دورالعقيدة في بناء الإنسان

دورالعقيدة في بناء الإنسان60%

دورالعقيدة في بناء الإنسان مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 99

  • البداية
  • السابق
  • 99 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10802 / تحميل: 5646
الحجم الحجم الحجم
دورالعقيدة في بناء الإنسان

دورالعقيدة في بناء الإنسان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمدُ للّه ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد المصطفى الأمين وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد :

إنَّ نظرة الإنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها ، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والاجتماعي ، وتوجيه طاقاته نحو البناء والتغيير.

وإذا كانت المدارس الوضعية قد حققت بعض النجاح في ميادين الحضارة المادية ، فقد أثبتت فشلها الذريع في تلبية حاجة الفرد لحياة كريمة حرّة من قيود الابتذال والفجور ، فكان التفسّخ الأخلاقي والانحدار الخلقي والتفكك الاُسري والفراغ العقائدي ، هو أبرز معطيات الحضارة المادية التي صنعها الإنسان على صعيد الحياة الفكرية والشخصية والاجتماعية.

ولقد اقتضت حكمة الخالق تعالى أن يرشد الإنسان إلى الجذور والاُصول التي يستقي منها معارفه وينهل منها حقائق هذا الوجود ليصل من خلالها إلى المعتقدات الصحيحة السليمة من الشوائب والبعيدة عن الانحراف بعد أن منحه تعالى الفطرة الصافية مشعلاً يهديه إلى النور ، نور العقيدة الإسلامية الحقة الذي أضاء بسناه ما حوله.

ومتى ما حكّم الإنسان عقله يرى أنّ العقيدة الإسلامية تشكّل نظاما متكاملاً للحياة البشرية بمختلف أطوارها ويرسم الطريق لكلِّ جوانبها وينسجم مع الفطرة الإنسانية ويضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق ، وبما يضمن كرامته وشخصيته.

وعلى قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية ، شخصية الفرد والمجتمع والدولة الإسلامية ، وتنتظم العلائق والروابط ، وتتحدد الحقوق والواجبات ، وتتحقق العدالة والمساواة ، ويستتب الأمن والسلام ، وينشأ التكافل والتضامن ،

٥

وتزدهر الفضائل والمكارم ، ويُبنى الإنسان على كافة الأصعدة.

فعلى الصعيد الفكري أخرجت العقيدة الإسلامية الإنسان من عالم الخرافات والجهل لتأخذ بيده إلى دنيا العلم والنور ، محفّزة الطاقات الكامنة فيه للتأمل والاعتبار بآيات اللّه ودلائله ، وبذلك فقد نبذت التقليد في الاعتقاد وربطت بين العلم والإيمان.

وعلى الصعيد الاجتماعي استطاعت العقيدة الإسلامية أن تسمو بالروابط الاجتماعية من أُسس العصبية القبلية واللون والمال إلى دعائم معنوية تتمثل بالتقوى والفضيلة والأخاء الإنساني ، فشكّل المسلمون خير أُمة أُخرجت للناس بعد أن كانوا جماعات متفرقة متناحرة.

وعلى الصعيد الأخلاقي نجحت العقيدة الإسلامية في تنمية الواعز الذاتي القائم على أساس الإيمان برقابة الخالق جلَّ وعلا لكلِّ حركات الإنسان وسكناته وما يستتبع ذلك من ثواب وعقاب ، الأمر الذي أدى إلى تعديل الغرائز وتنمية شجرة الأخلاق الفاضلة وجعلها عنصرا مشتركا في جميع الأحكام الإسلامية.

كما أسهمت العقيدة الإسلامية في بناء المجتمع اقتصاديا وسياسيا وتربويا ، وبذلك فهي تمثل عنصر القوة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

فلأجل النهوض بالإنسان المسلم من حالة الضعف الروحي والانزلاق في مهاوي المادية ومغرياتها ، لا بدَّ من تذكيره بمعطيات تلك العقيدة ، وترسيخ قناعته بقوتها وصلاحيتها لكلِّ العصور بلغة معاصرة ، وبشكل يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ، والتحليل الفكري.

