قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار0%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف: آية الله السيد علي الحسيني السيستاني
تصنيف:

الصفحات: 360
المشاهدات: 176711
تحميل: 6464

توضيحات:

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 176711 / تحميل: 6464
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

على معارضه أصلاً :

فمنها : ما اذا كان الدليل المتضمن لهذا الأسلوب مخالفاً لحكم ثابت بالكتاب أو السنة ومثال ذلك ما روته الغلاة من ان الصلاة والزكاة والحج كلها رجل ، وان الفواحش رجل فان ذلك ناظر إلى أدلة إيجاب العبادات وتحريم الفواحش ولو بنحو غير مباشر فيكون من قبيل اسلوب الحكومة لكنه مندرج في ما دّل على لزوم طرح ما خالف الكتاب فيجب طرحه والغاؤه رأساً.

ومنها : ما اذا كان تقديم الدليل المزبور على معارضه موجباً لالغاء موضوعية العنوان المأخوذ في ذاك الدليل ـ وذلك فيما إذا كانت النسبة بين المدلول التفهيمي للدليلين عموماً من وجه ـ فيمتنع تقديمه عليه دلالة وذلك نظير امتناع تخصيص أحد العامين من وجه بالآخر في هذه الحالة.

ومنها : ما اذا كان تقديم الدليل المزبور موجباً لبقاء افراد قليلة تحت الدليل الآخر بما يستهجن معه القاء العموم ، فان ذلك من قبيل التخصيص المستهجن ومثال ذلك ما لو ورد ( اكرم العلماء ). وورد أيضاً ( من كان علمه كسبيّا لا بمعونة الإلهام القلبي فانه ليس بعالم ).

فمن هذه الحالات وامثالها يؤدي التعارض بين الدليل الكائن بأسلوب الحكومة والدليل الآخر إلى الغاء هذا الدليل رأساً ، أو يؤدي إلى تاويله اذا كان صالحاً لذلك كما يحمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد )(١) مثلاً على نفي الكمال لمخالفة مفاده الأولى من نفي الحقيقة والصحة في غير المسجد ؛ للحكم القطعي الثابت بالكتاب والسنة لصحت صلاة جار المسجد في غير المسجد.

وبذلك يظهر أن هذه المزية ليست الا كسائر المزايا الدلالية التي هي مزايا نوعية تقبل الاستثناء.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٩٤ ح ٦٣١٠ باب ٢.

٢٦١

الأمر الثاني : قد يظهر من كلمات الاصوليين أيضاً ان المزية الدلالية للحاكم توجب تقديمه على المحكوم بنحو التحكيم ، من غير ان يكون هناك احتمال اخر في البين. والمراد بالتحكيم هو رفع اليد عن الشمول الأَفرادي للعامّ كالتخصيص ، ولذلك لم يطرحوا فيه احتمال النسخ الذي ذكروه في تعارض العام والخاص. وربما كان مبنى هذا الرأي تصورهم للحكومة على انها تفسير وشرح للمراد بالدليل المحكوم ولكنا اوضحنا فيما سبق ان التفسير والشرح انما هو سمة لاسلوب الحاكم ولسانه واما واقعه فهو واقع المعارضة والمنافاة كالدليل المخصص.

والصحيح ان نفس الاحتمالات والأَبحاث الواردة بشأن الخاص والعامّ تأتي بالنسبة إلى الحاكم والمحكوم ، لانها لا ترتبط بأسلوب الخاص وانما ترتبط بمحتواه المماثل لمحتوى الحاكم. ففيما اذا ورد الحاكم متأخراً عن وقت العمل بالمحكوم ، يرد فيه احتمالات اخرى غير التحكيم.

منها : ان يحمل على النسخ بملاحظة ورود الحاكم بعد وقت العمل بالعامّ ، والالتزام بالتحكيم يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وتاخير البيان وان لم يكن ممتنعاً على كل حال لكنه بحاجة إلى مصحّح خاص.

ومنها : ان يحمل على الحكم الولائي فيما كان الموضوع مناسباً مع ذلك.

ومنها : ان يتصرف في ظهور الحاكم ويؤخذ بالدليل المحكوم كأن يحمل قوله ( الفاسق ليس بعالم ) على ان اكرام العالم الفاسق مرجوح في امتثال قوله ( اكرم عالماً ) فيؤخذ باطلاق هذا الدليل وان كان ظاهر الدليل الأَوّل هو عدم كفاية اكرام العالم الفاسق في الامتثال ، الا انه كتمت القرينة على ارادة المرجوحية لمصلحة مقتضية لذلك ، وقد ذكرنا في مبحث تعارض الأَدلة من علم الأصول المصالح المقتضية لكتمان القرائن كالتقية والسوق إلى الكمال والقاء الخلاف بين الشيعة وغير ذلك.

٢٦٢

ومنها : ان يؤخذ بالعام ويلغي الخاص رأساً حملاً له على التقية والمداراة ونحوهما.

والالتزام بالتحكيم من بين سائر الاحتمالات غير متعين بل لا بُدّ ان يكون على أساس ضوابط النشر والكتمان التي ذكرناها في محلّه ، وهذه الضوابط كما قد تنتج التحكيم فكذلك قد تنتج غيره من الوجوه على ما أوضحناه في مبحث تعارض الادلة تفصيلاً.

