الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92620
تحميل: 7033


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92620 / تحميل: 7033
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من المعلوم أنّ الموضوع المحوري لعلم اجتماع المعرفة هو: علاقة المعرفة أو علاقة الإنتاج الفكري والذهني، بالبيئة بمعناها العام. أو بعبارة أخرى، علاقة البيئة الاجتماعيّة والثقافيّة لأصحاب الفكر وتأثيرها على فكرهم، وإنتاجهم الفكري. وتوجد في هذا المجال مذاهب وآراء متفاوتة بل متضادّة. يذهب بعضها إلى الاعتقاد بتبعيّة الفكر للبيئة الاجتماعيّة بشكل كامل، بينما يذهب آخرون إلى الاعتقاد باستقلال الفكر، بل وحتّى الاعتقاد بالعلاقة العلّيّة بين الفكر والبيئة؛ بحيث يجعلون البيئة تابعة لمقتضيات الإنتاج الفكري.

وبغضّ النظر عن البحث والحكم على براهين طَرَفَي هذا الجدال واستدلالاتهما، ونظراً إلى أنّ المصير التاريخي لهذا الصراع قد حُسم لمصلحة القول بالانسجام بين الفكر والبيئة، يمكن السؤال هنا: عن موقف الإسلام والثقافة الإسلاميّة من كلّ هذا؟. أمّا السؤال الأكثر تفصيلاً، فهو: ما هي علاقة الفقيه أو المجتهد ببيئته؟، والقضايا الّتي طرحت في السنوات الأخيرة تحت عنوان ((قبض)) الشريعة و((بسطها)) تعود ببعض جوانبها إلى هذا السؤال.

٨١

ورغم اعتقادنا بأنّ مستند الحكم هو النصوص الثابتة والمحدّدة الّتي يرجع إليها الفقيه في أيّ زمان. لكن من المتيقَّن أنّ ساحة المعاني وحدود إدراك المعاني الخفيّة الّتي تحملها النصوص تعتمد على جهود الفقهاء ونتاجاتهم من علماء الماضي والحاضر ـ الّذين فتحوا آفاقاً واسعة أمام الفقيه. وهذا يجعل إدراكه واستنباطه متأثّرين بذلك. أضف إلى ذلك أنّ مدى قوّة بعض النصوص وصحّتها، خاصّة و أنّ الأحاديث تقع تحت دائرة تأثير نتاج الفكر البشري، ما يجعلها تتأثّر بالتحوّلات الّتي قد تؤمّن للفقيه مصادر موثوقة جديدة، أو قد تُخرِج بعض مصادره الموثوقة من دائرة الوثاقة، أو على الأقل تغيّر درجة الاطمئنان إليها. ومثال ذلك اكتشاف نُسخ جديدة من المصادر الموثوقة، أو الحصول على معلومات جديدة عن وضع المحدّثين والرواة، وظروف صدور الرواية. وأوسع من هذا التواصل التاريخي العام، يمكن ملاحظة التواصل بين الفقيه واستنباطاته، مع حلقة العلاقة العلميّة والثقافيّة ضمن نطاق أساتذته وطلابه، والمستمعين له، ومحدّثيه، وحتّى في المستويات الأدنى، حيث يمكن ملاحظة هذه العلاقة في إطار ندوات الحوار الفردي والجماعي ومع الأقارب، أو ضمن موقعه الثقافي، بل وحتّى في كيفيّة معيشته وتعامله في الأمور الاقتصاديّة أيضاً...

نماذج لتأثر العلم الديني بالمجتمع

ونشير فيما يلي إلى بعض المؤشّرات على تأثير فهم معنى الدين، بموقف عالم الدين من الظروف الاجتماعيّة، وكذلك بموقفه من المعرفة البشريّة عموماً.

من الواضح، أنّ علماء الإسلام ـ طوال التاريخ الإسلامي ، وخاصةً التاريخ الشيعي ـ قد بذلوا جهوداً واسعة من أجل فهم الإسلام وحفظه ونشره؛ والتراث الموجود بين أدينا مدين لهذه الجهود. ومع ذلك، فإنّ اهتمامهم بمواجهة الاستبداد والوقوف في وجهه لدى الحكّام والسلاطين، لم يكن بالمستوى المطلوب، رغم مقارعتهم للظلم، ودفاعهم عن الإسلام في مقابل الانحرافات، والبدع العقائديّة بين الحين والآخر. لكن لم يظهر منهم بوضوح: أن الاستبداد وعدم الاهتمام بآراء الآخرين، وخاصّة عدم الاهتمام بالإرادة والمطالب العامّة، هو بحدّ ذاته أمر مغاير للدين وللأحكام الشرعيّة.

٨٢

لكن بعد أن طُرِحت مقولة مواجهة الاستبداد، وضرورة احترام الرأي العام، والمطالبة بالحكومة الدستوريّة المقيَّدة، والإشراف العام، أو الأنظمة الّتي تقوم على أساس الرأي العام، والأساليب البرلمانيّة؛ بعد طرح تلك الأمور في ساحة الفكر، والفلسفة السياسيّة، شهدنا دخول هذه الأفكار إلى محافل علماء الدين أيضاً. وبانت، بالتدريج، شواهد وقرائن على تأييد ومناصرة العلماء لهذه الأفكار، أو لجزء منها، في نصوصهم الدينيّة. وقد أضحى الاعتراف بأهميّة رأي الشعب في الحكم محلّ إجماع تقريباً، رغم وجود اختلافات حقيقيّة في الرأي حول تفاصيله، وحدود شرعيّته.

