كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة0%

كمال الدين وتمام النعمة مؤلف:
المحقق: علي أكبر الغفاري
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 686

كمال الدين وتمام النعمة

مؤلف: محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (الشيخ الصدوق)
المحقق: علي أكبر الغفاري
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف:

الصفحات: 686
المشاهدات: 137113
تحميل: 7431


توضيحات:

كمال الدين وتمام النعمة المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 686 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137113 / تحميل: 7431
الحجم الحجم الحجم
كمال الدين وتمام النعمة

كمال الدين وتمام النعمة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

دعوا إلى الكتاب والرِّضا من آل محمّد وهذه دعوة حقّ.

وأما قوله: « كيف يتّخذه الله شهيداً على من لم يرهم ولا أمرهم ولا نهاهم » فيقال له: ليس معنى الشهيد عند خصومك ما تذهب إليه، ولكن إن عبتَ الاماميّة بأنَّ من لم يُروجهه ولا عُرف شخصه لا يكون بالمحلِّ الّذي يدَّعونه له فأخبرنا عنك من الامام الشّهيد من العترة في هذا الوقت، فإنَّ ذكر أنَّه لا يعرفه دخل فيما عاب ولزمه ما قدّر أنَّه يلزم خصومه، فإنَّ قال: هو فلان، قلنا له: فنحن لم نر وجهه ولا عرفنا شخصه فكيف يكون إماماً لنا وشهيداً علينا؟! فإنَّ قال: إنّكم وإن لم تعرفوه فهو موجود الشخص معروف علمه من علمه وجهله من جهله، قلنا: سألناك بالله هل تظنُّ أنَّ المعتزلة والخوارج والمرجئة والاماميّة تعرف هذا الرَّجل أو سمعت به أو خطر ذكره ببالها؟ فإنَّ قال: هذا ما لا يضرُّه ولا يضرُّنا لأنّ السبب في ذلك إنّما هو غلبة الظالمين على الدّار وقلّة الأعوان والأنصار، قلت له: لقد دخلت فيما عبت وحججت نفسك من حيث قدَّرت إنّك تحاج خصومك، وما أقرب هذه الغيبة من غيبة الاماميّة غير أنّكم لا تنصفون.

ثم يقال: قد أكثرت في ذكر الجهاد ووصف الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى أوهمت أنَّ من لم يخرج فليس بمحقٍّ، فما بال أئمّتك والعلماء من أهل مذهبك لا يخرجون، وما لهم قد لزموا منازلهم واقتصروا على اعتقاد المذهب فقطّ؟ فإنَّ نطق بحرف فتقابله الاماميّة بمثله. ثمّ قيل له برفق ولين: هذا الّذي عبته على الاماميّة وهتفت بهم من أجله وشنعت به على أئمّتهم بسببه وتوصلت بذكره إلى ما ضمّنته كتابك، قد دخلت فيه وملت إلى صحّته، وعوَّلت عند الاحتجاج عليه، والحمد لله الّذي هدانا لدينه.

ثمَّ يقال له: أخبرنا هل في العترة اليوم من يصلح للامامة؟ فلابدّ من أن يقول: نعم فيقال له: أفليس إمامته لا تصحُّ إلّا بالنص على ما تقوله الاماميّة ولا معه دليل معجز يعلم به أنَّه إمام وليس سبيله عندكم سبيل من يجتمع أهل الحلِّ والعقد من الاُمّة فيتشاورون في أمره ثمّ يختارونه ويبايعونه؟ فإذا قال: نعم، قيل له: فيكف السبيل إلى معرفته؟

١٢١

فإن قالوا: يعرف بإجماع العترة عليه، قلنا لهم: كيف تجتمع عليه فإنَّ كان إماميّاً لم ترض به الزّيديّة وإن كان زيديّاً لم ترض به الاماميّة، فإنَّ قال: لا يعتبر بالامامية في مثل هذا، قيل له: فالزّيديّة على قسمين قسم معتزلة وقسم مثبتة، فإنَّ قال: لا يعتبر بالمثبتة في مثل هذا، قيل له: فالمعتزلة قسمان قسم يجتهد في الأحكام بآرائها وقسم يعتقد أنَّ الاجتهاد ضلال، فإنَّ قال: لا يعتبر بمن نفي الاجتهاد، قيل له: فإنَّ بقي - ممّن يرى الاجتهاد - منهم أفضلهم، وبقي - ممّن يبطل الاجتهاد - منهم أفضلهم، ويبرأ بعضهم من بعض بمن نتمسّك وكيف نعلم المحقَّ منهما، هو من تؤمي أنت وأصحابك إليه دون غيره؟ فإنَّ قال: بالنظر في الاُصول، قلنا فإنَّ طال الاختلاف واشتبه الامر كيف نصنع وبما نتفصي من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي: أهل بيتى » والحجّة من عترته لا يمكن أحداً(١) أن يعرفه إلّا بعد النظر في الاُصول والوقوف على أنَّ مذاهبه كلّها صواب، وعلى أنَّ من خالفه فقد أخطأ، وإذا كان هكذا فسبيله وسبيل كلّ قائل من أهل العلم سبيل واحد فما تلك الخاصّة الّتي هي للعترة دلّنا عليها وبيّن لنا جميعها لنعلم أنَّ بين العالم من العترة وبين العالم من غير العترة فرقاً وفصلاً.

واخرى يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم اليوم، أعنده الحلال والحرام؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا لهم: وأخبرونا عمّا عنده ممّا ليس في الخبر المتواتر هل هو مثل ما عند الشافعيِّ وأبي حنيفة ومن جنسه أو هو خلاف ذلك، فإنَّ قال: بل عنده الّذي عندهما ومن جنسه، قيل لهم: وما حاجة النّاس إلى علم إمامكم الّذي لم يسمع به، وكتب الشافعيِّ وأبي حنفية ظاهرة مبثوثة موجودة، وإن قال: بل عنده خلاف ما عندهما قلنا: فخلال ما عندهما هو النصُّ المستخرج الّذي تدّعيه جماعة من مشايخ المعتزلة وإنَّ الاشياء كلّها على إطلاق العقول إلّا ما كان في الخبر القاطع للعذر على مذهب النظّام وأتباعه، أو مذهب الاماميّة أنَّ الأحكام منصوصة، واعلموا أنّا لا نقول منصوصة على الوجه الّذي يسبق إلى القلوب ولكنَّ المنصوص عليه بالجمل الّتي من فهمها فهم الأحكام من غير

__________________

(١) أي لاحد.

١٢٢

قياس ولا اجتهاد، فإنَّ قالوا: عنده ما يخالف هذا كلّه خرجوا من التعارف، وإن تعلّقوا بمذاهب من المذاهب قيل لهم: فأين ذلك العلم؟ هل نقله عن إمامكم أحدٌ يوثق بدينه وأمانته؟ فإنَّ قالوا: نعم، قيل لهم: قد عاشرناكم الدَّهر الاطول فما سمعنا بحرف واحد من هذا العلم، وأنتم قوم لا ترون التقيّة ولا يراها إمامكم، فأين علمه؟ وكيف لم يظهر ولم ينتشر؟ ولكن أخبرونا ما يؤمنّا أن تكذِّبوا فقد كذبتم على إمامكم كما تدَّعون أنَّ الاماميّة كذَّبت على جعفر بن محمّدعليهما‌السلام وهذا ما لا فصل فيه.