المقام الثاني : في ان ( لا ضرر ) ـ بناء على تفسيره بنفي الحكم الضرري ـ هل هو حاكم على أدلة الأَحكام الأولية أو لا ؟.

قد اتضح مما سبق منا في البحث عن مفاد الحديث ان في توجيه تفسير الحديث بهذا المعنى مسلكين :

المسلك الأَوّل : ما هو المختار وفاقاً للمشهور من ان المراد الاستعمالي بالحديث نفي تحقّق الضرر خارجاً لكن المراد التفهيمي به نفي جعل حكم يفضي إلى تحمل المكلف للضرر ، فيكون نفي الحكم مفاداً بلسان التنزيل والكناية حيث نفي المسبّب واريد به نفي سببه التشريعي.

وعلى هذا المسلك يكون حكومة ( لا ضرر ) على سائر الأَدلة واضحة لكونها بلسان التنزيل والمسالمة الذي هو القدر المتيقن من موارد الحكومة ، بل هو المقوّم له على المختار في حقيقتها كما عرفت ، فهو يندرج في المورد السادس من موارد النفي التنزيلي التي سبق ذكرها في الجهة الثانية.

المسلك الثاني : ما ذهب اليه المحقق النائيني (قده) ومن وافقه من أن الضرر المنفي عنوان توليدي للحكم الضرري فيكون المقصود بنفي الضرر نفي سببه التوليدي وهو الحكم.

__________________

(١) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، أجود التقريرات ٢ : ١٦١ ، ومصباح الأصول ٢ : ٥٤١.

٢٦٣

وقد ذهب هؤلاء إلى حكومة ( لا ضرر ) بهذا المعنى على ادلة الاحكام وذلك لان الحكومة على قسمين :

الأَوّل : ما يكون ناظراً إلى عقد الوضع منه ك‍ ( لا ربا بين الوالد والولد ) بالنسبة إلى دليل حرمة الربا وفساده.

الثاني : ما يكون ناظراً إلى عقد الحمل ـ وهو الحكم ـ ك‍ ( وجوب الاكرام لا يثبت لزيد العالم ). ودليل ( لا حرج ) و ( لا ضرر ) بالنسبة إلى ادلة الاحكام المثبتة للتكاليف من قبيل القسم الثاني لانها توجب تصرفاً في الحكم وتقضي باختصاص الاحكام بغير الموارد الحرجية أو الضررية ، لكن لا بلسان ( ان المتضرر ليس بمكلف ) أو ( ان الوضوء الضرري مثلاً ليس بوضوء ) حتى يكون رفعاً لموضوع تلك الأحكام ، ولا بلسان انه لا يجب الوضوء على المتضرّر ـ حتى يرجع إلى التخصيص ـ بل بلسان ان الاحكام الثابتة في الشريعة ليست بضررية ولا حرجية.

وهذا غير تام لان مبناه على ان معيار الحكومة هو النظر إلى دليل آخر. وقد سبق ان اوضحنا ان عنصر النظر لا يصلح مناطاً للحكومة لعدم اطراده في مواردها وعدم مقوميته لها. وانما مناطه ان يكون لسان الدليل المحدّد للعام لسان مسالمة مع العامّ بان لا ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحاً بل يفيد ذلك بأسلوب التنزيل والكناية. وعلى هذا المبنى لا تصدق الحكومة مع تعرض الدليل المحدّد لعقد الحمل في الدليل الآخر حقيقة ـ كما في مثال ( لا ضرر ) على هذا المسلك ـ لان النفي حينئذٍ منصب على الحكم مباشرة فيكون لسانه حينئذٍ لسان المعارضة مع العام كما هو شأن التخصيص.

نعم إذا كان نفي الحكم نفياً تنزيلياً كما في ( رفع ما لا يعلمون ) كان ذلك من قبيل الحكومة الظاهرية كما مرّ ذلك في الجهة الثانية وهو غير مراد

٢٦٤

هنا لأن المراد في المقام النفي الواقعي.

التنبيه الرابع : في وجه تحديد انتفاء الحكم الضرري بحالة العلم أو الجهل في بعض الفروع الفقهيّة مع ان الضرر المنفي بالحديث غير محدّد بذلك.

لا اشكال في ان الضرر المنفي في هذا الحديث إنما يراد به نفس هذه الماهية من دون دخالة العلم أو الجهل به ، لأن ذلك هو معناه الموضوع له كما في سائر الالفاظ حيث إنها موضوعة لذوات المعاني لا مقيدة بالعلم ولا بالجهل. وليس هناك أية قرينة خاصة تدل على هذا التحديد ، وعليه فلا فرق في نفي الحديث للحكم الضرري بين ان يكون الضرر معلوماً أو مجهولاً.

لكن ربما يظن أن المشهور خالفوا مقتضى ذلك في بعض الفروع الفقهية فحددوا نفي الحكم الضرري تارة بصورة الجهل بالضرر كما في نفي اللزوم في موارد الغبن حيث التزموا بثبوته اذا كان الضرر معلوماً ، واخرى بصورة العلم كما في نفي الوجوب الضرري حيث حكموا ببطلان الوضوء حيث يعلم بكونه مضراً دون ما اذا كان جاهلاً.

فلابُدّ من تحقيق الأمر في هذين الفرعين :

الفرع الأول : تحديد خيار الغبن بالجهل بالضرر.

