قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار0%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف: آية الله السيد علي الحسيني السيستاني
تصنيف:

الصفحات: 360
المشاهدات: 176775
تحميل: 6464

توضيحات:

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176775 / تحميل: 6464
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

الامر الاول : إنّ المبدأ الذي يكون احد جزءي المعنىٰ في المشتق بالمعنى الأعم المؤلف من المادة والهيئة الشامل للفعل المزيد فيه علىٰ قسمين :

١ ـ المبدأ الجلي ، وهو المعنىٰ الفعلي للمادة دون اضافة عنصر آخر اليه كالعلم في العالم والقصد في القاصد ، فإنّ مثل هذه المشتقات لو حللّت ، يلاحظ انّ المبدأ فيها نفس المعنىٰ الفعلي للمادة دون اضافة جهة أُخرى كالمضي والقابلية ونحو ذلك.

٢ ـ المبدأ الخفي ، وهو معنىٰ المادة ملحوظاً في المشتق علىٰ نحو خاص ؟ هو علىٰ أصناف.

منها : أن يلحظ فيه بنحو القابلية ، كما في اسم الآلة كالمفتاح والمنشار والمكنسة ، فإنّ المبدأ فيها قابلية الفتح والنشر والكنس لا فعلية هذه الأُمور.

ومنها : أن يلحظ فيه علىٰ نحو الحرفة والمهنة كما في التاجر والنجار والزارع فإنّ المبدأ فيها حرفة التجارة والنجارة والزراعة لا فعليتها.

ومنها : أن يلحظ فيه بنحو الاقتضاء كما في توصيف النار بأنها محرقة ، والسم بأنّه قاتل ، فإنّ المبدأ في ذلك اقتضاء هذه المعاني لا فعليتها.

فيلاحظ أن الخصوصية المضافة إلىٰ معنىٰ المادة في هذه الحالات ، إنما هي باعتبار اشراب المادة إياها ، ثم صياغتها مقرونة بها بالصيغة الخاصة ، وليست الخصوصية مستفادة من ذات الصيغة والهيئة بل من المادة حين تطعيمها بمعنىٰ آخر.

وعلى ضوء هذا يتجلّى لنا ما وقع من الخلط بين مفاد الهيئة ومفاد المادة في كلمات كثير من اللغويين والاصوليين ، حيث جعلوا كل خصوصية

١٢١

معنوية زائدة علىٰ اصل معنىٰ المادة ، مدلولة للهيئة ومستفادة منها مبنياً علىٰ تصور اختصاص المبدأ في المشتقات بالمبدأ الجلي ، بينما تستند كثير من الخصوصيات إلىٰ المبدأ الخفي كما ذكرنا.

وقد انتج الخلط المذكور اخطاء كثيرة في تحقيق معنىٰ الهيئات ، حيث أن اسناد تلكم الخصوصيات إلىٰ الهيئة اوجب الحكم باشتراكها بين معاني متعددة في موارد كثيرة ، منها المقام علىٰ وفق الاتجاه الاول المبني علىٰ تعدد المعنىٰ في صيغ باب المفاعلة ، وربما جعلت احدى تلك الخصوصيات معنىٰ عاماً للصيغة ، كما في المقام علىٰ مبنى من جعل باب المفاعلة للمشاركة فقط ، ومنه أيضاً ما ذكر في مبحث المشتق حيث لاحظ كثير من الاصوليين التلبس وعدمه بالقياس إلىٰ المبدأ الجلي في الامثلة المتقدمة كالمفتاح والمنشار والتاجر والنجار فاستدلوا بها علىٰ قول من يرى أن المشتق اعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه التلبس مع أن الصحيح ملاحظة التلبس بالنسبة إلىٰ المبدأ الخفي وهو الاقتضاء والقابلية ـ كما ذكرناه ـ ، فلا تكون في الامثلة المذكورة ونحوها شهادة علىٰ القول بوضع المشتق للأَعم.

الامر الثاني : إنّ المبدأ الخفي بما انه لا يتجلى غالباً إلا في بعض المشتقات ، أوجب ذلك الخلط بينه وبين مفاد الهيئة في كثير من الحالات ـ كما اشرنا اليه ـ ، ولكن يمكن التمييز بينهما بملاحظة بعد المعنىٰ ـ بطبيعته ـ عن أن يكون مفاداً للهيئة لعدم التسانخ بينه وبينها بحسب الحس اللغوي للعارف باللغة ، أو بملاحظة عدم اطراده في سائر موارد الهيئة بعد استظهار وحدة معنىٰ الهيئة في جميعها ، فيتعين ان يكون منشأ استفادة المعنىٰ الخاص غيرها.

ويمكن اختبار ذلك في بعض الامثلة كمثال التاجر ، فإنّه يستعمل

١٢٢

فيمن كانت حرفته ومهنته التجارة وإن لم يشتغل بها فعلاً ـ وهو استعمال غير مقرون بالعناية ليعد استعمالاً مجازياً ـ ، فهنا يمكن تشخيص عدم نشوء المعنىٰ المذكور عن الهيئة اما بلحاظ أن مفاد صيغة ( فاعل ) حسب ما يقضي به الحس اللغوي ، إنّما هو وقوع المعنى من الذات من غير ان يتضمن دلالة على الحرفة والمهنة أصلاً ، وبذلك تكون الدلالة عليها اجنبية عن مفاد الهيئة ، أو بلحاظ أن امثلة هذه الصيغة في سائر الموارد لا تدل على المعنى المذكور ، فمع استظهار وحدة المعنى المستفاد من الهيئة في جميعها ـ كما يساعده الحس اللغوي ـ يتعين أن تكون الخصوصية المذكورة ملحوظة في المادة لتكون من قبيل المبدأ الخفي.