وكذلك الأمر بالنسبة لأساس العدالة الاجتماعيّة، ورفض الاستغلال والفوارق الطبقيّة الحادّة. فرغم أنّ مبدأ العدالة من العقائد الأساسيّة عند الشيعة، لكن ما يستنبط من الظواهر يشير إلى أنّ الدفاع عن العدالة الاجتماعيّة بمفهومها المعاصر لم يكن بارزاً في تقاليد علماء الشيعة. ولم يُطرح الصراع بين الفقر والغنى، ورفض استغلال الرأسماليّة والطبقة المرفَّهة للطبقات الفقيرة ـ كما هو مطروح في وقتنا الراهن ـ إلاّ عند الإمام الخميني، فإنّه يَظهر ذلك منه بوضوح. وقد اضطرَّ سماحته إلى تقديم البراهين، والأدلّة، والوثائق التاريخيّة والنقليّة، لإثبات صحة وأصالة هذا الموضوع حتّى أمام أقرب العلماء إليه؛ الّذين واكبوا الثورة الإسلاميّة.

وقد اكتسب مبدأ المطالبة والدفاع عن العدالة الاجتماعيّة ـ رغم الاختلاف في فهم معناها وأساليب تحقّقها ـ بوصفه شعاراً مشتركاً للاتجاهات المختلفة للعلماء، اكتسب مكانة خاصّة. لكن السؤال هو: لماذا لم يكتسب هذا المبدأ هذه المكانة قبل طرحه بشكل جدّيّ في الفلسفات الاجتماعيّة والسياسيّة المعاصرة؟

والأمر نفسه بالنسبة لمنزلة المرأة وحقوقها وقمتها، ومكانتها الاجتماعيّة والسياسيّة في الإسلام، فلماذا لا نرى هذا التصوّر عنها في التراث الإسلامي.

ومن البديهي أنّ هذا الكلام أوسع من مبدأ تكامل ورشد الأفكار والعلوم البشريّة المتصوّرة في جميع المجالات، ومنها الفهم الديني، بل الكلام هنا عن التحوّل النوعي في فهم واستنباط الحكم الديني، عن طريق المقارنة على أثر طرح بعض الأفكار خارج العلوم الدينيّة.

٨٣

وبعبارة أخرى، ليس المقصود هو التكامل الداخلي لأيّ فرع أو بحث من بحوث العلم الديني الّذي يحصل عن طريق دراسة أكثر نتاجات علماء السلف، وأحياناً بالاستفادة من قدرة العلماء على الخلق والإبداع، بل إنّ المراد هو الوضع الّذي يواجهه الفقهاء خارج دائرة الفقه، أو غيره من التخصّصات العلميّة؛ حيث يواجهون أفكاراً وثقافات جديدة، تدفعهم إلى التأمّل، بشكل أعمق، في المصادر، واستخلاص نتائج جديدة.

وهنا على الفقهاء أن يجدوا طريقة للتأثير والتأثّر، ليحصلوا على وعي أكبر بتأثّر الفقيه بعلاقاته الاجتماعيّة تجاه حركة هذه التحوّلات، وليتخذوا موقفاً أكثر فاعليّة في مواجهتهم لها، وليبقوا ـ من ناحيّة أخرى ـ أوفياء لأصالة النصوص الدينيّة أيضاً.

وفي المستوى التفصيلي يمكن الإشارة إلى أثر العلاقات الاجتماعيّة ومنظومة العلاقات الإنسانيّة على كيفيّة الاستنباط وتصوّر الدين والأحكام الإلهيّة لدى بعض العلماء؛ بحيث إنّ عدداً من المراجع والشخصيّات الدينيّة يرسمون صورة للدين لا يصعب اكتشاف أوجه الشبه بينها وبين القيم، والمنافع، والمواقف، الّتي تحرّكها علاقاتهم الإجتماعيّة.

وهنا لا يمكن الخروج باستنتاج علِّيٍّ من هذه المقارنات. ولعلّه يمكن دعوى، أنّ نوع شبكة العلاقات الاجتماعيّة المشهورة، متأثّرة بنوع النظر إلى الدين والتصوّر المطروح، بل ربَّما تُظهِر بعض الحالات أنّ موقف عالم الدين أوسع من مقتضيات منظومة علاقاته الاجتماعيّة. وهنا يمكن تقديم سماحة الإمام الخميني كمثال على ذلك. لكن حدود الشبه تلك تدعو للنظر أيضاً. وعلى الفقهاء أن يطَّلعوا على آليّاتها، وأن يستخدموا القوانين المتحكِّمة فيها للحصول على أفضل تأثير.

إنّ دراسة مسار المواقف الفقهيّة، وخصوصيّات الإسلام الّتي طرحها سماحة الإمام الخميني ـ وخاصةً مقارنة مواقفه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة وبعدها ـ تُعدَّ من أبرز مجالات تجلّي علاقة البيئة بطريقة استنباط الفقيه؛ لأنّ أيّ اختلاف قد يُشاهَد يعود ـ قبل كلّ شيء ـ إلى اختلاف البيئة وظروفها، وليس إلى بحثه وتدقيقه في النصوص والمضامين؛ لأنّه كان قد طوى جميع مراحل الكمال العلمي والبحث في المضامين قبل انتصار الثورة الإسلاميّة. وكثرة انشغاله في سنوات ما بعد انتصار الثورة لم تكن تسمح له بالمطالعة والغور بشكل أكبر.

٨٤

بناءً عليه، فإنّ وجود أيّ تغيير في مواقفه لا يمكن تفسيره إلا على ضوء تجربته الجديدة. وفي الوقت نفسه، فإنّ تتبّع مواقفه البارزة والفريدة، الّتي لم تك تشير مطلقاً إلى تأثّره بحلقة أصحابه، هي سرّ ولغز آخر، يوضح حلُّه الحقائقَ الّتي لا تُعدّ من تعقيدات علاقة الفقيه بالبيئة.

