قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار0%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف: آية الله السيد علي الحسيني السيستاني
تصنيف:

الصفحات: 360
المشاهدات: 176719
تحميل: 6464

توضيحات:

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176719 / تحميل: 6464
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

عزّوجلّ يوم القيامة وهو عنه معرض )(١) ، وجاء أيضاً ( الحيف في الوصية من الكبائر(٢) و ( إن الضرار في الوصية من الكبائر )(٣) .

هذا ولكن يلاحظ عليه ان هذا التفسير لو تم فيما يتضمن زيادة ( في الإسلام ) ، فإنّه لا يتم فيما لم يشتمل عليها وقد ثبت الحديث بدون الزيادة في روايات معتبرة علىٰ ما تقدّم ، بل لم يظهر من الصدوق تفسيره للحديث بدون الزيادة بهذا المعنىٰ لا سيما أنّه لم يعلم بثبوت الحديث مع الزيادة لديه لكي يكون معناه معها قرينة علىٰ معناه بدونها ـ إذ ذكره لهذا الحديث إنّما كان بغرض الاحتجاج علىٰ العامّة كما تقدّم توضيحه ـ.

مضافاً إلىٰ أن حمل الحديث علىٰ المعنىٰ المذكورمخالف للظاهر جداً ، فإنّ تفسير ( في ) و ( الإسلام ) بما ذكرناه في تقريره خلاف المنساق منه. كما لا يخفىٰ.

__________________

(١) الوسائل ج ١٩ كتاب الوصايا الباب ٨ ح ٢٤٥٦٢ ص ٢٦٤.

(٢) الوسائل ج ١٩ كتاب الوصايا الباب ٨ ح ٢٤٥٦٣ ص ٢٦٧.

(٣) الوسائل ج ١٩ كتاب الوصايا الباب ٨ ح ٢٤٥٦٤ و ٢٤٥٦٥ ص ٢٦٨.

٢٠١
٢٠٢

( الفصل الثالث ) : في تنبيهات القاعدة

التنبيه الأوّل : في عدة اشكالات في قضيّة سمرة عمدتها الإشكال في كيفية انطباق القاعدة عليها.

إ ن قضية سمرة ـ كما سبق ـ هي أهم قضية تضمنت حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ولكنها وقعت مورداً للإشكال من عدّة وجوه :

الوجه الأول : انّه لماذا منعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمرة من الدخول دون استئذان مع أنه كان له حق الاستطراق إلىٰ نخلته ؟ وهذا الإشكال يظهر من كلام الشيخ الصدوق (قده) في الفقيه ، وأجاب عنه بأنه لم يثبت حق الاستطراق لسمرة أصلاً فكان دخول سمرة إضراراً محضاً ، قال بعد نقل خبر أبي عبيدة الحذّاء الماضي :

( وليس هذا الحديث بخلاف الحديث الذي ذكرته في أول الباب من قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل باع نخله واستثنىٰ نخلة فقضى له بالمدخل إليها والمخرج منها ، لأنّ ذلك فيمن اشترىٰ النخلة مع الطريق إليها وسمرة كانت له نخلة ولم يكن له الممر إليها )(١) ومقصوده بالحديث الذي أشار إليه ما رواه عن إسماعيل بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال : قضىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل باع نخله واستثنىٰ نخلة فقضى له بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها.

ولكن هذا الجواب غير تامّ ـ كما تنبه له العلامة المجلسي في مرآة

__________________

(١) الفقيه ٣ / ٥٩ بعد الحديث ٢٠٨.

٢٠٣

العقول(١) ـ فإن الظاهر أنّه كان لسمرة أيضاً حق الاستطراق إلىٰ نخلته في الجملة. لكنه إنّما منع عن الدخول بدون استئذان لأنّ قاعدة ( لا ضرر ) حدّدت هذا الحق بما لا يوجب ضرراً بالأنصاري كما مرّ ذلك.

الوجه الثاني : انّه ما هو توجيه أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع نخلة سمرة ؟ مع أنّه لا يجوز شرعاً التصرف في مال الغير بدون إذنه ، وليس في القواعد الشرعيّة ما يبرّر ذلك حتىٰ قاعدة ( لا ضرر ) لأنّ مفاد القاعدة إن كان مجرد تحريم الإضرار بالغير فهذا إنّما يقضي بحرمة دخول سمرة بدون الاستئذان ، حيث كان ذلك إضراراً بالأنصاري ولا يقتضي قلع نخلته ، وإن كان مفادها نفي جعل الحكم الضرري فإن مجردٍ حقّ سمرة في بقاء نخلته في ملك الأنصاري ليس ضرراً علىٰ الأنصاري لكي يكون مرفوعاً بهذه القاعدة فيسوغ قلعها ، وإنّما الحكم الضرري في ذلك هو في الاستطراق بدون الاستئذان من الأنصاري ، أو جواز ذلك فيكون هذا الحق أو الجواز هو المرفوع بمقتضىٰ هذه القاعدة بلا حاجة لقلع نخلته.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه ـ مضافاً إلىٰ ما سيأتي في نقد الوجه الثالث من بيان إمكان تبرير هذا الأمر بقاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) ـ إنّه يمكن أن يكون هذا الأمر حكماً ولايتياً من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحاظ ولايته في الأمور العامة ، لأنّ قلع وسيلة الإضرار من الأُمور العامة التي يتوقّف عليها حفظ النظام فيحقّ ذلك له بما أنّه حافظ للنظام وإن لم تكن له ولاية عامّة علىٰ الأموال والأنفس.

