هي مسألة كون الطابع الكلياني للدولة الدينية يقوم على مبدأ تقديم النقل على العقل الّذي يقضي بتعطيل استقلاليّة العقل(٥٣) .

ألاّ أنّ العلمانية في مضامينها الفلسفية المادية ترمي إلى أبعد من ذلك؛ أي إقصاء (الله) عن المجتمع. فلقد كان القرن التاسع عشر، هو الّذي طرحت فيه التقنية كمشكلة فلسفية، وهو التأسيس للانطلاقة في تتابع محطّاتها. وما انتهى هذا القرن، إلاّ وكان الله قد مات عند الغربيّين، وهو لم يمت كما يقول ((نيتشه)) و((سارتر)) ولكن الإنسان قتله(٥٤) .

وقبل اللاّهوتيّين الوضعيّين بقرن ونصف، أعلن ((فيورباخ)) موت الله، وقبل قرنين من الترجمات البنيوية، أو التوجيهية لكتابه، أجهز لامتري، (La Mettre) على الإنسان. إنّها فلسفات موت الإنسان والإله. لقد انتهى الغرب إلى عبادة إله ميّت، وهو ما يسمح بقيام دين ((الوسائل)) و((التقدّم والنماء)) الّذي أخذ دور ((أفيون الشعوب))(٥٥) .

إنّ انقطاع الصلة الحقيقية للإنسان الأوروبي بالله تعالى، ونظرته إلى الأرض بَدَلاً عن النظرة إلى السماء، انتزع من ذهنه أيَّ فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة أعلى، أو تحدّيات تُفرَض عليه من خارج نطاق ذاته، وهيّأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقّه في الحرّية، وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية، الأمر الّذي استطاعت بعد ذلك أن تترجمه إلى اللغة الفلسفية، أو تعبّر عنه على الصعيد الفلسفي، فلسفات كبرى في تاريخ أوروبا الحديثة، ومنها الوجودية(٥٦) .

ــــــــــــــ

٥٤ ـ ماجد فخري، أبعاد التجربة الفلسفية، دار النهار، ١٩٨٠، ص١٥٨.

ورد في: محمد صادق فضل الله، في شمولية الغرب... مجلة المنطلق، العدد ٩٨، بيروت، ١٩٩٣م. ص٨٢.

٥٥ ـ روجيه غارودي، وعود الإسلام، ترجمة: زغيب، بيروت، الدار العالمية، ١٩٨٤، ص١٨٠م.

٥٦ ـ السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص١٨.

٦٢

وبعض العلمانيين الّذي يتظاهرون بالاعتدال، يقدّمون أنفسهم كمؤمنين

٥٣ ـ عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية (مرجع سابق)، ص٥٣.

إن الفكرة العلمانية في تصور العلمانيّين تقوم في الغالب على استرجاع واجترار المفاهيم والأغراض الّتي قامت الحركات العلمانية في الغرب لتحقيقها، نتيجة انطباع ساد الاوساط الفكرية والثقافية في عالمنا العربي والاسلامي من أنّ تحديث المجتمع العربي ـ الإسلامي لا يتمّ إلاّ من خلال الدعوة إلى العلمانية، والفصل بين الأمر الديني والدنيوي، على غرار ما تمّ في الغرب إبّان النهضة.

وحسب (عادل ضاهر)، فباستثناء ((أنطون سعادة)) من المفكرين القوميّين، لا يوجد أيّ مفكر قومي يذهب إلى حد النظر إلى العلمانية على أنّها موقف من طبيعة الدين والقيم والعقل والإنسان وعلاقته بالله. وباستثناء ((محمّد أركون)) من المفكرين العرب، لا يوجد من يولي أيّ اهتمام للعلمانية بوصفها موقفاً من قضية المعرفة. (انظر: عادل ضاهر: مرجع سابق، ص٣٩).

ويضاف إلى الاسمين السابقين عادل ضاهر نفسه؛ حيث إنّه ينظّر للعلمانية بحثاً عن المرجع الأخير في المعرفة، رافضاً الفكر الديني ومتعلقاً بالقيم الخُلقية، وكأنّ الأخلاق خارج الفكر الديني لها ضماناتها المستقلة والزاماتها المنفصلة.

٦٣

انظر: المرجع نفسه، المعرفة المعيارية وطاعة الله، والأطروحة الإبستمولوجية(١) و(٢).

بالله، لكن على أساس أنّ الخالق عزّ وجلّ صنع العالم وتركه، وعليه فهم يستبعدونه تعالى من النموذج المعرفي والأخلاقي، فهو عزّ وجلّ عند هذا البعض، بمثابة صانع الساعة الّذي صنعها ثُمَّ تركها تدور حسب قوانينها الداخليّة الآليّة(٥٧) .

من هنا، فإن لم نقل: إنّ العلمانية تنادي بأيديولوجيا الإلحاد في جانبها الفلسفي، وتنكر الإيمان الديني، وتدعو إلى مقاطعة الدين على كلّ الأصعدة، انطلاقاً من العلم ووصولاً إلى العِلْمَويّة ((العلم باعتباره جملة الطرائق الرياضية والتجربية الّتي أمّنت للانسان سيطرة رائعة على الطبيعة، والعلموية باعتبارها جملة الخرافات والمعتقدات الباطلة الّتي تدّعي الإفادة من شرعية خطوة هذه الطرائق، من أجل أن تفسّر بها وأن تنفي باسمها جميع الأبعاد الأخرى للحياة، كـ(الفن) على سبيل المثال، والحبّ والتضحية، والإيمان، أو بساطة الإنسان الآخر في نوعيّته، فما يدعى خطأً أضرار العلم، لا يصدر عن العلم، وإنّما عن فلسفة تجعل من العلم دِيناً لا نجرؤ على الجهر باسمه))(٥٨) فمن المؤكّد أنّ العلمانية تنفي دور الدين في المجال الاجتماعي والحياة العامّة، وتطلب من الدين الانسحاب الكامل من ساحة الشأن العام، والتموضع في زاوية الأعمال والمناسك الخاصّة، والاعتناء بتنظيم العلاقة بين البشر وربّهم، كلّ ذلك في العلمانيّات المعتدلة. وأمّا العلمانية المتشدّدة، كالماركسيّة، فترفض أيّ نشاط مُتصوّر للدين، حتّى على صعيد الطقوس الدينية البحتة.