بطء التغييرات الثقافيّة، وتأثير ذلك على تكليف المكلَّفين

مسألة بطء التغييرات الثقافيّة، واحدة من المسائل الّتي يبحثها علم الاجتماع. ومقولة التأخر الثقافي ناظرة إلى الفاصل الّذي تنتجه التغييرات السريعة في الجانب المادي من الثقافة وبطء التغييرات في الجزء المعنوي منها. ونشاهد هذا النظام متجلّياً في النزول التدريجي للشريعة، وتدرّج إبلاغ الأحكام في بعض الأمور، وكمثال على ذلك: كان شرب الخمر أمراً رائجاً في المجتمع الجاهلي، فبلَّغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمته تدريجيّاً، وعلى مراحل متعدّدة. وإذا قبلنا بمثل هذا المبدأ في نزول الشريعة، يكون السؤال هو: هل يمكن أن يُطبّق هذا المبدأ في إبلاغ رسالة الشريعة إلى المجتمعات والأفراد في سائر العصور أيضاً؟

وبعبارة أخرى، هل يمكننا عرض الأحكام، ابتداءاً، بطريقة أقرب إلى الثقافة الرائجة، مراعاة للفاصل الثقافي بين المجتمعات البشريّة وأحكام الشريعة، فنطرح الأحكام النهائيّة بشكل تدريجي؟

إنّ استخدام هذا الأسلوب، يجعل عرض الإسلام وتبليغه إلى المجتمعات والشعوب غير الإسلاميّة أسهل وأكثر جاذبيّة. ويَصْدُق هذا المبدأ أيضاً على إمكانيّة تمايز التكاليف الشرعيّة للأفراد والفئات الاجتماعيّة داخل المجتمعات الإسلاميّة؛ بمعنى أنّه يمكن أن يكون الواجب الشرعي للأفراد مختلفاً، بشكل بتناسب مع الفاصلة الثقافيّة بين الأفراد والفئات الإجتماعيّة، وتفاصيل الثقافات الموجودة في المجتمع، وبين الثقافة الدينيّة؛ بحيث يدخل الأفراد إلى دائرة المكلّفين بالشريعة الكاملة تدريجيّاً.

٨٥

من البديهي، أن القبول بهذا المبدأ تسري لوازمه إلى ((الحدود)) و((القواعد)) الفقهيّة والحقوقيّة أيضاً. وبصرف النظر عن البحث في قبول هذه المبادئ أو رفضها ـ الأمر الّذي يجب أن يتمّ استناداً إلى المصادر الفقهيّة، وعلى ضوء قواعد التقبّل الاجتماعي والثقافي ـ يمكن الاعتقاد بأنّ القبول بهذه المبادئ، سوف يؤدّي إلى سهولة نشر القيم الأخلاقيّة الدينيّة، والتقليل من المفاسد الاجتماعيّة؛ وذلك لأنّ هذا النوع من التعامل مع الأفراد والفئات الّتي لا ينسجم سلوكها مع الإسلام، لن يؤدّي إلى الإخلال بمعاييرها وقيمها، بل سيؤدّي شيئاً فشيئاً إلى ردم الهوّة الفاصلة بين سلوكها، وبين النُّظم والقيم الدينيّة.

وبطبيعة الحال، فإنّ هناك نوعاً من التوصيّة الأخلاقيّة بالتسامح والتساهل في مواجهة الهوة الثقافيّة بين الأفراد والفئات الجديدة على الإسلام، وبين الإسلام. ولا سيما في بعض المجالات الخاصّة، على الأقل كأسلوب أخلاقي وتدبير تبليغي. لكن قبول مبدأ التدرّج في حقوق المكلَّفين، سيؤدّي إلى تحوّل كيفي وأساسي في هذه المقولة، لا يمكن مقايسته بالتدابير والتوصيات الأخلاقيّة الموجودة.

عدم تشخيص العرف في المجتمعات الجديدة

نعم، إن العرف يُعدّ، في موارد كثيرة، قاعدة وأساساً لتحديد الموضوعات الفقهيّة وأحكام الشريعة المقدّسة. وقد أحيل تعيين الحدود الفقهيّة، في كثير من الموارد، إلى التشخيص العرفي. ففي الوضع العادي للمجتمعات التقليديّة هناك قواعد وضوابط معروفة وبديهيّة للقيم والثقافة الاجتماعيّة، يواجه فيها الأفراد والفئات الاجتماعيّة بشكل يتناسب مع دورهم وموقعهم الاجتماعي البديهي والثابت نسبياً. ويتمتّع العرف بقدرة عاليّة، نسبيّاً، على تعيين الحدود. ويمكن القول: إنّ الفقه قد اعتمد عليه، لكن وضع المجتمعات الجديدة أكثر تعقيداً. فمن المؤشّرات الثقافيّة لهذه المجتمعات التسامح الثقافي، والمرونة لدى معظم النماذج السلوكيّة. ومعنى هذا الكلام؛ هو عدم وجود تعيين دقيق للمواصفات السلوكيّة للأدوار والمكانة الاجتماعيّة بشتى أشكالها؛ بحيث يتمتّع الفرد فيها بحقّه بمساحة اختيار أوسع، ومرونة سلوكيّة أكبر.

٨٦

وفضلاً عن عدم تعيّن القدوة السلوكيّة، فإنّ دور الأفراد ومكانتهم الاجتماعيّة لم تَعد تمتلك الثبات السابق نفسه. ففي المجتمعات التقليديّة، حيث الدور الاجتماعي للأفراد رهين إلى حد كبير بمكانتهم الّتي تأتيهم عن طريق مكانتهم العائليّة وإرث الدم؛ ولهذا، فإنّ الأفراد لا يشهدون تغييراً في مواقعهم طوال حياتهم إلاّ القليل منهم. وهذا الحدّ من التغيير أيضاً يخضع لقواعد ومراحل معينة، تتناسب عادة مع المواقع العُمْريّة المختلفة، وتقتضيها النماذج السلوكيّة.

أمّا في المجتمعات الحديثة، فإنّ المكانة الاجتماعيّة أمر مكتسب، انخفض تأثير عوامل الوراثة عليه. ووجدت مؤثّرات جديدة، مثل: المستوى الدراسي والمهارة المهنيّة. وهذا الوضع زاد من إمكانيّة حصول تغييرات في مكانة الأفراد، ليكون ((التحرّك الاجتماعي)) من سمات المجتمعات الحديثة.