وبذلك يتضج النظر في كلام المحقّق النائيني ومن وافقه(٢) من تخريج

__________________

(١) مرآة العقول ١٩ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠ تعليقات على الخبر ٨.

(٢) لاحظ تقريرات العلامة الخونساري : ٢٠٩ و ٢١٠ ومصباح الأصول ٢ / ٥٢٣.

٢٠٤

هذا الأمر علىٰ الولاية العامّة علىٰ الأموال والأنفس فإنّ مجال الولاية العامة الثابتة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة الهدىعليهم‌السلام إنّما هو المواضيع التي لا يتوقّف عليها حفظ النظام وهي المسماة بالولاية العامة وأمّا الولاية في ما يتوقّف عليه حفظ النظام فهي المسماة بالولاية في الأُمور العامة الثابتة للفقيه المتصدي للأمور العامة المنتخب من قبل الفقهاء.

الوجه الثالث : ـ وهو أهم الوجوه ـ إنّه قد ورد في هذه القضية تعليل الأمر بالقلع ب‍ ( لا ضرر ولا ضرار ) ففي معتبرة عبد الله بن بكير ـ بنقل الكافي ـ ( فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار ) مع انّ هذه القاعدة لا تبرر الأمر بالقلع علىٰ ما سبق بيانه في الوجه الثاني ، وانما أقصى ما تقتضيه عدم ثبوت حقّ الاستطراق لسمرة دون استئذان لأنّ ذلك تسبيب إلىٰ الضرر علىٰ الأنصاري لا أنها تقتضي قلع النخلة.

وقبل التعرّض للجواب عن هذا الوجه نبحث عن جهة هي انّ هذا الوجه علىٰ تقدير تماميته هل يؤدي فقط إلىٰ إجمال كيفية انطباق الحديث علىٰ المورد بحيث ينحفظ الظهور الدلالي للحديث ويكون حجة فيه ، أو انّه يمنع عن ظهوره في المعنىٰ الظاهر منه لولا هذا التطبيق وينتهي إلىٰ إجمال أصل الحديث.

الظاهر من كلام الشيخ الأنصاري (قده) في رسالة ( لا ضرر ) هو الوجه الأول حيث قال : ( وفي هذه القضية إشكال من حيث حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقطع العذق مع انّ القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك لكن ذلك لا يخلّ بالاستدلال )(١) .

__________________

(١) رسالة ( لا ضرر ) المطبوعة في آخر المكاسب ص ٣٧٢.

٢٠٥

وذهب المحقّق النائيني (قده) إلىٰ الثاني واستغرب كلام الشيخ في ذلك قائلاً : ( ومن الغريب ما أفاده شيخنا الأنصاري من أن عدم انطباق التعليل علىٰ الحكم المعلّل به لا يخلّ بالاستدلال ، فإنّ ذلك يرجع إلىٰ أن خروج المورد لا يضر بالعموم فيتمسّك به في سائر الموارد ، مع أنّك خبير بأن عدم دخول المورد في العموم يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلّة ظاهرة فيه ، وهذا مرجعه إلىٰ الاعتراف بإجمال الدليل )(١) .

وهذا هو الصحيح وتوضيحه : ان معنىٰ الكلام إنما يستقر ويتحدد في ظلّ تفاعله الدلالي مع جميع ما يتصل به من ملابساته وشؤونه ، فلابدّ في تعيين معنىٰ كتفسير للكلام من ملاحظة مجموع هذه العوامل ، ومن المعلوم انّ التعليل والحكم المعلّل به ـ أو الكبرىٰ والتطبيق ـ ليسا معنيين مستقلّين في الكلام حتىٰ ينفصل مصيرهما الدلالي ، ويقتصر إجمال أحدهما علىٰ نفسه من دون أن يتجاوز إلىٰ الآخر ، بل هما معنيان مترابطان يعتبر كل منهما من ملابسات الآخر ، فلا يتم لأحدهما معنىٰ أو تحديد إذا لم يكن ذلك منسجماً مع الثاني. ولذا يكون عموم العلّة وخصوصها موجباً لعموم الحكم وخصوصه ، وعلىٰ هذا فإذا كان الحكم المعلّل به لا ينسجم مع تفسير التعليل علىٰ وجه ، فإنّه ينتهي إلىٰ عدم ظهور التعليل في ذلك المعنىٰ ، وإن كان ظاهراً فيه في نفسه لولا تطبيقه في المورد.