ان المشهور بين فقهائنا ثبوت الغبن في المعاملة الغبنية خلافاً لأكثر فقهاء العامة كالحنفية والشافعية والحنابلة ، وخلافاً لما اشتهر في القوانين المدنية الموضوعة. قال في مصادر الحق ( الفقه الاسلامي لا يعرض للغلط في القيمة الا عن طريق الغبن ثم هو في اكثر مذاهبه لا يعتد بالغبن ولو كان فاحشا إلا اذا صحبه تغرير أو تدليس وهو في ذلك يضحّي باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل ، وهذا هو شأن اكثر الشرائع الغربية فقلّ ان تجد

٢٦٥

شريعة تعتد بالغبن إلا في حالات نادرة )(١) .

وقد ذهب إلى عدم ثبوته بعض قدماء اصحابنا كابن الجنيد ـ كما قيل إن جمعاً منهم لم يتعرضوا له أصلاً ـ وتردّد في ثبوته بعض المتأخرين كصاحبي الكفاية والذخيرة.

وقد استند المشهور إلى وجوه عمدتها قاعدة ( لا ضرر ) بدعوى ان اللزوم مع الغبن ضرري فيكون منفياً. وقد عد الشيخ الانصاري هذا الوجه أقوى ما استدل به لثبوت هذا الخيار ، وذكر انه يشترط في ثبوته عدم علم المغبون بالقيمة فلو علم بالقيمة فلا خيار بل لا غبن بلا خلاف ولا اشكال لانه أقدم على الضرر(٢) .

وحيث إن العلم بالقيمة مساوق مع العلم بالضرر فيرجع ذلك إلى القول بعدم شمول ( لا ضرر ) لما اذا كان ترتب الضرر على اللزوم معلوماً فيتجه بذلك الاعتراض السابق من ان الضرر النفي غير مقيد بالجهل(٣) .

لكن التحقيق انه لا مجال للاعتراض أصلاً لان مفاد قول المشهور بالدقة ليس هو تحديد نفي اللزوم بالعلم ، وانما يرجع إلى تحديده بالاقدام على الضرر لأَنهم وان ذكروا أولاً انه يشترط في ثبوت الخيار عدم علم المغبون بالضرر ، لكنهم عللوا ذلك بكون شرائه حينئذٍ اقداماً على الضرر ، مما يدل على أنهم يرون عدم شمول الحديث لمورد الاقدام على الضرر لا لمورد العلم به كما هو واضح.

والاقدام على الضرر اعم من العلم به لانه كما يصدق مع علم المغبون بكون المعاملة ضررية بان يطلع على القيمة السوقية للمتاع وهي

__________________

(١) المصدر ٢ : ١٣٢.

(٢) المكاسب المحرمة : ٢٣٥.

(٣) لاحظ تقريرات المحقق النائيني : ٢١٥ ، ومصباح الأصول ٢ : ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

٢٦٦

أقلّ من الثمن الذي دفعه إلىٰ البائع ، كذلك يصدق فيما اذاكان ظاناً بالضرر أو محتملاً ، ولكن أوقع المعاملة بما يحتوي عليه مع اطلاق الملكية حتى لما بعد انشاء الفسخ وحصول الندامة ، ففي هذه الحالة أيضاً يصدق انه أقدم على البيع اللازم حتى وان كان ضررياً.

والدواعي إلى الاقدام على الضرر لا تختص بصوره العلم بالضرر بل قد تكون آكد في صورة عدم العلم به مع الالتفات اليه والظنّ به أو احتماله ، فمن الدواعي مثلاً المزاحمة مع الغير كما قد يقع في شراء المتاع في المزاد العلني.

ومنها : مشاكلة المبيع مع ما عنده بحيث يكون مكملاً له كما اذا كان عنده بعض اجزاء كتاب ما كالبحار والوسائل دون بعضها الآخر ولا يباع ذلك بمفرده في الأَسواق عادة فوجده عند شخص فاشتراه بقيمة يقطع او يظن انه أزيد من القيمة السوقية.

ومنها : الحاجة الفعلية إلىٰ المتاع كما لو شرع في بحث يحتاج إلى بعض المصادر التي لا تتوفر في الأسواق فيجده عند شخص فيشتريه من غير أن يراعي عدم كون شرائه له بازيد من القيمة السوقية.

ومنها : قصد انتفاع صاحب المتاع وخدمته لأَسباب انسانية أو دينية كما لو بيع أمتعة شخص يحبه في المزاد العلني فيزيد في الثمن غير مبال بالتساوي معه في القيمة السوقية لكي تكون امتعته مبيعة بأعلى الثمن ، إلى غير ذلك من الدواعي والأَغراض.

وبذلك يظهر انه لا حاجة في دفع الاعتراض المزبور عن المشهور إلى تصحيح ثبوت الخيار مع الاقدام اذ لا وجه للاعتراف باشتراطهم للجهل بالضرر بعد تعليله بالاقدام ، بل ثبوت الخيار في ذلك انما يصحح اشتراطه بعدم الاقدام لا بعدم العلم كما هو ظاهر

٢٦٧

لكن قد يشكل كلام المشهور في هذا التحديد من جهتين :

الأولى : ما ذكره المحقق الايرواني (قده) من منع تحقّق الإقدام على الضرر الحاصل بلزوم البيع مطلقاً وانما يكون الاقدام بالنسبة إلى أصل المعاملة وهو ليس اقداماً على الضرر الحاصل باعتبار اللزوم من قبل الشارع(١) .