وبغض النظر عن الآراء المطروحة بشأن حدود التحرّك الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، والبحوث والنقد الموجود حول دعوى كون طريق الرُّقيّ في سلّم المكانة الاجتماعيّة مفتوحاً في المجتمعات الغربيّة، فإنّ مبدأ عدم التعيين وعدم الاستقرار النسبي للمراتب أمر لا يقبل الإنكار. وفي مثل هذا الوضع لا يمكن تعيين أو تحديد مكانة اجتماعيّة معيّنة ثابتة للأفراد، أو معرفة المنزلة الاجتماعيّة للفرد من خلال النظر إلى المنزلة العائليّة وحلقة الأقارب.

إنّ المقولتين المذكورتين؛ أيّ مرونة المعايير السلوكيّة، وعدم تعيين واستقرار ((المكانة الاجتماعـيّة)) للأفراد في المجتمعات الحديثة، أدّتا إلى غموض دور العُرف في المجتمعات الحديثة، وهذا الغموض جعل الفقه يواجه مشكلة من جهتين:

الأولى: إنّ الدور الموكَل إلى العرف في تشخيص الحدود، والمسائل، والمواضيع الّتي أوكل الفقه أمرها للعرف، تجعله يواجه مشكلة في تنفيذها.

وستلاقي المحاكم والمراجع الحقوقيّة والقضائيّة وحتّى الأحكام العامّة وغير الرسميّة، غموضاً وتردّداً أكثر من ذي قبل، خلال محاولتها تشخيص الحدود العرفيّة.

٨٧

الثانيّة: توهّم أنّ الضوابط الفقهيّة والشرعيّة تؤدّي، في بعض الحالات، إلى تثبيت الفوارق الطبقيّة، وحفظ الوضع الموجود للمجتمعات التقليديّة؛ وأنّها تواجه وتعارض مبدأ ((التحرّك الاجتماعي))؛ لأنّه لا يلبّي حاجة الأفراد إلى الترقّي الاجتماعي، كما أنّ بعض الاستنتاجات التقليديّة للضوابط الشرعيّة تعيق هذا الترقّي. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى الرأي المشهور، حول تعلّق الخمس بالكسب الفائض عن النفقات العرفيّة. ففي المجتمعات الحديثة كلّما صعدنا من الطبقات الدُّنيا إلى الطبقات الأعلى من حيث الكسب، نجد أنّ النفقات تتبدّل وتتغيّر بوضوح؛ بحيث إنّ الاحتياجات العرفيّة للطبقات العُليا والمتوسطة أكبر بكثير من الطبقات الدُّنيا، ممّا لا يبقي مجالاً لتصوّر فائض عن الكسب؛ ومعه لا خمس. بينما الطبقات الدُّنيا عندما تدّخر مبلغاً من المال سوف يتعلّق به الخمس، رغم أنّه ناشئ عن عصرها لنفقاتها، وهذا الأمر سوف يعيق ترقّيها الاقتصادي.

الفقه والمتغيّرات الثقافيّة

إنّنا نعلم أنّ موقف الشريعة من القضايا والمواضيع العرفيّة والاجتماعيّة، يتّخذ في ضوء معناها الرائج والفعلي. وعلى هذا الأساس، فإنّ الحكم الشرعي لتلك المواضيع، تابع للمتغيّرات في معناها العرفي.

مثلاً: ينقل المرحوم الشهيد المطهري أنّ إنزال شيء من العمامة تحت الحنك، أو لبس البدلة الرسميّة، يعني ـ في زمان ما ـ شيئاً يختلف عمّا يعنيه في زمان آخر. ومن الطبيعي، أنّ حكمها يتغيّر بتفاوت معناها. ففي المراحل الأولى لدخول عادة لبس البدلة، كان يُعدّ لبسها تشبّهاً بالكفّار، ويعني التَّعلّق بالأجنبي؛ ولهذ كان بعض العلماء يفتي بحرمة ذلك الزَّي، لكن الآن لا يستفاد من لبس ذلك الزي هذا المعنى؛ لذلك لم يَعُد حكمه كذلك.

٨٨

في مثل هذا الوضع، من الواضح أنّ تكليف المكلّفين يكون متفاوتاً في زمانيين، تبعاً لاختلاف المداليل العرفيّة لأمر ما. لكن من البديهي، أنّ هناك مرحلة ((انتقاليّة)) بين هاتين الفترتين الزمنتين؛ بحيث يخفّ تدريجيّاً المعنى السابق ويظهر المعنى الجديد. هذا التغيير في المعنى لا يكون إلاّ عبر تجاوز التقاليد، والتصرّف بطريقة مغايرة للحالة السائدة. والسؤال المطروح هنا هو:

أولاً: ما هو تكليف المكلّفين الّذين هم داخل مرحلة الانتقال وقبل استقرار أحد المعنيين المتضادين؟، وإذا افتُرض عدم وجود أفراد يتجاوزن التقاليد، فهل سيحدث تغيير أساساً؟. وبعبارة أخرى، إذا كان هناك مجتمع ملتزِم بالشرع، ولم يحدث فيه مخالفة للقواعد الشرعيّة، فهل يعني ذلك عدم حدوث تغييرات ثقافيّة في ذلك المجتمع وتلك الثقافة؟

أم أنّ التغييرات الثقافيّة المستحسَنة، الّتي نمتدحها اليوم أو نعدّها مباحة، تستلزم أحياناً وجود عدد من القرابين الّذين يرتكبون الحرام لمدّة، ليفتحوا الطريق أمامنا لما هو مباح اليوم؟

طبعاً على الفقهاء أن يتدبّروا قواعد أوضح، لطيّ مراحل الانتقال هذه، وأن لا يتركوا أمر التغيير الثقافي متوقّفاً على تضحيّة عدد من الناس بدينهم.