مسئلة اخرى ويقال لهم: أليس جعفر بن محمّد عندكم كان لا يذهب إلى ما تدّعيه الاماميّة، وكان على مذهبكم ودينكم؟ فلابدّ من (أن يقولوا): نعم، اللّهمّ إلّا أن تبرَّؤوا منه، فيقال لهم: وقد كذَّبت الاماميّة فيما نقلته عنه، وهذه الكتب المؤلّفة الّتي في أيديهم إنّما هي من تأليف الكذّابين؟ فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إمامكم يذهب مذهب الاماميّة ويدين بدينها وإن يكون ما يحكي سلفكم ومشايخكم عنه مولّداً موضوعاً لا أصل له، فإنَّ قالوا: ليس لنا في هذا الوقت إمام نعرفه بعينه نروي عنه علم الحلال والحرام ولكنّا نعلم أنَّ في العترة من هو موضع هذا الامر وأهل، قلنا لهم: دخلتم فيما عبتموه على الاماميّة بما معها من الأخبار من أئمّتها بالنصِّ على صاحبهم والاشارة إليه والبشارة به، وبطل جميع ما قصصتم به من ذكر الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فصار إمامكم بحيث لا يرى ولا يعرف، فقولوا: كيف شئتم ونعوذ بالله من الخذلان.

ثمَّ قال صاحب الكتاب، وكما أمر الله العترة بالدُّعاء إلى الخير(١) وصف سبق السابقين منهم، وجعلهم شهداء، وأمرهم بالقسط فقال: « يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ». ثمّ أتبع ذلك بضرب من التأويل وقراءة آيات من القرآن ادّعى أنّها في العترة، ولم يحتج لشيء منها بحجّة أكثر من أن يكون الدَّعوى، ثمّ قال: وقد أوجب الله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الامر والنهي إلى أنَّ هيّأ له أنصاراً فقال: « وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا - إلى قوله - لعلهم يتقون: فمن لم يكن من

__________________

(١) في قوله عزَّ وجلَّ: « ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ».

١٢٣

السابقين بالخيرات، المجاهدين في الله ولا من المقتصدين الواعظين بالأمر والنهي عند إعواز الاعوان(١) فهو من الظالمين لأنفسهم، وهذا سبيل من كان قبلنا من ذراري الأنبياءعليهم‌السلام ، ثمّ تلا آيات من القران.

فيقال له: ليس علينا، لمن(٢) أراد بهذا الكلام؟ ولكن أخبرنا عن الامام من العترة عندك من أيِّ قسم هو؟ فإنَّ قال: من المجاهدين، قيل له: فمن هو، ومن جاهد ويعلم من خرج؟ وأين خليه ورجله؟ فإنَّ قال: هو ممّن يعظ بالأمر والنهي عند اعواز الاعوان، قيل له: فمن سمع أمره ونهيه؟ فإنَّ قال: أولياؤه وخاصّته، قلنا: فإن اتّبع هذا وسقط فرض ما سوى ذلك عنه لاعواز الاعوان وجاز أن لا يسمع أمره ونهيه إلّا أولياؤه فأيُّ شيء عبته على الاماميّة؟ ولم ألفت كتابك هذا؟ وبمن عرَّضت؟ وليت شعري وبمن قرَّعت بآي القرآن وألزمته فرض الجهاد. ثمّ يقال له وللزّيديّة جميعاً: أخبرونا لو خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدُّنيا ولم ينص على أمير المؤمنينعليه‌السلام ولا دلَّ عليه ولا أشار إليه أكان يكون ذلك من فعله صواباً وتدبيراً حسناً جائزاً؟ فإنَّ قالوا: نعم، فقلنا لهم: ولو لم يدلُّ على العترة أكان يكون ذلك جائزاً فإن قالوا: نعم، قلنا: ولو لم يدلُّ فأي شئ أنكرتم على المعتزلة والمرجئة والخوارج؟ وقد كان يجوز أن لا يقع النصُّّ فيكون الامر شورى بين أهل الحلِّ والعقد، وهذا ما لا حيلة فيه، فإنَّ قالوا: لا ولابدَّ من النصِّ على أمير المؤمنين صلوات الله عليه ومن الادلة على العترة، قيل لهم لِمَ؟ حتّى إذا ذكروا الحجّة الصّحيحة فننقلها إلى الامام في كلّ زمان، لأنّ النص أنَّ وجب في زمن وجب في كلّ زمان، لأنّ العلل الموجبة له موجودة أبداً، ونعوذ بالله من الخذلان.

__________________

(١) أعوز اعوزازاً الرجل. افتقر وساءت حاله فهو معوز، واعوزه المطلوب: أعجزه وصعب عليه نيله. اعوز في الشيء: احتجت إليه، لم أقدر عليه. وفي بعض النسخ « اعوزاز الاعوان » واعوز اعوزازا احتال. اختلت حاله.

(٢) لعل اللام في قوله « لمن » مفتوحة والجملة تتضمن معنى الاستفهام، وقوله « ليس علينا » جملة مستقلة، أي ليس ما قلت علينا. وفى بعض النسخ « لمن المراد ».

١٢٤

مسألة اخرى يقال لهم: إذا كان الخبر المتواتر حجّة رواه العترة والاُمّة، وكان الخبر الواحد من العترة كخبر الواحد من الاُمّة يجوز على الواحد منهم من تعمّد الباطل ومن السهو والزَّلل ما يجوز على الواحد من الاُمّة وما ليس في الخبر المتواتر ولا خبر الواحد فسبيله عندكم الاستخراج، وكان يجوز على المتأوِّل منكم ما يجوز على المتأوِّل من الاُمّة فمن أي وجه صارت العترة حجّة؟ فإن قال صاحب الكتاب: إذا أجمعوا فإجماعهم حجّة، قيل له: فإذا أجمعت الاُمّة فإجماعها حجّة، وهذا يوجب أنَّه لا فرق بين العترة والأُمّة وإن كان هكذا فليس في قوله « خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي » فائدة إلّا أن يكون فيها من هو حجّة في الدِّين، وهذا قول الامامية. واعلموا - أسعدكم الله - أنَّ صاحب الكتاب أشغل نفسه بعد ذلك بقراءة القرآن وتأويله على من أحبَّ ولم يقل في شيء من ذلك: « الدّليل على صحّة تأويلي كيت كيت » وهذا شيء لا يعجز عنه الصّبيان وإنّما أراد أن يعيب الاماميّة بأنّها لا ترى الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد غلط فإنّها ترى ذلك على قدر الطاقة، ولا ترى أن تلقي بأيديها إلى التهلكة، ولا أن يخرج مع من لا يعرف الكتاب والسنّة ولا يُحسن أن يسير في الرَّعيّة بسيرة العدل والحقِّ.