وإصدارنا هذا يوضح لك هذه الحقائق بشكل جلي معتمدا البحث والتحليل الفكري بإسلوب سهل ممتع وعرض علمي قويم يبتعد بالأفكار عن مهاوي الانحراف وأوهام الخيال ، ويقودها إلى الحقائق الناصعة والأدلة الساطعة.

فللّه الشكر على ما أنعم وله الحمد على ما وفق وهو المستعان

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

أكثر ما يهمّ الإنسان في الحياة هو أن يعرف حقيقة مبدئه ومعاده ، والغاية من وجوده ، ومن أين جاء ، وإلى أين ينتهي ، ولماذا وجد؟

هذه الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه على الدوام ، تحتاج إلى إجابات شافية ، لكي يتخذ الإنسان على ضوئها موقفا من الحياة ، يحدد سلوكه ، ويقيم لمجتمعه نظاما صالحا يرتضيه.

ولقد فشلت العقائد الوضعية في الاجابة على استفهامات الإنسان المتعلقة بمبدئه ومعاده ، ومبرِّر وجوده ؛ مرَّة من خلال الادعاء بأنَّ الانسان وجد صدفة! ومرَّة أُخرى من خلال الزعم بأنّه وجد نتيجة لتطور المادة!! وما إلى ذلك من تفسيرات واهية لا تُسمن ولا تغني من جوع الإنسان وتعطشه الأبدي لمعرفة الحقيقة.

وليس هذا فحسب ، بل فشلت أيضا في رسم معالم النظام الاجتماعي الذي يصلح الانسان ويحقق سعادته.

وبينما أجابت العقائد الدينية المحرَّفة إجابات باهتة ومشوهة ، عندما أقرّت من حيث المبدأ بوجود الخالق ولكن شبّهته بخلقه ، كما فشلت في تحديد النظام الأصلح للبشرية ، أجابت العقيدة الإسلامية عن كلِّ ذلك بمنتهى الصدق والعمق ، عندما أعلنت أنّ للإنسان خالقا حكيما قادرا

٧

لا يُنال بالحواس ولا يقاس بالناس ، وأنّ الإنسان وجد لغاية سامية وهي عبادة اللّه تعالى والوصول من خلالها إلى أرفع درجات التكامل والخلود.

كما تولِّد هذه العقيدة أيضا عواطف وأحاسيس خيِّرة ، يتبنى الإسلام بثها وتنميتها من أجل بناء الإنسان الكامل في الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسلوكية ، وتكوين الشخصية العقائدية التي تتمتع بعقلية هادفة وسلوك قويم ، واتجاه رسالي ، على العكس من الشخصية اللامنتمية ، التي تنصبّ اهتماماتها جميعا على الذات ومصالحها ورغائبها ، فتعاني من الفراغ العقلي والتأزم النفسي وفقدان الهدفية في الحياة.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنَّ العقيدة الإسلامية ليست كعقيدة الفلاسفة ـ باعتبارها نظرية فكرية تقبع في زوايا الدماغ ـ بل هي قوة تتحرك في القلب وتنعكس ايجابيا على النَّفس والجوارح ، فيندفع معتنقها إلى ميادين الجهاد والعمل ، وعليه فقد كانت قوة فاعلة ومحرِّكة ، غيّرت مجرى التاريخ ، وبدّلت معالم الحضارة ، وأحدثت في حياة الإنسان الاجتماعية والفكرية انقلابات رائعة ، وحققت انتصارات عسكرية مشهودة ، ولذلك وجدنا القلة المستضعفة العزلاء في مكة ، استطاعت بعقيدتها أن تصمد ثلاثة عشر عاما في مواجهة طغيان كالطوفان.

وهذه العقيدة هي التي جنّدت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشا عِدّته عشرة آلاف ، وهو الذي خرج من مكة مستخفيا يطارده كفارها ، ولم يستطع الذين حاربوه طوال هذه المدة أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة ، فاستسلموا له ، وأتوا إليه مذعنين ، أو دفعوا إليه الجزية صاغرين.

كان المسلمون يملكون أقوى عُدد النصر ، وهي العقيدة التي تصنع

٨

المعجزات ، التي جعلت من حمزة ـ سيد الشهداء ـ يقود أوّل سرية في الإسلام في ثلاثين راكبا مسلما ، لمواجهة ثلاثمئة راكب من قريش على ساحل البحر الأحمر ، ولم تخرج السرية المسلمة لمجرَّد استعراض العضلات ، بل كانت جادَّة في المواجهة والاشتباك مع عدو تبلغ قوته عشرة أضعاف قوّتها.