يقول الشيخ القرضاوي في هذا الخصوص: ((والحقيقة أنّ النزاع بيننا وبين العلمانيّين الأقحاح؛ الّذين يقولون بضرورة عزل الدين عن المجتمع والدولة وحصره في ضمير الفرد... النزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس في مسألة من مسائل الفروع، بل هي في قضيّة من قضايا الأصول؛ لأنّها تتعلّق بـ (حاكميّة الله) تعالى،

ــــــــــــــ

٥٧ ـ عبد الوهاب المسيري، العلمانية.. رؤية معرفية، مجلة الإنسان، العدد ١٠، باريس ١٩٩٣م ص٨٢.

٥٨ ـ روجيه غارودي، نداء إلى الأحياء، ترجمة: قرقوط، دمشق، دار دمشق، ١٩٨١، ص٤٤.

٦٤

هل من حقّه عزّ وجلّ أن يحكم خلقه، يأمرهم وينهاهم، ويحلّل لهم ويحرّم عليهم أم لا؟

العلمانيّون يَحْرِمُون الله ـ جلّ جلاله ـ من هذا الحقّ، ويتعالمون على ربّهم؛ ويزعمون أنّهم أعلم من الله بخلقه، وهذه مسألة أصوليّة عقيديّة بلا ريب))(٥٩) .

فعلى ضوء هذه الأطروحة، فإنّ دائرة الفقه (الدين) تتحدّد بحدود العبادات وممارسة الشعائر والطقوس الدينيّة. وليس للدين والفقه أي دور معترف به على صعيد الحياة العامّة؛ انطلاقا من مبدأ فلسفي يرفض الآخر الّذي لا ينطلق من مبادئهم الفلسفية في النظر إلى الحياة والقضايا الاجتماعية

المرحلة الثانية:

نطاق الفقه على ضوء معطيات الشريعة

بعد استعراضنا للنظريّات المرتبطة بتحديد دور ودائرة الفقه من خلال الرؤية الكَونية والتوجه العام الّذي يتبنّاه الباحث والفقيه من خارج المجال الديني، يأتي دور البحث عن مرحلة الإثبات، ورسم دائرة الفقه من داخل المجال الديني (الشريعة)، وبالاسترشاد بما ورد في الشرع، و ما تمّ تدوينه مُنْطَلَقاً من المبادئ او النصوص الشرعية. ويمكن البحث في هذه المرحلة من خلال المجالات التالية:

أوّلاً: استقراء أحكام الشريعة (الكتاب والسنة) والانطلاق من خلالها؛ لرسم دائرة الفقه وتحديد نطاقه.

ثانياً: الانطلاق من الأهداف العامّة الّتي تسعى إليها الشريعة، ورسم نطاق الفقه عبر الأهداف والعناوين الكبرى للشريعة.

ــــــــــــــ

٥٩ ـ الشيخ يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية، ط١، القاهرة، مكتبة وهبة، ١٩٩٨، ١٤١٩ هـ، ص ١٧ ـ ١٨.

٦٥

ثالثاً: الانطلاق من سيرة الفقهاء والمتشرعة، ومعطيات التراث الفقهي لرسم نطاق الفقه ودائرته.

وسوف نتكلّم عن هذه المجالات تِباعاً، ونسعى من خلالها، إلى فهم دائرة الفقه والبحث الفقهي.

استقراء أحكام الشريعة

يمكن للبحث الاستقرائي أن يأخذ صوراً مختلفة فيما يرتبط بالأحكام الشرعية من خلال مصدريها الأساسيّين الكتاب والسنة؛ حيث يمكن أن يتمّ الاستقراء عبر الآيات القرآنية وعبر الروايات، تارة بالاستقراء الأفقي؛ أي عدّ الآيات والروايات المختلفة وتصنيفها حسب الاهتمام الفقهي، وهذا ما نعبّر عنه بالدليل ((الإحصائي))، وأخرى يكون استقراءاً رأسيّاً (عموديّاً) يركّز على الجانب المضموني والمحتوائي (دون العناوين) للآيات والروايات، فيتمّ التصنيف حسب ذلك. وهذا ما نعبّر عنه بالدليل ((العقلي)). وثالثة، يرتكّز البحث والاستقراء على الآيات والروايات(٦٠) الّتي تتحدّث عن سيرة وممارسة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء السابقينعليه‌السلام ، وأهل البيتعليه‌السلام واصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نعبّر عنه بالدليل ((التاريخي))، وسوف نعرض لهذه الأقسام باختصار شديد:

١ ـ إحصاء الآيات القرآنية (الدليل الإحصائي)

لو أجرينا دراسة إحصائيّة(٦١) لمجمل الآيات القرآنية، حسب المواضيع الّتي تتطرق لها الآيات، لوجدنا ما يلي:

أ ـ إنّ نسبة الآيات الّتي تتحدّث عن العبادات المحضة؛ كالصلاة والصيام والكفّارات وما إلى ذلك، تقلّ عن نسبة ثلاثة إلى مائة من آيات القرآن الكريم.

ب ـ إنّ نسبة الآيات الّتي تتحدّث عن القضايا الخُلقية والمواعظ والعِبر من خلال قصص الماضين وغيرها، تشكّل عشرين بالمئة، تقريباً، من الآيات القرآنية.

