• البداية
  • السابق
  • 57 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12030 / تحميل: 4985
الحجم الحجم الحجم
دفع أباطيل الكاتب

دفع أباطيل الكاتب

مؤلف:
العربية

دفع أباطيل الكاتب

السيد مرتضى المهري

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى

قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيّين الصادع بالحقِّ والرسول الاَمين وعلى آله الطاهرين والاَئمّة المنتجبين.

وبعد، فالذي دعاني لتسجيل هذه الاَسطر هو الدفاع عن الحقّ ورد محاولة مقيتة ممن يدّعي التشيّع لانكار أبسط الاصول وأوضحها لدى الشيعة الاِمامية وهو ما كتبه أحمد الكاتب تحت عنوان « تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه » ومع انّ الكتاب مضى عليه زمان طويل وطبع أكثر من مرّة إلاّ انّه لم يدفعني لردّه إلاّ ما رأيت أخيراً ممن لا أظنّ به أن يستأجر أو يشترى حيث قام بالدفاع عنه بحجّة الدفاع عن حرية الرأي والتفكير، فأعلن سخطه على من منع الكاتب من الدخول في المجامع الاسلامية فآسفني ذلك ورأيت لزاماً عليّ ان ادافع عن الحق وبعد مراجعة المصادر التي استند الكاتب اليها في جمع ملاحظاته التي بنى على اساسها كل مزاعمه الباطلة رأيت انه يكذب في النقل فتراه مثلاً ينقل حديثاً عن كتاب الشافي ويستند اليه كانه رأي لصاحبه الشريف المرتضى وبعد المراجعة تجد ان الشريف نقل الحديث عن خصمه المعتزلي وردّ عليه اشد الرد وانكره اشد الانكار. او تراه ينقل جزءاً من حديث يدل على ما زعمه ولفقه وبعد المراجعة تجد ان في صدر الحديث وذيله تصريحاً بخلاف ذلك وان هذه القطعة انما ذكرت في فرض خاص وغير ذلك من الموارد - التي سنأتي عليها جميعاً ان شاء الله - مما لا يبقي للباحث شكاً في ان الرجل يراوغ في دعوى التشيع وليس من اصحاب الرأي الحر والتفكير القويم. بل يظهر من ذلك انه لم يكن الامر ملتبساً عليه ولم يكن طالباً للحق فاخطأه ولم تجره ملاحظة البحث عن جذور ولاية الفقيه الى انكار ولاية الائمةعليهم‌السلام كما يدعي فضلاً عن ان يكون ممن وفقه الله للكشف عن الحقيقة كما يدعي ايضاً. بل يتتبع جملة عابرة يستشم منها رائحة الباطل فيحذف سابقتها ولاحقتها مما يكون قرينة على الخلاف ويسجلها كنص يدل على المقصود وقد اتعب نفسه في ذلك، فلو كان بذلك يحاول تأييد مذهبه ومذهب آبائه لهان الاَمر وان كان العمل فجوراً كيفما اتفق إلاّ انّه لا يدلّ على مساومة وبيع ضمير ولكنه بهذا التعب والتركاض والمراوغة والاحتيال يريد ضرب مذهبه الذي يعلن عنه وهو مذهب آبائه، ( انّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ).

ومنهجنا في البحث هو ملاحقة الكاتب وتزييف أقواله وكشف مكائده واحباط مؤامراته فننقل عبارته أولاً ثمّ نعقب عليه بما يكشف عن وجه الحقّ فنقذفه على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولله الحمد وحده أولاً وآخراً والسلام على من اتبع الهدى.

٣

النيابة العامّة

يقول الكاتب في ص ١٠:

« وفي رأيي أنّ الاَزمة بين المرجعية والديموقراطية ستستمرّ ما لم تتمّ معالجة جذر المشكلة، وهي نظرية النيابة العامّة عن الاِمام المهديّ التي تعطي للفقهاء تلك الهالة المقدّسة والمطلقة، حيث لا يمكن التخلّص من هذه النظرية إلاّ بدراسة قضيّة ولادة الاِمام الثاني عشر، ( المهدي المنتظر )، في القرن الثالث الهجري، واستمرار حياته إلى اليوم بشكل طبيعيّ إضافة إلى إعادة النظر في الفكر الاِماميّ، ومدى ارتباطه بأهل البيتعليهم‌السلام ».

يوهم الكاتب انّه يرى نظرية ولاية الفقيه تستند إلى نيابة الامام المهديعليه‌السلام وبالتالي فسوف تنهار إذا انهارت فكرة وجود الامام المهديعليه‌السلام ، وهذا خطأ، بل هو عمد يحاول به اعطاء صبغة سياسية لهذا الهجوم الفكري على أساس التشيّع، فكأنّه يقصد بذلك اصلاحاً سياسياً وكانّه يقدم به العون لنداءات دعاة الاصلاح الاجتماعي الحديث على الساحة الايرانية.

والواقع انّ التعبير بالنيابة العامة ليس تعبيراً فقهياً ولا مذكوراً في الاستدلالات الأساسية لنظرية ولاية الفقيه بتاتاً، بل يأبى بعض العلماء التعبير به حتى في الشعارات بالرغم من انهم يقولون بولاية الفقيه، وأخص بالذكر منهم سيدنا الاستاذ المرجع الكبير السيد السيستاني حفظه الله.

وولاية الفقيه لا تستند إلى النيابة عن الامام المهديعليه‌السلام ولا يدعي حماتها وجود أي دليل معتبر عندهم على نصب الفقهاء كأولياء للناس من قبل الاِمام المهديعليه‌السلام وانّما يذكرون التوقيع المنسوب إليه كمؤيد يدعم به سائر الأدلّة، وفيه الجملة المعروفة: « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم... »(١) .

بل الأساس في هذه النظرية الروايات الواردة عن الأئمّة السابقينعليهم‌السلام وليس في شيء

____________________

(١) راجع كتاب البيع للإمام الخمينيرحمه‌الله ٢: ٤٧٣، وقد عبّر عنه بالتوقيع المبارك المنسوب إلى إمام العصر عجل الله فرجه.