والجهة الثانية : ما ذكره جمع من المحققين كالمحقق المذكور والمحقق الاصفهاني من ان تحديد القاعدة بعدم الإقدام تخصيص بلا مخصص كتحديده بعدم العلم لان جعل اللزوم ولو في حالة الاقدام جعل لحكم ضرري(٢) ولكن الصحيح عدم تمامية الاعتراض على المشهور في شيء من الجهتين وفاقاً لجمع آخر من المحققين(٣) .

لتوضيح الحال لابدّ من البحث عن كل من صورتي الاقدام على الضرر وعدمه ، فهنا امران :

الأَمر الأَوّل : في صورة الاقدام والكلام فيها يقع تارة في تنقيح الصغرى من تحقّق الاقدام على الضرر في حالة العلم به ونحوها واخرى في تحقيق الكبرى من ( نفي قاعدة لا ضرر للضرر المقدم عليه ) فهنا نقطتان :

اما النقطة الأُولى : فتوضيح القول فيها إن مبنى منع تحقّق الاقدام في ذلك هو ان الشخص في حالة الغبن انما يقدم بانشائه على أصل المعاملة ، ولكن الشارع يحكم عليها بحكمين حكم إمضائي يرتبط بأصل المعاملة وهو الصحة ، وحكم تأسيسي فيما يتعلق ببقائها وهو اللزوم وعدم حق الفسخ ،

__________________

(١) لاحظ تعليقة المحقق الايرواني على المكاسب ٢ : ٢٨ و ٣٠.

(٢) لاحظ المصدر السابق وتعليقة المحقق الاصفهاني علىٰ المكاسب ٢ : ٣١.

(٣) لاحظ حاشية السيد الطباطبائي علىٰ المكاسب ٢ : ٣٨ وتقريرات المحقق النائيني علىٰ المكاسب للعلامة الخونساري ٢ : ٦٠ وفي ( لا ضرر ) : ٢١٨.

٢٦٨

فاللزوم حكم ابتدائي مجعول من قبل الشارع وليس منشأ بالمعاملة حتى يكون الضرر اللازم من جهته مقدماً عليه.

ولكن هذا ليس تاماً فإن اللزوم أيضاً يرجع إلى إنشاء المكلّف في مورد البحت حيث يكون المنشأ مطلقاً بالاطلاق اللحاظي من جهة كون ما انتقل اليه اقل مما انتقل عنه بحسب القيمة السوقية وعدم كونه كذلك ، وذلك لأن مفاد بيع المغبون وشرائه في هذه الصورة هو إنشاء قطع العلقة الثابتة بينه وبين ماله وانتقالها إلى الطرف الآخر مطلقاً بالنسبة إلى الازمنة الآتية بما فيها زمان صدور انشاء الفسخ منه الحاصل من الندامة.

وعليه فهو بانشائه هذا المعنى على سعته قد سدّ على نفسه باب التخلص من الضرر في صورة الندامة ولم يبق لنفسه خطاً للرجوع فيكون وزان ذلك وزان البيع والصلح المحاباتيين والوقف ونحوها من المعاملات الضررية اللازمة.

وعلى هذا : فليس حكم الشارع باللزوم الا كحكمه بالصحة حكماً امضائياً اقراراً للمكلف على جميع ما يحتوي عليه انشاؤه.

واما الجهة الثانية : وهي نفي قاعدة ( لا ضرر ) للضرر المقدم عليه فيمكن تقريرها بأحد وجهين.

الوجه الأَوّل : ان المفاد التفهيمي للحديث انما هو نفي تسبيب الشارع إلى تحقّق الضرر ـ كما سبق ـ دون اعمال الولاية على المكلف عليه في كل تصرف يوجب ضرراً عليه كالوقف والابراء والصلح المحاباتي والبيع في المقام ونحو ذلك. وبين الأَمرين فرق واضح.

وعدم امضاء ما التزمه المكلف على نفسه من الضرر وسبب اليه عرفاً إنما هو من قبيل الثاني دون الأَوّل لأنّ الثاني تحديد لما يحكم به العقلاء من ان كل أحد مسلط على ماله وله ان يتنازل عنه مجاناً وبلا عوض ، فضلاً

٢٦٩

عن ان يتنازل عنه بعوض يعلم بانه اقل قيمة منه ـ مثلاً ـ فالحكم الامضائي في ذلك احترام لارادة المكلف وسلطنته على ماله وليس تسبيباً إلى الضرر عليه.

ولو أن ( لا ضرر ) اقتضى نفي الاحكام الامضائية التي هي من هذا القبيل اقتضى ذلك ان ينفي صحة المعاملة الغبنية من أصلها مع ان المتسالم عليه بين فقهائنا بل جميع فقهاء المذاهب الاسلامية بل في جميع القوانين الوضعية صحة ذلك ، وهكذا في امثالها.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان مفاد الحديث حكم امتناني ولا منة في رفع اللزوم في حالة العلم بالضرر ونحوها(١) . واجيب عنه في كلمات المحقّق الايرواني بمنع ذلك بدعوى انّ المنة مقتضية لحفظ العباد عن المضار وان هم أقدموا عليه ، فلربما يندمون ويريدون الفسخ فيكون لهم مخلص عنه(٢) .