إذا اتضح ما ذكرناه فنقول : إنّ معنى السعي إلى الفعل في بعض امثلة باب المفاعلة إنّما يستند إلى المبدأ الخفي لا إلىٰ هيئة هذا الباب نظير معنى الغلبة في ( شاعر ) والمفاخرة في ( كارم ) ، والدليل على ذلك مضافاً إلىٰ أنّ الأنسب بمعنى هذا الباب بحسب الحس اللغوي هو نوع معنى يكون من قبيل الامتداد ( كسافر ) أو التكرر ( كضاعف ) أو المشاركة ( كضارب ) لا من قبيل السعي ، أن هذا المعنى لو كان مفاد هيئة باب المفاعلة لوجب الالتزام بتعدد معناها بحسب اختلاف الموارد ، وهذا على خلاف تقدير هذا المسلك وسائر المسالك الآتية في هذا الاتجاه ، لما سبق من أن معنى السعي لا يتمثل في جميع موارد هذا الباب بل في القليل منها جداً.

وعلى ضوء هذا يتضح أن السعي نحو الفعل لا يصلح أن يكون هو المعنى الموحد العام للهيئة ، ولا يمكن طرحه بديلاً عن معنى المشاركة ، كما يتضح عدم صحة النقض على استفادة المشاركة من هذه الهيئة ، بجملة من الامثلة المتقدمة ك‍ ( ضارب ) و ( قاتل ) ، لأن بناء النقض بها على تصور أن المبدأ فيها هو القتل والضرب فيقال إنه لا مشاركة فيها ، وأمّا إذا لوحظ

١٢٣

المبدأ فيها بمعنى السعي إلى الفعل فإنّ معنى المشاركة متحقّق فيه بوضوح ، لأن المضاربة والمقاتلة لا يستعملان إلا في موارد اشتراك الطرفين في السعي إلىٰ الفعل ، فهذان المثالان قد يشهدان للقول بدلالة هيئة المفاعلة على المشاركة ، ولا شهادة فيهما علىٰ خلاف ذلك.

المسلك الثاني : ما اختاره المحقق الاصفهانيقدس‌سره من انّ هيئة المفاعلة معناها تعدية المادة وإسراؤها إلى الغير ممّا لم تكن تقتضي التعدي اليه بنفسها ، وتختلف نتيجة ذلك بحسب اختلاف الموارد ، فإنّ هذه الهيئة تارة توجب اخذ الفعل مفعولاً لم يكن يأخذه مباشرة وإنّما كان يصل اليه بحرف الجر ، اما لأنّه لم يكن متعدياً أصلاً كما في ( جلس اليه ) و ( جالسه ) ، أو لأنه كان متعدياً ولكن إلىٰ أمر آخر غير ما اصبح متعدياً اليه بهذه الهيئة كما في ( كتب الحديث اليه ) و ( كاتبه الحديث ) ، فإنّ المعنىٰ في ( كتب ) لم يكن يتعدى إلىٰ الهاء بنفسه فتعدى اليه في ( كاتب ).

و ( أُخرى ) لا توجب اخذ الفعل مفعولاً زائداً علىٰ ما كان يأخذه في المجرد كما في ( ضرب زيد عمراً ) و ( ضاربه ) ، وأثر باب المفاعلة في حصول التعدية إلىٰ الغير في الحالة الأولىٰ واضح ، وأما في الحالة الثانية فربما يستشكل في ذلك بتحقق التعدية في المجرد فيكون تحققها بهيئة المفاعلة من قبيل تحصيل الحاصل ، إلا انّه يندفع بأنّ التعدي في المجرد تعدية ذاتية بمعنىٰ أنّ إنهاء المادة وتعديتها إلى المفعول غيرملحوظ في الهيئة وإنّما هو لازم نسبة الفعل لمفعوله وأما في المزيد فالتعدية والانهاء إلىٰ المفعول ملحوظة في مفاد الهيئة فهي تعدية لحاظية.

فالحاصل ان هيئة المفاعلة تقتضي تعدي المادة إلى ما لم تكن تقتضي هيئة المجرد تعديها اليه سواء أكانت تتعدى اليه في المجرد باعتبار كون ذلك لازم النسبة ، أم كانت تصل اليه بوسط حرف الجّر.

١٢٤

وقد رتّبقدس‌سره علىٰ ذلك استفادة معنىٰ التصدي ( التعمد والتقصد ) لالحاق المعنىٰ بالغير من هيئة باب المفاعلة دون المجرد ، إما لكونه لازماً لهذا الباب مطلقاً كما يظهر من بعض كلماته(١) أو واقع فيه في الجملة كما يظهر من بعض كلماته الأُخرىٰ(٢) ، وقد مثل لذلك ب‍ ( ضارب ) و ( خادع ) بالقياس إلىٰ ( ضرب ) و ( خدع ) فإنّ الاخيرين لا يقتضيان تعمد الفاعل في الفعل بخلاف الاولين ، ولكن المثال الثاني لا يخلو عن اشكال لان الخدعة في نفسها من المعاني القصدية اذ تتقوم بقصد ايهام الشخص خلاف الواقع ، فلا يكون ثمة ، فرق بين ( خدع ) و ( خادع ) من هذه الجهة ، وانّما تظهر التفرقة المذكورة حيث لا يكون المعنىٰ في المجرد عنواناً قصدياً كما في المثال الأَوّل.