وأعجب من هذا أنَّ أصحابنا من الزّيديّة في منازلهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر ولا يجاهدون، وهم يعيبوننا بذلك، وهذا نهاية من نهايات التحامل ودليل من أدلة العصبيّة، نعوذ بالله من اتّباع الهوى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مسألة اخرى ويقال لصاحب الكتاب: هل تعرف في أئمّة الحقِّ أفضل من أمير المؤمنين صلوات الله عليه؟ فمن قوله: لا، فيقال له: فهل تعرف من المنكر بعد الشرك والكفر شيئاً أقبح وأعظم ممّا كان من أصحاب السّقيفة؟ فمن قوله: لا، فيقال له: فأنت أعلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أو أمير المومنينعليه‌السلام ؟ فلابدَّ من أن يقول: أمير المؤمنين، فيقال له: فما باله لم يجاهدا القوم؟ فإنَّ اعتذر بشيء قيل له: فاقبل مثل هذا العذر من الاماميّة، فإنَّ النّاس جميعاً يعملون أنَّ الباطل اليوم أقوى منه يومئذ وأعوان الشيطان أكثر ولا تهوِّل علينا بالجهاد وذكره، فإنَّ الله تعالى إنّما

١٢٥

فرضه لشرائط لو عرفتها لقلَّ كلامك وقصر كتابك ونسأل الله التوفيق.

مسألة اخرى يقال لصاحب الكتاب: أتصوِّبون الحسن بن عليٍّعليهما‌السلام في موادعته معاوية أم تخطّئونه؟ فإذا قالوا: نصوِّبه، قيل لهم: أتصوِّبونه وقد ترك الجهاد وأعرض عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الّذي تؤمون إليه، فإنَّ قالوا: نصوِّبه لأنّ النّاس خذلوه، ولم يأمنهم على نفسه، ولم يكن معه من أهل البصائر من يمكنه أن يقاوم بهم معاوية وأصحابه فإذا عرفوا صحّة ذلك، قيل لهم: فإذا كان الحسنعليه‌السلام مبسوط العذر ومعه جيش أبيه وقد خطب له النّاس على المنابر وسلَّ سيفه وسار إلى عدوِّ الله وعدوِّه للجهاد لمّا وصفتم وذكرتم فلم لا تعذرون جعفر ابن محمّدعليهما‌السلام في تركه الجهاد وقد كان أعداؤه في عصره أضعاف من كان مع معاوية ولم يكن معه من شيعته [ مائة نفر ] قد تدرَّبوا بالحروب، وإنّما كان قوم من أهل السرِّ لم يشاهدوا حرباً ولا عاينوا وقعة، فإن بسطوا عذره فقد أنصفوا، وإن امتنع منهم ممتنع فسئل الفصل، ولا فصل.

وبعد فإن كان قياس الزّيديّة صحيحاً فزيد بن عليٍّ لأنّ الحسن وادع وزيدٌ حارب حتّى قتل وكفى بمذهب يؤدِّي إلى تفضيل زيد بن عليّ على الحسن بن عليٍّعليهما‌السلام قبحاً. والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل(١) .

و إنّما ذكرنا هذه الفصول في أوّل كتابنا هذا لأنّها غاية ما يتعلّق بها الزّيديّة وما رد عليهم وهي أشد الفرق علينا، وقد ذكرنا الأنبياء والحجج الّذين وقعت بهم الغيبة صلوات الله عليهم وذكرنا في آخر الكتاب المعمّرين ليخرج بذلك ما نقوله في الغيبة وطول العمر من حدّ الاحالة إلى حدِّ الجواز، ثمّ صحّحنا النصوص على القائم الثاني عشر من الائمّة عليه وعليهم‌السلام من الله تعالى ذكره ومن رسوله والائمّة الاحد عشر صلوات الله عليهم مع إخبارهم بوقوع الغيبة، ثمّ ذكرنا مولدهعليه‌السلام ، ومن شاهده وما صحَّ من دلالاته وأعلامه، وما ورد من توقيعاته لتأكيد الحجّة على المنكرين لوليِّ الله والمغيّب في ستر الله، والله الموفق للصواب وهو خير مستعان.

__________________

(١) هذا آخر ما نقله عن كتاب ابن قبة.

١٢٦

١

( باب )(١)

(في غيبة ادريس النبيّعليه‌السلام )

فأوَّل الغيبات غيبة إدريس النبيّعليه‌السلام المشهورة حتّى آل الامر بشيعته إلى أن تعذر عليهم القوت وقتل الجبّار من قتل منهم وأفقر وأخاف باقيتهم، ثمَّ ظهرعليه‌السلام فوعد شيعته بالفرج وبقيام القائم من ولده، وهو نوحعليه‌السلام ثمَّ رفع الله عزَّ وجلَّ إدريسعليه‌السلام إليه، فلم تزل الشّيعة تتوقّعون قيام نوحعليه‌السلام قرناً بعد قرن، وخلفاً عن سلف، صابرين من الطواغيت على العذاب المهين حتّى ظهرت نبوَّة نوحعليه‌السلام .

١ - حدَّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، ومحمّد بن موسى بن - المتوكّل - رضى الله عنهم - قالوا: حدّثنا سعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر الحميري، ومحمّد بن يحيى العطّار قالوا: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، وإبراهيم ابن هاشم جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقرعليهما‌السلام قال: كان بدء نبوَّة إدريسعليه‌السلام أنَّه كان في زمانه ملك جبّار وأنّه ركب ذات يوم في بعض نزهه، فمرَّ بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن من الرَّافضة(٢) فأعجبته فسأل وزراءه لمن هذه الأرض؟ قالوا: لعبد مؤمن من عبيد الملك فلان الرَّافضيِّ، فدعا به فقال له: أمتعني بأرضك هذه(٣) فقال: عيالي أحوج إليها

__________________

(١) النسخ مختلفة في عنوان الابواب وهنا في بعضها « الباب الاوَّل » وفي بعضها « الباب الثاني » وفي بعضها « باب » فقط، وفى بعضها « باب » مع الرقم الهندسي.

(٢) الرافضة هم الدِّين تركوا مذهب سلطانهم. والرفض في اللّغة: الترك، والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا وذهبوا عنه. أو المراد الّذين رفضوا الشرك والمعاصي أو مذهب الملك أو الدُّنيا ونعيمها، وفى اثبات الوصية « فقيل أنّها لرجل من الرافضة كان لا يتبعه على كفره ويرفضه يسمى رافضياً فدعى به الخ ».

(٣) أي اجعلها لي انتفع بها وألتذ بها.