٤

منها التعبير بالنيابة وانّما كانوا يرجعون شيعتهم في فصل الخصومات والتصرف في أموال القاصرين والغائبين ونحو ذلك ممّا يتطلب ولاية شرعية إلى الفقهاء، ولم تكن هذه الولاية خاصة بعصر الغيبة أي عصرنا هذا بل كانت لهم الولاية حسب هذه الروايات في عصر الأئمّةعليهم‌السلام ، وكان لا بدّ لهم من تعيين مرجع يركن إليه الشيعة في حاجاته هذه بعد أن كانوا يمنعونهم من الركون إلى الظلمة كما منعه الله تعالى في كتابه الكريم ( ولا تركنوا إلى الَّذين ظلموا فتمسّكم النار... ) خصوصاً بملاحظة أن القضاة والولاة ما كانوا يحكمون حسب فقه اهل البيتعليهم‌السلام الذي كان يرفض بشدة الاحكام التي تداولتها السلطة وتبعهم عامة الناس وسموها احكاماً شرعية اسلامية.

وعلى اساس تلك الروايات كان الفقهاء مراجع الشيعة في كل ما يتوقف على ولاية شرعية في عصر الائمةعليهم‌السلام وبعدهم. والذي حدث اخيراً انما هو تعميم الولاية ثم القول باطلاقها وتشييد بناء الحكومة على أساسها وهذا امر آخر. وهو ايضاً لا يتوقف على دعوى النيابة عن الامام بل يستند كما ذكرنا الى نفس الروايات المذكورة بتوسع في فهم مداليلها.

وليس كلامنا هنا حول تقييم نظرية ولاية الفقيه وتأييدها او عدمه وانما الكلام في تفنيد هذه المزعمة، ان ملاحقة هذه النظرية أدّى بالكاتب الى انكار وجود الامام المهديعليه‌السلام كما زعمه في مقدمة الطبعة اللندنية فهذه مسيرة لا تنتهى الى ذلك الافق وما أظنّه قد انتهى به السير الى ذلك، بل هذه مزعمة اختلقها بعد محاولته لضرب اساس مذهب اهل البيتعليهم‌السلام أراد بها - كما ذكرت - ان يصبغ حديثه صبغة سياسية وقبل ذلك اراد ان يلبسه ثوباً زاهيا مصطنعاً فكأنه ما كان متعمداً وقاصداً في انكاره هذا لئلا تحوم حوله الشكوك او الظنون كما تحوم حول كل الاقلام المستأجرة وانما هو نتيجة فرضتها طبيعة البحث والتعمق بدءاً من ولاية الفقيه ومروراً بفكرة الامام المهديعليه‌السلام وانتهاءً بالامامة ككلّ وتبديلها بالشورى وهو غير صادق في ذلك فمن الواضح ان المسير الطبيعي لمن يحاول تفنيد نظرية ولاية الفقيه ان يفند ادلتها التي استند اليها دعاتها دون ان يختلق له صبغة النيابة العامة التي تنادي بها عامة الناس ويحاول على اساسه نفي المنوب عنه لتنتفي النيابة. والذي يبدو أنه كان يلاحق من البدو نظرية الامامة واستنادها الى النص وهذا انكار لاصل التشيع ومذهب اهل البيتعليهم‌السلام ومن الغريب انه مع ذلك يعبر عنهم ب ( الامام المعصوم ). وما هذه إلا مراوغة كفى الله شرها.

وسترى من خلال البحوث الآتية انه غير صادق في كل تتبعاته التى آلت به الى انكار اصل الامامة، وان الشيعة كانوا يعتقدون بان القيادة الاسلامية تتعين بالشورى. ونحن لا نريد ان ننكر ضرورة الاستناد الى رأي الامة في العصر الحاضر لتعيين القيادة وان كان سيدنا الامام الخميني رضوان الله عليه لم يقل به

٥

فقهياً وانما رضي به في تدوين قانون الجمهورية الاسلامية ولكن لا يبعد إحتمال صحة ما ذهب اليه بعض الفقهاء ومنهم سيدنا الاستاذ السيستاني حفظه الله الى ان نفوذ حكم الفقيه بالمتصدي الجامع للشرائط اذا كان مقبولاً لدى عامة المؤمنين.

ومهما كان فولاية الفقيه سواء سلمنا اعتبار أدلتها سنداً ودلالة ام رفضناه وسواء كانت مقيدة بقبول الاُمّة أم مطلقة وسواء كانت خاصة بمجال أم عامّة تشمل القيادة السياسية فانها مبحث فقهي تتحكم فيه الاصول الفقهية وقواعد الاستدلال في الفقه وليست من اصول العقائد ولا ترتبط بامامة الائمةعليهم‌السلام الثابتة بالنص كما سيتبين ان شاء الله.

نظام الشورى

يقول الكاتب في ص ١٩ تحت عنوان الشورى نظرية أهل البيت:

« كانت الامة الاسلامية في عهد الرسول الاعظم وبعد وفاته وخلال العقود الاولى من تاريخنا تؤمن بنظام الشورى وحق الاُمة في اختيار ولاتها، وكان اهل البيت في طليعة المدافعين عن هذا الايمان والعاملين به، وعندما اُصيبت بتسلط الحكام الأمويين بالقوة، وتداولهم للسلطة بالوراثة وإلغائهم لنظام الشورى، تأثر بعض الشيعة الموالين لأهل البيت بما حدث، فقالوا رداً على ذلك بأحقية أهل البيت بالخلافة من الأمويين، وضرورة تداولها في أعقابهم، ولكن هذه النظرية لم تكن نظرية أهل البيت أنفسهم ولا نظرية الشيعة في القرن الأوّل الهجري ».

الشورى في عهد الرسالة

الشورى والمشاورة وردت في الكتاب العزيز في موردين:

١- قوله تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من قولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين )(١) .

كثيراً ما نجد الاستدلال بهذه الآية على مشروعية نظام الشورى في تعيين القيادة الاسلامية هنا

____________________

(١) آل عمران: ١٥٩.