وقد نسب اليه (قده) المسلك الأَوّل(٣) في بعض الكلمات ، مع انّ الفرق بين هذا المسلك والمسلك السابق واضح لأَن مفاد هذا المسلك تحقّق المعنىٰ في باب ( فاعل ) كتحققه في المجرد مثل ضرب وقتل ، إلا أن الفارق بين ـ فاعل ـ كضارب والمجرد كضرب حصول القصد في ـ فاعل ـ دون المجرد ، وإنما كان مفاد هذا المسلك هو تحقّق المعنىٰ لأن التحقق لازم تعدية المادة إلىٰ الغير ، بخلاف المسلك الاول فإنّه كان يرى أن مفاد هذا الباب هو السعي إلىٰ تحقّق الفعل سواء تحقّق الفعل أم لا فالفرق بينهما واضح.

ولكن يلاحظ علىٰ هذا المسلك :

أولاً : إنّ ما ذكره من الفرق بين المزيد والمجرد ـ كضارب وضرب ـ من كون التعدية في الأول لحاظية وفي الثاني ذاتية : غير واضح بل الظاهر

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣١٨.

(٢) تعليقة المكاسب ٢ / ٢.

(٣) مصباح الفقاهة في المعاملات ٢ / ٢٧ ـ ٢٨ ، ومصباح الأصول ٢ / ٥١٢.

١٢٥

أن التعدية فيهما علىٰ نسق واحد بحكم الوجدان.

( فإن قيل ) : ان الفعل المجرد المتعدي يصح استعماله من دون نسبة إلىٰ المفعول كأن يقال : ( ضرب زيد ) ولا يصح ذلك في ( فاعل ) بأن يقال ( ضارب زيدٌ ) وهذا دليل الفرق المذكور.

( قيل ) : إن هذا مجرد ادعاء لا يسنده دليل لعدم ثبوت فرق بين البابين من هذه الجهة.

وثانيا ً : إن المقدار الذي ذكره لا يفسّر ما يستفاد في مختلف موارد المادة من الاشتراك أو التكرار أو الامتداد أو نحو ذلك ـ بل ربما كانت استفادة التعمد احياناً بهذا الاعتبار لأنّ التكرار ونحوه يناسب التقصد والعمد كما ذكر في النظر إلىٰ الأَجنبية أن النظرة الأولىٰ تقع لا عن قصد بخلاف النظرة بعد النظرة.

وثالثاً : إنّه لم يتضح الترابط بين اقتضاء باب المفاعلة للنسبة إلىٰ المفعول وبين اقتضائه التعمد فإنّ ملحوظية تعدي النسبة إلىٰ المفعول في هذه الهيئة لا يقتضي كون الفعل قصدياً فإنّ تلك جهة لفظية فحسب كما لا يخفى.

نعم قد تدل الكلمة علىٰ التعمّد في بعض الموارد لدلالته علىٰ السعي نحو المادة ـ ومصدر هذه الدلالة إنّما هو المبدأ الخفي ـ كما ذكرناه آنفاً ـ دون دلالة الهيئة علىٰ التعدية ـ ولا يلزم تحقّق المادة حينئذٍ أصلاً كما في خادعه وقاتله وغالبه وما إلىٰ ذلك.

المسلك الثالث : ما عن المحقق الطهراني من أنّ معنىٰ باب المفاعلة هو معنىٰ المجرد إلا أن المجرّد يدل علىٰ أصل حركة المادة فحسب وباب المفاعلة يدل علىٰ تلك الحركة بعينها بنحو من الطول والامتداد ـ وهو الامتداد في نسبتها بين اثنين ـ فمعنى ( هاجر ) و ( طالب ) و ( سافر ) و ( باعد )

١٢٦

اطال الهجرة والطلب والسفر والبعد ـ وبذلك يفترق عن ( هجر وطلب وسفر وبعد ) التي تدل علىٰ مجرّد التلبس بهذه المعاني.

وهذا التفسير :

أوّلاً : يتضمن التناسب بين المبرِز والمبرَز ـ أي اللفظ والمعنىٰ ـ.

وثانياً : إنّه لا ينفك عن جميع الموارد المختلفة التي وردت من هذا الباب فهو مطّرد فيها واطّراد المعنىٰ في جميع موارد استعمال اللفظ يؤيد كونه مفهوماً له.

أما الأؤل : من التناسب الذاتي بين المبرِز والمبرَز ـ فلأن هيئة ( فاعل ) تتميّز عن هيئة ( فعل ) ، باضافة الف بين حركتي هيئة المجرد ـ وهي حركة الفاء والعين ـ والألف هي نحو اشباع للفتحة واطالة لها فهي تناسب الطول والامتداد بطبيعتها.

وأما الثاني : ـ من اطّرادّ هذا المعنىٰ في موارد المادة ـ فتوضيحه :

إنّ الامتداد في مورد هذه المادة إنّما تكون في نسبتها بين اثنين :

أ ـ فإذا كانت المادة بذاتها مقتضية لامتداد النسبة ـ كما في المجاروة والمحاذاة ونحوهما حيث إنّها لا محالة تقتضي نسبة ممتدة بين طرفيها ـ فلا تصلح لها هيئة إلاّ هيئة المفاعلة ولذلك تصاغ بها ضماناً لاداء هذا المعنى.

وليس لخصوص كونها بين اثنين علىٰ نحو الاشتراك مدخلية كما توهّم بعض النحاة فأدرجوا بذلك خصوصية مورد الاستعمال في أصل المعنىٰ المستعمل فيه المنطبق علىٰ هذا المورد الخاصّ. بل معناها هو الامتداد الأعم.

ب ـ وإذا لم تكن المادة مقتضية لامتداد النسبة بطبيعتها ـ بأنّ كانت صالحة في نفسها للانتساب إلىٰ واحد واثنين كسار وساير وبعد وباعد وطلب وطالب وقبل وقابل ونحو ذلك ـ : فإنّ معنىٰ الامتداد يقتضي إضافتها إلىٰ الغير فاذا لوحظت منضافة إلىٰ الغير حدثت هناك نسبة ممتدّة بين اثنين تنحلّ

١٢٧

إلى نسبتين ـ كما في القسم الأول ـ.