١٢٧

منك، قال: فسمني بها(١) اثمن لك، قال: لا اُمتعك بها ولا أسومك دع عنك ذكرها، فغضب الملك عند ذلك وأسف وانصرف إلى أهله وهو مغموم متفكّر في أمره وكانت له امرأة من الازارقة(٢) ، وكان بها معجباً يشاورها في الامر إذا نزل به، فلمّا استقرَّ في مجلسه بعث إليها ليشاورها في أمر صاحب الأرض، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب فقالت: أيّها الملك ما الّذي دهاك(٣) حتّى بدا الغضب في وجهك قبل فعلك(٤) ؟ فأخبرها بخبر الأرض وما كان من قوله لصاحبها ومن قول صاحبها له، فقالت: أيّها الملك إنّما يهتم به(٥) من لا يقدر على التغيير والانتقام، فإن كنت تكره أن تقتله بغير حجّة فأنا أكفيك أمره واصيّر أرضه بيديك بحجّة لك فيها العذر عند أهل مملكتك، قال: وما هي؟ قالت: أبعثُ إليه أقواماً من أصحابي الازارقة حتّى يأتوك به فيشهدوا عليه عندك أنَّه قد برئ من دينك فيجوز لك قتله وأخذ أرضه، قال: فافعلي ذلك، قال: وكان لها أصحاب من الازارقة على دينها يرون قتل الرَّوافض من المؤمنين، فبعثت إلى قوم من الأزارقة(٦) فأتوها فأمرتهم أن يشهدوا على فلان الرَّافضيِّ عند الملك أنَّه قد برئ من دين الملك فشهدوا عليه أنَّه قد برئ من دين الملك فقتله واستخلص أرضه، فغضب الله تعالى للمؤمن عند ذلك فأوحى الله إلى إدريس أن ائت عبدي هذا الجبّار فقل له: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصة لك، فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم، أما وعترَّتي لانتقمنَّ له منك في الاجل ولاسلبنك ملكك في العاجل، ولاُخربنَّ مدينتك ولاذلن عزك ولاطعمن الكلاب

__________________

(١) السوم طلب الشراء أي بعنى. و « أثمن لك » أي أعطيك الثمن.

(٢) المراد بهم أهل الروم أو الديلم لأنّ زرقة العيون غالبة فيهم. والازارقة أيضاً هم الّذين يبيحون مال من على غير عقيدتهم ويستحلون دمه نظير عقيدة الخوارج في الاسلام، والمراد هنا المعنى الثاني.

(٣) دهى فلاناً أي أصابه بداهية.

(٤) أي قبل اتيانك بما غضبت له.

(٥) في بعض النسخ « يغتم ويأسف ».

(٦) في بعض النسخ « إلى قوم منهم ».

١٢٨

لحم امرأتك، فقد غرَّك يا مبتلى حلمي عنك.

فأتاه إدريسعليه‌السلام برسالة ربّه وهو في مجلسه وحوله أصحابه، فقال: أيّها الجبّار إنّي رسول الله إليك وهو يقول لك: أمّا رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصة لك، وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم، أما وعزَّتي لانتقمنَّ له منك في الاجل، ولاسلبنَّك ملكك في العاجل، ولاُخربنَّ مدينتك، ولاُذلنَّ عزَّك، ولاطعمنَّ الكلاب لحم امرأتك، فقال الجبّار: اخرج عنّي يا إدريس فلن تسبقني بنفسك(١) .

ثمَّ أرسل إلى امرأته فأخبرها بما جاء به إدريس، فقال: لا تهوِّلنّك رسالة إله إدريس إنّا أكفيك أمر إدريس، اُرسل إليه من يقتله فتبطل رسالة إلهه وكلّما جاءك به، قال: فافعلي، وكان لادريس أصحاب من الرَّافضة مؤمنون يجتمعون إليه في مجلس له فيأنسون به ويأنس بهم، فأخبرهم إدريس بما كان من وحي الله عزَّ وجلَّ إليه ورسالته إلى الجبّار، وما كان من تبليغه رسالة الله عزَّ وجلَّ إلى الجبّار، فأشفقوا على إدريس وأصحابه، وخافوا عليه القتل.

وبعثت امرأة الجبّار إلى إدريس أربعين رجلاً من الازارقة ليقتلوه فأتوه في مجلسه الّذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه، فلم يجدوه، فانصرفوا وقد رآهم أصحاب إدريس فحسبوا أنّهم أتوا إدريس ليقتلوه فتفرَّقوا في طلبه، فلقوه، فقالوا له: خذ حذرك يا إدريس فإنَّ الجبار قاتلك قد بعث اليوم أربعين رجلاً من الازارقة ليقتلوك فاخرج من هذه القرية، فتنحّى إدريس، عن القرية من يومه ذلك، ومعه نفر من أصحابه، فلمّا كان في السّحر ناجى إدريس ربّه فقال: يا ربِّ بعثتني إلى جبّار فبلّغت رسالتك، وقد توعّدني هذا الجبار بالقتل، بل هو قاتلي أن ظفر بي، فأوحى الله عزَّ وجلَّ: أن تنحَّ عنه واخرج من قريته، وخلّني وإيّاه فوعزَّتي لانفذنَّ فيه أمري، ولاصدِّقنَّ قولك فيه وما أرسلتك به إليه، فقال إدريس: يا ربّ إنَّ لي حاجة، قال الله عزَّ وجلَّ: سل

__________________

(١) أي لا يمكنك الفرار بنفسك والتقدم بحيث لا يمكنني اللحوق بك لاهلاكها أو لا تغلبني في أمر نفسك بان تتخلصها مني.

١٢٩

تعطها، قال: أسألك أن لا تمطر السّماء على أهل هذه القرية وما حولها وما حوت عليه حتّى أسألك ذلك، قال الله عزَّ وجلَّ: يا إدريس إذا تخرب القرية ويشتدُّ جهد أهلها ويجوعون، قال إدريس: وإن خربت وجهدوا وجاعوا، قال الله عزَّ وجلَّ: فإني قد أعطيتك ما سألت ولن اُمطر السماء عليهم حتّى تسألني ذلك، وأنا أحقُّ من وفي بوعده.

فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله من حبس المطر عنهم، وبما أوحى الله إليه ووعده أن لا يمطر السّماء عليهم حتّى يسأله ذلك. فاخرجوا أيّها المؤمنون من هذه القرية إلى غيرها من القرى، فخرجوا منها، وعدَّتهم يومئذ عشرون رجلاً، فتفرَّقوا في القرى، وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل ربّه تعالى، وتنحّى إدريس إلى كهف في جبل شاهق، فلجأ إليه ووكل الله عزَّ وجلَّ به ملكاً يأتيه بطعامه عند كلِّ مساء، وكان يصوم النهار فيأتيه الملك بطعامه عند كلّ مساء، وسلب الله عزَّ وجلَّ عند ذلك ملك الجبّار وقتله وأخرب مدينته وأطعم الكلاب لحم امرأته غضباً للمؤمن فظهر في المدينة جبّارٌ آخر عاص، فمكثوا بذلك بعد خروج إدريس من القرية عشرين سنة لم تمطر السّماء عليهم قطرة من مائها عليهم، فجهد القوم اشتدَّت حالهم وصاروا يمتارون الأطعمة(١) من القرى من بعد، فلمّا جهدوا مشى بعضهم إلى بعض فقالوا: إنَّ الّذي نزل بنا ممّا ترون بسؤال إدريس ربّه أن لا يمطر السماء علينا حتّى يسأله هو، وقد خفي إدريس عنّا ولا علم لنا بموضعة، والله أرحم بنا منه فأجمع أمرهم على أن يتوبوا إلى الله ويدعوه ويفزعوا إليه ويسألوه أن يمطر السماء عليهم وعلى ما حوت قريتهم، فقاموا على الرماد ولبسوا المسوح وحثّوا على رؤوسهم التراب، وعجّوا(٢) إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرُّع إليه، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى إدريس يا إدريس أنَّ أهل قريتك قد عجّوا إليَّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرُّع، وأنا الله الرحمن الرحيم أقبل التوبة أعفو

__________________

(١) أي يجمعون الاطعمة من أطراف القرى.