٦

وهناك في المقالات والكتب والصحف ولكنه خطأ واضح:

أولاً: لأنّ هذه الآية لا تأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعمل برأي الناس وانما تأمره بالمشاورة معهم في الامور تلطّفا بهم كما يوحي به المقدمة المذكورة في الآية قبل الامر بها وهو لين الرسول ودماثة اخلاقه وعطفه على المؤمنين حيث فرّع على ذلك بحرف الفاء أي على اساس هذه الرحمة اعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر.

ويدل على ذلك بوضوح قوله تعالى فاذا عزمت فتوكل على الله. حيث يدل ذلك على ان المشاورة معهم لا تمنعه من العمل بما عزم عليه وان كان مخالفاً لرأيهم فلم يقل فاذا رأوا رأياً فاعمل به كما هو مقتضى وجوب العمل حسب المشورة.

والخلاصة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور حسب هذه الآية بالملاطفة بالناس وان يشاورهم في الشؤون الاجتماعية لئلا يشعروا بالاذلال والاستبداد.

وثانياً: ان مجال هذه المشاورة ليس هو تعيين القيادة فالناس لم يكونوا مختارين في الشريعة ان يقبلوا قيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو يرفضوها بل كان الواجب عليهم اطاعته في جميع الامور فقيادته قيادة الهية مفروضة على الناس وانما كان مجال هذه المشاورة الشؤون الاجتماعية الدخيلة في ادارة النظام.

والايمان بنظام الشورى وحق الامة في اختيار ولاتها امر آخر غير عمل الولي برأي من استشاره منهم في هذا المجال، والاية لو اثبتت مشروعية الشورى فانما تثبتها في المجال الثاني دون المجال الاول اي تعيين ولي الامر حسب آراء الناس.

٢ - قوله تعالى: ( والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون )(١) - هذه الآية الكريمة وردت في عداد اوصاف حسنة ذكرها للمؤمنين حيث قال تعالى.... ( وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا.. ) الى آخره. فتعتبر الآية من الصفات التي يتميز بها المؤمنون التشاور فيما بينهم ومجال ذلك أيضاً هو المجال الثاني مما مر ذكره دون تعيين القيادة.

وقد ورد الامر بالاستشارة مع الآخرين في الشؤون الشخصية والاجتماعية في روايات كثيرة، منها ما اشتهر عن اميرالمؤمنينعليه‌السلام : « من استبدّ برأيه ضلّ ومن استعان بذوي الالباب سلك سبيل الرشاد ». وكثير مما ورد في هذا المعنى ولا يرتبط ذلك بتاتاً بموضوع تعيين ولي الامر. إذ لا شك

____________________

(١) الشورى: ٣٨.

٧

ان موضوعاً هاماً حيوياً كهذا لا يمكن ان يكتفى في بيانه وتشريعه واقامة المجتمع عليه بجملة مختصرة كهذه بل المفروض ان يكون التركيز عليه اكثر واكثر وضوحاً علماً بانه اسلوب جديد في كيفية تعيين الجهة الحاكمة والقيادة السياسية لم تعهده الجزيرة العربية ولا غيرها انذاك هذا ولابد من بيان كيفية تعيين القائد بالمشاورة ايضاً والتصريح بان تعيينه لابد ان يستند الى رأي الاكثرية مثلا فالقرآن الذي يهتم بمسائل المجتمع العادية كدخول الاطفال الى غرف نوم الآباء والاكل من بيوت الاقرباء كيف لا يهتم بمسألة اجتماعية وخطيرة حيوية كهذه فيكتفي باشارة عابرة ضمن تسجيل خصائص المؤمنين. هذا مع انهم في عهد الرسالة كما اشرنا اليه لم يكونوا يعتمدون في تعيين القائد على مشاورة وانتخاب ورجوع الى آراء الامة بل كانوا يرون وجوب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فرضاً من الله تعالى لابد لهم من الالتزام به كما فرضه الله عليهم شاؤوا أم أبوا.

وقد قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما )(١) ، بل هذه سنته تعالى في جميع الرسل كما قال: ( وما ارسلنا من رسول إلاَّ ليطاع باذن الله...)(٢) .

ولو كانت الشورى هي اساس تعيين القائد في عهد الرسالة المجيدة فلماذا لم نجد لها اثراً ولا خبراً ولم نسمع بيوم اقيمت فيه الانتخابات العامة ولا منازعاً لقيادة الرسول الاعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله يحاول كسب آراء الاكثرية ؟! فهذا دليل واضح مع انه لا يحتاج الى دليل لوضوح نفس الموضوع وهو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تجب اطاعته كما تجب اطاعة الله تعالى وقد امتلأ الكتاب العزيز بالامر باطاعته ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول ) فهل يتوقف وجوب اطاعة الله ايضاً على رأي الناس ؟! وهل يدعي ذلك من اوتي نصيباً من العقل والادراك ؟! فان لم يكن كذلك فكذلك اطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لانها امر من الله تعالى فهي واجبة على كل من يؤمن بالله شاء أم أبى.

ولعلّ الذي اوقع بعض المتفلسفين في هذا الوهم وهذه الدعوى الفارغة قضية البيعة وقد شوهد بعض الكتّاب المسلمين يحاولون تفسير البيعة بجمع الآراء واشتراك الناس في تعيين مصيرهم وانتخاب قائدهم. ولكن البيعة لا تعني ذلك. وانما هي ميثاق يأخذه الرسول أو الامام أو أي قائد شعبي من الناس كي لا يتركوه في حروبه ومجاهداته ويطيعوه في الشؤون الاجتماعية فهو امر لابد منه في جمع القوى المعارضة لنظام متسلط لا ان مشروعية قيام الرسول او الامام تستمد منه، لقد اشتبه الامر على هؤلاء. فالبيعة لابد منها في مجال العمل وبدونها لا يمكن اقامة حرب او معارضة وكلامنا هنا في مشروعية القيادة وانها هل تستمد من البيعة ام من امر الله تعالى ؟ فلو كانت البيعة والشورى هي الاساس في تعيين القائد لما

____________________

(١) النساء: ٦٥.

(٢) النساء: ٦٤.

٨

وجبت البيعة على الناس لا عقلاً ولا شرعاً فلهم ان ينتخبوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كقائد لهم ولهم ان ينتخبوا أبا جهل مثلاً وهذا مخالف لصريح الآيات الكريمة ولضرورة الدين. واما اذا قلنا بان قيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله امر من الله تعالى فالبيعة واجبة على كل مؤمن بالله.