ثم في هذه الحالة ( تارة ) لا يكون الغير الذي وقع طرفا لهذه النسبة الممتدة مفعولاً لأَصل المادة و ( اخرى ) يكون مفعولاً لها.

ففي الفرض الأَول يكون مفاد الهيئة التعدية إلىٰ الواحد ان كانت المادة لازمة في المجرد ـ كجلست اليه وجالسته وبرزت اليه وبارزته ـ والى الاثنين ان كانت متعدية لواحد ـ ك‍ : ( جذبت الثوب ) و ( جاذبته الثوب ).

وفي الفرض الثاني : لا يستفاد من الهيئة تعدية جديدة علىٰ المجرد ، ولكن يتغير نوع التعدية وسنخها ـ فالتعدي في ( ضرب زيد عمراً ) عبارة عن صدور الضرب من زيد ووقوعه علىٰ عمرو واما في ( ضارب ) فلا نظر إلىٰ جهة الوقوع علىٰ المفعول ، لأَن نوع تعديه علىٰ نسق تعدي ( جاور ) و ( حاذى ) ، وانما هو ناظر إلىٰ انهما طرفا هذه النسبة الممتدة.

وتوضيح ذلك : ان الضرب بلحاظ صدوره من الطرفين تعتبر فيه نسبة ممتدة بينهما هي مدلول هيئة ( ضارب ) و ( قاتل ) و ( جاذب ) ، وهذه النسبة المخصوصة بحاجة إلىٰ مبدأ تصدر عنه يسمى ( فاعلاً ) ومحل تقع عليه يسمى ( مفعولاً ) ـ فيلاحظ فيها مبدأ صدور النسبة الممتدة ومحل وقوعها بالاعتبارين. وربما يصلح كل من الطرفين لكل من الاعتبارين اذا استويا في استناد الحدث اليهما كما تقول ( ضارب زيد عمرا ) و ( ضارب عمرو زيداً ) فتارة يكون زيد مبدأ صدور النسبة وعمرو محل وقوعها ـ كما في المثال الأَول ـ واخرى يكون الامر بالعكس ـ كما في الثاني ـ وليس للبادئ بأصل الفعل والسابق فيه بالشروع خصوصية.

فالمفعول في هذا الباب من وقع طرفاً للنسبة الممتدة لا من وقع عليه اصل المادة ـ كما في المجرد ـ ولذا ينفك احد الامرين عن الآخر كما في ( جاذب زيد عمرو الثوب ) فان ما وقع عليه اصل المادة هو الثوب فهو

١٢٨

المجذوب ، ومن وقعت عليه النسبة الممتدة هو ( عمرو ) واذا اجتمع الامران ـ اي كان المفعول طرفاً للنسبة الممتدة ومحلاً لوقوع اصل المادة ـ كما في ( عمرو ) في مثال ( ضارب زيد عمرا ) فانهما يختلفان بالاعتبار ، فعمرو مفعول لضارب من حيث انه مضارب لا من حيث انه مضروب كما في المجردّ.

هذا تقرير هذا المسلك.

( لكن ) يلاحظ عليه ـ انه رغم قربه من جهة ضمانه التناسب بين المبرِز والمبرَز وقدرته علىٰ تفسير بعض موارد المادّة ـ الا ان ما ذكر في موارد الاشتراك من تصوير الامتداد بلحاظ نسبة منتزعة من النسبتين الموجودتين بين الشخصين اللذين وقعت المادة في كل منهما ـ رغم اختلاف النسبتين من الأَطراف ـ لا يخلو عن تكلف وبعد ظاهر.

وعلى هذا فلا يمكن قبول كون هذا المعنىٰ هو المعنىٰ الوجداني العام للهيئة.

واما التناسب المذكور فهو وان صحّ ـ الا ان مجرد التناسب الذاتي لا يحسم الامر في الدلالات اللغوية ، بل لا بد من تحقيق الموضوع باستقراء الامثلة والموارد وملاحظة مدى توافقها مع هذا التناسب واعتباره في مرحلة الوضع.

المسلك الرابع : ما هو المختار. وبيانه بحاجة إلىٰ ذكر مقدمة هي :

ان الدلالات التي تنضم إلىٰ اصل المادة في مدلول الكلمة في باب المفاعلة ليست جميعها مستندة إلىٰ هيئة هذا الباب ، كما كان هو الانطباع السائد لدى اللغويين وكثير من الاصوليين ـ بل هي علىٰ قسمين : ـ فمنها ما يستند إلىٰ الهيئة.

ومنها : ما يستند إلىٰ المبدأ الخفي الملحوظ في بعض موارد الباب.

١٢٩

وهذا الامر لا يختص بهذا الباب بل هو امر سارٍ في اكثر الهيئات ان لم نقل جميعها ، فكثيراً ما نرى ان هناك معنىٰ او معان تظهر في بعض المواد مع أنها لا تنشأ عن المادة ولا عن الهيئة وانما مصدرها المبدأ الخفي للكلمة.

وقد سبق ان اوضحنا هذه الفكرة وبعض الأمثلة لها في ابطال المسلك الاول ، وبينّا انه كيف يتدخل المبدأ الخفي في ايجاد معان غريبة عن المادة في وصفي الفاعل والمفعول ، من الاقتضاء والحرفة والمضيّ وغيرٍ ذلك رغم وحدة مفاد الهيئة فيهما بحسب الوجدان اللغوي.