ففي المقام إذا فرضنا الحكم في المورد حكماً مجعولاً بلحاظ المصالح والمفاسد المتغيّرة من باب الولاية في الأمور العامّة أو الولاية العامة لا من باب الحكم الكلي الالهي فإنّه يوجب كون التعليل حكمة أو علّة لمثل هذه الأحكام ولا يمكن أن يستفاد منه حكم كلي وقاعدة عامة.

__________________

(١) تقريرات العلامة الخونساري ٢٠٩.

٢٠٦

و بعد اتضاح ذلك نقول : إنّه قد يُجاب عن الاشكال المذكور بوجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقّق النائيني (قده) من إنكار المقدّمة الأولىٰ للاشكال وهي ورود ( لا ضرر ) تعليلاً للأمر بالقلع ـ قال ( إنّ قوله ( لا ضرر ) ليس علّة لقطع العذق ، بل علّة لوجوب استئذان سمرة ) وهذا القول ينحلّ إلىٰ عقدين : عقد سلبي ـ هو الركن الأصلي للجواب ـ وهو عدم كون ( لا ضرر ) تعليلاً للقلع. وعقد إيجابي يتضمن اقتراحاً بديلاً عن كونه تعليلاً للقلع ـ وهو انّه تعليل لوجوب الاستئذان ـ.

ولا بدّ في تحقيق ذلك من الرجوع إلىٰ الروايات التي تضمنت قضية سمرة مع جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) لملاحظة مدى انسجامها مع ذلك. وهي رواية ابن مسكان ورواية ابن بكير بنقل كلٍ من الكافي والفقيه.

أما العقد السلبي : فيختلف مقتضىٰ الروايات فيه.

فرواية ابن بكير بنقل الكافي صريحة تقريباً في تعليل الأمر بالقلع ب‍ ( لا ضرر ) ، إذ فيها ( فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار ) فإن الفاء الداخلة علىٰ القاعدة يقتضي الارتباط بين الأمرين ، ولا معنىٰ للارتباط بين القاعدة العامة والحكم الجزئي إلاّ بكون الأولىٰ علّة للثاني.

وأمّا روايته بنقل الفقيه فهي ظاهرة في ذلك إذ فيها ( فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه ) وقال : ( لا ضرر ولا ضرار ) وتعقيب الحكم بقاعدة ظاهر في تعليله بها كما هو واضح.

( نعم ) : رواية ابن مسكان لا ظهور لها في كون ( لا ضرر ) تعليلاً للأمر بالقلع ، لأنّه ذكر قبل الأمربالقلع فقد جاء فيها : ( فقال له رسول الله إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار علىٰ مؤمن ، قال ثمّ أمر بها رسول الله فقلعت ثمّ رمىٰ بها إليه وقال له رسول الله : انطلق فاغرسها حيث شئت ) لكن لا يبعد أن

٢٠٧

يكون ذكر الكبرىٰ توطئة وتمهيداً لتطبيقها علىٰ المورد فيتحد مفاده مع مفاد رواية ابن بكير.

وبذلك : يظهر عدم تمامية هذا العقد من كلامه إذ اتضح أنّ ( لا ضرر ) قد وقع تعليلاً له في الرواية المعتبرة من الروايتين ـ وهي رواية ابن بكير ـ علىٰ كلا النقلين فيها.

وأمّا العقد الإيجابي : وهو كون ( لا ضرر ) تعليلاً لوجوب الاستئذان ، وهو غير تامّ أيضاً.

أمّا أوّلاً : فلما عرفت من أن معتبرة ابن بكير قاضية بكونه تعليلاً للأمر بالقلع بلامورد لاقتراح بديل عن ذلك.

وأمّا ثانياً : فلأنّ بين الأمر بالاستئذان وذكر ( لا ضرر ) في كلتا الروايتين فصلاً كثيراً ممّا يمنع عن اعتباره تعليلاً لذلك.

ففي رواية ابن بكير بنقل الفقيه ويشبهه نقل الكافي ( فأتىٰ الأنصاري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكىٰ إليه وأخبره ، فبعث إلىٰ سمرة فجاء فقال له استأذن عليه فأبىٰ وقال له مثل ما قال للأنصاري ، فعرض عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشتري منه بالثمن فأبىٰ عليه وجعل يزيده فيأبىٰ أن يبيع ، فلما رأىٰ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لك عذق في الجّنة فأبىٰ أن يقبل ذلك فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال : ( لا ضرر ولا ضرار ) ومثلها رواية ابن مسكان ، بل هي أكثر تفصيلاً عن شرح معاملتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سمرة المتوسطة بين أمره بالاستئذان وبين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ).