وانما سميت بيعة لان الناس يبيعون بذلك انفسهم واموالهم فلا يرغبون بانفسهم عن نفسه ويطيعونه في كل صغيرة وكبيرة وهذا هو الميثاق الذي اخذه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من اهل المدينة حين هاجر اليهم وعلى ذلك استمر الناس بالبيعة. وقد قال تعالى: ( ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بانفسهم عن نفسه )(١) ، وقال تعالى في مبايعة النساء: ( يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إنّ الله غفور رحيم )(٢) .

فالبيعة ميثاق ياخذه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس ولا بد لهم منه شرعاً لا يجوز لهم التخلف عنه وليس معنى ذلك انهم رضوا بقيادة الرسول وادلوا باصواتهم له ولولا رضاهم لم يكن للرسول ولاية فهذا امر لا يدعيه مسلم.

وقد قال تعالى: ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم )(٣) . وهذه الآية تدل على انه ليس لاحد يؤمن بالله تعالى ان يخالف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولو في امر شخصي يعود الى نفسه ولا يرتبط بالشؤون الاجتماعية فلو امر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله احداً ان يطلق زوجته او يزوج ابنته لاحد او يهب امواله لاحد او اي امر آخر يرتبط بنفسه دون ان يترتب عليه اي اثر اجتماعي فان الواجب عليه ان يطيعه حسب هذه الآية وآيات اخرى ايضاً كقوله تعالى: ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً )(٤) ، وقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم ). ولولا أنّ بعض الاَفكار الملحدة نسبياً تحاول التشكيك في ضروريات الاسلام لم يكن وجه للاستدلال على هذا الامر الواضح. ومن هنا فاني اجد ان الكاتب في اول صفحة من كتابه لم يكتف بالمحاولة على نفي ولاية الائمةعليهم‌السلام فحسب بل انه رفض احد اصول الدين الاسلامي الحنيف وهو اطلاق ولاية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) التوبة: ١٢٠.

(٢) الممتحنة: ١٢.

(٣) الاحزاب: ٦.

(٤) الاحزاب: ٣٦.

٩

الذي لا يرتاب فيه مسلم ولكنه يراوغ فيحاول دسّ هذا السمّ الناقع في ضمن مسألة اخرى ربما يحلو لكثير من المسلمين قبولها وبذلك يكون قد نجح في اضعاف ايمانهم باصل الرسالة وعمودها وهو الطاعة المطلقة للرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نظام الشورى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

واما الامة الاسلامية بعد عهد الرسالة فهل آمنت بنظام الشورى واتخذته وسيلة لتعيين القائد كما يدعيه الكاتب وغيره ؟. لابد من ملاحظة عمل الامة بعد رسولها لننظر هل آمنت بذلك عمليا كما هو المدّعى ؟. وقبل ذلك لابد من تفسير الشورى.

المراد بالشورى التي تعتبر نظاماً لتعيين قيادة الامة والتي هي اساس الديموقراطية الحاضرة هو الاخذ برأي الاكثرية من جميع افراد الامة ولنفرض اختصاص الحكم بالرجال حسب الطقوس الاجتماعية الحاكمة في تلك العهود والحضارات. فهل تحقق امر كهذا في تعيين احد الخلفاء بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

ربما يدعى ذلك بالنسبة لخلافة ابي بكر ولكن التاريخ يقول لنا ان بيعته لم تكن باخذ الآراء وجمعها والروايات على اختلافها وتكاذبها تكاد تتفق على ان الانصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليؤمروا عليهم سعد بن عبادة بزعم انهم اهل يثرب الاصليين فلهم الامارة وعلم بذلك ابوبكر وعمر وابو عبيدة فحضروا هناك ونافسوهم الامر وساعدهم الحظ وضغائن الاوس والخزرج العريقة واختلافهم على سعد الخزرجي فمد ابوبكر يده ليبايع احد الرجلين عمر وأبا عبيدة فأبى عليه عمر وبايعه ثم بايعه بعض الانصار ثم من حضر أو اُحضر من المهاجرين ولا يعد هذا أخذاً للآراء والشورى وقد بيّنا ان البيعة لا تعني اخذ الرأي وانما هو امر لا بد منه عملياً لمن يريد مزاولة القيادة او امارة الجيش أو انشاء حركة معارضة. وقد قال عمر كلمته المشهورة ان بيعة ابابكر فلتة وقى الله شرّها(١) بل قالها أبوبكر نفسه قبل ذلك(٢) - وحذّر من تكراره على ما في بعض التواريخ.

ولو فرض صحة تسمية هذه البيعة بالشورى فهي مختصة بذلك الجمع من المهاجرين والانصار مع ان اكثرهم أيضاً اخذ على غرّة وكان لابد لكلِّ فرد ان يدخل فيما دخلت فيه الجماعة والا فكان يعد

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٣، النهاية لابن الأثير ٣: ٤٦٦، تاريخ الطبري ٣: ٢٠٥، الصواعق المحرقة: ٣٦، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٦٨.

(٢) السقيفة وفدك للجوهري: ٧٠، سيرة ابن هشام ٤: ٣٣٥، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٤٧، الامامة والسياسة ١: ١٦، الرياض النضرة ١: ١٦٧.

١٠

عاصياً للجماعة وخارجاً على الامام ولا شك ان الاكثرية منهم بايعوا على هذا الوجه. ولو صح ذلك فيهم فلا تصح في كل من حضر المدينة بل كان كل فرد أو جماعة يواجه امراً حاضراً وبيعة مشهودة لا يقوى على مخالفتها ولم تكن في قبالها بيعة اخرى او منازع شاهر نفسه يدعو الى البيعة لتصدق المنافسة. ولو صح ذلك فيمن حضر المدينة فلا يصح في سائر المسلمين المتواجدين في اطراف البلاد الاسلامية من جزيرة العرب الى البحرين. واختصاص الرأي بالمهاجرين والانصار واهل الحل والعقد ليس من الشورى في شيء.