ففي باب المفاعلة أيضاً يستند قسم من الدلالات المتفرقة إلىٰ المبدأ الخفي كالسعي إلىٰ الفعل والغلبة والفخر ونحو ذلك ، مما يظهر بالتتبع. وقد اوجبت الغفلة عن هذا المبدأ ـ بعض الاقتراحات في مفاد الهيئة كالمسلك الأَوّل.

( نعم ) : بعض آخر من الدلالات يستند إلىٰ الهيئة وهذا هو المقصود تحليله في هذا البحث.

وبعد اتضاح هذه المقدّمة نقول :

ان الظاهر بملاحظة الموارد المختلفة للهيئة ان هذه الهيئة تدلّ علىٰ نسبة مستتبعة لنسبة اخرى بالفعل أو بالقوة ، وذلك مما يختلف بحسب اختلاف الموارد ( فتارة ) تكون النسبة الاخرى ـ كالأول ـ صادرة من نفس هذا الفاعل بالنسبة إلىٰ نفس الشيء. و ( اخرى ) تكون احداهما صادرة من الفاعل والاخرى من المفعول ـ كما في ( ضارب ) فيعبّر عن المعنىٰ حينئذٍ بالمشاركة.

وفي الحالة الأُولى : قد يكون تعدد المعنى من قبيل الكم المنفصل فيعبر عنه بالمبالغة ـ كما ذكر في كلام المحقق الرضي (قده)(١) أو يعبر عنه

__________________

(١) شرح الشافية ط الحجر ص ٢٨.

١٣٠

بالامتداد ـ اذا لم يكن التعدد واضحاً كما فسر لفظ المطالعة في بعض الكتب اللغوية كالمنجد ـ بادامة الاستطلاع مع انه استطلاعات متعدّدة في الحقيقة وقد يكون المعنىٰ من قبيل الكم المتصل فيكون تكرره بلحاظ انحلاله إلىٰ افراد متتالية كما في ( سافر ) ونحوه وحينئذٍ يعبر عنه بالامتداد والطول. ولازمه التعمد والقصد في بعض الموارد نحو تابع وواصل كما مرّ آنفاً.

و لا يرد علىٰ ما ذكرنا ما اورده المحقق الاصفهاني علىٰ القول بدلالة الهيئة علىٰ المشاركة ، من انه لا يمكن ان يكون المدلول الواحد محتوياً لنسبتين(١) لان المدلول المطابقي علىٰ ما ذكرنا نسبة واحدة لكنها مقيدة بان تتبعها نسبة أخرى علىٰ نحو دخول التقيد وخروج القيد.

وعلى ضوء ذلك يمكن القول بان الضرار يفترق عن الضرر بلحاظ انه يعني تكرر صدور المعنىٰ عن الفاعل أو استمراره. وبهذه العناية أطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ سمرة انّه مضارّ لتكرر دخوله في دار الانصاري دون استيذان.

وبما ذكرناه يظهر النظر فيما سبق في أول هذا الفصل عن بعض اللغويين في تفسير الضرار في الحديث ـ مقارنة بين مدلوله ومدلول الضرر ـ بعدة تفسيرات.

احدها : ان الضرر هو فعل الواحد والضرار فعل الاثنين.

وقد سبق عدم تمامية هذا الوجه لان ضراراً لا يدل على المشاركة.

الوجه الثاني : ان الضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه.

والظاهر ان هذا التفسير لا يبتني على دعوى فهم الابتداء والجزاء من

__________________

(١) لاحظ نهاية الدراية ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

١٣١

مادة الكلمتين أو هيئتهما ، لوضوح عدم افادة شيء منهما لذلك ، وانما هو نحو توجيه لمفاد الحديث ومع ذلك فلا قرينة علىٰ هذا التحديد لمدلول المادة في الحديث.

الوجه الثالث : ان الضرر ما تضر به وتنتفع به أنت والضرار ان تضره من غير ان تنتفع به.

وهذا الوجه أيضاً ليس مبنياً ظاهراً علىٰ دعوىٰ دلالة المادة أو الهيئة علىٰ هذا التحديد ، وانما يبتنى علىٰ جهة اخرى وهي قيام قرينة خارجيّة علىٰ ذلك من قبيل بعض موارد تطبيق هذه الكبرى.

لكن لم تثبت القرينة المذكورة علىٰ هذا التحديد.

الوجه الرابع : ان يكون الضرار بمعنىٰ الضرر بعينه وعلىٰ ذلك يبتني ما ذكر من ان ( لا ضرار ) انما هو لمجرد التاكيد.

ووجه هذا الاعتقاد : تصوّر ان باب المفاعلة من مادة ( الضرار ) انما هو بمعنىٰ المجرد منها ـ كما ذكروا ذلك في مواد اخرى ـ بناء علىٰ مبناهم من تعدّد معنىٰ هيئة المفاعلة علىٰ ما تقدم. وقد صرّح بذلك في بعض كلماتهم ففي لسان العرب مثلاً ( ضره يضره ضراً وضرّ به وأضرّ به وضاره مضارة وضراراً ـ بمعنىٰ )(١) .

لكن اتضح مما ذكرناه في معنىٰ الهيئة فيهما وجود الفرق بين معناهما فالضرر معنىٰ اسم مصدري ماخوذ من المجرد ، والضرار مصدر يدل علىٰ نسبة صدورية مستتبعة لنسبة أخرى ، ولذلك ذكر المحقق الرضي (قده) ، ان الصيغة تفيد معنىٰ المبالغة ، واوضحنا في المسلك المختار ان افادة معنىٰ المبالغة انما هي باعتبار الدلالة علىٰ تكرر النسبة أو استمرارها. هذا ما يتعلق

__________________

(١) ط بيروت ١٩٥٥ ه‍ ١٣٧٥ ه‍ ٤ / ٤٨٢.