(٢) المسح - بالكسر -: البلاس معرب پلاس. والحث: الصب. والعج: رفع الصوت. وفى نسخة « ورجعوا ».

١٣٠

عن السيئة، وقد رحمتهم ولم يمنعني إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا امطر السماء عليهم حتّى تسألني، فسلني يا إدريس حتّى اغيثهم وامطر السّماء عليهم؟ قال إدريس: اللّهمّ إنّي لا أسألك ذلك(١) قال الله عزَّ وجلَّ: ألم تسألني يا إدريس فأجبتك إلى ما سألت وأنا أسألك أن تسألني فلم لا تجب مسألتي؟ قال: إدريس اللّهمّ لا أسألك، فأوحي الله عزَّ وجلَّ إلى الملك - الّذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كلِّ مساء - أن احبس عن إدريس طعامه ولا تأته به، فلمّا أمسى إدريس في ليلة ذلك اليوم فلم يؤت بطعامه حزن وجاع فصبر، فلمّا كان في (ليلة) اليوم الثاني فلم يؤت بطعامه اشتدَّ حزنه وجوعه، فلمّا كانت الليلة من اليوم الثالث فلم يؤت بطعامه اشتدَّ جهده وجوعه وحزنه وقل صبره فنادى ربّه يا رب حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام ولياليها ولم تجزع ولم تذكر(٢) جوع أهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة، ثمّ سألتك عن جهدهم ورحمتي إيّاهم أن تسألني أن امطر السماء عليهم فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إيّاي فأدَّبتك بالجوع(٣) ، فقلَّ عند ذلك صبرك وظهر جزعك، فاهبط من موضعك فاطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك.

فهبط إدريسعليه‌السلام من موضعه إلى قرية يطلب اكلة من جوع فلمّا دخل القرية نظر إلى دخان في بعض منازلها فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقق قرصتين لها على مقلاة، فقال لها: أيّتها المرأة أطعميني فاني مجهود من الجوع فقالت له: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلاً نطعمه أحداً - وحلفت أنّها ما تملك غيره شيئاً - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما اُمسك به روحي وتحملني به رجلي إلى أن أطلب، قالت: إنّما هما قرصتان واحدة لي والاخرى لابني فإنَّ أطعمتك قوتي مت، وإن أطعمتك قوت ابني مات، وما ههنا فضل اطعمكه، فقال لها: إنَّ

__________________

(١) أمره تعالى إيّاه بالدعاء على سبيل الندب أو التخيير، وعرض ادريسعليه‌السلام عن التأخير زجرهم عن الفساد وتنبيههم لئلا يخالفوا ربهم بعد دخوله فيهم.

(٢) في بعض النسخ « ولم تنكر ».

(٣) في البحار « مأذقتك الجوع ».

١٣١

ابنك صغير يجزيهه نصف قرصة فيحيى به ويجزيني النصف الاخر فاحيى به وفي ذلك بلغة لى وله، فأكلت المرأة قرصتها وكسرت الاخرى بين إدريس وبين ابنها، فلمّا رأى ابنها إدريس يأكل من قرصته اضطراب حتّى مات، قالت اُمّه: يا عبد الله قتلت عليَّ ابني جزعاً على قوته، قال [ لها ] إدريس: فأنا احييه بإذن الله تعالى فلا تجزعي، ثمّ أخذ إدريس بعضدي الصبيِّ، ثمَّ قال: أيّتها الرُّوح الخارجة عن بدن هذا الغلام بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله، وأنا إدريس النبيِّ. فرجعت روح الغلام إليه باذن الله، فلمّا سمعت المرأة كلام إدريس وقوله: « أنا إدريس » ونظرت على ابنها قد عاش بعد الموت قالت: أشهد أنّك إدريس النبيّ وخرجت تنادي بأعلي صوتها في القرية أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس قريتكم، ومضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبار الاوَّل فوجدها وهي تلٌّ، فاجتمع إليه اناس من أهل قريته فقالوا له: يا إدريس أما رحمتنا في هذه العشرين سنة الّتي جهدنا فيها ومسّنا الجوع والجهد فيها، فادع الله لنا أن يمطر السّماء علينا قال: لا حتّى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألونّي ذلك، فبلغ الجبار قوله فبعث إليه أربعين رجلاً يأتوه بإدريس فأتوه فقالوا له: إنَّ الجبّار بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فدعا عليهم فماتوا، فبلغ الجبّار ذلك، فبعث إليه خمسمائة رجل ليأتوه به فأتوه فقالوا له: يا إدريس أنَّ الجبّار بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فقال لهم إدريس: انظروا إلى مصارع أصحابكم فقالوا له: يا إدريس قتلتنا بالجوع منذ عشرين سنة ثمّ تريد أن تدعو علينا بالموت أما لك رحمة؟ فقال: ما أنا بذاهب إليه وما أنا بسائل الله أن يمطر السماء عليكم حتّى يأتيني جبّاركم ماشياً حافياً وأهل قريتكم، فانطلقوا إلى الجبّار فأخبروه بقول إدريس وسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل قريتهم إلى إدريس مشاة حفاة، فأتوه حتّى وقفوا بين يديه خاضعين له طالبين إليه أن يسأل الله عزَّ وجلَّ لهم أن يمطر السماء عليهم، فقال لهم إدريس: أمّا الان فنعم فسأل الله عزَّ وجلَّ إدريس عند ذلك أن يمطر السّماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها، فأظلتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم(١) من

__________________

(١) هطلت السماء: نزلت عليهم متتابعاً، وهطل المطر إذا تتابع.

١٣٢

ساعتهم حتّى ظنّوا أنَّه الغرق، فما رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمتهم أنفسهم من الماء.