٦٦

ج ـ إنّ نسبة الآيات الّتي تسعى لترسيخ الأفكار الاعتقاديّة؛ كالتوحيد، والنبوة، والمعاد، والجزاء والحساب، وما إلى ذلك، تشكّل خمسة وعشرين بالمئة، تقريباً، من الآيات القرآنية.

د ـ إنّ نسبة الآيات الّتي تتحدّث عن المعاملات بالمعنى العام تفوق الخمسين بالمئة من النسبة المتبقيّة، وتشمل الآيات الخمسمأة المعروفة بآيات الأحكام، ومئات الآيات الأخرى الّتي تقرر مبادئ عامّة أو أصول أساسيّة في الجانب المعاملاتي، الأعمّ من الآيات المرتبطة بأمور الجهاد والقضاء، والحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاية والحاكم والمحكوم، والأمّة والمجتمع، والسنن الاجتماعية والتاريخية، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، وما إلى ذلك.

وإذا بنينا على النِّسب الآنفة الذكر، يتضح لدينا ما يلي:

أوّلاً: إنّ الدين الإسلامي من خلال الدستور الأساس له، أي القرآن الكريم، يهتم بالجوانب الاجتماعية لحياة الإنسان بدرجة تفوق ٩٠% من مجمل اهتمامات القرآن الكريم.

ثانياً: إنّ نسبة اهتمام القرآن بالجانب الفردي، (أي ما يرتبط بتنظيم علاقة الإنسان بربّه من خلال العبادة، دون المعاملة) ـ بما فيه تلك الآيات الّتي تتحدّث عن الجوانب الخُلقية للإنسان ـ تقلّ عن عُشر مجمل الآيات القرآنية(٦٢) .

ثالثاً: إنّ نسبة الخمسين بالمئة، تقريباً، من الآيات القرآنية تهتمّ بالمعاملات بالمعنى العام. والمعاملات بالمعنى العام ـ حسب تصنيف العلوم الإسلاميّة ـ تدخل ضمن اهتمام علم الفقه.

رابعاً: إنّ درجة تنوّع الأحكام القرآنية في مجال المعاملات بالمعنى العام، الدائر

ــــــــــــــ

٦٠ ـ المقصود من الرواية هنا المعنى اللُّغوي، الأعمّ من الحديث والرواية عن المعصوم.

٦١ ـ إنّ النِّسب الواردة هنا تعتمد على تقديرات الكاتب ومراجعته إلى القرآن الكريم، والنِّسب تقريبية وليست حدّيّة، تعتمد على جملة من المعطيات التصنيفيّة الخاصّة للآيات القرآنية.

٦٢ ـ هذا فيما يرتبط بالاهتمام والمعالجة المباشرة، وإلاّ فإنّ القرآن الكريم أساساً هو كتاب التوحيد، ومن الممكن أن نلمس هذا الاهتمام التوحيدي في جميع الآيات والنِّسب المذكورة والآتية أيضاً.

٦٧

أمرها بين تحديد جوانب الحياة المختلفة، كالزواج والطلاق، والأسرة والعلاقات الاجتماعية، والتشريعات المختلفة في مجال الاقتصاد، وأمور الحكم والولاية، والقضاء والحدود.. و، تبيّن مدى سعة مجالات المعاملات، وتكشف، في الوقت نفسه، عن اهتمام القرآن بهذه المجالات.

خامساً: إنّ الفقه الإسلامي ـ حسب تقسيمه وتبويبه السائد ـ يعجز عن استيعاب الكثير من المفردات القرآنية الّتي تُعنى بالمعاملات بالمعنى العام، كقضايا الحكم، والمجالات المالية، والاقتصادية وما إلى ذلك، ما يمكن أن يُصنَّف ضمن السلوك العام للأفراد والحاكم الشرعي.

٢ ـ إحصاء روايات الأحكام (الدليل الإحصائي من السنّة)

لو أجرينا دراسة إحصائيّة للسنّة (كما سبق ذكره بالنسبة إلى القرآن الكريم) حسب المواضيع الّتي تشكّل محطّ اهتمام الروايات الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيتعليه‌السلام ، لوجدنا المعطيات التالية:

أ ـ وسائل الشيعة(٦٣) (نموذجاً)

من خلال دراسة إحصائية في كتاب ((وسائل الشيعة)) لمعرفة نسبة الروايات الواردة حول أبواب ومواضيع فقهيّة مختلفة يتبيّن لنا ما يلي:

أوّلاً: إنّ نسبة الروايات الواردة في ((وسائل الشيعة)) المرتبطة بالعبادات المحضة، كالصلاة، والصيام، والكفّارات، تبلغ ما يقارب العشرين بالمئة من مجموع الروايات الواردة حول أبواب مختلفة من العبادات والمعاملات بالمعنى العام.

ثانياً: لو صنّفنا الطهارة إلى جانب العبادات؛ لمقدَّميَّتها لها، عندئذ تبلغ نسبة الروايات الواردة حول العبادات ما يقرب من ثلث مجموع الروايات الواردة في مختلف الأبواب.

ــــــــــــــ

٦٣ ـوقد اعتمدنا في هذه الدراسة الإحصائية، وبالنسبة إلى المصادر الروائية لدى الإمامية، كتاب ((تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة))، للمحدّث الفقيه الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي (توفي سنة ١١٠٤ هـ)؛ وذلك لأهميّة الكتاب وجامعيّته. والنسخة الّتي تمّت مراجعتها في هذه الدراسة، هي: طباعة وتحقيق مؤسّسة آل البيتعليه‌السلام لإحياء التراث، المطبوع في ثلاثين مجلداً، ط١، ١٤١٣ هـ، ١٩٩٣ م، بيروت. ولهذه الموسوعة الروائية الفقهية تكملة قام بإعدادها المحدّث الشهير الشيخ حسين النوري وسمّاه ((مستدرك وسائل الشيعة)).

٦٨

ثالثاً: إنّ نسبة الروايات الواردة حول المعاملات بالمعنى العام ـ حسب التصنيف الأول ـ تبلغ ما يقارب الثَّمانين بالمئة، وحسب التصنيف الثاني، تبلغ ثلثي الروايات الواردة.