فظهر بما ذكرنا أن المقدّمة الأُولىٰ للاشكال تامّة ولا يمكن الجواب عن الاعتراض بالنقاش فيها.

الوجه الثاني : النقاش في المقدّمة الثانية بدعوىٰ أن ( لا ضرار )

٢٠٨

مصحّح للأمر بالقلع بتقريب : انّ المراد ب‍ لفظ ( ضرار ) إنّما هو وسيلة الإضرار بالغير علىٰ سبيل إطلاق المصدر علىٰ الذات مبالغةً ك‍ ( زيد عدل ) وعليه فيكون مفاد هذه الجملة أن كل شيء اتخذ وسيلة للاضرار بحيث لا يمكن رفع الضرر إلا بإزالته فيجب التصرف فيه بالاتلاف أو النقل أو غير ذلك ممّا يخرج عن صلاحية ذلك دفعاً لذلك.

وبناء علىٰ هذا الاحتمال يكون الارتباط بين الأمر بالقلع وبين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) واضحاً لأنّ بقاء نخلة سمرة في دار الأنصاري أصبح وسيلة لإضراره به ، ولم يكن بالامكان دفع الإضرار مع التحفّظ علىٰ النخلة ـ كما سوف يأتي توضيحه ـ فجاز قلع النخلة تطبيقاً ل‍ ( لاضرار ) بناء علىٰ هذا التفسير.

وقد يؤيد هذا التفسير بقوله تعالىٰ :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ) (١) .

وشأن نزول الآية كما ذكر في التفسير(٢) انّ جماعة من المنافقين بنوا مسجداً للتفريق بين المسلمين وإيقاع الاختلاف بينهم علىٰ أن يصلي جماعة منهم في هذا المسجد وجماعة أُخرى في المسجد الذي كانوا يصلون فيه قبل ذلك ثم يوقعوا الاختلاف بين الفريقين لينتهي إلىٰ ضعف المؤمنين وتشتت كلمتهم في مقابل الكفار ، فنزلت الآية الشريفة تُخبر عن نواياهم وتنهىٰ عن القيام فيه ، وقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك بهدم المسجد وإحراقه لكونه وسيلة للإضرار.

وقد ذكر في إعراب قوله ( ضراراً ) وجوه : ( منها ) : أن يكون مفعولاً

__________________

(١) التوبة ٩ / ١٠٧.

(٢) لاحظ مجمع البيان ٣ / ٧٢ و ٧٣ طبعة المرعشي.

٢٠٩

لأجله. ( ومنها ) : أن يكون مفعولاً مطلقاً من قبيل ( ضربت ضرباً ) بدعوىٰ انّ قوله( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ) (١) في قوة ( الذين ضارّوا به ضراراً ) ( ومنها ) : أن يكون ضرار مفعولاً ثانياً ل‍ ( اتخذ ) حملاً للمصدر علىٰ الذات ، قال أبو البقاء في إعراب القرآن ( ضراراً يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً اتخذوا ) وكذلك ما بعده وهذه المصادر كلها واقعة موضع اسم الفاعل أي مضّراً أو مفرّقاً(٢) . وقد يكون هذا الوجه أقوىٰ من الوجهين الأولين إذا كان اتخذ في اللآية من أفعال التحويل التي تأخذ مفعولين لأنّه لا حاجة إلىٰ تقدير المفعول الثاني علىٰ هذا الوجه بخلافه علىٰ الوجهين الأولين.

وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية مناسبة لتفسير ( ضرار ) بوسيلة الإضرار في الحديث.

( هذا ) ولكن هذا الوجه ضعيف لأنّ حمل ( ضرار ) علىٰ وسيلة الإضرار مخالف للظاهر فإنّه مجاز.

الوجه الثالث : منع المقدّمة الثانية أيضاً ـ بما ذكره بعض الأعاظم(٣) ـ وتقريره إنّ الإشكال إنّما يتجه إذا فسّر الحديث بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكماً أوليّاً وأمّا إذا فسّرنا الحديث بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكماً سلطانياً فإنّه لا يتجه الاشكال ، إذ يكون مبنى الأمر بالقلع هو النهي السلطاني المفاد ب‍ ( لا ضرر ) فيتم ذلك تعليلاً للأمر بالقلع. وعلىٰ أساس هذا جعل عدم ورود الإشكال علىٰ التفسير المذكور دليلاً علىٰ تعينه كمعنىٰ للحديث كما تقدّم.

__________________

(١) التوبة : ٩ / ١٠٧.

(٢) املاء ما من به الرحمن ٢ / ٢٢.

(٣) الرسائل للامام الخميني (قده) ص ٥٠ وما بعدها.