٢

( باب )

* (في ذكر ظهور نوحعليه‌السلام بالنبوة بعد ذلك) *

٢ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاقرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن همّام قال: حدّثنا حميد بن زياد الكوفيِّ(١) قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن سماعة، عن أحمد ابن الحسن الميثميِّ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام لمّا أظهر الله تبارك وتعالى نبوَّة نوحعليه‌السلام وأيقن الشيعة بالفرج اشتدَّت البلوى وعظمت الفرية إلى أن ال الامر إلى شدَّة شديدة نالت الشيعة والوثوب على نوح بالضرب المبرَّح(٢) حتّى مكثعليه‌السلام في بعض الاوقات مغشّياً عليه ثلاثة أيّام، يجري الدَّم من اذنه ثمّ أفاق، وذلك بعد ثلاثمائة سنة من مبعثه، وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلاً ونهاراً فيهربون، ويدعوهم سرّاً فلا يجيبون، ويدعوهم علانية فيولّون، فهمَّ بعد ثلاثمائة سنة بالدُّعاء عليهم، وجلس بعد صلاة الفجر للدُّعاء، فهبط إليه وفدٌ من السماء السّابعة وهم ثلاثة أملاك فسلّموا عليه، ثمّ قالوا له: يا نبيَّ الله لنا حاجة، قال: وما هي؟ قالوا: تؤخِّر الدُّعاء على قومك فانّها أوَّل سطوة لله عزَّ وجلَّ في الأرض قال: قد أخّرت الدُّعاء عليهم ثلاثمائة سنة اُخرى، وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع، ويفعلون ما كانوا يفعلون حتّى إذا انقضت ثلاثمائة سنة اخرى ويئس من إيمانهم، جلس في وقت ضحى النهار للدُّعاء فهبط عليه وفدٌ من السماء السادسة (وهم ثلاثة أملاك) فسلّموا عليه، وقالوا: نحن وفدٌ من السماء السادسة خرجنا بكرة وجئناك ضحوة، ثمّ سألوه مثل ما سأله وفد السماء السابعة، فأجابهم إلى مثل ما أجاب اولئك إليه، وعادعليه‌السلام إلى قومه يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فراراً، حتّى انقضت ثلاثمائة سنة تتمّة تسعمائة سنة فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامّة والطواغيت وسألوه الدُّعاء بالفرج،

__________________

(١) في بعض النسخ « محمّد بن هشام قال: حدّثنا أحمد بن زياد الكوفي ».

(٢) في النهاية: برح به: إذا شق عليه، ومنه الحديث « ضرباً غير مبرح » أي غير شاق.

١٣٣

فأجابهم إلى ذلك وصلّى ودعّا فهبط جبرئيلعليه‌السلام فقال له: إنَّ الله تبارك وتعالى أجاب دعوتك فقل للشّيعة: يأكلوا التمر ويغرسوا النّوى ويراعوه حتّى يثمر، فإذا أثمر فرَّجت عنهم، فحمد الله وأثنى عليه وعرَّفهم ذلك فاستبشروا به، فأكلوا التمر وغرسوا النّوى وراعوه حتّى أثمر،(١) ثمّ صاروا إلى نوحعليه‌السلام بالتمر وسألوه أن ينجز لهم الوعد، فسأل الله عزَّ وجلَّ في ذلك فأوحى الله إليه قل لهم: كلوا هذا التمر وأغرسوا النّوى فإذا أثمر فرَّجت عنكم، فلمّا ظنّوا أنَّ الخلف قد وقع عليهم، ارتدَّ منهم الثُلث وثبت الثلثان، فأكلوا التمر وغرسوا النّوى حتّى إذا أثمر أتوا به نوحاًعليه‌السلام فأخبروه وسألوه أن ينجز لهم الوعد، فسأل الله عزَّ وجلَّ في ذلك، فأوحى الله إليه قل لهم: كلوا هذا التمر، واغرسوا النّوى، فارتدَّ الثلث الاخر وبقي الثلث فأكلوا التمر وغرسوا النّوى، فملا أثمر أتوا به نوحاًعليه‌السلام ثمّ قالوا له: لم يبق منّا إلّا القليل ونحن نتخوَّف على أنفسنا بتأخّر الفرج أن نهلك، فصلّى نوحعليه‌السلام ثمّ قال: يا ربّ لم يبق من أصحابي إلّا هذه العصابة وإنّي أخاف عليهم الهلاك إن تأخر عنهم الفرج، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه قد أجبت دعاءك فاصنع الفلك وكان بين إجابة الدعاء وبين الطوفان خمسون سنة.

٣ - حدّثنا محمّد بن عليٍّ ما جيلويه، ومحمّد بن موسى بن المتوكّل، وأحمد بن محمّد ابن يحيى العطّار رضي الله عنهم قالوا: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن الحسين بن - الحسن بن أبان، عن محمّد بن اورمة، عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر؛ وعبد الكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الدَّيلم، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال: عاش نوح بعد النزول من السفينة خمسين سنة(٢) ثمَّ أتاه جبرئيلعليه‌السلام فقال له:

__________________

(١) في بعض النسخ « فرجت عنهم، فأخبرهم بما أوحى الله إليه ففعلوا ذلك وراعوه حتّى أثمر ».

(٢) أورده المجلسي (ره) في البحار باب جمل أحوال نوحعليه‌السلام وقال: ذكره في « ص » - يعنى قصص الأنبياء - بهذا الاسناد إلى قوله « كما أمرهم آدمعليه‌السلام » إلّا أنَّ فيه « خمسمائة سنة » بدل « خمسين سنة » وهو الصواب كما يدلُّ عليه بعض الاخبار. ورواه الكليني (ره) في الكافي أيضاً وفيه « خمسمائة سنة ».

١٣٤

يا نوح قد انقضت نبوَّتك واستكملت أيّامك فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوَّة الّتي معك فادفعها إلى ابنك سام فانّي لا أترك الأرض إلّا وفيها عالم تعرف به طاعتي ويكون نجاةً فيما بين قبض النبيِّ ومبعث النبيّ الاخر، ولم أكن أترك النّاس بغير حجّة وداع إلىَّ، وهاد إلى سبيلي، وعارف بأمري، فانّي قد قضيت أن أجعل لكلّ قوم هادياً أهدي به السّعداء ويكون حجّة على الاشقياء، قال: فدفع نوحعليه‌السلام الاسم الاكبر وميراث العلم وآثار علم النبوَّة إلى ابنه سام، فأمّا حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به، قال: وبشّرهم نوح بهود وأمرهم باتّباعه، وأن يفتحوا الوصيّة كلّ عام فينظروا فيها ويكون عيداً لهم كما أمرهم آدمعليه‌السلام قال: فظهرت الجبريّة في ولد حام ويافث فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم، وجرت على سام بعد نوح الدَّولة لحام ويافث وهو قول الله عزَّ وجلَّ: «وتركنا عليه في الاخرين »(١) يقول: تركت على نوح دولة الجبارين ويعزُّ الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك، قال: وولد لحام السند والهند والحبش، وولد لسام العرب والعجم، وجرت عليهم الدَّولة وكانوا يتوارثون الوصيّة عالم بعد عالم حتّى بعث الله عزَّ وجلَّ هوداًعليه‌السلام .