ولم يحدث في تاريخ معارك الإسلام ، التي كان يحرز فيها انتصارات باهرة ومتوالية ، أن كانت قوة المسلمين المادية متكافئة مع قوة العدو ، بل كانت قوة المسلمين من حيث العدد والعُدّة تصل أحيانا إلى خُمس قوة العدو ، ولم يتحقق النصر إلاّ باعتمادهم على المدد المعنوي الهائل الذي تمنحه العقيدة للمقاتل المسلم مع عدم إغفال دور الامداد الغيبي المتواصل ، وبعض العوامل والشروط المادية الاُخرى.

وهكذا نجد أنّ العقيدة هي القوة الأساسية في كلِّ معارك الإسلام ، والعامل الأساس في تحقيق النصر في مختلف المجالات.

وبغية النهوض الحضاري بالفرد المسلم ، لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة الإسلامية لمن سبقه من المسلمين ، صحيح أنَّ المسلم لم يتخلَّ كليا عن عقيدته ، ولكن عقيدته قد تجرَّدت في قلبه من فاعليتها ، وفقدت في سلوكه إشعاعها الاجتماعي ، بفعل عوامل الغزو الفكري التي تعرّض ويتعرض لها باستمرار ، وبفعل عوامل الانحطاط والتخلف التي عصفت بمجتمعه كنتيجة مباشرة لابتعاده عن قيم وتعاليم السماء.

وممّا ينبغي التركيز عليه في هذا الاطار :

٩

أولاً : تعريف الإنسان المسلم بعقيدته الحقة عن طريق منابع المعرفة الصافية.

وثانيا : ترسيخ قناعته بصوابها وصلاحيتها للعصر الراهن ، وإبراز عناصر تفوّقها على العقائد الاُخرى.

وثالثا : العمل على إعادة دور العقيدة في بناء الإنسان المسلم ، لتتجسّد في فكره إيمانا عميقا ، وفي سلوكه عملاً صالحا وأخلاقا حميدة ، كما كانت تتفاعل عطاءً وجهادا في نفوس المؤمنين السابقين ومن تبعهم بإحسان.

ولاجل هذه الغاية ، عقدنا هذا البحث الذي يتناول دور العقيدة في بناء الإنسان الفكري والاجتماعي والنفسي ، وانعكاساتها على أخلاق المسلمين وسلوكهم ، كما سلّطنا الضوء فيه على الدور الكبير الذي قامت به مدرسة آل البيتعليهم‌السلام من أجل صيانة العقيدة ، والتصدي الحازم لمحاولات تسطيح الوعي التي تعرّض لها الإنسان المسلم في أدوار سياسية متتابعة.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أننا اتبعنا في هذا البحث « المنهج النقلي » واعتمدنا ـ أساسا ـ على المصادر والمراجع التراثية.

ومن اللّه نستمد العون والتوفيق.

١٠

الفصل الأول

البناء الفكري

المبحث الأول : تحرير فكر الإنسان.

ترتكز نظرة العقيدة الإسلامية على كون الإنسان موجودا مكرَّما :( ولقَدْ كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً ) (١) .

فهو خليفة اللّه في الأرض ، يمتلك العوامل التي تؤهّله للسمّو والارتفاع إلى مراتب عالية :( وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدسُ لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون ) (٢) . كما أن بإمكان الإنسان أن ينحطّ ويتسافل حتى يصل إلى مرتبة الحيوانية : ( أخلدَ إلى الأرضِ واتَّبعَ هواه فمثلهُ كمثل الكلبِ إن تحمل عليهِ يلهث أو تتركه يلهث .. ) (٣) .

ثم يتسافل أكثر فأكثر حتى يصل إلى مرتبة الجماد :( ثمَّ قست قُلوبُكُم

__________________

(١) الاسراء ١٧ : ٧٠.

(٢) البقرة ٢ : ٣٠.

(٣) الاعراف ٧ : ١٧٦.

١١

من بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة .. ) (١) .