٢١٠

لكن هذا الوجه غير تام أيضاً إذ يرد عليه مضافاً إلىٰ النقاش في أصل هذا التفسير علىٰ ما أتضح من الأبحاث السابقة انّه لا فرق بين كون النهي أولياً أو سلطانياً في عدم صحة وقوعه تعليلاً للأمر بالقلع ، فإن مفاد النهي علىٰ كل حال هو حرمة الإضرار بالغير ، وهي لا تنتج إمكان الإضرار بالمضرّ كما هو واضح ولو فرض أنّها تنتج ذلك لم يكن فرق بين نوع الحكم من كونه حكماً مولوياً أوّلياً أو حكماً سلطانياً.

الوجه الرابع : ما يبتني علىٰ التفسير المختار لجملة ( لا ضرار ) من انّ مفادها التسبيب إلىٰ عدم الإضرار وهو ينحلّ إلىٰ أمرين : أحدهما : سلب مشروعية الإضرار قانوناً بجعله عملاً محرماً. والثاني : اعطاء صلاحيات إجرائية للحاكم بما أنه ولي أمر المسلمين في اتخاذ الوسيلة المناسبة ـ خفّة وتأثيراً وفق قوانين الشريعة المقدّسة ـ لمنع تحقّق الإضرار وهدم وسائله خارجاً.

وهذا الجانب من مفاد ( لا ضرر ) يمكن أن يبرّر أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع النخلة. وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر سمرة قبل اتخاذ هذه الخطوة التنفيذية بالاستئذان من الأنصاري أمراً له بالمعروف فلم يُجده.

ثم ساومه بشرائها منه بثمن أزيد وأزيد حتىٰ عرض عليه بديلها شجرة في الجنّة ـ تجنباً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإضرار به ـ فلم يرتدع أيضاً. وكانت هذه المساومة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير واجبة عليه فإنّ للحاكم أن يعمل القوة لمنع الإضرار بعد الأمر القولي بالمعروف مباشرة إذا لم يستجب المأمور لذلك ـ ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامل سمرة بعظيم خلقه وكرمه.

فكان من وظيفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أن يمنع من إضرار سمرة بالأنصاري منعاً عمليّاً. ولم يكن في هذا السبيل خيار أخفّ وأجدىٰ

٢١١

ممّا أمر به من قلع النخلة ، فمن الخيارات الأُخرىٰ مثلاً تأديب سمرة وتعزيره لكن هذا العمل :

أولاً : قد لا يكون ناجعاً ومؤثراً لشدّة إصرار سمرة علىٰ الإضرار بالأَنصاري ، وربّما استمر سمرة علىٰ ذلك بأنّ يدخل دار الأنصاري ثم ينكر ظاهراً فيتوقف إثباته علىٰ إقامة شاهدين عدلين وهو ليس بسهل.

وثانياً : إنّه ربّما لم يكن يكفى في ردع سمرة ضربه بما يوجب الإيلام فحسب بل كان يتوقّف علىٰ كسر عضو ونحوه ومن المعلوم أنّ ذلك أشدّ من التصرف في ماله بقلع شجرته. ومن الخيارات الأُخرىٰ : حراسة بستان الأنصاري عن دخول سمرة في جميع الأوقات التي يحتمل دخول سمرة في البستان ليلاً ونهاراً. وهذا أيضاً عمل شاقّ.

فبهذا الوجه ينحلّ هذا الاعتراض ويتّضح وجه تعليل الأمر بالقلع ب‍ ( لا ضرر ولا ضرار ).

التنبيه الثاني : في تحقيق مضمون الحديث علىٰ أساس شواهد الكتاب والسنة.

قد سبق في المقصد الأول أن حديث ( لا ضرر ) قد ورد بطريق صحيح في ضمن قضيّة سمرة بن جندب ، ويؤيّده طرق أُخرى لم يثبت اعتبارها في أنفسها ، إلا أن الاعتبار السندي علىٰ المختار لا يكفي في حجية الخبر ، بل لا بُدّ في تحقيق مضمون الخبر من مقايسته بشواهد الكتاب والسنّة ونقده نقداً داخلياً وذلك من جهتين :

الأُولىٰ : أن لا يكون مضمون الخبر مخالفاً للمعارف المسلمة في الإسلام ممّا ورد في الكتاب والسنّة كأن يكون هادماً لما بناه الإسلام أو بانياً لما هدمه الإسلام. واعتبار هذا الشرط من قبيل القضايا التي قياساتها معها كما هو واضح.

٢١٢

الثانية : أن يكون مضمونه موافقاً مع الكتاب والسنة توافقاً روحيّاً بمعنىٰ أن يتسانخ مع المبادئ الثابتة من الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها القطعية ولو في مستوىٰ التناسب والاستئناس.