١٣٢

بمفاد هيئة ( ضرار ).

واما الاضرار ـ الوارد في نسخة اخرى في الجملة الثانية للحديث بدلاً عن ( ضرار ) فقد ذكر انه بمعنىٰ المجرد. وهو أحد معاني هذا الباب في علم الصرف كقال وأقال(١) ولكن أفاد المحقق الرضي في شرح الشافية ان ذلك تسامح منهم وان المقصود افادته التأكيد والمبالغة(٢) كما أن ما ذكر في علم الصرف لهذه الهيئة من المعاني الكثيرة إنما ينشأ أكثرها عن المبدأ الخفي للكلمة علىٰ نسق ما اوضحناه في باب المفاعلة.

واما تحديد المفاد الحقيقي لنفس الهيئة ففيه وجوه واحتمالات.

لكن لا يهمنا تحقيق الحال فيها في المقام بعد عدم ثبوت هذه الصيغة في الحديث علىٰ ما اوضحناه في الفصل الأَوّل.

المقام الثالث : في مفاد الهيئة التركيبية.

وهذا البحث هو اهمّ الأَبحاث في الموضوع ـ اذ هو المقصد الأَصلي ـ وقد اشترك فيه اللغويون وفقهاء الفريقين ، الا ان العمدة ما طرحه المتاخرون من فقهائنا. ويلاحظ عليهم ان المسالك المطروحة عندهم في تفسير الحديث غالباً لم تفرق بين المفاد التركيبي للجملتين ( لا ضرر ـ ولا ضرار ) ـ مع أن بينهما فرقاً واضحاً علىٰ المختار.

ونحن نتعرض للوجه المختار في كيفية تفسير الحديث وتحقيق معناه ، ثم نتعرض لسائر المسالك التي طرحت في ذلك فهنا بحثان :

البحث الأَول : في بيان المسلك المختار في تحقيق معنىٰ الحديث.

والمختار في معنىٰ الحديث : ان مفاد القسم الأَوّل منه ـ وهو قوله ( لا

__________________

(١) لاحظ الشافية وشرحها للرضي ط الحجري ص ٢٤ ، ٢٦ وغيرهما.

(٢) لاحظ شرح الشافية ط الحجر ص ٢٦.

١٣٣

ضرر ) ما ذهب اليه الشيخ الانصاري من نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل الحكم الضرري. واما القسم الثاني منه ـ وهو ( لا ضرار ) ـ فان معناه التسبيب إلىٰ نفي الاضرار ، وذلك يحتوي علىٰ تشريعين :

الأَوّل : تحريم الاضرار تحريماً مولوياً تكليفياً.

والثاني : تشريع اتخاذ الوسائل الإجرائية حماية لهذا التحريم.

و بذلك يحتوي الحديث علىٰ مفادين :

١ ـ الدلالة علىٰ النهي عن الاضرار.

٢ ـ والدلالة علىٰ نفي الحكم الضرري. ومضافاً لذلك دلالته بناء ( علىٰ المختار ) علىٰ تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الاضرار خارجاً ، وهذا المفاد استفدناه من الجملة الثانية وبعض الأَعاظم استفاده من الجملة الأولىٰ بجعل النهي المستفاد منها نهياً سلطانياً وهو مناقش مبنى وبناءً كما سيتضح في موضعه ان شاء الله.

ولتوضيح استفادة ذلك من الحديث علىٰ المنهج المختار نتعرض لبيان ذلك في ضمن وجهين اجمالي وتفصيلي :

اما الوجه الاجمالي : فهو أن نفي تحقّق الطبيعة خارجاً في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة اليها ، يستعمل في مقامات مختلفة كإفادة التحريم المولوي أو الإرشادي أو بيان عدم الحكم المتوهّم وما إلىٰ ذلك. ولكن استفادة كل معنىٰ من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع ، وبمجموع الملابسات المتعلقة به.

وملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعنى الذي ذكرناه لهما.

أمّا الفقرة الأُولىٰ : ـ وهي ( لا ضرر ) ـ فلأن الضرر معنى اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر ، من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار

١٣٤

والتنقيص ، وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الانسان ، ولا يتحمله أحد عادة الا بتصور تسبيب شرعي اليه ، لان من طبيعة الانسان ان يدفع الضرر عن نفسه ويتجنّبه ، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب اليها بجعل شرعي ولمثل ذلك كان النهي عن الشيء بعد الأَمر به أو توهّم الأَمر به دالاً على عدم الأَمر به كما كان الأَمر بالشيء بعد الحظر أو توهمه معبراً عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الأصول ، وعلىٰ ضوء هذا كان مفاد ( لا ضرر ) طبعاً ، نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له.

وامّا الفقرة الثانية : ـ وهي لا ضرر ـ فهي تختلف في نوع المنفي وسائر الملابسات عن الفقرة الأُولى لان الضرار مصدر يحتوي علىٰ النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار. وصدور هذا المعنى من الانسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضباً وشهوة. وبذلك كان نفيه خارجاً من قبل الشارع ظاهراً في التسبيب إلى عدمه والتصدي له ، ومقتضى ذلك.

أوّلاً : تحريمه تكليفاً فإن التحريم التكليفي خطوة أولى في منع تحقّق الشيء خارجاً.

وثانياً : تشريع اتخاذ وسائل إجرائية ضد تحقّق الاضرار من قبل الحاكم الشرعي ، وذلك لان مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعماً بالحماية اجراءً ـ لا سيّما في مثل ( لا ضرار ) ـ لا يستوجب انتفاء الطبيعة ولا يصحح نفيها خارجاً.