وعليه فالعقيدة الإسلامية تراعي في الانسان عوامل القوة والضعف معا ، فقد وُصف الإنسان في الكتاب الكريم بأنّه خُلِق ضعيفا هلوعا عجولاً ، وأنه يطغى ، وأنّه كان ظلوما جهولاً(٢) .

وعلى هذا الأساس لا تحاول الشريعة إرهاقه بتكاليف شاقة ، تفوق طاقاته وقدراته النفسية والبدنية ، قال تعالى :( لا يُكلِّفُ اللّه نفسا إلاَّ وُسعَها .. ) (٣) .

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رُفعَ عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، ومالا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطّيرة ، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (٤) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رُفعَ القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم » (٥) .

فالعقيدة الإسلامية ـ إذن ـ تعتبر عوامل الضعف في الإنسان حالة طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري ، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد الإنسان معها قدرته على البناء والحركة ، وحرية الاختيار.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٧٤.

(٢) راجع سورة النساء ٤ : ٢٨ ، والمعارج ٧٠ : ١٩ ، والاحزاب ٣٣ : ٧٢ ، والأنبياء ٢١ : ٣٧ ، والعلق ٩٦ : ٦.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٤) الخصال ، للصدوق : ٤١٧ باب التسعة ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

(٥) كنز العمّال ، للمتقي الهندي ٤ : ٢٣٣ مؤسسة الرسالة ط ٥.

١٢

وفوق ذلك حاولت العقيدة ـ وهي تريد بناء الإنسان وتكامله ـ أن تثير لديه شعورا عميقا بالجانب الإيجابي من وجوده.

الخطيئة أمرٌ طارئ

من ناحية أُخرى فإنَّ العقيدة الإسلامية تعتبر الخطيئة أمرا طارئا على الإنسان ، وليس ذاتيا أصيلاً ، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي الخطيئة ، فإنّه لا يتحول إلى شيطان تمنعه شيطنته من العودة إلى رحاب الإنسانية ، بل يبقى إنسانا مخطئا يمكن أن يسعى إلى تصحيح خطئه ، والنهوض من كبوته.

وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان ، فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصيلة مفروضة عليه ، كما تفعل النصرانية ، بل هي تسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة ، وإشعاره بقدرته على الارتقاء ، وتذكيره الدائم بعفو اللّه ورحمته الواسعة ، وعدم اليأس منها. ولا يوجد في الإسلام « كرسي للاعتراف » كما هو الحال في النصرانية ، بل يسعى أئمة الدين وعلماؤه إلى ستر عيوب الناس وذنوبهم مهما أمكن ذلك ، لأن اللّه تعالى يحبَّ الستر.

عن الاصبغ بن نباتة قال : أتى رجل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي زنيت فطهّرني ، فأعرض أمير المؤمنينعليه‌السلام بوجهه عنه ، ثم قال له : «اجلس ، فأقبل عليّ عليه‌السلام على القوم ، فقال : أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟! » (١) .

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢١ / ٣١ باب فيما يجب به التعزير والحد ، دار صعب طبع ١٤٠١ ه.

١٣

الإنسان موجود مكرَّم

ومن جانب آخر تحاول العقيدة إشعار الإنسان ـ على الدَّوام ـ بأنّه موجود مكرَّم ، له موقعه المهمّ في هذا الكون ، من خلال وظيفة الاستخلاف فيه وما عليه إلاّ أن يقوم بأداء وظيفة الاستخلاف هذه على أحسن وجه ، وأن يشكر خالقه على هذا التكريم والتمكين والهداية إلى الدين الحق.

سأل رجلٌ أمير المؤمنينعليه‌السلام عن حبه للقاء اللّه تعالى ، فقال : بماذا أحببت لقاءه؟ قالعليه‌السلام : « لمَّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنَّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه » (١) .

معالم التحرير

ولقد أسهمت العقيدة إسهاما فعالاً في تحرير الإنسان على محاور عدّة ، منها : ـ

أولاً : ـ حرَّرت الإنسان من الاستبداد السياسي ، فليس في الإسلام استبداد إنسان بآخر ، أو تسخير طبقة أو قومية لاُخرى (فقد كان الدين ، على امتداد التأريخ الإسلامي ، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر. ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.