ومبنىٰ اعتبار هذا المعنىٰ في قبول الخبر دخالته في الوثوق به عقلاءً ، بناء علىٰ ما هو الصحيح من حجية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة علىٰ ما أوضحناه في بحث حجيّة خبر الواحد من علم الأصول ، فإنّه كلما كانت هناك مجموعتان منسوبتان إلىٰ شخص أو جهة وكانت احداهما مقطوعة الانتساب والأُخرىٰ مشكوكة ، فإنّه لا بدّ في الوثوق بالمجموعة الثانية من الرجوع إلىٰ المجموعة الأولىٰ باعتبارها السند الثابت في الموضوع. وملاحظة روحها وخصائصها العامّة ، ثم عرض تلك المجموعة علىٰ تلك المبادئ المستنبطة فما وافقها قُبِل وما خالفها رُدّ.

وربما تداول إجراء مثل هذه الطريقة في تحقيق الكتب أو الأشعار المشكوكة النسبة ونحوها فإنّها تقارن بما ثبت عن الشخص ثبوتاً قطعيّاً ، بعد درس مميزاته وخصائصه ثمّ يحكم فيها علىٰ ضوء ذلك فلو فرضنا انّ شعراً نسب إلىٰ مثل الرضي أو مهيار الديلمي أو إلىٰ حافظ أو سعدي ، وهو لا ينسجم مع ما عرف به من اسلوب ومن صفات نفسية ومميزات فكرية فإنّه لا تقبل النسبة وان كان الذي نسبه إليه رجل ثقة. وبمثل ذلك أبطل بعضهم دعوىٰ قوم أن بعض نهج البلاغة مصنوع ومختلق ، ففي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن مصدق بن شبيب الواسطي انّه قال قلت لأبي محمّد عبد الله ابن احمد المعروف بابن الخشاب ـ في كلام عن الخطبة الشقشقيّة ـ : ( أتقول : إنّها منحولة ! فقال : لا والله ، وإنّي لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق. قال فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي (ره) فقال : أنّىٰ للرضي ولغير الرضيّ هذا النفس وهذا الأسلوب. قد وقفنا علىٰ

٢١٣

رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر(١) .

وقال ابن أبي الحديد نفسه في إبطال هذه الدعوىٰ : ( إنّ من أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولّد. وإذا وقف علىٰ كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين ، ألا ترىٰ أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترىٰ انّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا علىٰ الذوق خاصّة ). وقال ( وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً ونفساً واحداً واسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي لا يكون بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوّله كوسطه وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور. ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم انّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلىٰ أمير المؤمنينعليه‌السلام )(٢) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٢٠٥.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ / ١٢٨ و ١٢٩.

٢١٤

والسرّ في هذا المعنىٰ : أن كل مقتن أو مؤلف أو شاعر لا محالة يجمع شتات ما يصدر منه مبادئ عامة سارية في مختلف آثاره تشترك فيها وتتسانخ بحسبها.

وقد نبّه علىٰ اعتبار هذا الشرط في حجيّة الخبر جملة من الروايات حيث اعتبرت في قبوله موافقة الكتاب والسنّة ، وأمرت بطرح ما خالفهما فإن المقصود بذلك علىٰ التفسير المختار لها ـ التوافق أو التخالف الروحي بينه وبينهما علىٰ ما تشهد به قرائن داخلية وخارجية ـ وإن كان المعروف تفسيرها بالتوافق أو التخالف في المؤدّىٰ ولنذكر بعض هذه الأخبار المستفيضة :

منها : ما عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : خطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنىٰ ، فقال : ( يا أيها الناس ما جاءكم منّي يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله )(١) . ( ومنها ) : ما عنهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إن علىٰ كل حق حقيقة وعلىٰ كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه )(٢) . و ( الحقيقة ) هي : الراية والمعنىٰ أن علىٰ كلّ حق راية وعلىٰ كلّ صواب وضوح وراية الحق هي الموافقة مع القرآن الكريم. ( ومنها ) معتبرة أيوب بن الحرّ قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : ( كلّ حديث مردود إلىٰ الكتاب والسنّة وكل شيء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف )(٣) وغير ذلك.

ولو أريد بالتوافق في هذه الأخبار التوافق في المؤدىٰ علىٰ أن يكون مضمون الحديث مفاداً بإطلاق أو عموم كتابي لزم من ذلك عدم جواز الأخذ

__________________

(١) جامع احاديث الشيعة ١ / ٢٥٩ / ح ١٤٤.

(٢) جامع احاديث الشيعة ١ : ٢٥٧ / ٤٣٤.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٢٥٨ / ٤٣٥.