وهذا الوجه وان لم يكن يخلو عن تأمل إلا ان الجواب عنه بما ذكر ضعيف لانّ صدق ( الضرر ) على مثل هذه المعاملة انما هو بلحاظ قصر النظر إلى مرحلة المعاوضة ولحاظ القيمة السوقية واما اذا لوحظ مجموع الأَغراض والدواعي فلا يصدق عليه هذا العنوان كثيراً ؛ لانّ هذه المعاملة قد تستوجب له نفعاً ازيد كما اذا كان داعيه على اشترائه بثمن ازيد من القيمة السوقية تكميل المال الناقص الموجود عنده ، فما اشتراه بلحاظ كونه مكملاً للناقص تكون قيمته له ازيد من الثس الذي اشتراه به بكثير ، وهكذا قد يكون في شرائه كذلك دفعاً لضرر اكثر كما لو اشتراه من جهة صيانة بعض اجهزته عن الشغل والوقوف الذي يترتب عليه ضرر كثير ، أو اشتراه لمعالجة نفسه مع ندرة

__________________

(١) لاحظ تعليقة المكاسب له ٢ : ٥٤.

(٢) تعليقة المكاسب للمحقق المذكور ٢ : ٣٠.

٢٧٠

وجوده في السوق أو عدم امكان تحصيله الا بالمسافرة إلى بلد آخر يحتاج إلى مؤونة كثيرة ، فبملاحظة مثل هذه الجهات لا يصدق انه جلب الضرر على نفسه الإقدام على هذه المعاملة فلا معنى للمنّة عليه برفع لزوم العقد في مثل ذلك.

وبذلك كله يظهر صحة قول المشهورمن عدم ثبوت الخيار مع الغبن.

الأََمر الثاني : في صورة عدم الاقدام.

والمقصود من التعرض لهذه الصورة بيان سرّ التفريق بينها وبين صورة الاقدام حيث يقال ان حكم الشارع فيها غير منفي ب‍ ( لا ضرر ) بخلاف هذه الصورة ، وذلك لأنّه ربما يتوهّم بأن البيان الذي ذكرناه في عدم اقتضاء ( لا ضرر ) لنفي اللزوم في حالة الاقدام من كون اللزوم مدلولاً لاطلاق المنشأ ، فيكون الحكم به حكماً امضائياً و ( لا ضرر ) لا ينفي مثل ذلك وهذا البيان ينسحب إلى صورة عدم صدق الاقدام كما اذا كان المشتري غافلاً عن القيمة السوقية أو معتقداً بالتساوي أو بان قيمة ما انتقل اليه ازيد مما يبذله من الثمن أو كان مسترسلاً ومعتمداً على اخبار البائع بالقيمة السوقية ، فان اطلاق المنشأ يتحقق في هذه الصورة أيضاً ، فلا يمكن نفي اللزوم فيها لهذه القاعدة ونتيجة ذلك بطلان تمسك المشهور بهذه القاعدة لاثباتها لخيار الغبن مطلقاً.

وتحقيق الحال في ذلك : انه لا يتحقق للمنشأ في شيء من موارد هذه الصورة اطلاق لحاظي بالنسبة إلى تساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية وعدمها بل هي على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما يكون المنشأ فيه مقيداً بالتقييد اللحاظي وذلك كما اذا كان المشتري مسترسلاً ومعتمداً على اخبار البائع بتساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية ، فان الشراء حينئذٍ يكون مشروطاً بشرط مقدر وهو التساوي

٢٧١

في القيمة.

وحينئذٍ يحكم بالخيار من جهة تخلّف الشرط ومرجع الشرط إلى ان التزامي مشروط بالتزامك بان المبيع تساوي قيمته هذا المقدار الخاصّ ، ولازمه تقييد التزامه بتطابق قول البائع مع الواقع ولا حاجة في ثبوت الخيار حينئذٍ إلى قاعدة ( لا ضرر ).

القسم الثاني : ما يكون المنشأ فيه مقيداً تقيّداً ذاتيّاً كما في الغافل والجاهل المركب ونحوهما.

والمراد بالتقييد الذاتي : ان يكون القيد غير ملحوظ حال الانشاء ولكن يكون ثابتاً في نفس المنشأ في مرحلة الارتكاز واللاشعور الذهني.

ووجه التقييد الذاتي في الغافل ونحوه هو ان المرتكز في ذهن كل معامل بلحاظ الغرض النوعي العقلائي في المعاملات والمعاوضات التي لا تبتني على جهة المحاباة عدم كون ما انتقل اليه اقل مالية بمقدار لا يتسامح به مما انتقل عنه ، فهذا الارتكاز الذهني يوجب تضيّقاً ذاتياً للمنشأ وان كان في مرحلة اللاشعور ـ بعد محدودية الرضا الباطني بذلك ـ وحيث إن المتخلّف ليس هو الصورة النوعية ، فيحكم بالخيار. ولذا احتج العلامة لخيار الغبن بقوله تعالىٰ :( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) (١) وذكر بعض علماء القانون في الاشارة إلى موقف النافين لخيار الغبن بانهم يضحّون باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل(٢) مما يدل على انتفاء الرضا الباطني في صورة الغبن.