وهذه المسألة تصبح ذات أهميّة مضاعفة عندما تشهد الظروف تغييرات ثقافيّة أسرع؛ لأنّه عندما يكون التغيير بطيئاً في الأوضاع الثقافيّة، فإنّ أبناء كلّ جيل لن يواجهوا تعارضاً مع القيم ناشئاً عن التغييرات الثقافيّة، بل ستحدث التغييرات الثقافيّة عادة خلال عدّة أجيال، وربّما خلال عدّة قرون، ولا تبدو التغييرات خلال كلّ جيل بشكل ملموس. لكن سرعة التحوّلات الثقافيّة في المجتمعات الحديثة، فتحت المجال ليشهد كلّ جيل خلال حياته تغييرات ملموسة في نظام القيم والموازين الاجتماعيّة. ومع تعارض مواقف الفقهاء؛ بسبب تغيير المعاني الثقافيّة، قد تنشأ شبهة أو نوع من ((الانفعال)) الّذي يتبادر إلى الذهن بسبب هذه التحوّلات...

٨٩

فمن الأفضل أن يحدِّد الفقهاء استراتيجيّات، أكثر تناسباً، للتعامل مع الظواهر الجديدة، وأن لا يقفوا مكتوفي الأيدي، إلى أن يجتاح التغيير الكثير من المعاني الموكلَة إلى العرف.

وهذه المسألة أوسع من السلوك الاجتماعي؛ فإنّنا نجدها في الموضوعات الأساسيّة المرتبطة بالنظام العقائدي، واتباع مرجع التقليد، بل وحتّى في حاكميّة المجتمع الاسلامي أيضاً. فمثلاً، في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الحالي، تتحقّق الولاية في زمان غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) بالفقيه الحائز على الشروط، وبتشخيص الخبراء. وقد أوكل الدستور إلى الخبراء أيضاً معالجة احتمال ارتكابه للانحراف أو الخطأ. أو في مسألة تحديد الأعلم والعادل من بين مراجع التقليد، فقد أوْكَلت الرسائل العمليّة الموضوع إلى عرف أهل الخبرة.

ومن البديهي، أنّ جميع حقوق الولاية الشرعيّة للفقيه الجامع للشروط، والمنتخب من قبل الخبراء، ومرجع التقليد الّذي يحدِّده عرف أهل الخبرة، نافذة على جميع أفراد الأمّة الإسلاميّة، وخاصّة الأمّة الّتي تنعم بظلّ حاكميّة النظام الإسلامي، ما دام انحراف الفقيه وخطأه لم يثبتا. ويشمل وجوب طاعة الولي الفقيه جميع أعضاء مجلس الخبراء أيضاً، لكن وقوع الخطأ والانحراف ليس بالامر الّذي يقع دون مقدِّمات، بل إنّ الشكل الطبيعي هو أن يبدأ الانحراف بزاويّة صغيرة، ثُمّ يتسع تدريجيّاً. ومع أنّنا لا نواجه مثل هذه المشكلة اليوم، لكن الوقاية تستدعي أن يفكّر الخبراء بآليّة مواجهة ذلك.

وهذه المسألة لا تواجه مشكلة في البعد النظري للأنظمة السياسيّة غير الدينيّة؛ فأيّ سوء ظنِّ أو تشكّيك بسيرة المسؤولين أو الزعماء لا يثير إحساساً بالذنب في ضمير الأتباع. ومن ناحيّة أخرى، فإنّ طرح الآراء المنتقِدة لن تنال من قداسة القادة.

٩٠

نظراً إلى ما ذُكر آنفاً، فإنّنا ننتظر من الفقهاء أن يلاحظوا خصوصيّات الحكومة الدينيّة، ويقومون بتوضيح الطُرق والأساليب التنفيذيّة المناسبة للعلاقة بين الحكم الديني وأفراد المجتمع، وأن يبيّنوا للخبراء وضعهم المناسب عندما يعيشون في حالة تتراوح بين المشروعيّة الكاملة وسلب المشروعيّة عنهم؛ بحيث يترتّب ما يأتي:

١ ـ لا يجد المكلَّفون في ضمائرهم براعم النظرة الانتقاديّة، في تعارض مع لزوم الإيمان والطاقة.

٢ ـ أن يفكّروا في استراتيجيّات وآليات مطمئِنة عند بروز تلك الشكّوك؛ لئلاّ تبقى الأخطاء المحتملة مستورة أكثر من اللاّزم، ولئلاّ تتمكن عوامل وأساليب السلطة من التضييق على المنتقِدين والضغط عليهم. وأهمّ من ذلك أن لا تتعارض الانتقادات مع مبدأ قداسة النظام، ووجوب اتّباع الأمّة شرعيّاً للنظام المشروع، ولكي لا تتهّيء الأرضيّة الملائمة لتحقق النوايا الخبيثة للأعداء، وتؤدّي إلى إضعاف النظام أيضاً.

لذا، لا يمكن أن نعلِّق آمالنا على وسائل العمل الرقابي للأنظمة الليبراليّة، والتضحيّة بأعظم رأسمال وميزة في النظام الديني؛ أي العلاقة الإيمانيّة والارتباط القلبي بين الأمّة ونظام الحكومة الإسلاميّة. كما لا يمكن التغاضي عن إمكانيّة التحوّل التدريجي نحو الفساد، بذريعة الاعتماد على مبدأ الأصل الإيماني ((الحمل على الصحة)).

هنا علينا أن ننظر بجدّ، إلى خطر هذا التحوّل، بصرف النظر عن حبّن واطمئناننا وثقتنا الواسعة بجميع المؤمنين بنظام الثورة الإسلاميّة والمضحّين من أجله، وأن نسعى بيقظة وحذر إلى أن نمنع حدوث ذلك في المستقبل.

في هذا المجال، على الفقهاء وسائر حملة العلوم الإنسانيّة، من المؤمنين بالشريعة الإسلاميّة والملتزِمين بها، أن يلجأوا إلى منابع الوحي وتعاليم المعصومين (عليهم السلام)، وأن يستفيدوا من النتاجات النظريّة والعمليّة للبشريّة، وأن يبحثوا في جوٍ مفعم بحسن الظنّ وبالثقة المتبادلة؛ لأجل تسهيل وضمان بقاء حكم الإسلام الأصيل.