٢١٥

بالمخصّصات فهذا قرينة واضحة علىٰ أن المعنىٰ بها التوافق الروحي. وقد ورد إعمال هذا المنهج في بعض الأخبار ، وهو قرينة علىٰ إرادة التوافق الروحي في الأخبار السابقة :

( منها ) : ما عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله ، ثمّ قال في بعض حديثه إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهىٰ عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال. فقيل له : يا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اين هذا من كتاب الله ؟ فقال : إن الله عزّوجلّ يقول( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (١) وقال :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا ) (٢) وقال :( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٣) .(٤)

( ومنها ) : ما في صحيحة الفضل بن العباس قال : قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ( إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وإن مسّه جافاً فاصبب عليه الماء ، قلت : لم صار بهذه المنزلة ؟ قال : لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتلها )(٥) فإنّ السؤال سواء كان عن سبب الحكم ثبوتا أو عن دليله إثباتاً لا يكون الجواب عنه بذلك إلاّ من باب الاستئناس ، باعتبار أنّ الأمر بقتلها يدلّ علىٰ مدىٰ مبغوضيّتها شرعاً فيسانخ ذلك مع الحكم بالغسل أو الصبّ ، إلىٰ غير ذلك.

وعلن ضوء ما ذكرنا فلابدّ في المقام من تحقيق مضمون حديث ( لا

__________________

(١) النساء : ٤ / ١٤٤.

(٢) النساء : ٤ / ٥.

(٣) المائدة : ٥ / ١٠١.

(٤) الكافي ـ الأصول ـ باب الردّ إلىٰ الكتاب والسنّة ـ الحديث ٥ : ٤٨ ـ ٤٩.

(٥) جامع الأحاديث ـ كتاب الطهارة ـ أبواب النجاسات ـ ج ٢ : ١٠٥ / ١٤٣٩.

٢١٦

ضرر ولا ضرار ) تكميلاً للبحث عن اعتباره وحجيّته من جهتين :

الجهة الأولىٰ : في تحقيق مخالفة الحديث للكتاب والسنّة وعدمها وذلك إنّه قد يقال بتخالفه معهما بأحد تقريبات : ( منها ) إنّه علىٰ التفسير المذكور يكون الخارج منها أكثر من الباقي ، كما أثار ذلك الشيخ الأعظم الأنصاريقدس‌سره في الرسائل فقال :

( إنّ الذي يوهن فيها كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي كما لا يخفىٰ علىٰ المتتبّع خصوصاً علىٰ تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم ، بل لو بني علىٰ العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد ).

ثم طرح فرضية انجبار هذا الوهن باستقرار سيرة الفريقين علىٰ الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام ، لكنه تنظّر فيها قائلاً :

( إنّ لزوم تخصيص الأكثر علىٰ تقدير العموم قرينة علىٰ إرادة معنىٰ لا يلزم منه ذلك غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنىٰ واستدلال العلماء لا يصلح معيّناً خصوصاً لهذا المعنىٰ المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة ).

وممّا يعتبر من موارد التخصيص ـ علىٰ هذا الرأي ـ تشريع الخمس والزكاة والحج والجهاد والكفارات والديات والحدود والقصاص والاسترقاق وسلب مالية جملة من الأشياء كالخمر والخنزير وغير ذلك.

والجهة الثانية : في تحقيق موافقة الحديث روحاً مع الكتاب والسنة وعدمها.

أمّا الجهة الأُولىٰ : فقد يقال بمخالفة مضون الحديث للكتاب والسنة ـ بناءً علىٰ تفسيره بنفي الحكم الضرري ـ بأحد تقريبات ثلاث :

التقريب الأول : ما ذكره بعض الاعاظم من ان مفاد ( لا ضرر ) بطبعه

٢١٧

حكم امتناني فيكون آبياً عن التخصيص كقوله تعالىٰ :( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ومن المعلوم انه مخصص في جملة من الموارد.

ويرد عليه :

أوّلاً : انه لم يتضح كون العامّ الامتناني آبياً عن التخصيص إذا كان التخصيص في سياق الامتنان أيضاً.

وثانياً : انه علىٰ تقدير ثبوت ذلك فبالامكان ان يكون خروج ما خرج منه علىٰ سبيل الحكومة دون التخصيص بان تعتبر الزكاة مثلاً حكماً غير ضرري فيجب دفعها ، ولسان الحكومة لا يمس باللسان الآبي عن التخصيص لأن صيغتها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهو لسان مسالم للعام علىٰ خلاف لسان التخصيص ، كما يأتي توضيحه في التنبيه الثالث.

التقريب الثاني : ما ذكره الشيخ الانصاري (قده) في كلام مرّ ذكره من ان الحديث يكون مخصّصاً في اكثر مفاده بل الخارج منه اضعاف الباقي. وبما ان تخصيص العام في اكثر مدلوله غير جائز ، والمخصص في المقام قطعي لا يسري اليه الريب فيتوجّه الوهن إلىٰ العامّ.