رابعاً: تتنوّع الروايات الواردة حول العبادات والمعاملات بالمعنى العام كالتالي:

١ ـ الطهارة: بنسبة ١٢ % تقريباً من مجموع الروايات (الإحصاء العام).

٢ ـ الصلاة: بنسبة ٢٠% تقريباً من مجموع الروايات.

٣ ـ الزكاة والخمس: بنسبة ٣% تقريباً من مجموع الروايات.

٤ ـ الصوم: بنسبة ٣% تقريباً من مجموع الروايات.

٥ ـ الحج: بنسبة ١٨% تقريباً من مجموع الروايات.

٦ ـ الجهاد: بسنبة ٣% تقريباً من مجموع الروايات.

٧ ـ النكاح: بنسبة ٩% تقريباً من الاحصاء العام.

٨ ـ التجارة: (والّتي تشمل أبواب ما يكتسب به، وعقد البيع وشروطه، وآداب التجارة، والخيار، وأحكام العقود، والعيوب، والربا، والصرف، وبيع الثمار، وبيع الحيوان، والسلف، والدين والقروض) بنسبة أقلّ من ٥ر٢% تقريباً من الإحصاء العام.

٩ ـ النسبة المتبقّية، أي ما يقلّ عن ٣٠% من الإحصاء العام، تتوزّع بين أبواب وكتب متعدّدة (كالشركة والمضاربة والمزارعة والمساقات والودّية، والعارية، والإجارة، والوكالة، والهبات، والسبق والرماية والوصايا، والطلاق، والخلع، والمباراة، والظهار، واللعان، والعتق، والأطعمة والأشربة، والفرائض

٦٩

والمواريث، والقضاء والشهادات، والحدود والتعزيرات، والديات، والقصاص...).

ب ـ السنن الكبرى(٦٤) (نموذجاً)

من خلال دراسة إحصائية في كتاب ((السنن الكبرى))، بحثاً عن نسبة الروايات الواردة حول مواضيع فقهية مختلفة، نصل إلى النتائج التقريبيّة التالية:

أوّلاً: إنّ نسبة الروايات الواردة في هذا الكتاب، حول العبادات المحضة (كالصلاة والصوم والكفّارات، بإضافة الطهارة)، تبلغ ما يقارب ٣٨% من مجموع الروايات الواردة في أبواب مختلفة، موزّعة كالتالي:

أ ـ الطهارة: نسبتها من مجموع الروايات١١% تقريباً

ب ـ الصلاة: نسبتها من مجموع الروايات ٢٢% تقريباً.

ج ـ الجنائز: نسبتها من مجموع الروايات ٥ر٢% تقريباً.

د ـ الصوم: نسبتها من مجموع الروايات ٥ر٢% تقريباً.

ثانياً: إنّ نسبة الروايات الواردة في هذا الكتاب، حول المعاملات بالمعنى العام، تبلغ ما يقرب من ٦٢% من مجموع الروايات المدوّنة في الكتاب، موزّعة في المواضيع التالية:

أ ـ الزكاة: نسبتها من مجموع الروايات ٥ر٢% تقريباً.

ب ـ الحجّ: نسبتها من مجموع الروايات ٨% تقريباً

ج ـ البيع وملحقاته: (كالرهن والنفس، والحجر، والصلح، والحوالة، والضمان، والشركة، والوكالة، والإقرار، والعارية، والغصب، والشفعة، والقرض، والمساقاة، والإجارة، والمزارعة، وإحياء الموات، والوقف، والهبات، واللَّقُطة، والفرائض، والوصايا، والوديعة، وقسمة الفيء والغنيمة) نسبتها من المجموع العام للأحاديث الواردة تبلغ ما يقرب من ١٢%.

ــــــــــــــ

٦٤ ـ وقد اعتمدنا بالنسبة إلى المصادر الروائية عند أهل السنة، السنن الكبرى، للإمام أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، (المتوفى سنة ٤٥٨ هـ.) لأهميّة الكتاب وجامعيّته لأبواب الفقه، وتمّ في هذه الدراسة الرجوع إلى طبعة دار الكتب العلمية، بيروت،ط١، ١٤١٤ هـ ق. ١٩٩٤م. تحقيق: محمد عبد القادر عطا. والمطبوع في عشرة مجلدا.

٧٠

د ـ النكاح وما يلحق به، (كالصداق، والقسم والنشوز، والخلع والطلاق، والرجعة، والإيلاء، والظهار، واللعان، والعدد، والرضاع، والنفقات)، تبلغ نسبته من مجموع الأحاديث الواردة في الكتاب ما يقرب من ١٢%.

هـ ـ الحدود والديات وما يلحق بهما (كالجِرَاح، والقسامة، والسرقة، وقتال أهل البغي، والمرتدّ، والأشربة والحدّ فيها..) تبلغ نسبتها من المجموع العام للروايات ما يقرب من ١٠%.

و ـ السيِّر وما يلحق بها (كالجزية، والقضاء، والشهادة، والدعوى والبيّنات) تبلغ نسبتها من المجموع العام ما يقرب من ١٠% أيضاً.

ز ـ أبواب متفرقة (كالضحايا، والصيد والذبائح، والسبق والرماية، والأيمان والنذور، والعتق والولاء، والمدبَّر، والمكاتَب، عتق أمّهات الأولاد..) تبلغ نسبة الروايات الواردة فيها من المجموع العام ما يقرب من ١٠%.

النتيجة:

ونستنتج، ممّا سبق، ما يلي:

أوّلاً: إنّ الأحكام الشرعية توسّعت في بعض الأبواب والمجالات أكثر من غيرها، وبقيت بعض المجالات مهمّشة؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنّ صدور الروايات تمّ أساساً حسب الأسئلة الموجّهة من قبل الناس إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليه‌السلام .