واما الوجه التفصيلي : لدلالة الحديث علىٰ ذلك فتوضيحه : ان هذا الحديث يمثل نفياً لمفهومين ( هما الضرر والضرار ) ، وهذه الصيغة ـ أعني صيغة النفي ـ رغم وحدتها صورة ووحدة المراد الاستعمالي منها تحتوي علىٰ معان مختلفة بحسب اختلاف الموارد :

١٣٥

فربما : يكون محتواها التحريم المولوي كما في( لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

و اخرى : تكون ارشاداً إلىٰ عدم ترتب الاثر القانوني المترتب علىٰ الشيء كما في ( لا طلاق الا لمن اراد الطلاق )(٢) فانه يدل علىٰ عدم حصول الفراق القانوني بانشاء الطلاق اذا لم يكن مراداً جدياً.

وثالثةً : تكون ارشاداً إلىٰ محدودية متعلق الأمر كما في ( لا صلاة إلا بطهور )(٣) فانه يدل علىٰ محدودية الصلاة الواجبة بالطهارة.

ورابعة : تقتضي عدم وجود حكم يبعث علىٰ وجود شيء كما في ما لو قيل ( لا حرج في الدين ) ٠ إلىٰ غير ذلك من محتوياتها.

وعلى هذا فلا بُدّ في معرفة معنىٰ الحديث ، وتحقيقه من تحقيق ميزان اختلاف محتوى الكلام في هذه الموارد وغيرها رغم وحدة عنصره الشكلي ، ثم تحقيق معنىٰ الحديث علىٰ ضوء هذا الضابط العام فهنا مرحلتان :

أمّا في المرحلة الأولىٰ : فلا بُدّ قبل توضيح الميزان فيها من التنبيه علىٰ نكتة عامة فيما يتعلق بتفسير الكلام سواء أكان من قبيل صيغة الأَمر أو النهي أو النفي أو الاثبات فنقول :

ان الكلام يتألف من عنصرين عنصر شكلي يتمثل في مدلوله اللفظي ، وعنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي يكون هو المحتوى الواقعي للصيغة والمصحح لاستعمالها ، وهذان العنصران لا يتحدان دائماً وان كان لا بُدّ بينهما من تسانخ وعلاقة ، ولذا تكون الصيغة الواحدة ذات

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢) جامع الأحاديث ١ : ٢٢٦ / ١٨٨٧ ، الفقيه ٤ : ٢٢ / ٦٧.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٠ / ٢٧٩٤١ ، الكافي ٦ : ٦٢ / ٢.

١٣٦

محتويات متعدّدة بحسب اختلاف الموارد كاستعمال صيغة الامر والنهي في معان كثيرة. فان هذه المعاني ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام ، ولا هي مجرد دواعٍ واغراض لاستعماله ـ كما اوضحناه في محله من علم الأصول وانما هي محتوى الكلام وباطنه.

واختلاف مفاد النفي علىٰ الانحاء السابقة وغيرها يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام ـ كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي حسب الفرض وهو النفي ـ ومعرفة الضابط العام لتشخيص محتوى الكلام ، يتوقّف علىٰ التعرف المسبق علىٰ العوامل المختلفة التي تؤثر في تعيين محتواه وتحديده لكي يتم استخراج هذا الضابط علىٰ أساسها.

وذلك : لأَن تفسير الكلام في حدّ نفسه عملية معقدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظية من المفردات اللغوية والهيئات العامة فحسب علىٰ ما أشرنا إليه.

بل يمكن القول بأن العوامل اللفظية بالنسبة إلىٰ سائرالجهات المؤثرة في معنىٰ الكلام ، مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة إلىٰ ما كان منه كامناً تحت الماء ، لان هذه العوامل لا تؤلف الا جزءً يسيراً من مجموع ما يؤثر في محتوى الكلام ، وان كانت ظاهرة اكثر من غيرها.

وسر ذلك : ان الكلام بما انه ظاهرة حية من الظواهر النفسية او الاجتماعية فانه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي تحيط به من محيط وشائعات واعراف وغير ذلك ، فاذا ما أريد تفسيركلام ما فلا بد من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الأَطار الذي القي فيه ، ومن طبيعة الموضوع الذي يتحدّث عنه ، ومن الصفات النفسية للمتكلم والمخاطب فربما تختلف الكلمة الواحدة من زمان إلىٰ زمان او من موضوع إلىٰ موضوع أو من متكلم إلىٰ متكلم أو من مخاطب إلىٰ مخاطب.

١٣٧

فاذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام وقدّرنا نوع التفاعل المناسب معها : أمكننا تفسير الكلام في ظل مجموع تلك الجهات.

وقد عبرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام ب‍ ( منهج التفسير النفسي ) نظراً إلىٰ أن تأثير هذه الجهات في الكلام انما هو بلحاظ تأثيرها في الحالة النفسية للمتكلم أو المخاطب معها.

وبعد اتضاح هذه المقدّمة نقول : ـ ان اختلاف محتوى صيغة النفي في الموارد المذكورة ، إنما ينشأ عن اختلاف المواضيع وملابساتها وتناسبات المورد بحسبها ، كما يوجد نظير هذا الاختلاف في سائر الصيغ التي تعبّر عن الموقف الشرعي في موضوع ما.

و نحن نقتصر في هذا المجال علىٰ عرض جملة من هذه المواضيع بشكل عام لمختلف الصيغ كصيغة الأمر والنهي والنفي والاثبات في الجملة الخبرية مع توضيح كيفية تأثيرها في اختلاف محتوى الصيغة :

١ ـ الموضع الأَوّل : ان يكون مصب الحكم طبيعة تكوينية ذات اثار خارجيّة يرغب المكلفون فيها أو عنها من جهة نسبتها مع القوى الشهوية والغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الحكم مسبوقاً بحكم مخالف له علماً أو احتمالاً كالأَمر بعد الحظر أو بعد توهمه.