ولو فرض - جدلاً - صدق الشورى على بيعة ابى بكر فلا وجه لتسمية بيعة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب شورى اذ لم تكن خلافته الا بنصب من ابي بكر وبايعه الناس طوعا وكرها واما الشورى التي صنعها عمر فلا تستحق ان تسمى شورى بالمعنى الذي يرومه أصحاب الديموقراطية ولا تشبهها بوجه فانه عين بنفسه ستة اشخاص لم ينتخبهم احد من الناس وهم علي وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وأمر أن يتشاوروا فيما بينهم ويعينوا احدهم قائداً للمسلمين وأمر محمد بن مسلمة ان يكون بجيشه على الباب فان مضت ثلاثة ايام ولم يصلوا الى رأي يقتلهم بأسرهم وحيث كانوا ستة وكان يخشى ان ينقسموا نصفين فلا تكون اكثرية في جانب أعلن أن الكفة التي تحتوي على عبدالرحمن بن عوف هي الراجحة. وكان من الواضح لدى الساسة ذلك اليوم ان الشورى لا تتمخض الا عن خلافة عثمان او عبدالرحمن بن عوف ولذلك كانوا يشيرون على عليعليه‌السلام بترك الدخول فيه. ولسنا الآن بصدد تقييم هذه الشورى والسياسة التي دبرها عمر لئلا يحظى عليعليه‌السلام بالخلافة فهذا له موضع بحث آخر ولكن المقصود التنويه على ان هذه الشورى لا تشبه بوجه من الوجوه حرية الرأي المعبر عنها بالديموقراطية.

فليت شعري متى كانت الامة الاسلامية بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تؤمن بنظام الشورى وتتخذه وسيلة لتعيين قائدها ؟ وفي أي خلافة كانت هي المستند ؟ ومتى برزت فظهرت على ساحة التاريخ الاسلامي ؟

الشورى عند اهل البيتعليهم‌السلام

واما اهل البيت ودفاعهم عن الشورى فلم نسمع به من باحث في التاريخ وسنأتي على كل ما جاء به الكاتب من شواهد على ذلك مما اُثِرَ عنهمعليهم‌السلام .

وقبل ذلك ينبغي ان نذكر أن اهل البيت لو كانوا مدافعين عن الشورى فما بال علي اميرالمؤمنين

١١

وهو سيد اهل البيتعليه‌السلام لم يبايع أبا بكر وهو المدعى تأسيس خلافته على اساس نظام الشورى فمن الثابت تاريخياً انّه لم يبايعه ما دامت فاطمةعليها‌السلام في الحياة وقيل اكثر من ذلك.

وقبل ذلك لِمَ لم تبايع ولم تقبل بخلافته فاطمة سيدة نساء العالمين بنص الرسول الكريم بل رفضته وهجرته ولم تكلمه ولم ترد عليه سلامه وسلام صاحبه ولم يسع احداً من كتّاب التاريخ ان ينكر ذلك وقد صرح به البخاري ومسلم واحمد وغيرهم من أصحاب السنن والمؤرخين وارتبك المأولون كيف يجمعون بين هذه القضية التاريخية الواضحة وتصاريح الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث صرح اكثر من مرة أن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها. وان فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما اغضبها ولعمري ان اصرار الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا الاعلان الخطير وتكراره على الملأمن أصحابه لمما يثير العجب ويستوقف الباحث. هل كانت فاطمة تزاحم الرجال في شؤونهم الاجتماعية ؟ ولم يكن ذلك شأن المرأة في ذلك العهد وخصوصاً سيدة النساء التي كانت قعيدة البيت شديدة الستر حتى انّها لما خرجت الى المسجد تناجز أبا بكر خرجت في ثلة من نساء قومها لئلاّ يراها الناس من وراء الحجاب. فلماذا هذا التأكيد من الرسول الكريم ؟ وما الذى كان يخافه الرسول من بعده ؟

وقد بلغ تكرار ذلك من الكثرة بحيث لم يستطع هواة التحريف والانكار حذفه من قائمة الاحاديث النبوية بالرغم من ان السلطات الغاشمة ما كان يروقها انتشار مثل هذه الاحاديث.

فلو كان اهل البيت يدافعون عن نظام الشورى وان خلافة ابي بكر قامت على اساسه لكانت الزهراء سلام الله عليها اول من يؤمن بخلافته وما كان ينبغي لها ان لا تبايعه ولا ترد عليه سلامه وتهجره حتى وفاتها مع ان اباها الرسول الكريم اكّد على ما فى الحديث ان « من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية ».

هذا وقد صرحت الزهراء سلام الله عليها في خطبتها حين عادتها نساء المدينة بان زمام الخلافة مما القاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الى اميرالمؤمنينعليه‌السلام حيث قالت: « ويحهم انّى زحزحوها ( اي الخلافة ) عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الامين الطبن بامور الدنيا والدين الا ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموا من ابي الحسن نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمّره في ذات الله وتالله لو تكافأوا على زمام نبذه اليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاعتقله وسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه... » الى آخر الخطبة الشريفة وهي مشهورة في كتب الشيعة كان الطالبيون يستوصون بحفظها وتداولها وكذلك خطبتها في المسجد حين احتجت على أبي بكر. وقد روى

١٢

بعض اعلام السنة ايضاً هذه الخطبة ( التي استشهدنا بها ) ففي هامش المراجعات ان أبابكر الجوهري رواه في كتاب السقيفة وفدك ورواها احمد بن ابي طاهر في بلاغات النساء: ٣٣. وفي تعليقة حسين الراضى على المراجعات استخراجها من بلاغات النساء لابن ابي طيفور: ١٩ وشرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ط بيروت ج١٦ ص٢٣٣.

والشاهد في قولها: لو تكافأوا على زمام نبذه اليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذه احدى النصوص التي تحكي عن ان امامة اميرالمؤمنينعليه‌السلام وقيادته كان بنص من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وان من تقمصه كان غاصباً لحقهعليه‌السلام بل لحق الامة جمعاء.