٩١

الفقه ومِلاكات الأحكام

الدكتور أحمد مير خليلي

بعد استقرار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة المقدّس [في إيران]، وبعد الإيمان بضرورة الالتزام بتطبيق القوانين الشرعيّة، تتضح الحاجة إلى البحث الفقهي، ما سيترك أثره على السياسات العامّة للنظام الفقهي ـ القانوني، ويُظَهَّر التراث النفيس للفقه الشيعي في عصرنا الراهن بما يتناسب ولغة اليوم، وتطلّعات الإنسان المعاصر. وبهذه الوسيلة يمكن المحافظة على الفقه والدين حيّين في شتى ميادين الحياة الاجتماعيّة للمجتمعات البشريّة.

ومن بين الموضوعات الّتي ينبغي بحثها؛ من أجل الوصول إلى فهم أفضل للأحكام الشرعيّة وإحياء التعاليم الإسلاميّة القيّمة، دور المِلاكات في حلِّ المشكلات المستحدثة الّتي كانت على الدوام، وطوال التاريخ، سبباً لتطوّر الفقه الإسلامي عموماً، والشيعي منه خصوصاً. وقد أدّى هذا الأمر بدوره إلى أن يتفهَّم الفقهاء، بشكل جيد، التحدّيات الجديدة ويبينوا الحكم الشرعي المتعلِّق بها.

وقد توصَّلتُ في هذه المقالة، من خلال تبيان مفهوم المِلاك والمفاهيم ذات العلاقة به، وتبيان طُرق كشف المِلاك لدى العلماء [الشيعة والسنّة]، إلى أنّ هذه الطُرق تكون قطعيّة عندما تستند إلى الأدلّة. وينبغي الانتباه إلى أنّ قابليّة الأحكام للفهم والإدراك رغم كونها سبباً في تطوّر الفقه، إلاّ أنّها تحتاج إلى دقّة متناهيّة.

ولا يمكن معرفة مِلاكات الأحكام من دون وجود ضوابط يقينيّة محدّدة. ولقد كان الأئمّةعليه‌السلام يوبِّخون بشدّة أولئك الّذين يتصدَّون لذلك اعتماداً على تصوّراتهم الخاصّة. وقد حاولتُ بعد ذلك الإطلالة على محاولات كشف المِلاكات عند الإمام الخميني (رض) وعند الشيخ محمد بن الحسن النجفي صاحب كتاب جواهر الكلام، وإلى تبيان دور المِلاك في تطوّر ونمو فقه العبادات والمعاملات والعقوبات.

٩٢

طرائق اكتشاف المِلاكات

ينبغي أن يُعلَم أنّ الخروج عن موارد النصّ الشرعي يعتمد أساساً على فهم مِلاكات ومناطات الأحكام الشرعيّة، لكن لابُدّ من الانتباه إلى أنّ فهم المِلاك ـ وباتفاق آراء العلماء ـ لا يجوز أن يستند إلى الوصف المشترك بين الفرع والأصل، على أساس الميل النفسي، بل ينبغي أن يتمّ إثبات عليّة الوصف المشترك بواسطة الدليل الشرعي(١) ، وهو الدليل الّذي يُعَرف لدى فقهاء الشيعة بعنوان: طرق التعدّي عن النص(٢) ولدى فقهاء السنّة بـ : مسالك اكتشاف العلّة(٣) .

تُعتبر مسالك كشف المِلاك واحدة من الأركان المهمّة للاجتهاد في الفقهين الشيعي والسنّي، رغم أنّ بحوثاً مثل العقل، وسيرة العقلاء، والفهم العرفي، لم تحتل حتّى الآن موقعها المناسب في الفقه الشيعي. وتبدو دقّة وتعقيد هذه البحوث ـ وفي الفقه الشيعي بشكل أكبر ـ في بحوث مثل: تنقيح المناط، وإلغاء الخصوصيّة، ومناسبات الحكم والموضوع، وفي الفقه السني في بحوث القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة. فضلاً عن أنّ الغالب لدى علماء الأصول، أنّ قيمة هذه الأدلّة مُرتبِط بقيمة الدليل الّذي يرشدنا إلى مِلاك الحكم. وبعبارة أخرى، إذا اكتشفنا المِلاك بالدليل الشرعي، فعندها لا يكون الحديث عن اعتبار هذه الأدلّة ـ سواء أكان في الفقه الشيعي أم السنّي ـ ذا فائدة كبيرة. وبعد أن

ــــــــــــــ

* عن مجلّة قَبَسَات الإيرانيّة، العدد ١٥ و١٦.

١ ـ الحكيم، محمد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارَن، ص٣١٦، والفاضل التوني، عبد الله بن محمد، الوافية في أصول الفقه، ص٢٣٧، والتبريزي، ميرزا موسى، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، نشر الكُتُبي النجفي، قم، ص٣٤.

٢ ـ الشعراني، ميرزا أبو الحسن، المدخل إلى عذْب المنهل في أصول الفقه، ط١، مؤتمر الشيخ الأنصاري، قم، ١٣٧٢ هـ.ش، ص١٧٥.

٣ ـ الآمدي، سيف الدين أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٦٣، والزحيلي وهبة، أصول الفقه الإسلامي، ج٢، ص٦٦١، وخلاّف، عبد الوهاب، علم أصول الفقه، ص٧٥.

٩٣

يكشف لنا الشرع علّة الحكم ومناطه، فإنّه لا تبقى هناك حاجة للقياس وسائر الأدلّة لإثبات الحكم. والحاصل، أنّه ينبغي لأولئك الّذين لا يعترفون بالقياس أن يضعوا فهمهم لمِلاك الحكم على المِحك، وعلى أولئك الّذين يستخدمونه أن يثبتوا مِلاك الحكم ومناطه(٤) ؛ ولذلك فمن الضروري أن نبحث بشكل وافٍ طرائق معرفة عِلل الأحكام وأن نُخْضِعها للنقد والدرس.