وعلى ضوء ذلك يثبت الخيار في هذه الصورة من غير حاجة إلىٰ قاعدة

__________________

(١) النساء ٤ / ٢٩.

(٢) مصادر الحق ٢ : ١٣٣.

٢٧٢

( لا ضرر ).

وقد ذهب إلى هذا المسلك جماعة من محققي فقهائنا كالمحققين النائيني والاصفهاني والايرواني وغيرهم.

الا ان هذا الوجه انما يصح إذا لم يكن هناك ارتكاز ثانوي ـ بملاحظة الجو والمحيط أو التأثر من فتوى الفقهاء أو القانون الوضعي ـ يوجب اضمحلال الارتكاز الأَوّل. ولذا ذكرنا في محله : أنّه لو فرض عرف خاصّ في بعض انحاء المعاملات أو مطلقاً يتضمن اشتراط حقّ استرداد ما يساوي مقدار الزيادة على تقدير عدم ثبوت الخيار ، فانه يكون هذا المرتكز الخاصّ هو المحكم والمتبع في مورده.

القسم الثالث : ما يكون المنشأ فيه مطلقاً بالاطلاق الذاتي.

والاطلاق الذاتي هو الشمول الذي يتحقق في الكلام في حالة عدم التقييد اللحاظي والذاتي من غير ملاحظة الخصوصية ورفضها كما هو الحال في الإطلاق اللحاظي. ويكون ذلك في موارد :

منها : عدم مسبوقية ذهن المنشئ بانقسام الماهية إلى قسمين كما لو وقف داراً على العلماء من غير علم بانقسامهم إلى اصولي واخباري ، وهكذا لو كان مسبوقاً لكن لم يلتفت إلى هذا التقسيم حال الانشاء مع عدم تحديده بأحد الأَقسام ارتكازاً ـ اذ لو حدده كان تقييداً ذاتياً ـ وهذا كثيراً ما يتفق في جملة من المعاملات كالوقوف والنذور والوصايا ونحوها ، وفي هذه الحالة يتحير المُنشئ أيضاً في حدود انشائه لعدم ملاحظة القيد ورفضه كما في موارد الاطلاق اللحاظي ، ولذا يستفتى فيها الفقيه.

وهذا الاطلاق لا يعتبر فعلاً للمنشأ لانه أمر قهري ولذا لا يستحسن ولا يستقبح بخلاف الاطلاق اللحاظي كما ان التقابل بينه وبين التقييد اللحاظي تقابل السلب والايجاب بينما التقابل بين الاطلاق والتقييد اللحاظيين من

٢٧٣

قبيل تقابل العدم والملكة.

ثم ان الحاكم بالشمول في موارد الاطلاق الذاتي انما هو القانون فان لم يكن هناك مانع منه فيحكم القانون بالشمول والا فلا يحكم بذلك.

وهذا الاطلاق في المقام ملغى بحكم قاعدة ( لا ضرر ) لان الحكم باللزوم من قبل الشارع حينئذٍ يكون حكماً ابتدائياً من غير صدق اقدام للمنشئ بالنسبة اليه ، فهنا يصح التمسك بالقاعدة.

وهنا جهتان تحسن الاشارة اليهما :

الجهة الأولىٰ : ان وجه تمسك جماعة من الفقهاء السابقين بقاعدة ( لا ضرر ) من دون اشارة إلىٰ الشرط الضمني ـ كالشيخ في الخلاف ـ أو عدم الاكتفاء ببيان محدودية التراضي ( المشير إلىٰ الشرط الضمني ) ـ كالعلامة في التذكرة ـ هو أنّ في الشرط الضمني المذكور نوع خفاء خصوصاً فيمن عاش في مجتمع لا يرى البيع الاّ نوع مغالبة متأثراً بفتاوى من لا يرى خيار الغبن ـ كاكثر فقهاء العامة ـ لا سيّما ان بعض المسلمين ربما تأثروا بالقوانين البشرية السابقة فزال بذلك ارتكازه الاول. وقد قيل ان بعض فقهاء الشام قد تأثروا بالفقه والعادات الرومية وبعض فقهاء الشرق تأثروا بالتشريع والتقاليد الايرانية ولذلك كان الأولى الاستدلال بقاعدة ( لا ضرر ) التي هي نصّ تشريعي لا بتخلف الشرط الضمني.

الجهة الثانية : انه قد ادعى بعض الاعاظم ثبوت حكم عقلائي على ثبوت الخيار في حالة الغبن ـ بدلاً عن التمسك بالارتكاز الموجب للتقييد ـ فيكون ذلك هو الدليل على الخيار من جهة عدم الردع عنه.

لكن الحق انه لم يثبت حكم عقلائي كذلك أصلاً.

٢٧٤

الفرع الثاني : تحديد الوضوء الضرري بالعلم بكونه ضررياً.

نقل بعض المحققين عن الشيخ الانصاري أنّه يشترط في جريان ادلة نفي الضرر علم المكلَّف بكون الوضوء ضررياً(١) وقد ذكر السيد الاستاذ تسالم الفقهاء على صحة الوضوء في حالة الجهل(٢) وحينئذٍ يتجه الاعتراض السابق من ان دليل نفي الضرر ينفي جعل الحكم الضرري مطلقاً سواء كان الضرر معلوماً أو مجهولاً. كما أن دعوى تسالم الفقهاء على ذلك غير تامة لأن المسألة غير معنونة في الكتب الفقهية للقدماء والطبقة الوسطى ، وأما المتأخرون الذين طرحت المسألة في كلماتهم فلهم فيها اقوال ثلاثة : بطلان الوضوء مطلقاً وصحته مطلقاً والتفصيل بين ما اذا كان الضرر معلوماً فيبطل الوضوء وبين ما اذا كان مجهولاً فيصح.