وما عدا جملة من الأحكام التأسيسيّة ذات الأهميّة بالنسبة إلى الشريعة أو الأحكام الإمضائية الّتي تصرََّف الشرع في مضامينها، فإنّ الأساس المعتمد، والّـذي كان يتمّ عليه تداول الـروايات، هو ((النوازل)) والقضايا المبتلى بها.

وبما أنّ الهمّ الأساسي لارتكازات خاصّة ولدواعٍ شرعيّة من جهة، ومجتمعية وقَبَلية من جهة أخرى، كان يرتكز على جهات معينة، وكانت الأجوبة تأتي حسب تلك الأسئلة الموجّهة إليهم، من هنا نرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليه‌السلام يبادرون إلى مواجهة بعض الأسئلة والتصويب لبعضها، والنهي عن الإكثار من السؤال عن بعض المجالات الأخرى.

٧١

ثانياً: حينما بدأ الرواة بتدوين هذه الروايات لم يفكّروا قطّ بمدى أهميّة بعض الأسئلة أو عدم أهمّيّتها، ولم يتم فرز الروايات حسب الدواعي والجهات المختلفة، والغفلة عن دواعي وجهات الصدور(٦٥) أدّت إلى ارباك كبير للمتأخرين، من الفقهاء والمحدِّثين، الّذين لم يملكوا الآليّات الكفيلة للكشف عن هذه الجهات والدواعي، وهذا ما أدّى إلى عدم تمييز الجانب التبليغي من الأحكام عن الجانب الولائي منها، سيّما ما يرتبط بالمعاملات بالمعنى العام، وخاصّة ما يرتبط بالشأن العام (قضايا الحكم والمجتمع).

ثالثاً: إنّ درجة تنوّع الأبواب والمجالات في روايات الأحكام، تكشف عن مسألة في غاية الأهميّة؛ وهي أنّ دائرة الأحكام (الفقه في المصطلح الشائع في عصرنا) توسّعت واتسعت بتلك الدرجة؛ بحيث تمّ تصنيف مجالات واسعة من الحياة العملية للإنسان ضمنها. ولم يمتنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عن إدخال كلّ هذه المجالات ضمن الفقه، وحوّلوا بالفعل ـ من خلال العناوين الّتي اتَّخذت تلك الأسئلة وما صاحبها ـ من الأجوبة إلى نطاق الفقه.

وكان هذا الموقف من المعصوم بمثابة إقرار لمعالجة القضايا العملية المترامية الأطراف من خلال الفقه، إلاّ أنّ طريقة التداول اتّخذت صورا ًمختلفة؛ نتيجة الاجتهادات المختلفة في مجال الأحكام. ففي حين أنّ الأئمّة كانوا يركّزون على الأصول والمبادئ والمقاصد والغايات، من خـلال قولـهم:((علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)) أخذ الاجتهاد والعمل التفريعي عند بعض الفقهاء تطبيقاً حرفيّاً،

ــــــــــــــ

٦٥ ـ الأعمّ من التقيّة وغيرها.

٧٢

أو حركة اجتهادية ضمن الدلالة اللُّغوية والمُعجمية لبعض المفاهيم والأحكام. والحال أنّ الاجتهاد لا تنحصر دائرته في مجال التدوين اللُّغوي، ويمكن أن تأخذ صوراً مختلفة، لا تخرج عن دائرة الثوابت الشرعية وأصول الشريعة، وتؤخذ الأمور بمقاصدها وغاياتها بدل أخذها بحرفيّتها ضمن التداول الفقهي لقضايا المجتمع والإنسان.

٣ ـ الاستقراء العمودي (الدليل العقلي)

والمقصود بهذا الاستقراء، هو: ما يستنتجه العقل من خلال الاستعراض التأمّلي للآيات القرآنية والروايات الواردة عن المعصومين.

فهناك العديد من الآيات القرآنية والروايات الواردة الّتي لا يمكن استيعابها وفهمها إلا ضمن نظام اقتصادي، أو سياسي، أو تربوي، أو اجتماعي، وما إلى ذلك. وفي غير ذلك، تصبح هذه التشريعات والآيات والروايات مجرد عبث ولهو، (تعالى الله ورسوله عن ذلك علوّاً كبيراً). فهل يمكن فهم آيات الحكم بالعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، وجمع الخمس والزكاة وتقسيمهما، وإعداد الجيش ورباط الخيل، والحدود الواردة في القرآن، والإعداد الروحي، والآيات الدالّة على إطاعة الرسول وأولي الأمر، وما إلى ذلك، من دون تصور نظام سياسي، واقتصادي، وعسكري، وتربوي واجتماعي في الإسلام، وافتراض حكومة تأخذ على عاتقها القيام بهذه الواجبات؟، فإنّ العقل يحكم بداهةً ـ من خلال الاستعراض التأمّلي لهذه الآيات والروايات المماثلة (المفسِّرة والمكمِّلة) ـ أنّ الإسلام يدعو إلى التنظيم العام المنطلق من القواعد والضوابط والمبادئ الّتي أقرّها. عندما يأمرنا الله تعالى ـ مثلاً ـ بإعداد القوّة ورباط الخيل في قوله تعالى:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.. ) (٦٦) ، فإنّ العقل يحكم ـ بالبداهة ـ بوجود تنظيم عسكري، ونظام خاص للإعداد

ــــــــــــــ

٦٦ ـ سورة الأنفال: الآية ٦٠.