فلم تكن ثورة أبي ذررحمه‌الله وثورة الحسينعليه‌السلام إلاّ منطلقا لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الإسلام. ورغم كل الانحراف الذي تعرض

__________________

(١) كتاب الخصال : ٣٣ باب الاثنين ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

١٤

له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الإسلام الى مجاري الحياة والقضاء على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الانسان المسلم وكرامته)(١) .

كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة « تأليه البشر » ، كعبادة الملوك والأُسر الحاكمة ، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الاُمم القديمة كالمصريين القدماء ، وقد أبطل الإسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر ، سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللّون أو المال أو القوة ، ومقياس التفاضل ينحصر في أُمور معنوية هي التقوى والفضيلة ، قال تعالى :( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوبا وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللّه أتقاكُم إنَّ اللّه عَليمٌ خبيرٌ ) (٢) .

إنّ الإسلام يحتل الأسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبةٍ له : «أيُّها الناس إنّ آدم لم يلد عبدا ولا أمة ، وإنّ النّاس كلّهم أحرار. ». (٣) .

إلاّ أنّ الإسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للإنسان مطلقة ، بحيث يُطلق العنان للإنسان ليفعل ما يشاء ، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح حتى لا تؤدي إلى فوضى.

ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الإسلامية التي تربط الحرية

__________________

(١) دور الدين في حياة الانسان ، للشيخ الآصفي : ٥٠ ـ دار التعارف ط٢.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٣) فروع الكافي ٨ : ٦٩ ـ دار صعب ط٣.

١٥

الإنسانية بالعبودية للّه تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته ، وبين القوانين الوضعية التي تُلقي بالإنسان في تيهٍ لا يتفق مع قدرته ولا مع طبيعته.

ومن هنا لا بدَّ من توازن بين الحرية والعبودية ، وليس هناك توازن في هذا السبيل يطلق قدرات الإنسان ، ويحافظ على طبيعته في آن واحد ، إلاّ بما نجده في الإسلام ؛ عبودية للّه ، وحرية من سائر العبوديات ، فلا تكتمل حرية العبد إلاّ بعبوديته للّه ولا تكتمل عبوديته للّه إلاّ بتحرره من عبادة سواه ، فهنا توازن واتّساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب الإيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الإسلام(١) .

وعلى ضوء ما تقدم ، فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية ، هو العبودية للّه ، لأنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة ، وليس في العبودية للّه أي امتهان لكرامة الإنسان ، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته ،

فقد كان الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يتشرف بكونه عبدا للّه ، ويحب أن يطلقوا عليه صفة « العبودية » ويرفض الغلوّ الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل ، كما حصل لأهل الكتاب على الرغم من التحذير الإلهي لهم من الغلو في أشخاص رسلهم ، قال تعالى :( يأهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تقُولُوا على اللّه إلاّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ اللّه وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ

__________________

(١) معالم شخصية المسلم ، للدكتور يحيى فرغل : ٧٩ ـ ٨٠ ، منشورات المكتبة العصرية ـ طبعة عام ١٣٩٩ ه.

١٦

ورُوحٌ منهُ .. ) (١) .

إنّ مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز على صفة العبودية أحيانا قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : أنا عبداللّه وأخو رسوله(٢) . وقال الإمام الرضاعليه‌السلام : « بالعبودية للّه أفتخر »(٣) . على أن فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الاُمم الاُخرى ، وتسرّبت إلى أتباع الأديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم ، فالمسيحية ـ على سبيل المثال ـ تدَّعي إلوهية المسيح ، واليهودية تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه!

ومن هنا تبرز حكمة وبُعد نظر الإمام عليعليه‌السلام في تركيزه على صفة العبودية ووقوفه بالمرّصاد لكلِّ دعوات الغلوّ التي نسبته إلى الربوبية ، جاء في الحديث : (أنّه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام فقالوا : السّلام عليك يا ربّنا! فاستتابهم ، فلم يتوبوا ، فحفر لهم حفيرة ، وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة إلى جانبها اُخرى ، وأفضى بينهما ، فلما لم يتوبوا ، ألقاهم في الحفيرة ، وأوقد في الحفيرة الاُخرى حتّى ماتوا)(٤) .

وفي هذا الصدد قالعليه‌السلام : «هلك فيَّ رجلان : محبٌّ غالٍ ، ومبغضٌ قالٍ » (٥) .