والسر في عدم جواز تخصيص العام كذلك ـ علىٰ ما اوضحناه في بعض المباحث الاصولية ـ لزوم انحفاظ التناسب عقلاً بين مقامي الاثبات والثبوت ، فاذا كان الحكم بحسب المراد الجدي ومقام الثبوت مختصّاً بافراد نادرة ـ مثلاً ـ فانه لا يتناسب مع القاء خطاب عام وانما المصحح لمثل هذه الصيغة العامة ثبوت مقدار يقرب من العموم والاستيعاب حتىٰ تكون نسبة الخارج إلىٰ العموم نسبة الاستثناء إلىٰ القاعدة.

وقد اجاب الشيخ (قده) عن هذا الاشكال بقوله ( ان الموارد الكثيرة

__________________

(١) الحج : ٢٢ / ٧٨.

٢١٨

الخارجة عن العامّ انما خرجت بعنوان واحد جامع لها وان لم نعرفه علىٰ وجه التفصيل ، وقد تقرّر ان تخصيص الأكثر لا استهجان فيه اذا كان بعنوان واحد جامع لأَفراد هي اكثر من الباقي )(١) .

وما طرحه الشيخ في قوله هذا ـ من جوازتخصيص الأكثر بعنوان واحد ـ اصبح مورد نقاش من قبل جماعة من المتأخرين ، وقد ذكر في كلماتهم في هذا الموضوع تفصيلان :

احدهما : ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في حاشية الرسائل(٢) من التفصيل بين ما اذا كانت الآحاد التي لوحظ العموم بحسبها انواعاً أو اشخاصاً ، فان كانت انواعاً جاز تخصيص العام في اكثر الأَشخاص المندرجة تحته بعنوان واحد لعدم لزوم تخصيص العام ، فيما هو اكثر افراده في الحقيقة واما اذا كانت اشخاصاً فلا يجوز ذلك للزوم هذا المحذور.

والثاني : ما ذهب اليه المحقق النائيني من التفصيل بين القضية الحقيقية والخارجية(٣) ففي القضية الخارجية يمتنع تخصيص الاكثر ، ولو بعنوان واحد كما لو قيل اقتل من في العسكر ، ثم اخرج بني تميم من ذلك مع انه ليس فيه احد من غيرهم الا اثنان أوثلاثة ، وأما في القضية الحقيقية فلا يمتنع ذلك ، لكن الظاهر عدم الفرق بين القضيتين علىٰ ما يظهر بملاحظة الأمثلة العرفية لهما.

الا أنه لا اثر للبحث عن ذلك في المقام بعد وضوح عدم تمامية تجويز ذلك مطلقاً في المقام علىٰ ما ذهب اليه الشيخ إذ لا يجوز هذا المعنىٰ في مورد ( لا ضرر ) علىٰ كلا التفصيلين.

__________________

(١) الرسائل ٢ / ٥٣٧.

(٢) حاشية فرائد الأصول ١٩٦.

(٣) تقريرات العلامة النائيني ٢١١.

٢١٩

اما علىٰ الأَوّل : فلأَن الملحوظ في ( لا ضرر ) نفي ضررية كل واحد من الاحكام المجعولة في الشريعة من غير لحاظها تحت مجاميع تحتوي كل مجموعة علىٰ جملة منها ، لكي يخصص مفاده في واحدة منها بملاحظة أدلّة الاحكام الواقعية كما هو واضح

وأمّا علىٰ الثاني : فلاعتراف القائل به بأنّ حديث ( لا ضرر ) انما هو في مستوىٰ القضية الخارجية بملاحظة أن المنفي هو الضرر الناشئ من الاحكام المجعولة خارجاً ، وان كان قد يناقش في ذلك من جهة عدم العلم بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال ذلك في مورد قضية سمرة بعد انتهاء تشريع الأَحكام ليكون قضية خارجيّة بل المقصود بالحديت نفي جعل اي حكم ضرري شرعاً فهو قضية حقيقية.

والتقريب الثالث : ان يقال : بان من المستهجن تخصيص الحديث في الموارد المذكورة حتىٰ وان لم تكن هي اكثر موارده لأَنها من اصول الأَحكام الالهية ومهماتها وتخصيص العام في مثل ذلك قبيح.

ويلاحظ أن مثل هذا الانطباع عن أحكام الإسلام من كون اكثرها أو اصولها ضررية علىٰ ما يتمثّل في هذا التقريب والتقريب السابق مما يستحق البحث ، حتىٰ مع غض النظر عن كون ذلك موجباً لوهن هذا الحديث ، لأَنّ ذلك قد يكون ذريعة لبعض المخالفين للدين في تشويه صورة الإسلام والقدح في حقية تشريعاته ، للاقرار بان معظمها أو اصولها تشريعات ضررية.

و في الجواب عن هذين التقريبين طريقان :

الطريق الأَوّل : ما هو المختار. وهو ينحل إلىٰ جزءين :

الأَوّل : عدم صدق الضرر في كثير من هذه الموارد علىٰ ضوء التدقيق في مفهومه وفي مدى انطباقه فيها.

٢٢٠