النص على خلافة اميرالمؤمنينعليه‌السلام

قال الكاتب في ص١٩ اليضاً:

« وبالرغم ممّا يذكر الإماميون من نصوص حول تعيين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي بن أبي طالب كخليفة من بعده، إلاّ أنّ تراثهم يحفل بنصوص اُخرى تؤكد التزام الرسول الأعظم وأهل البيت بمبدأ الشورى وحق الاُمّة في انتخاب أئمّتها »..

اما النص على اميرالمؤمنينعليه‌السلام فقد حفلت بذلك كتب الشيعة بل وكتب العامة ايضاً وانما هم يؤلون النصوص لانها تخالف اجتهاد الصحابة ولعل هذا هو الذي دعا الامام السيد عبدالحسين شرف الدينرحمه‌الله ان يجمع الموارد الكثيرة التي خالف فيها الصحابة نص الرسول الاعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع وضوح صراحته ليرد بذلك هذه المزعمة ان كل نص يخالف اجتهاد الصحابة فلابدّ من تأويله.

ونستعرض هنا نصوصاً ورد في كتب العامة:

١ - حديث الدار. وهو حديث مشهور رواه كثير من الحفاظ واصحاب السنن ونحن نرويه بالنص الذي رواه الطبري في تاريخه بسنده عن عبدالله بن عباس عن علي بن ابي طالبعليه‌السلام :

« لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وأنْذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ )(١) دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي: يا علي، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقتُ بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد، ( انّك ان لا تفعل ما تؤمر به يُعذّبك ربّك )، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رَحْلَ شاة، واملاَ لنا عُسّاً من لبن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى اُكلّمهم وأبلغهم ما اُمرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حِذيةً من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها

____________________

(١) الشعراء: ٢١٤.

١٣

في نواحي الصحفة، ثمّ قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الله الّذي نفس عليّ بيده، ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم، ثمّ قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيمُ الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتكلّم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا كان الغد قال: يا علي، انّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم، فعُد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثمّ اجمعهم إليَّ.

قال: ففعلت ثمّ جمعتهم، ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثمّ قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العُس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا بني عبد المطّلب، انّي والله ما اعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت - وانّي لاحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه - قالها ثلاثاً -.

قال: فأخذ برقبتي ثمّ قال: انّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع »(١) .

وقد صرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الحديث بانه خليفته فيهم وما يقال من انه خليفته في عشيرته كلام غريب اذ ليس للرسول خليفتان خليفة في امته وخليفة في عشيرته وما هو موضعه من عشيرته ؟ هل كان رئيس العشيرة آنذاك فيستخلف احداً رئيساً بعده ؟! انما كان رسولا مبعوثاً الى عشيرته وغيرهم.

واما سند الحديث فصحيح معتبر كما اعترف به الشيخ سليم البشري على ما في المراجعات المراجعة ٢٣. بالنسبة الى ما ورد في مسند احمد وقد ورد هذا الحديث في كثير من المجامع الحديثية وجمعت مصادره في التعليق على المراجعات(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٣١٩ - ٣٢١.

(٢) راجع تعليق حسين الراضي على المراجعات التعليق ٤٥٩ و٤٦٠، وانظر كذلك: الكامل في التاريخ لابن الأثير

١٤

ولو لم يكن هذا الحديث دالاً على الخلافة لم تحاول الايدي الاثيمة حذف هاتين الكلمتين ( وصيي وخليفتي فيكم) من الحديث. فقد ورد هذا الحديث في تفسير الطبري في ذيل الآية ( وأنْذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ ) من سورة الشعراء وحذف منه هذه القطعة في الموردين وجعل بدله كذا وكذا: ففي المورد الاول ( على ان يكون اخي وكذا وكذا.... ) وفي المورد الثاني: « ان هذا اخي وكذا وكذا فاسمعوا له واطيعوا » مع انه ورد على ما ذكرناه في تاريخ الطبري وهو نفسه صاحب التفسير ! قطع الله يد الخيانة عن التراث الاسلامي.

ومثل ذلك وقع في البداية والنهاية لابن كثير على ما حكاه العلامة الاميني في الغدير ٢: ٢٨٨ وقد نسب الامينيرحمه‌الله التحريف الى الطبري وابن كثير، الأول في تفسيره والثاني في تاريخه وتفسيره ولكن لا يبعد ان يكون التحريف من صنع الطابعين والناسخين والمؤلف كان بامكانه ان لا يذكر الحديث من اصله فمن البعيد ان يكون تبعة التحريف عليه.

٢ - حديث المنزلة: « انت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ انّه لا نبي بعدي ». ولا تختص هذه الجملة بغزوة تبوك حيث استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علياعليه‌السلام فى المدينة حتى يتوهم ان هذه الجملة تعني هذا الاستخلاف فحسب ولا يشمل الخلافة على الامة بعده بل قالها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد متعددة كما في المراجعات « المراجعة ٣٢ » والحديث من المتواترات القطعيات التي لا يمكن لمسلم انكارها وقد رواه جميع ارباب المجامع والسنن بما فيها الصحيحان. راجع للاطلاع على مصادره الكثيرة وخصوصاً في غير غزوة تبوك التعليق ٤٧٥ الى ٤٨٤. على المراجعات...(١)

هذا مع ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستخلف على المدينة غير عليعليه‌السلام في كل

____________________

٢: ٢٢، السيرة النبوية للحلبي الشافعي ١: ٣١١ - ٣١٢، كنز العمّال للمتّقي الحنفي ٦: ٣٩٧، مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري الشافعي ٣: ١٣٣، الدر المنثور للسيوطي الشافعي ٥: ٩٧، مسند أحمد بن حنبل ١: ١١١، البداية والنهاية لابن كثير ٣: ٣٩، تاريخ أبو الفداء ١: ١١٩، شواهد التنزيل للحسكاني ١: ٤٨٥ ح٥١٤ و٥٨٠، ترجمة الاِمام علي ابن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ١: ٩٧ - ١٠٥ ح١٣٣ - ١٤٠، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ١٣: ٢١٠ و٢٤٤.