ثانيا : حرَّرت العقيدة الإسلامية الإنسان المسلم من شهوات نفسه

__________________

(١) النساء ٤ : ١٧١.

(٢) كنز العمال ١٣ : ح ٣٦٤١٠.

(٣) بحار الانوار ٤٩ : ١٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٢. دار احياء التراث العربي ط ٥.

(٥) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح ، ٥٥٨ / حكم ٤٦٩.

١٧

بعدما ربطت قلبه باللّه والدار الآخرة ، ولم تربطه بأهوائه ونزواته ، لقد زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار العاجل الفاني على الآجل الباقي ، والنَّفس ـ في توجهات آل البيتعليهم‌السلام ـ هي منطقة الخطر ، لذلك تصدّرت أولى اهتماماتهم.

ومن هنا نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلم يترك مناسبة إلاّ واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرَّحى في عملية بناء الإنسان.

لقد أخبرنا الذكر الحكيم :( بأنَّ اللّه لم يكُ مُغَيِّرا نِعمةً أنعَمَها على قومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم ) (١) ولذلك فإنَّ ما يلفت نظر الباحث أنّ الإمام علياعليه‌السلام ـ أيام حكومته العادلة ـ كان يوصي عماله على الأقاليم وكبار قادته بالسيطرة على النفس ، على الرغم من انتقائه الدَّقيق لهم ، وكون أكثرهم من ذوي الفضائل العالية والسَّجايا الحميدة ، فمن كتاب لهعليه‌السلام للأشتر لمّا ولاّه مصر : «هذا ما أمر به عبدُ اللّه عليّ أمير المؤمنين ، مالك بن الحارث الأشتر أمَرَهُ بتقوى اللّه ، وإيثار طاعته وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات فإنّ النّفس أمّارة بالسوء ، إلاّ ما رحم اللّه فاملك هواك ، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك ، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الإنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية » (٢) .

ومن وصية له لشريح بن هاني أحد قادته العسكريين ، لمّا جعله على

__________________

(١) الانفال ٨ : ٥٣.

(٢) نهج البلاغة ، لصبحي الصالح : ٤٢٧.

١٨

مقدّمة جيشه إلى الشام : «واعلم أنَّك إنْ لم تردَعْ نفسك عن كثير ممَّا تُحبُّ ، مخافة مكروه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعا رادعا » (١) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام كان قد وجّهه إلى معاوية ، كشف له فيه عن سر تمرّده على القيادة الشرعية ، المتمثل في انحرافاته النفسية ، فقال له :« فإنَّ نفسك قد أولجتك شرا ، وأقحمتك غيّا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك » (٢) .

فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة ، وخاصة من الذين يتصدّون لدفّة القيادة بدون شرعية وجدارة.

وكان أهل البيتعليهم‌السلام مع عصمتهم المعروفة يطلبون من اللّه تعالى العون على أنفسهم ، تعليما وتهذيبا لغيرهم ، وممّا جاء من دعاء الإمام زين العابدينعليه‌السلام : « وأوهن قوّتنا عمّا يُسخطك علينا ، ولا تخلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها ، فإنها مختارة للباطل إلاّ ما وفّقت ، أمّارة بالسوة إلاّ ما رحمت » (٣) .

ونستنتج من كلِّ ذلك ، أنّه لا يتم بناء الإنسان إلاّ بالسيطرة على النفس وهو ما سيأتي الحديث عنه.

ثالثا : إنّ العقيدة الإسلامية حرَّرت الإنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها ، ومن الخوف منها ، يقول تعالى : «ومِن آياتِهِ الليلُ

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٧٤.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٠.

(٣) في ظلال الصحيفة السجادية ، للشيخ مغنية : ١٠٠ ـ دار التعارف للمطبوعات ط٢.

١٩

والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ ) (١) .