٤ - وحدَّثنا عليُّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقّاقرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله الكوفي، عن موسى بن عمران النخعيِّ، عن عمّه الحسين ابن يزيد النوفليِّ، عن عليِّ بن سالم، عن أبيه قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام : لمّا حضرت نوحاًعليه‌السلام الوفاة دعا الشيعة فقال لهم: اعلموا أنَّه ستكون من بعدي غيبة تظهر فيها الطواغيت، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرج عنكم بالقائم من ولدي، اسمه هود، له سمَت وسكينة ووقار، يشبهني في خَلقي وخُلقي، وسيهلك الله أعداءكم عند ظهوره بالرِّيح، فلم يزالوا يترقّبون هوداًعليه‌السلام وينتظرون ظهوره حتّى طال عليهم الامد وقست قلوب أكثرهم، فأظهر الله تعالى ذكره نبيّه هوداًعليه‌السلام عند اليأس منهم وتناهى البلاء بهم واهلك الأعداء بالرِّيح العقيم الّتي وصفها الله تعالى ذكره،

__________________

(١) الصافات: ٧٨.

١٣٥

فقال: « ما تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرميم »(١) ثمَّ وقعت الغيبة (به) بعد ذلك إلى أنَّ ظهر صالحعليه‌السلام .

٥ - حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن - رضي الله عنهما - قالا: حدّثنا سعد بن - عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، وكرام بن عمرو(*) ، عن عبد الحميد بن أبي الدَّيلم، عن الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليهما‌السلام قال: لمّا بعث الله عزَّ وجلَّ هوداعليه‌السلام أسلم له العقب من ولد سام، وأمّا الاخرون فقالوا: من أشدّ منا قوة فاهلكوا بالرِّيح العقيم، وأوصاهم هود وبشّرهم بصالحعليه‌السلام .

٣

( باب )

* (ذكر غيبة صالح النبيّعليه‌السلام ) *

٦ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، وسعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر الحميريُّ قالوا: حدّثنا محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن عليِّ بن أسباط، عن سيف بن عميرة، عن زيد الشحّام، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنَّ صالحاًعليه‌السلام غاب عن قومه زماناً(٢) ، وكان يوم غاب عنهم كهلاً مبدَّح البطن حسن الجسم، وافر اللّحية، خميص البطن(٣) خفيف العارضين مجتمعاً، ربعة من الرجال(٤) فلمّا رجع إلى قومه لم يعرفوه بصورته، فرجع إليهم وهم على ثلاث طبقات: طبقة جاحدة لا ترجع أبداً، واخرى شاكة فيه، واُخرى على يقين فبدأعليه‌السلام حيث رجع بالطبقة الشاكّة(٥) فقال لهم: أنا صالح فكذَّبوه

__________________

(١) الذاريات: ٤٢.

(*) كذا. وهو لقب عبد الكريم بن عمرو.

(٢) غيبتهعليه‌السلام كانت بعد هلاك قومه، ورجوعه كان إلى من آمن به ونجا من العذاب.

(٣) « مبدح البطن » لعل المراد به واسع البطن عظيمه، وأما خميص البطن أي ضامره والمراد به ما تحت البطن حيث يشد المنطقة فلا منافاة.

(٤) الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.

(٥) في بعض النسخ « بطبقة الشكاك ».

١٣٦

وشتموه وزجروه، وقالوا: برئ الله منك إنَّ صالحاً كان في غير صورتك، قال: فأتي الجحّاد فلم يسمعوا منه القول ونفروا منه أشدَّ النفور، ثمّ انطلق إلى الطبقة الثالثة، وهم أهل اليقين فقال لهم: أنا صالح، فقالوا: أخبرنا خبراً لا نشكُّ فيك معه أنّك صالح، فإنّا لا نمتري أنَّ الله تبارك وتعالى الخالق ينقل ويحوِّل في أي صورة شاء، وقد اخبرنا وتدارسنا فيما بيننا بعلامات القائم إذا جاء، وإنّما يصحُّ عندنا إذا أتى الخبر من السماء، فقال لهم صالح: أنا صالح الّذي أتيتكم بالناقة، فقالوا: صدقت وهي الّتي نتدارس فما علامتها؟ فقال: لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، قالوا آمنا بالله وبما جئتنا به، فعند ذلك قال الله تبارك وتعالى: «أنَّ صالحا مرسل من ربّه (فقال: أهل اليقين:)إنّا بما أرسل به مؤمنون *قال الّذين استكبروا (وهم الشكّاك والجحّاد:)إنّا بالّذي آمنتم به كافرون »(١) قلت: هل كان فيهم ذلك اليوم عالم به؟ قال: الله أعدل من أن يترك الأرض بلا عالم(٢) يدلُّ على الله عزَّ وجلَّ، ولقد مكث القوم بعد خروج صالح سبعة أيّام على فترة لا يعرفون إماماً، غير أنّهم على ما في أيديهم من دين الله عزَّ وجلَّ، كلمتهم واحدة، فلمّا ظهر صالحعليه‌السلام اجتمعوا عليه. وإنّما مثل القائمعليه‌السلام مثل صالح.

٤

( باب )

* (في غيبة ابراهيمعليه‌السلام ) *

وأمّا غيبة إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه فانّها تشبه غيبة قائمنا صلوات الله عليه بل هي أعجب منها لأنّ الله عزَّ وجلَّ غيب أثر إبراهيمعليه‌السلام وهو في بطن أمّه حتّى حوَّله عزَّ وجلَّ بقدرته من بطنها إلى ظهرها، ثمَّ أخفى أمر ولادته إلى وقت بلوغ الكتاب أجله.

__________________

(١) الاعراف ٧٦ و ٧٧. وفيها «اتعلمون أنَّ صالحاً - الآية ».

(٢) في بعض النسخ « بغير عالم ».

١٣٧

٧ - حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن - رضي الله عنهما - قالا: حدّثنا سعد بن - عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم(١) ، عن أبي - بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان أبو إبراهيمعليه‌السلام منجّماً لنمرود بن كنعان، وكان نمرود لا يصدر إلّا عن رأيه، فنظر في النجوم ليلة من اللّيالى فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجباً فقال له نمرود: وما هو؟ فقال: رأيت مولوداً يولد في أرضنا هذه فيكون هلاكنا على يديه، ولا يلبث إلّا قليلاً حتّى يُحمل به، فعجب من ذلك نمرود وقال له: هل حملت به النساء؟ فقال: لا، وكان فيما أوتي به من العلم أنَّه سيحرق بالنّار ولم يكن أوتى أنَّ الله تعالى سينجيه، قال: فحجب النساء عن الرِّجال، فلم يترك امرأة إلّا جعلت بالمدينة حتّى لا يخلص إليهنَّ الرجال(٢) قال: ووقع(٣) أبو إبراهيم على امرأته فحملت به وظنَّ أنَّه صاحبه، فأرسل إلى نساء من القوابل لا يكون في البطن شيء إلّا علمن به، فنظرن إلى أمِّ إبراهيم، فألزم الله تعالى ذكره ما في الرَّحم الظهر، فقلن: ما نرى شيئاً في بطنها، فلمّا وضعت أُمُّ إبراهيم (به) أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود، فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله، دعني أذهب به إلى بعض الغيران(٤) أجعله فيه حتّى يأتي عليه أجله ولا يكون أنت تقتل ابنك، فقال لها: فاذهبي به، فذهبت به إلي غار، ثمّ أرضعته، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة، ثمّ انصرفت عنه، فجعل الله عزَّ وجلَّ رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فيشرب لبناً(٥) وجعل يشب في اليوم كما يشبُّ غيره في الجمعة ويشبُّ في الجمعة كما يشب غيره في الشهر ويشب في الشهر كما يشبُّ غيره في السنة، فمكث ما شاء الله أن يمكث،

__________________

(١) كأن فيه سقطاً لمّا رواه الكليني في روضة الكافي باسناده عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي أيوب الخزاز عن أبى بصير.