ويلاحظ أن استيعاب البحث في هذه المسألة وجهاتها يوجب تفصيلاً بالغاً في الكلام وهو خارج عن حدود هذا البحث ـ وانما محله موضعها من علم الفقه ـ ولكنّا نتعرض لبعض ما يرتبط بالمقام في ضمن اُمور ثلاثة :

احدها : انه هل هناك اطلاق يقضي بصحة الوضوء أو الغسل الضرريّين حتى نحتاج لإثبات بطلانه في حالة العلم أو مطلقاً إلى التمسك بحديث ( لا ضرر ) ليقع البحث في حدود مقتضاه ، أو انه لا اطلاق في الأَدلة أصلاً فيبطلان من هذه الجهة ؟

ثانيها : ان ( لا ضرر ) هل يقتضي بطلانهما في حالة العلم أو مطلقاً أو لا يقتضي ذلك أصلاً ؟

ثالثها : ان حرمة الاضرار بالنفس في مورد الضرر المحرم هل تمنع عن

__________________

(١) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ٢١٥.

(٢) مصباح الأصول ٢ : ٥٤٤.

٢٧٥

الحكم بصحتهما مطلقاً أو في صورة العلم أم لا ؟وذلك مع فرض وجود اطلاق قاضٍ بالصحة ، فهنا أبحاث ثلاثة :

اما البحث الأَوّل : فعمدة الادلة الواردة في الوضوء والغسل هي الآية الواردة في تشريعهما في سورة المائدة وهي قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١) .

والظاهر انه لا اطلاق في الآية يقتضي صحة الوضوء والغسل في حالة الضرر بل الظاهر منها بطلانهما في هذه الحالة ، ولا بدّ في توضيح ذلك من تفسير الآية فانها من مشكلات آيات القرآن الكريم وقد اختلفت في تفسيرها الانظار ، ويتضح معناها على ضوء جهتين :

الأُولى : إن الآية كما تنبه له صاحب الجواهر (قده)(٢) ناظرة إلى تقسيم المكلف المحدث إلى قسمين :

الأَوّل : من قام من النوم إلى الصلاة.

الثاني : من صدر منه الحدث الاصغر أو الأَكبر في حالة اليقظة.

وقد تعرض للقسم الأَوّل بقوله( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) (٣) فان المراد

__________________

(١) المائدة ٥ / ٦.

(٢) ١ : ٥١ ط النجف.

(٣) المائدة ٥ / ٦.

٢٧٦

بذلك القيام من النوم كما جاء في موثقة ابن بكير(١) فأمر تعالى بالوضوء من لم يكن جنباً بالاحتلام كما امر بالغسل من كان جنباً وانما ذكر الوضوء والتيمّم مفصلاً دون الغسل لانه كان معروفاً عندهم فإنهم كانوا يغتسلون من الجنابة وذلك بخلاف الوضوء والتيمم. ثم ذكر حالة المرض والسفر وامر فيهما بالتيمم.

وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ) (٢) مشيراً إلى الحدث الأَصغر بالجملة الأولى ، فان الغائط هو المكان المنخفض ، والتعبير المذكور كناية عن التخلي حيث كان المتعارف لدى العرب ان يرتادوا المكان المنخفض عند ذلك ، والى الحدث الأَكبر بالجملة الثانية فإنه المقصود بملامسة النساء.

وبملاحظة نظر الآية إلى هذا التقسيم يندفع التكرار الذي قد يتوهّم فيها بتصور ان الآية انما تتعرض إلى تقسيم المحدث إلى من لا عذر له في عدم استعمال الماء ومن له عذر.

وقد تعرض للأَوّل بقوله( إِذَا قُمْتُمْ ـ إلى قوله ـفَاطَّهَّرُوا ) وقد اشير في هذا القسم إلى المُحْدث بالحدث الاصغر مطلقاً بقوله :( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) (٣) والى المحدث بالحدث الاكبر بقوله :( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا ) (٤) .

وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ ) (٥) وذكر ان الحكم حينئذٍ هو التيمم.

__________________

(١) جامع الأحادبث ـ كتاب الطهارة ـ الباب ١ ـ الحدبث ٢٨ ـ ط ١ ج ٢ : ٣٤٩.

(٢) المائدة ٥ / ٦.

(٣) المائدة ٥ / ٦.

(٤) المائدة ٥ / ٦.

(٥) المائدة ٥ / ٦.

٢٧٧

فعلى هذا التصور يشكل :

أوّلاً : بانه لا وجه لذكر ( على سفر ) لأَن ذكر السفر باعتبار انه حالة فقدان للماء فيغني عنه قوله :( لَمْ تَجِدُوا مَاءً ) (١) بل مقتضى ذكر السفر في مقابل عدم وجدان الماء هو كونه موضوعاً لجواز التيمم بنفسه ولا ينبغي الشك في عدم كونه كذلك ، إلا ان يجعل ذكر السفر تمهيداً وتوطئة لذكر عدم الوجدان على ان يكون عدم الوجدان نتيجة له وهو خلاف الظاهر.