لقد مرَّ الإنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من حوله ، فهو لا يعرف شيئا من أسرارها وأسباب تقلّب أحوالها ، فأخذ يقدّسها ويقدّم لها القرابين بسخاء ، متصورا أنّه سوف يأمن بذلك من ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمّرة وسيولها الجارفة وصواعقها المحرقة ، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها ، وفتحت الطريق أمامها واسعا لاستثمار الطبيعة والتسالم معها ، عندما رفعت ما كان من حجب كثيفة بين الإنسان والطبيعة ، وانكشف له بأنّ الطبيعة ومظاهرها وما فيها من مخلوقات وحوادث كلها صادرة عن اللّه تعالى ، وهي مخلوقات مسخّرة لخدمته ، وما عليه إلاّ أن ينتفع بها ويتفكر فيها وبأصلها حتى يصل عن طريقها إلى الخالق :( أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيفَ خُلقت * وإلى السَّماء كيفَ رُفِعت * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبت * وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحت ) (٢) .

ولا بدَّ من الاشارة إلى أنّ منهج العقيدة في بناء الإنسان «منهج شمولي » يُنظّم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه وبالطبيعة من حوله ، وكل توثيق أو تطور في العلاقة بين الإنسان وربّه فسوف ينعكس إيجابيا على علاقته مع الطبيعة المسخّرة بيد اللّه تعالى ، فتجود على الإنسان المؤمن بالخير والعطاء ، لذلك طلب النبي« هود » عليه‌السلام من قومه ـ الذين ابتعدوا عن منهج السماء فحُبس عنهم المطر ثلاث سنين وكادوا يهلكون ـ أن يستغفروا

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٧.

(٢) الغاشية ٨٨ : ١٧ ـ ٢٠.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللاّزمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه ؛ وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهةٍ في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابلٍ للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمرٍ مادّيٍّ كذلك - ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، أو لم ندرك ؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فُرضت، ومن حكم المّادة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام ؛ فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً، هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً، ليس فيه كثرة من الأجزاء، ولا خليط من خارج، بل هو واحد صِرْف، فكلّ إنسانٍ يشاهد ذلك من نفسه، ويرى أنّه هو وليس بغيره، فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة، ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللاّزمة، فهو جوهر مجرّد عن المادّة متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري ؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمعٌ من الإلهيّين من المتكلّمين والظاهريّين من المحدثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذُكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها، لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلاّ وجدت علّتها المادّيّة، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي، على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يُدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب-: أنا.

فالذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح، إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه - على ما تبيّن - بطلان الأعصاب، ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان، أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتا، وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يُقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة، هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي: الإدراكات العصبيّة، التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

٤٢

أقول : أمّا قولهم: ( إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة، لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلاّ بها )، فهو كلام حقٍّ لا ريب فيه، لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة، وخواص المادّة، إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادّيّة، التي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّة، إنّما لها أن تحكم في الأُمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه - كما عرفت - أن يجد ما بين المادّة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادّة وخواصّها، التي هي نتائج بحثها، أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة، وحكم الطبيعة.

والذي جرّأهم على هذا النفي ؛ زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة، إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء، ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مُبْدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباهٌ فاسدٌ، فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك، ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن، فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته، كما مرّ.

٤٣

وأمّا قولهم: ( إنّ الإنيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة، هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز، على التوالي، وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - ) فكلام لا محصّل له، ولا ينطبق عليه الشهود النفساني ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفساني ؛ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ، واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية، وليت شعري، إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الأُمور الكثيرة التي هي الإدراكات أُمور مادّيّة ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمِن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟!

ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ؛ فإنّ الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة، وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال - كالدار الواحد والخطّ الواحد مثلاً - لا في نفسه، والمفروض، في محلّ كلامنا، أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم:

إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة، كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات، أو المخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها، نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إنّ المُدْرك هاهنا الجزء الدماغي، يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة ؛ كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض: أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغي قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات، كتعلّق القوى الحسيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود، الذي هو متغيّر متجزّئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن تكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورةً بشعورٍ دماغيٍّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوّة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها ؟!