(٢) أي لا يصل اليهن، وفى الصحاح: خلص إليه الشيء: وصل.

(٣) في بعض النسخ « وباشر » بدون « على ».

(٤) جمع الغار وهو الكهف في الجبل.

(٥) في روضة الكافي « فيشخب لبنها ».

١٣٨

ثمَّ إنَّ أُمّه قالت لابيه: لو أذنت لي حتّى أذهب إلى ذلك الصبيِّ فأراه فعلت، قال: فافعلي، فأتت الغار فإذا هي بإبراهيمعليه‌السلام وإذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان، فأخذته وضمّته إلى صدرها وأرضعته ثمّ انصرفت عنه، فسألها أبوه عن الصبيِّ، فقالت له: قد واريته في التّراب، فمكثت تعتلُّ وتخرج في الحاجة وتذهب إلى إبراهيمعليه‌السلام فتضمه إليها وترضعه ثمّ تنصرف، فلمّا تحرك أتته أُمّه كما كانت تأتيه وصنعت كما كانت تصنع، فلمّا أرادت الانصراف أخذ بثوبها فقالت له: مالك؟ فقال لها: اذهبي بي معك، فقالت له: حتّى أستأمر أباك(١) .

فلم(٢) يزل إبراهيمعليه‌السلام في الغيبة مخفيّاً لشخصه، كاتماً لأمره، حتّى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره وأظهر الله قدرته فيه. ثمّ غابعليه‌السلام الغيبة الثّانية، وذلك حين نفاه الطاغوت عن مصر فقال: «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربّي عسى ألّا أكون بدعاء ربي شقيا » قال الله عزَّ وجلَّ: «فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيّاً *ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّاً »(٣) يعني به عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لأنّ إبراهيم قد كان دعا الله عزَّ وجلَّ أن يجعل له لسان صدق في الاخرين فجعل الله تبارك وتعالى له ولاسحاق ويعقوب لسان صدق عليّاً فأخبر علىّعليه‌السلام بأنَّ القائم هو الحادي عشر(٤) من ولده وأنّه المهدي الّذي يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما مئلت جوراً وظلماً، وإنّه تكون له غيبة وحيرة يضلُّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، وأنَّ هذا كائن كما أنَّه مخلوق. وأخبرعليه‌السلام في حديث كميل ابن زياد النخعيّ « أنَّ الأرض لا تخلوا من قائم بحجّة إمّا ظاهر مشهور أو خاف مغمور لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته » وقد أخرجت هذين الخبرين في هذا الكتاب بإسنادهما في باب ما أخبر به أمير المؤمنينعليه‌السلام من وقوع الغيبة وكرّرت ذكرهما للاحتياج إليه على أثر ما ذكرت من قصّة إبراهيمعليه‌السلام .

ولابراهيمعليه‌السلام غيبة اخرى سار فيها في البلاد وحده للاعتبار.

__________________

(١) تتمة الحديث في الكافي ج ٨ تحت رقم ٥٥٨ فليراجع.

(٢) من هنا كلام المؤلف لابقية الحديث.

(٣) مريم: ٤٩ - ٥١.

(٤) كذا ولعله وهم من الراوي والصوبا العاشر.

١٣٩

٨ - حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن - رضى الله عنهما - قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر الحميريُّ جميعاً، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن ابن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي حمزة الثماليِّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: خرج إبراهيمعليه‌السلام ذات يوم يسير في البلاد ليعتبر، فمرَّ بفلاة من الأرض فإذا هو برجل قائم يصلّى قد قطع إلى السّماء صوته(١) ولباسه شعر، فوقف عليه إبراهيمعليه‌السلام فعجب منه وجلس ينتظر فراغه فلمّا طال ذلك عليه حركه بيده وقال له: إنَّ لي حاجة فخفّف قال: فخفّف الرَّجل وجلس إبراهيم، فقال له إبراهيمعليه‌السلام لمن تصلّي؟ فقال: لاله إبراهيم فقال: من إله إبراهيم؟ قال: الّذي خلقك وخلقني، فقال له إبراهيم: لقد أعجبني نحوك(٢) وأنا احب أن أو أخيك في الله عزَّ وجلَّ، فأين منزلك إذا أردت زيارتك ولقاءك؟ فقال له الرَّجل: منزلي خلف هذه النطقة(٣) - وأشار بيده إلى البحر - وأما مصلّاي فهذا الموضع تصيبني فيه إذا أردتني إن شاء الله، ثمّ قال الرَّجل لابراهيم: لك حاجة؟ فقال إبراهيم: نعم، فقال الرَّجل: وما هي؟ قال له: تدعو الله وأؤمن أنا على دعاءك أو أدعو أنا وتؤمنّ أنت على دعائي؟ فقال له الرَّجل: وفيم ندعوالله؟ فقال له إبراهيم: للمذنبين المؤمنين، فقال الرَّجل: لا، فقال إبراهيم: ولم؟ فقال: لأنّى دعوت الله منذ ثلاث سنين بدعوة لم أر إجابتها إلى الساعة وأنا أستحيي من الله عزَّ وجلَّ أن أدعوه بدعوة حتّى أعلم أنَّه قد أجابني، فقال إبراهيم: وفيما دعوته؟ فقال له الرَّجل: إنّى لفي مصلّاي هذا ذات يوم إذ مرَّبي غلام أروع(٤) النور يطلع من جبهته، له ذؤابة من خلفه، ومعه بقر يسوقها كأنّما دهنت دهنا، وغنم يسوقها كأنّما دخست دخساً(٥) قال: فأعجبني ما رأيت منه فقلت: يا غلام لمن هذه البقر، والغنم؟ فقال: لي(٦) فقلت:

__________________

(١) كذا وفي الكافي « طوله ». والقطع كما في الوافي: العمود، ولعله تصحيف « رفع ».

(٢) أي طريقتك في العبادة، والنحو: الطريق.

(٣) النطفة: الماء الصافي قل أو كثر.

(٤) الاروع - كجعفر - من الرجال: الّذي يعجبك حسنه.

(٥) الدخس - بالمعجمعة بين المهملتين -: الورم والسمن.

(٦) في الكافي ج ٨ ص ٣٩٢ تحت رقم ٥٩١ « فقال لابراهيم ».

١٤٠