وثانياً : انه لا وجه لذكر بعض حالات الحدث الأَصغر من التخلي وملامسة النساء في القسم الثاني من الآية لان ذلك مذكور بنحو اعم في القسم الأَوّل منها ، فان التخلي يندرج تحت ( القيام إلى الصلاة ) لانه مشير إلى الحدث الأصغر وملامسة النساء يندرج تحت( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا ) (٢) فلا موجب لذكرهما في هذا القسم بالخصوص ، بل يكفي ذكر الاعذار التي هي نقطة تميّز بين القسمين ، فكان المناسب ان يقال في الشق الثاني ( وان كنتم مرضى أولم تجدوا ماءً فتيمموا ).

لكن لا يتجه الاشكال في شيء من الجهتين لما اوضحناه من الآية انما تتعرض للتقسيم بنحو آخر دون النحو المذكور ، وعلى ذاك النحو لا يرد شيء من الاشكالين.

اما الاول : فلان ( على سفر ) انما يرتبط بالقسم الأَوّل وهو من قام من النوم للصلاة وعدم وجدان الماء انما يرتبط بالقسم الثاني المذكور بقوله :( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم ) (٣) فإن( فَلَمْ تَجِدُوا ) (٤) عطف علىٰ مدخول( أو ) في هذه

__________________

(١) المائدة ٥ / ٦.

(٢) المائدة ٥ / ٦.

(٣) المائدة ٥ / ٦.

(٤) المائدة ٥ / ٦.

٢٧٨

الجملة لا على الجملة الشرطية الأولى في قوله :( وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ ) (١) فلا تكرار.

واما الثاني : فلان المراد بالقيام إلى الصلاة هو القيام من النوم ، كما ان المراد بكونهم جنباً هو الاحتلام فلا يشمل ذلك حدث التخلي أو ملامسة النساء.

ونظير هذه الآية في تأليفها ومعناها قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) (٢) .

فان القسم الاول منها ناظر إلى النوم أيضاً لان المراد بقوله( وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) (٣) هو السكر من النوم كما في بعض الروايات الصحيحة(٤) .

الجهة الثانية : ان مفاد الآية من القسم الأَوّل تحديد توجه الأمر بالوضوء والغسل بشرطين هما عدم التضرر من استعمال الماء ، ووجدان الماء فينتج ذلك فسادهما في حالة الضرر ، ويظهر ذلك بملاحظة اُمور :

الأَوّل : ان ما جاء في نهاية هذا القسم منها من الأمر بالتيمم لمن كان مريضاً أو على سفر لا يقصد به موضوعية هذين العنوانين لجواز التيمم ، بان يكون مجرد المرض والسفر موضوعاً لكفاية التيمم ولو كان مرضاً لا يضره استعمال الماء أو ينفعه ذلك ، أو سفراً يتوفر فيه الماء بكثرة. بل ذكر المرض

__________________

(١) المائدة ٥ / ٦.

(٢) النساء ٤ / ٤٣.

(٣) النساء ٤ / ٤٣.

(٤) كصحيحة زرارة لاحظ تفسير البرهان ١ / ٣٧٠.

٢٧٩

إنما هو لكونه عادة حالة تضرر باستعمال الماء فيكون كناية عن التضرر بالاستعمال. كما ان ذكر السفر انما هو باعتبار ان السفر في تلك الازمنة في مثل الجزيرة العربية كان حالة فقدان للماء عادة فهو كناية عن هذا المعنى ولا موضوعية له كما ترهم بعض المفسرين(١) .

الثاني : ان ظاهر الآية بحسب صدرها وان كان يقتضي عموم الأَمر بالوضوء والغسل لحالة التضرر باستعمال الماء ، الا انه يتحدد بمقتضى قوله في نهاية القسم الأول منها( وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ) (٢) لان التفصيل قاطع للشركة وبذلك يكون عدم الضرر قيداً مأخوذاً في موضوع الأمر بالوضوء والغسل.

الثالث : ان الأَمر بالوضوء والغسل في الآية ليس امراً نفسياً بل هو امر مقدمي لتحقق المأمور به الذي هو الصلاة مع الطهارة ، اما على أنهما بانفسهما طهور أو لكونهما محصلين للطهارة كما هو الاظهر على ما يشير اليه التعبير عن الغسل بقوله :( فَاطَّهَّرُوا ) (٣) وما جاء في ذيلها( وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) (٤).

وعلى ضوء هذا فتحديد الأَمر بالوضوء والغسل بحالة عدم الضرر يعني فسادهما في هذه الحالة لانه يقتضي عدم وفائهما بتحقق المأمور به ـ وهو الصلاة مع الطهارة ـ أو قل عدم وفائهما بتحقق شرطه وهو الطهارة.

ويلاحظ ان الغسل المذكور في الآية وان كان هو غسل الجنابة لكن يجري ذلك في سائر الأغسال بلحاظ اتحاد هذا الغسل وغيره في الحكم ،

__________________

(١) كصاحب المنار في تفسير المنار ٥ : ١١٨ و ١٢٨ و ١٢٩.

(٢) النساء ٤ / ٤٣.

(٣) المائدة ٥ / ٦.

(٤) المائدة ٥ / ٦.

٢٨٠