٧٣

والاستعداد، وإن لم يتطرّق الشرع إلى تفصيله وتَرَكه للظرف ومقتضيات الزمان والمكان ومتطلبات الواقع. ولولا ذلك، لما أمرنا الله تعالى بذلك. وقد لا تكون النصوص الخاصّة الّتي تعالج الأمور بذاتها تفي بأغراض التنظيم وشؤونه في كلّ الأزمنة والأمكنة، إلاّ أنّ الانطلاق من الضوابط والمبادئ والقواعد العامة، الّتي أرساها الإسلام لمعالجة قضايا المجتمع والإنسان، من شأنها أن تفي بهذا الغرض؛ كونها تشكّل إطاراً عامذاً ومُحكماً لمعالجة قضايا المجتمع والإنسان في حياته الفردية والاجتماعية. وهذه القواعد والضوابط والمبادئ تمّ فصلها وأخذ القرار بشأنها ومعالجة مسائلها حسب السلوك المتّبع وسيرة أهل الإسلام، من خلال علم الفقه والعلوم الإسلامية الأخرى، الّتي تقنّن للفقه. أضف إلى ذلك، إنّ الإسلام والمسلمين لم يتوانوا عن الاستفادة من معطيات العلوم المختلفة لخدمة قضايا المجتمع والإنسان.

٤ ـ الاستقراء العلمي (الدليل التاريخي)

والمقصود بهذا الاستقراء، هو: البحث عن سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء السابقينعليه‌السلام والأئمّة الأطهارعليه‌السلام ؛ حيث إنّ هناك العديد من النماذج التاريخية لعمل هؤلاء، ممّا لا يمكن التعاطي معها إلاّ على ضوء ((نظريات عملية)) تصّب كلّها في خانة توسيع دائرة العمل الشرعي الديني (الفقه).

فمن يتأمّل في ممارسة الرسول الأكرم محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته العلميّة، يجد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام بالعديد من الإجراءات والسلوك العملي الاجتماعي ذي الصبغة الدينية المحضة، كإنشائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للدولة الإسلامية في المدينة، وتاسيسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنظمة الحكم والدولة كـ: القضاء، والجيش، والإدارة، والسياسة الدولية، وتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية الّتي كانت تسود المجتمع المسلم في عصر الرسالة(٦٧) .

ــــــــــــــ

٦٧ ـ راجع بهذا الخصوص: ابن هشام (عبد الملك المعافري)، السيرة النبويّة، وابن كثير (أبي الفداء اسماعيل بن عمر)، السيرة النبوية، ابن سيد الناس (أبي الفتح محمد بن محمد)، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، والسبحاني (الشيخ جعفر)، فروغ أبديت (بالفارسيّة)؛ الحسني (هشام معروف)، سيرة المصطفى.

٧٤

فهذه الممارسات وغيرها كان يقوم بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من منطلق المسؤولية الدينية الّتي كان يشعر بها. وقيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المسؤوليّات بمثابة سند شرعي قويّ لكلّ مسلم يعلم بحجيّة فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكونه أسوة في كلّ ما يقوله ويقرِّره ويفعله بالنسبة إلى الناس أجمعين.

كما أنّنا نجد القيام بالعديد من هذه المسؤوليّات الاجتماعية، ذات الصبغة الدينية، من قبل الأنبياء السابقين؛ حيث يتحدث القرآن الكريم عن دور النبيّ سليمانعليه‌السلام والنبيّ داودعليه‌السلام وغيرهما(٦٨) .

ومثل ذلك تماماً ممارسة الأئمّة، الّذين يمثّلون القدوة العمليّة للمسلمين؛ حيث إنّهم قاموا بالعديد من هذه الممارسات، الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، وإبداء تنظيمات معيّنة في مختلف مجالات الحياة(٦٩) . فهذه الممارسات بدورها تشكّل سنداً شرعياً جديداً يضاف إلى السابق، ويساهم في تحديد دائرة العمل الديني (الأحكام العملية = الفقه)؛ حيث يمكن للفقيه أن يستفيد من مجموع هذه المعطيات في رسمه لدائرة الفقه ونطاقه.

الأهداف العامة للشريعة

إنّ الشريعة الإسلامية، ومن خلال مصدريها الأساسيّين، تركّز على بعض الأهداف الأساسية الّتي تهمّها، مثل إقامة العدل والقسط(٧٠) في المجتمع، وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل. وكما هو واضح، لا يتيسّر تأمين هذه الأهداف، إلاّ من خلال نظام يستند إلى القسط والعدل، ويسعى لتحقيق ما هو حقّ وإزهاق ما هو باطل مستنداً إلى منهج في الحياة، وإلاّ، لأصبح الكلام عن العدل والقسط والخير والصلاح وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل كلاماً فارغاً.

ــــــــــــــ

٦٨ ـ راجع: سورة ص: الآية ٣٤ وسورة النمل: الآية ١٥ ـ ١٦ وسورة الأنبياء: الآية ٧٨ ـ ٧٩ وسورة ص: الآية ٢٦ وسورة البقرة: الآية ٢٥١، وسورة الأنبياء: الآية ٨٠ وسورة ص: الآية ٢٠.

٦٩ ـ أنظر بهذا الخصوص: السيد هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر. والشيخ محمد باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسن ـ والإمام علي بن الحسن، وباقي الأئمة المعصومين.

٧٠ ـ راجع: الآيات القرآنية الكثيرة في هذا المجال.

٧٥

من هنا، وانطلاقاً من فهمٍ للإسلام يستند إلى دراسة البُنى الأساسية للشريعة الإسلامية، والأهداف الكبرى لها، يتبيّن أنّ الشرع الإسلامي يسعى إلى تأمين ((مقاصد وأهداف محدَّدة)). وقد نختلف في تفصيل هذه المقاصد(٧١) ، ولكن لا نختلف في أن المقاصد هي الغايات البعيدة للشريعة، وأنّ تحقيق هذه الغايات هو الهدف الأساسي للشرع، وأنّ الشرع يطلب من المسلم أن يحقّق هذه الغايات، كما تشير إلى ذلك بعض الآيات القرآنية. وكمثال لذلك من الآيات المرتبطة بالعبادات، قوله تعالى:(إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٧٢) يعني أنّ المطلوب من المسلم أن يصلّي صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر. والنهي عن الفحشاء والمنكر من غايات الصلاة. ومن صلّى، ولكن لم تردعه الصلاة عن فعل الفحشاء، فهذا يعني أنّ الصلاة لم تحقّق غايتها، وهكذا.