ولتحقيق هذا الهدف هناك طريقان:

١ ـ الطُرق القطعيّة: الطُرق القطعيّة لكشف المِلاك هي الّتي توصل المجتهد إلى علة الحكم بشكل جازم، مثل: قياس الأولويّة، وتنقيح المناط القطعي، والقياس المنصوص العلّة.

وحينما نحصل على علّة الحكم بشكل قطعي، لا يبقى شكّ في قبول نتيجة الدليل، سواء سمّي ذلك تعدّياً عن النصّ، أو سمّي قياساً؛ وذلك لأنّه لا شكّ في حجيّة القطع، وكون حجيّته ذاتيّة لا تقبل الإنكار(٥) .

٢ ـ الطرق غير القطعيّة: وهي الّتي تُوصل المجتهد إلى المِلاك من خلال الظنّ. وهذه بدورها على قسمين:

أ ـ ما قام على اعتبارها دليل قطعي: حينما يكون المسلك الموصِل إلى العلّة ظنّيّاً بذاته، ولكنّه معتدّ به لدى الأصوليين وقابل للاستدلال؛ حيث يمكن إثبات صحّته بالأدلّة القطعيّة الأخرى، مثل: المِلاكات الّتي يتوصَل إليها من ظاهر النصوص الشرعيّة، فرغم أنّ الظهور ليس دليلاً يقينيّاً، إلاّ أنّ قيمة ظواهر الأدلّة يمكن أن تَثبت بدليل قطعي آخر. وبناء على هذا، فإنّ الطُرق غير القطعيّة في كشفها المِلاك، لها نفس قيمة الطُرق القطعيّة، ولا يوجد خلاف في الاعتماد عليه بين علماء الشيعة والسنّة(٦) .

ب ـ ما لم يقم على اعتبارها دليل قطعي: وهي الطُرق الّتي تُوصِل المجتهد إلى

ــــــــــــــ

٤ ـ صبحي حامد، عبد السلام، دفع القياس بدفع علّته، مجلّة كلّيّة الشريعة، ع ٥، بغداد، ص٢٩.

٥ ـ الحكيم، محمّد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارَن، ص٣٢٥، جمال الدين، مصطفى، القياس ـ حقيقته وحجِّيَّته، بغداد، ١٩٧٥م، ص٢٥١.

٦ ـ الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص٣٢٧ ـ ص٣٣١، جمال الدين، مصطفى، القياس، حقيقته وحجِّيَّته، ص٢٥٢ ـ ص٢٥٦,

٩٤

مِلاك الحكم من خلال الظنّ، ولا يدل عليها دليل قطعي، وهي غالباً ما تكون ذات علاقة بميول الأشخاص واجتهاداتهم. ويعتقد علماء الشيعة أنّ مِلاك الحكم الشرعي لا يمكن بلوغه اعتماداً على الرغبات الشخصيّة، ومن دون ضوابط عقلائيّة. وعلى هذا، فإنّه لا قيمة لأمثال هذه الطُرق. كما أنّ قسماً من علماء السنّة لا يرون لهذا الأسلوب قيمة في كشف المِلاك(٧) ، رغم أنّ بعضاً منهم يعتقدون بقيمة الظنّ الغالب عند المجتهد(٨) .

ولتوضيح دور المِلاك في الفقه من الضروري، بادئ ذي بدء، تبيان المفاهيم ذات العلاقة به.

ــــــــــــــ

٧ ـ جمال الدين، مصطفى، القياس ـ حقيقته وحجِّيَّته، ص٢٧٣، وصبحي حامد، عبد السلام، دفع القياس بدفع علّته، ص٣٥، والبخاري، علاء الدين، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، ج٢، ص٣٥٧.

٨ ـ الآمدي، سيف الدين أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٤٦ ـ ص٦٤، وإبن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنّة المناظِر، ص١٦٥.

٩٥

المِلاك والمفاهيم ذات العلاقة به

١ ـ المِلاك:

تُستعمل كلمة المِلاك في العربيّة بفتح الميم وكذلك بكسرها؛ بمعنى قِوَام العمل وأصْل الشيء، ويُطلق هذا اللّفظ بهذا المعنى على المعيار والقاعدة والقانون والضابط(٩) . وقد ورد في الحديث الشريف: ((مِلاك الدين الورع)). وفي الاصطلاح، عبارة عن: العلّة الثبوتيّة للحكم، والأمر الّذي جعله الشارع علامة لتحقيق الحكم بمجرد تحقّقه وثبوته. وبعبارة أخرى، فإنّ علّة الثبوت وسبب جعل الأحكام الشرعيّة، تُدعى: المِلاك(١٠) .

٢ ـ المناط:

كلمة ((مناط)) في اللّغة مُشتقّة من ناط، ينوط، نوطاً، وهو بمعنى: التعليق. وبعبارة أخرى، فإنّ المناط، هو: كلّ شيء يمكن أن يُتعلَّق به. وفي المصطلح الفقهي، فإنّ المناط: ((هو كلّ أمر يرتبط به الحكم الشرعي، وهو مرادف في الاستخدام للمِلاك تقريباً))(١١) .

يقول الدكتور محمد جعفر لنكرودي في كتابه ترمينولوجي حقوق[الاصطلاحات القانونيّة]: واستُخدِم مصطلح ((المناط)) في الفقه بمعنى ((المِلاك))، إلا

ــــــــــــــ

٩ ـ دهخدا، علي أكبر، لغت نامة دهخدا، تحقيق جماعة من المحقّقين، ط١، مؤسّسة جامعة طهران للطباعة والنشر، طهران،١٣٧٢هـ.ش، مادة: مِلاك.

١٠ـ جعفري لنكرودي، محمّد جعفر، ترمينولوجي حقوق، ٦٨٤، ميرفتاح، العناوين، ص٨٤.

١١ ـ القمّي، ميرزا أبو القاسم، قوانين الأصول، ج٢، ص٧٢، والآمدي، سيف الدين، الإحكام في أصول الأحكام، ج٣، ص٢٧٩.