(١) رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبيّ، باب مناقب عليّ من صحيحه ٥: ٨٩ ح ٢٠٢، ومسلم من كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ ٤: ١٨٧٠ ح ٣٠ - ٣٢ بعدّة طرق، الترمذي في سننه ٥: ٦٤٠ و٦٤١ ح ٣٧٣٠ و٣٧٣١، ابن ماجه في سننه ١: ٤٢ ح ١١٥ وص ٤٥ ح ١٢١، أحمد بن حنبل في مسنده ١: ١٧٠ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٤ و١٨٥ وج ٣: ٣٢ بعدّة طرق، علاء الدين بن بلبان في الاِحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩: ٤٠ و ٤١ ح ٦٨٨٧ و ٦٨٨٨، الحميدي في مسنده ١: ٣٨ ح ٧١، ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث ٢: ٣٨٩ ح ٢٦٨٠.

١٥

غزوة ولم يقل لاحد منهم هذه الجملة. مع ان استثناء النبوة يدل على ان كل نسبة بين هارون وموسى تخص الولاية هي موجودة بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واميرالمؤمنينعليه‌السلام الا النبوة ولا شك ان من تلك المنازل ولاية هارونعليه‌السلام على الناس في غياب موسىعليه‌السلام ولا فرق في ذلك بين حياته وموته فان هذه ولاية مجعولة من الله تعالى حيث ان موسىعليه‌السلام طلب من ربه ان يشركه في امره ومن امره الولاية على الناس وقال تعالى ( قد اوتيت سؤلك يا موسى ).

وقد ورد في حديث صححه الذهبي على ما في المراجعات ( المراجعة ٢٦ ) بعد قوله « أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي » قوله: « انه لا ينبغي ان اذهب الا وانت خليفتي » وهذه الجملة عامة تشمل ما بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وللمزيد من التفصيل في البحث عن مفاد الحديث وقوة دلالته راجع الكتب الكثيرة الموضوعة في الامامة كالغدير والمراجعات وغيرهما فغرضنا هنا الاستعراض فحسب.

٣ - حديث الغدير: « من كنت مولاه فهذا علي مولاه »(١) . وهو بهذا اللفظ من اوضح مصاديق الحديث المتواتر القطعي. وقد كثر الحديث حول هذا الحديث والف في جمع اسانيده الكتب قديماً وحديثاً ولعل اوّل من الف فيه كما في موسوعة الغدير للعلامة الامينيرحمه‌الله هو ابو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٢١٠ هجرية صاحب التفسير والتاريخ المعروفين وهو من اكابر علماء العامة حيث الف كتاب « الولاية في طرق حديث الغدير ». قال الذهبي في طبقاته ٢: ٢٥٤: « لما بلغ محمد بن جرير ان ابن ابي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل وتكلم في تصحيح الحديث ».

ثم قال: قلت: رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق ».

____________________

(١) روى هذا الحديث أحمد بن حنبل من أربعين طريقاً، وابن جرير الطبري من نيف وسبعين طريقاً، والجزري المقرىء من ثمانين طريقاً، وأبو سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقاً، والحافظ أبو بكر الجعابي من مائة وخمس وعشرين طريقاً، والحافظ أبو العلاء العطّار الهمداني بمائتين وخمسين طريقاً.

ورواه الترمذي في سننه ٥: ٦٣٣ ح ٣٧١٣ وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ابن ماجه في سننه ١: ٤٥ ح ١٢١، الحاكم في المستدرك ٣: ١٠٩ و ١٣٤ و ٣٧١ و ٥٣٣ بعدّة طرق، البغوي في مصابيح السُنّة ٤: ١٧٢ ح ٤٧٦٧، أحمد بن حنبل في مسنده ١: ٨٤ و ١١٩ و١٥٢ و٣٣١، وج٤: ٣٦٨ و ٣٧٠ و ٣٧٢ و ٣٨١، وج٥: ٣٤٧ و ٣٥٨ و٣٦١ و ٣٦٦ و ٤١٩، الدولابي في الذريّة الطاهرة: ١٦٨ ح ٢٢٨، الشجري في أماليه ١: ١٤٥ و ١٤٦ بعدّة طرق، القاضي عياض في الشفاء ١: ٤٦٨، علاء الدين ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩: ٤٢ ح ٦٨٩١، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٥: ٤٧٤، وج ٧: ٣٧٧ وج ٨: ٢٩٠ و ج ١٢: ٣٤٤ وج ١٤: ٢٣٦ بعدّة طرق، ابن عساكر في ترجمة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من تاريخ دمشق ١: ٣٩٥ - ٤١٧، ح ٤٥٧ - ٤٩١، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ١٧ و ١٠٤ - ١٠٨ و ١٢٠ و ١٦٤ بأكثر من ثمانية وعشرين طريقاً.

١٦

وقال ابن كثير في تاريخه ١١: ١٤٦ في ترجمة الطبري: « اني رأيت له كتاباً جمع فيه احاديث غدير خم في مجلدين ضخمين » ونسبه إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧: ٣٣٧ ( راجع الغدير ١: ١٥٢ ).

وقد اغنانا العلامة الامينيرحمه‌الله وكفانا مؤونة البحث عن طرق هذا الحديث ومصادره فقد الف في ذلك موسوعته الضخمة - التي لم تتم - في احد عشر مجلداً جمع فيها طرقه وأسانيده ومن احتج به أو كلَّم فيه أو قال فيه شعراً. ولكثرة النصوص المنقولة في هذا الحديث يحتار الانسان فيما يختاره من نص فآثرنا أن ننقل النص الذي صدره الامينيرحمه‌الله به كتابه وهو نص جامع بين مختلف النصوص الا أنا اكملنا أبيات حسان بن ثابت في الأخير.

واليك النص:

« أجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إلى الحج في سنة عشرة من مهاجره، وأذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته تلك التي يُقال عليها حجّة الوداع وحجّة الاسلام وحجة البلاغ وحجّة الكمال وحجّة التمام، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة مغتسلاً متدهِّناً مُترجِّلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة، وأخرج معه نساءه كلهم في الهوادج، وسار معه أهل بيته، وعامّة المهاجرين والأنصار، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.

وعند خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصاب الناس بالمدينة جدري ( بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما ) أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحج معهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك كان معه جموعٌ لا يعلمها إلاّ الله تعالى، وقد يقال: خرج معه تسعون ألف، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، وقيل: مائة ألف وعشرون ألفاً، وقيل: مائة ألف واربعة وعشرون ألفاً، ويقال أكثر من ذلك، وهذه عدّة من خرج معه، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع عليّ ( أمير المؤمنين ) وأبي موسى(١) .

أصبحصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الأحد بيلملم، ثمّ راح فتعشّى بشرف السيالة، وصلّى هناك المغرب والعشاء، ثمّ صلّى الصبح بعرق الظبية، ثمّ نزل الروحاء، ثمّ سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به، وصلّى الصبح بالأثابة، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم

____________________

(١) السيرة الحلبية ٣: ٢٨٣، سيرة أحمد زيني دحلان ٣: ٣، تذكرة الخواص: ١٨، دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٥٤٢.

١٧

بلحى جمل « وهو عقبة الجحفة » ونزل السقياء يوم الأربعاء، وأصبح بالأبواء، وصلّى هناك ثمّ راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة، ومنها إلى قديد وسبت فيه، وكان يوم الأحد بعسفان، ثمّ سار فلمّا كان بالغميم إعترض المشاة فصفّوا فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالسلان « مشيٌ سريعٌ دون العدو » ففعلوا فوجدوا لذلك راحة، وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكّة، ولمّا انتهى إلى الثنيَّتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء »(١) .

فلما قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله: ( يَا أيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية، وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقمّ ما تحتهنّ حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهنَّ فصلّى بالناس تحتهنّ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء، وظلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلمّا انصرفصلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع الجميع، رافعاً عقيرته فقال:

الحمد لله نستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلَّ ولا مضلَّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله - أمّا بعد -: ايها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله، واني اوشك أن اُدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فما أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور، قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد، ثمّ قال: ايها الناس ألا تسمعون ؟ قالوا: نعم، قال: فاني فرَط على الحوض، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وإنَّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين.

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرف

____________________

(١) الامتاع للمقريزي: ٥١٣ - ٥١٧.

١٨

بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبّأني انهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: ايها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرّات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات ثمّ قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمُ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي » ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنّأه في مقدّم الصحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كلّ يقول: « بخ بخ لك، يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة »(١) وقال ابن عبّاس: وجبت والله في أعناق القوم، فقال حسّان: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية، ثمّ قال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخمّ واسمع بالرسول مناديا

وقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فخصّ بها دون البرية كلّها

عليّاً وسمّاه الغدير أخائيا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه

وكن للّذي عادى معاديا

واما دلالة الحديث على نصب عليعليه‌السلام للخلافة فواضحة بملاحظة ما صدر الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه هذا حيث قال: ألستم تعلمون ( او تشهدون ) أني اولى بالمؤمنين من انفسهم ؟! قالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فبين بذلك ان المراد بالمولى من هو اولى

____________________

(١) مسند أحمد: ٤/٢٨١، فضائل أحمد: ١١١، ١٦٤، مصنّف ابن أبي شيبة: ١٢/٧٨/١٢٦٧، تاريخ بغداد: ٨/٢٩٠، البداية والنهاية: ٥/٢١٠، مناقب الخوارزمي: ٩٤، كفاية الطالب: ٦٢، فرائد السمطين: ١/٣٨، ٧١.

١٩

بالمؤمنين من انفسهم. واما تأويل المولى بالمحبّ والناصر فلا يناسبه هذه المقدمة التي ذكرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع ان القرينة الحالية القطعية ايضاً تثبت ذلك فان توقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك المكان وفي ذلك الحر الهجير وجمع الناس وانتظار المتخلف واسترجاع المتقدم لا يكون إلاّ لاعلام امر مهم جداً وكيف يحمل هذا الكلام على بيان امر واضح فان نصرة عليعليه‌السلام للاسلام والمسلمين لم يكن امراً خافياً على احد حيث قامعليه‌السلام بهذا الامر من اول البعثة الشريفة ومواقفه لا تكاد تخفى على الاجانب فكيف بالمسلمين انفسهم ؟!.

ولذلك فقد احتج هوعليه‌السلام بهذا الحديث يوم الرحبة ايام خلافته وناشد اصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم قلة يومئذ فقام ثلاثون صحابياً فشهدوا بذلك وتعجب ابو الطفيل كيف كان ذلك واجمع الناس على دفع الخلافة عنه فراجع زيد بن ارقم قال زيد فما تنكر ؟! قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوله له.

قال ابو الطفيل قلت لزيد سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: « وانه ما كان في الدوحات احد إلاَّ رآه بعينيه وسمعه باذنيه ». وقد روى هذه المناشدة جمع كثير من الحفاظ(١) .

فهل كان الامامعليه‌السلام يحتج على الناس بالحديث لاعلام انه ناصر المسلمين ومحبهم ؟! وهل كان احد منهم يرتاب في ذلك ؟! ولماذا تعجب ابو الطفيل فهل في هذا عجب ؟! ولكنه كما قال الكميترحمه‌الله :

ويوم الدوح دوح غدير خم

ابان له الخلافة لو اطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم ار مثلها خطراً مبيعاً

ولم ار مثل ذاك اليوم يوماً

ولم أر مثله حقاً اضيعا

راجع لملاحظة تفصيل الاستدلال بالحديث المذكور كتاب الغدير للعلامة الامينيرحمه‌الله والمراجعات للامام شرف الدين ففيهما الغنى والكفاية وغرضنا هنا الاختصار باستعراض النصوص فحسب.

٤ - « انت ولي كل مؤمن بعدي ». وقد ورد هذا النص بعبارات مختلفة وفي مواطن مختلفة فمنها ما بهذا النص عن ابن عباس. ومنها ما في رواية عمران بن حصين بعد ما اشتكى جمع من الصحابة علياً الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال والغضب يبصر في وجهه: « ما تريدون من علي ان عليا مني وانا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي » ومنها ما في قصة اخرى من حديث بريدة: « لا تقع في علي فانه مني وانا منه

____________________

(١) مسند أحمد ٥: ٤٩٨ ح ١٨٨١٥، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ١١٣ ح ٩٣، السنن الكبرى ٥: ١٣٤ ح ٨٤٧٨.

٢٠