وعليه، فإذا توقّف تحقيق الغايات البعيدة (والأهداف الكبرى) للشريعة على مقدِّمات، فلابدّ من تحصيلها؛ كي نتمكّن من تحقيق الغايات نفسها. ويسري الوجوب في هذه الموارد من ذي المقدِّمة إلى المقدِّمات أيضاً.

ويترتب على وجود المقاصد، والغايات البعيدة، والأهداف العامّة للشريعة الإسلامية (الدين بالمعنى العام) الالتزام باللّوازم الّتي تترتّب على تلك المقاصد والأهداف، سواء من جهة التمهيد والمقدِّميّة أم من جهة حسن التطبيق والتنفيذ، وكلّ ذلك يرجع إلى الشريعة ومبادئها وقيمها لجهة التحديّد والتقيّيم والتقويم.

سيرة الفقهاء والتراث الفقهي

إن سيرة الفقهاء المسلمين ـ المنبعثة من وجدان جمعي نشأ وترسّخ في الوسط الشرعي، مستنداً إلى نصوص شرعية أو عرف يرجع بالنتيجة إلى مصادر الشريعة ـ لدَليلٌ إضافي آخر على تحديد دائرة الفقه ونطاقه؛ حيث إنّ هؤلاء الفقهاء كانوا يسعون إلى تجسيد الشريعة. وكان يأخذ هذا الهدف صوراً متعدّدة؛

ــــــــــــــ

٧١ ـ أنظر بهذا الخصوص: أبو حامد الغزالي، المستصفى، ج١، ص١٤٠. وأبو اسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، ج٢، ص٦.

٧٢ ـ سورة العنكبوت: الآية ٤٥.

٧٦

نتيجة معطيات وعوامل مختلفة، إلاّ أنّ هذه المساعي، حينما تتحوّل إلى سيرة ممتدّة تاريخيّاً، تكشف عن وجود خيوط أساسيّة ترتبط بالشرع؛ لجهة التبرير والقناعة الراسخة المتولّدة لدى الفقهاء. من هنا، أصبحت السيرة حجة شرعيّة يُستَند إليها في اكتشاف الحكم الشرعي.

كما أنّ التراث الفقهي، المستنِد في الغالب إلى مصادر الشريعة، يحدِّد تحديداً دقيقاً دائرة الفقه ونطاقه، وكذلك يكشف عن مدى ارتباط ما صُنِّف واُلِّف في مجال الفقه بالشريعة؛ لجهة تأثر هذا التراث بالعوامل الرديفة؛ حيث إنّ التراث الفقهي يحمل معه ـ إضافة إلى عناصر الشريعة والتقنين الديني ـ العنصر الزماني والبعد المكاني الّذي نشأ فيه ذلك التراث. وتكشف الدراسة المتأنيّة لهذا التراث عن كيفيّة تأثير البعد الزماني والمكاني ومتطلبات الواقع في فهم الفقيه للشريعة وأحكامها. ويكفي للباحث أن يتأمّل في الفتاوى والمواقف الدينية لهؤلاء الفقهاء الّذين يستندون في آرائهم إلى نصوص متماثلة وأدلّة متشابهة ولكن يصلون إلى نتائج مختلفة. ومع ذلك، فإنّ كلّ هذه الاجتهادات والمواقف الّتي تمّت ضمن دائرة التداول الفقهي المعترف به يعدّ تراثاً فقهيّاً أصيلاً، ويكشف عن نطاق الفقه ودائرته.

استخلاص

يتبيّن لنا من خلال المباحث السابقة، أنّ المواقف الأساسية (المبدئية) للفقيه، تساهم مساهمة كبيرة في تحديد نطاق الفقه ودائرته. ولعلّ هذه المواقف المبدئية هي الّتي دعت الغزالي(٧٣) أن ينظر إلى الفقه، في بعض مؤلفاته، نظرة علم دنيوي قائم على المفاسد والمصالح الدنيوية بالدرجة الأولى. كما أنّ هذا الموقف ذاته دعى ابن رشد(٧٤) إلى أن يُخرِج بعض المسائل عن دائرة الشرع؛ نظراً إلى أحوال الشرع.

ــــــــــــــ

٧٣ ـ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج١، بيروت، دار المعرفة، د. ت. ، ص١٧ وما بعدها.

٧٤ ـ ابن رشد الأندلسي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج١، ص ٢٣٧.

٧٧

وهذا الموقف المبدئي من طبيعة الشريعة ودورها في حياة الإنسان، أدّى إلى أن يرى ابن حزم الأندلسي(٧٥) أنّ المباحثات خارجة من دائرة الشريعة، ومثله السيّد الخوئي؛ إذ وصل إلى هذا الموقف من طبيعة الشريعة ((إنّ الشريعة شُرّعت للبعث إلى شيء والنهي عن آخر، لا لبيان المباحات))(٧٦) .

والموقف المبدئي ذاته دعى الإمام الخميني ليرى: ((أنّ الحكم (والحكومة) لدى المجتهد الواقعي، هو الفلسفة العملية لجميع الفقه في زوايا حياة الإنسان كافّة. والحكومة هي الجانب العملي لاحتكاك الفقه بالمشاكل الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. وإنّ الفقه هو الجهاز الّذي يتم فيه التنظير الواقعي للإدارة والتخطيط للإنسان والحياة من المهد إلى اللّحد))(٧٧) .

كما أنّ العوامل الرديفة، وانتظارات الفقيه وتوقعاته من الشريعة، وفهم الفقيه المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وثقافته ونزعته الكلاميّة، ورؤيته الاجتماعية، والعوامل النفسية، وما إلى ذلك، تساهم بدرجات متفاوتة في تحديد دائرة الفقه ونطاقه من قبل الفقيه.