٩٦

أنّ المِلاك أعمّ، وهو مستخدم في الفقه، وفي القانون الحديث. ووحدة المِلاك في القانون الحديث تعني في الفقه تنقيح المناط الّذي هو نوع من القياس. وينبغي الانتباه إلى أنّ بعض الفقهاء، مثل: ابن رشد وغيره، لا يعتبرون العِلَل الشرعيّة من بين العِلل الطبيعيّة، بل يتصوّرونها علّة مجعولة وتعاقديّة؛ ولأجل التخلّص بشكل أكبر من مفهوم العلّة الطبيعيّة، وما يدلّ على هذا الأمر، سمّوا العلّة والسبّب الشرعي مناطاً(١٢) .

٣ ـ العلّة:

تدلّ كلمة العلّة في اللّغة العربيّة على أربعة معان(١٣) .

أ ـ بمعنى: المرض(١٤) .

ب ـ الحادثة: كلّ حادثة تَحُول بين الشخص وما ينوي القيام به وتخلق له شيئاً جديداً ينشغل به تسمى علّة.

جـ ـ العُذر: إبداء نوع من الأسف الّذي يكون تبياناً للدافع والباعث الّذي أدى إلى تغيير في نوايا الإنسان.

ــــــــــــــ

١٢ ـ جعفري لنكرودي، محمد جعفر، ترمينولوجي حقوق، ص٦٨٤.

١٣ ـ إبن منظور، لسان العرب، ج٤، ص٣٠٨، مادّة: عِلل، والجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، ج٥، ص١١٧٣، والزبيدي، مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، ١٥، ص٥١٨، والفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ص١١٣٨.

١٤ ـ دهخدا، علي أكبر، لغت نامة دهخدا، ج١٠، ص١٤١٥.

٩٧

د ـ السبب: يرى بعض علماء اللّغة أنّ العلّة والسبب هما شيء واحد. ففي لسان العرب: ((هذا علّة هذا، أي سببه))(١٥) .

وإنّ المشترَك في هذه المعاني الأربعة، هو تغيّر الحالة. أمّا في المصطلح، فينبغي القول إنّ علماء الأصول ليست لهم وجهة نظر واحدة بشأن العلّة، فقد مزجوا في تعريفهم لهذا المصطلح بين معتقداتهم الكلاميّة والفلسفيّة. ولهذا نواجه في كتب أصول الفقه تعريفات شتى للعلّة، كما يلي:

الأوّل: أمارة الحكم(١٦) . من القائلين بهذا التعريف يمكن ذكر البيضاوي، وقسم من الأحناف، والحنابلة. وخلاصته أنّه يرى في العلّة الشرعيّة علامةً على الحكم، وليس موجِبة للحكم، وأنّ الشارع المقدّس اعتبرها بشكل تعاقدي محض علامة على الحكم، ودليلاً عليها.

ــــــــــــــ

١٥ ـ ابن منظور، لسان العرب، ج٤، ص٣٠٨٠.

١٦ ـ الغزالي، المستصفى، ج٢، ص٥٤، وإبن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنّة المناظر، ص١٤٦.

٩٨

الثاني: بناء الحكم وضرورته. لمّا كان تعليل الأحكام الإلهيّة يستلزم وجود علاقة بين الحكم والعلّة من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ هذه العلاقة أوسع من كونها مؤشّراً وعلاقةً، يعتقد أغلب الأصوليّين بوجوب وجود تناسب وارتباط بين الحكم والعلّة، لكنّهم يفسّرونه بناءً على ما يتبنّونه من مبادئ كلاميّة:

ـ العلّة مؤثّرة ذاتيّاً في الحكم(١٧) . من أتباع هذا الرأي من السنّة؛ المعتزلة.

ـ العلّة مؤثّرة وجوباً في الحكم. من القائلين بهذا التعريف الغزالي؛ الّذي يقول: ((العلّة الموجِبة إمّا أن تكون عقليّة فتكون مؤثرة بحد ذاتها، أو شرعيّة تؤثّر في الحكم بعد جعل الشـارع المـقدّس))(١٨) .

ـ العلّة مؤثرة بشكل عادي في الحكم. نَسب الزركشي، في البحر المـحيط، هذا المـعنى إلى الرازي(١٩) .

ــــــــــــــ

١٧ ـ الشبلي، محمد سعيد مصطفى، تعليل الأحكام، ط١، الأزهر، القاهرة، ١٣٦٥هـ.ق، ص١١٩.

١٨ ـ الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، شفاء العليل، ط١، نشر وزارة الأوقاف، بغداد، ١٣٩٠هـ.ق، ص٥٦٩.

١٩ ـ الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج٥، ص١١٣.

٩٩

الثالث: باعث الشارع على تشريع الحكم. وقد تبنى هذا التعريف الآمدي من الشافعيّة، وابن الحاجب من المالكيّة، وصدر الشريعة من الأحناف(٢٠) .

٤ ـ الحكمة:

أ ـ في اللّغة: وتدلّ كلمة الحكمة في اللّغة على المعرفة والاطلاع. ويفسّرها البعض بمعرفة الحقّ لذاته ومعرفته للعمل به، والبعض يُعرِّفها بالحجّة والبرهان القطعي المفيد للاعتقاد، وليس المفيد للظن.

ب ـ في الاصطلاح: تُطلق الحكمة في المصطلح على معنين: المصلحة المترتِّبة على تشريع الحكم الشرعي، مثل: الحكمة في عدم تكليف المسافر بالصوم؛ والّتي هي دفع المشقّة عنه، عين النفع والضرر الّذي أخذه الشارع بنظر الاعتبار في تشريعه الحكم الشرعي، وأراد الشارع بتشريعه الحكم أن يبلّغه المكلّف أو أن يمتنع عنه. وعلى هذا، فالمشقّة نفسها هي حكمة عدم تكليف المسافر بالصوم، وليس دفع المشقّة. والشائع لدى الأصوليّين، غالباً، هو المعنى الأول.

ــــــــــــــ

٢٠ ـ السبكي، تاج الدين عبد الوهاب، جمع الجوامع، ج٢، ص٢٧٤، والزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج٥، ص١١٢.

١٠٠