ففي هذا الموضع يتضمن محتوى الخطاب أمرين : أحدهما : عامّ والاخر خاص بمورد صيغتي الاثبات والنفي.

اما محتواه العامّ : فهو الوعيد علىٰ الفعل أو الترك فان كانت الصيغة بعثاً كان محتواها الوعيد علىٰ الترك فيكون الفعل واجباً تكليفاً ، وان كانت الصيغة زجراً كان محتواها الوعيد علىٰ الفعل فيكون الفعل حراماً تكليفاً ، ومجموع الصيغة والمحتوى يؤلّف الحكم المولوي الخاص من ايجاب أو تحريم.

١٣٨

واحتواء الصيغة لهذا المحتوى لم يكن لمجرد خصوصية الصيغة اذ هي لا تدلّ إلا علىٰ البعث أو الزجر اللزومي ، وهذا المقدار ينحفظ في ظل محتويات اخرى من قبيل الارشاد ونحوه مما يأتي ، وانما تعيّن مدلول الوعيد بدلالة الاقتضاء بعد أن امتنع فرض محتوى اخر للصيغة لعدم وجود مبادئه في الجهات المكتنفة بها.

وتوضيح ذلك : ان مدلول الصيغة ـ من البعث أو الزجر ـ لا معنىٰ لاعتباره بما هو هو مجرداً عن أي معنىٰ أو اعتبار آخر ، لأنّه لا يكون بذلك مثار أثر خارجاً أو عقلاءً ، فلا بُدّ له من محتوى مسانخ له كامن فيما وراء اللفظ يكون سبباً للأثر العقلائي ، وما يكون محتوى للكلام علىٰ قسمين :

أ ـ ما يتوقّف علىٰ مبادئ مسبقة غير موجودة ولا قابلة للاعتبار في متعلق الصيغة ( ومثال ذلك ) رفع توهم الحكم السابق ـ كما يراد ذلك في الامر بعد توهم الحظر ـ فانه يتوقّف علىٰ فرض توهم خارجي للحظر. ومنه الارشاد إلىٰ عدم ترتّب الاثر المطلوب علىٰ الشيء حيث يكون للشيء اثر اعتباري بطبيعته ، وهذا يتوقّف علىٰ فرض اثر اعتباري ثابت للشيء مسبقاً ، إلىٰ غير ذلك من المحتويات الآتية.

ب ـ ما يكون امراً اعتبارياً لا بُدّ من جعله من قبل الشارع وهو الوعيد علىٰ الترك المقوّم للوجوب أو الوعيد علىٰ الفعل المقوم للحرمة.

وعلى هذا فحيث لم يتواجد في هذا الموضع شيء من العوامل النفسية وغيرها مما يندرج في القسم الأَوّل ليتفاعل معه المعنىٰ حسب الفرض ، فيتعين كون المحتوى هو القسم الثاني تصحيحاً لاعتبار البعث والزجر من الحكيم.

وعلى هذا الاساس يستفاد الحكم المولوي من البعث والزجر.

وبذلك يتضّح انه لا يتجه ما اشتهر في كلمات الأَصوليين من ان

١٣٩

الاصل في الامر والنهي ان يكون مولوياً ولا يحمل علىٰ الارشاد الا بقرينة. بل الصحيح هو العكس لان حمل الأَمر والنهي علىٰ الارشاد انما يكون وفق تناسبات ثابتة بحسب طبيعة الموضوع ، فلا يحتاج كونه للارشاد إلىٰ مؤونة زائدة ، وهذا بخلاف حمله علىٰ المولوية لأنّه إنّما يكون بموجب دلالة الاقتضاء بعد فقد سائر الجهات التي ترسم للكلام محتوى إرشادياً ، فهي في طول تلك الجهات المقتضية لإرشادية الإنشاء طبعاً.

ويلاحظ هنا : أنّه لا يفرق في استفادة الحكم المولوي من الصيغة في هذا الموضع بين ان تكون صيغة الانشاء من قبيل الامر والنهي او صيغة الاخبار من النفي والاثبات ، نعم استعمال صيغة الاخبار في هذا المجال تجوز لأنّه يخالف مفاده الاستعمالي ، وانما صحّح ذلك التناسب بين الاخبار عن وجود الشيء مع التسبيب اليه بالأَمر به ـ وكذلك التناسب بين الاخبار عن الانتفاء مع التسبيب إلىٰ ذلك بالنهي عنه ـ كما اوضحناه في البحث عن مدلول الجملة الخبرية في علم الأصول.

فهذا هو المحتوى العام للكلام في هذا الموضع.

( واما محتواه الخاص ) ـ بمورد الاثبات والنفي(١) ـ فهو تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية علىٰ اختلاف مراتبها ـ لتحقيق مقتضىٰ الحكم ـ فيما كان المورد مقتضياً لمثل هذا التشريع وهذه الوسائل كاِعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الاكراه علىٰ فعل الواجب ، ويدخل في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بما يتضمن ايقاع الضرر علىٰ الفاعل نفساً أو مالاً مع

__________________

(١) ووجه عدم اقتضاء الامر والنهي لذلك واضح لان مفادهما بالمطابقة اعتبار طلبي أو زجري فلا دلالة لهما علىٰ اكثر من ذلك وهذا بخلاف الاثبات والنفي فان مفادهما التسبيب إلىٰ الفعل أو الترك حتىٰ كأنهما متحققان فعلاً.

فيكون الاثبات والنفي منسجماً مع تشريع الوساثل الاجرائية أكثر من الأمر والنهي.

١٤٠