من هنا، ينبغي التأمّل الدقيق في جميع هذه العوامل؛ حتّى يتيسّر لنا معرفة الخلفيّات الأساسية لتكوين الموقف من الشريعة ودائرتها وحدودها لدى الباحث عن الشريعة والفقه، سيّما إذا كان الباحث فقيهاً.

ــــــــــــــ

٧٥ ـ ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، ج٤، ص٦٥٣.

٧٦ ـ السيد سرور واعظ، مصباح الأصول (تقريرات بحث الخارج للسيّد الخوئي)، ج٣، ص٤٧.

٧٧ ـ صحيفة نور، ج٢١، ص٩٨.

٧٨

الفقه وعلم الاجتماع دراسة في الرَّوابط والصِّلات

علي محمد حاضري

إنّ لكلّ فرع من فروع العلوم الإنسانيّة دوره الخاص، ومساحته وقضاياه الخاصة به، الّتي ترسم للفرع حياته واستقلاله، عن سائر الفروع الأخرى. أمّا الدور الثاني الّذي يؤدّيه كلّ فرع، فهو تقديم الخادمات المتبادلة، بينه وبين سائر الفروع الأخرى.

إنّ استعارة منهج خاص بعلم، والاستفادة منه في علم آخر، يُعَدُّ من أشهر أنواع التبادل بين العلوم، والّذي ظهرت له بركات عظيمة، رغم بعض المضار والوقوع في الخطأ أحياناً. كما أنّ استخدام مفاهيم واصطلاحات علم ما في علم آخر أمر رائج ومعروف.

كما أنّ بعض المذاهب الفكريّة، والنظريّات المطروحة في فرع معرفيّ يؤدّي إلى حصول تحوّل عظيم، ورؤيّة معرفيّة في الفروع الأخرى، الأمر الّذي لا نريد تتبّعه في هذا المجال. والكلام هنا في الفقه، وخاصة الاهتمام بدور الزمان والمكان في استنباط الأحكام الفقهيّة، وذالكم هو التواصل بين الفقه وغيره من العلوم.

ويبدو أنّ العلاقة بين الفقه والحقوق والاقتصاد والعلوم السياسيّة، علاقة معروفة في مجتمعنا، رغم أنّ البحث في هذه العلاقة لم يصل إلى الحدِّ المطلوب حتّى الآن. لكن العلاقة بين الفقه وعلم الاجتماع، لم تلق حتّى الآن الاهتمام الكافي؛ ذلك لأنّ تقاليد واتجاهات العلوم الاجتماعيّة ـ وخاصةً ما هو معروف في مجتمعنا ـ تحمل هويّة إلحاديّة ومعاديّة للدين، أو على الأقل هويّة غير دينيّة واضحة. ويُعَدُّ عليّ شريعتي استثناءً؛ حيث إنّه عدَل نسبيّاً عن التقليد الجامعي لهذه العلوم، واستطاع أن يقيم نوعاً من الارتباط بينه كعالم اجتماعي، وبين بعض علماء الدين كحملة للفقه. وعلماء الدين البارزون بدورهم لم يُبدوا رغبة بهذه البحوث الاجتماعيّة، سوى الشهيد المطهري، والشيخ مصباح اليزدي، والشهيد السيّد محمد باقر الصدر إلى حد ما؛ حيث قدّموا بحوثاً جديرة بالاهتمام في هذا المضمار.

٧٩

لكن السنوات الأخيرة شهدت تواصلاً وتعاوناً ميموناً بين الباحثين الشبان، في الجامعات، والحوزات العلميّة. وسنرى بإذن الله ثمار جهودهم هذه في السنوات القادمة.

وعلى أيِّ حال، يبدو في مجال البحوث الواسعة للعلوم الاجتماعيّة أنّ هناك عدّة مجالات يمكنها التواصل أكثر مع الفقه، أو مع الدين ب عام. فعلم الاجتماع الديني، وعلم الاجتماع الحقوقي، وعلم الاجتماع الثقافي، وعلم الاجتماع السياسي هي قاعدة هذا التعامل. كما أنّ بحوث ومفاهيم علم الاجتماع العام في هذا المجال واسعة جدّاً.

إنّ البحث في التواصل بين العلوم ـ ومن جملتها التواصل بين الفقه والعلوم الاجتماعيّة ـ يستلزم حدّاً معيّناً من الاطلاع، والإحاطة في كلا مجالَي البحث. وحتّى الآن لم تحرز ذلك شخصيّات كثيرة؛ ولهذا فإنّ كثيراً من البحوث الّتي طُرحت، كانت مبتلاة بشيء من عدم الاشتراك في المفاهيم المعرفيّة.

وإنّي وإنّ كنت مدركاً لأهميّة هذه المسألة، لكنّي لا أدّعي مطلقاً أنّني مؤهّل لدخول هذا الوادي الخطر، فلست أملك أكثر من معرفة أي مسلم، عادي، ومقلّد في أحكام الشريعة، وأفتقر إلى الاطلاع الكافي على المقولات الفقهيّة. هذا إضافة إلى النقص الموجود فيّ كباحث في علم الاجتماع. وعليه، فإنّ هذا المقال ليس سوى مجموعة أسئلة، وتأمّلات مطروح في علم الاجتماع. وعلى الفقهاء، وعلماء الإسلام أنّ يقوموا بملاحظتها خلال استنباطهم للأحكام؛ ليقدِّموا إلى البشريّة العطشى إلى العلم والمعرفة، تصوّرهم عن الشريعة، والإسلام المحمّدي الأصيل.

وأكتفي من مجموعة المجالات المذكورة آنفاً، بطرح بحوث من وجهة نظر علم الاجتماع المعرفي، وعلم الاجتماع العام، وذلك لضيق المجال وقلّة ذات اليد. وآمل أن يكون لطرح هذه المسائل بركات تقلّل من أضرار عدم الإحاطة بالموضوع.

٨٠