وهي جميعاً أُمورٌ مادّيّةٌ، ومن شأن المادّة والمادّي الكثرة والتغيّر وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم: ( إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المُدْرِكة، فيدرك الكثير المتجزّي المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً ) غلط واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الأُمور النسبيّة التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثير من مشاهدات حواسّنا، إلاّ أنّ هذه الأغلاط، إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه، فهو أمرٌ واقعيٌّ كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المُدْرِكة إذا وجدت الأُمور الكثيرة المتغيِّرة المتجزّية على صفة الوحدة والثبات والبساطة ؛ كانت القوى المُدْرِكة غالطة في إدراكها، مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج، وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يُقال للأمر الذي هذا شأنه: إنّه مادّي لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحجّة التي أوردها المادّيون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدَّعاهم ) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني - المثبت لوجود أمرٍ واحدٍ بسيطٍ ثابتٍ - تصوير فاسد، لا يوافق لا الأُصول المادّيّة المسلِّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد، في أمر النفس، وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها، المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحثٍ أنّ يفترض موضوعاً، ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع، مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي، كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نُفاة تجرّد النفس من الملِّيّين: إنّ الذي يتحصّل من الأُمور المربوطة بحياة الإنسان: كالتشريح والفيزيولوجي، إنّ هذه الخواص الروحيّة الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأُصول في حياة الإنسان، وسائر الحيوان، وتتعلّق بها، فالروح خاصّة، وأثر مخصوص فيها لكلّ واحدٍ منها أرواح متعدّدة، فالذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه، ويحكي عنه ب-: أنا: مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة، والخواصّ الروحيّة، تبطل بموت الجراثيم والسلولات، وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الأمر أنّ الأُصول المادّيّة المكتشَفة بالبحث العلمي لمّا لم تفِ بكشف رموز الحياة ؛ كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديّين وارد على هذه الحجّة المختلَقة من غير فرق، ونزيدها أنّها مخدوشة:

أوّلاً : بأنّ عدم وفاء الأُصول العلميّة المكتَشَفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة، لا ينتج عدم وفائها أبداً، ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهلٍ منّا، فهل هذا إلاّ مغالطة وُضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة وبعضها الآخر - وهي الحوادث الحيويّة - إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّي ولا الإلهي، وجميع أدلّة التوحيد تُبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس، مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة، غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه ؛ ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام

٤٧

عليها، فمَن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي(١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية - وهي دلالة القرآن والسنّة على أنّ للإنسان روحاً ونفساً غير البدن، فنقتصر فيه على نقل جملةٍ من الآيات الكريمة:

١ -( وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‌ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‌ ) (آل عمران ١٦٩ - ١٧١ ).

٢ -( وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لٰکِنْ لاَ تَشْعُرُونَ‌ ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ - (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ - ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين:

أوّلهما : الحياة البرزخيّة للشهداء وأئمّة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يُستفاد منها عموم الحياة البرزخيّة للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع وإشكال.

ثانيهما : أنّ للإنسان شيئاً آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه، وهو المستحقّ للثواب والعذاب، وهو الذي يُسمّى بالروح والنفس.

٤ -( فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) ( الواقعة ٨٣ ).

___________________

(١) ص ٣٦٤ إلى ٣٧٠ ج١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ -( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي ) ( القيامة ٢٦ ).

٦ -( إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ کَافِرُونَ‌ * قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ‌ ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفّى الجسم الذي يُدفن في الأرض ويضلّ فيها، بل يتوفّى النفس.

٧ -( وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِکَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.. ) ( الأنعام ٩٣ ).

٨ -( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) ( الزمر ٤٢)(١) .

___________________

(١) وقد يُقال أنّ قوله تعالى( هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاکُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُکُمْ فِيهِ ) ( الأنعام ٦٠ )، يدلّ على موت الإنسان في المنام، والحال أنّه حيّ نائم.

وقد يُجاب عنه بأنّ الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرّف النفس في البدن، كما أنّ البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرّفها في البدن بعد الانقطاع، فلأجله عُدت الإنامة توفياً، وإن شئت فقل إنّ التوفّي على قسمين: توفّي مؤقّت وهو الإنامة، وتوفّي يستمر وهو الإماتة كما يُستفاد من قوله تعالى:

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى... ) ( الزمر آية ٤٢).

ويقول بعض الأطبّاء: إنّ حياة النوم ليست بها حسّ ولا وعي ولا حركة.

ويجب أن نعرف أنّ للنوم درجات، والدرجات السطحيّة منه يخالطها بعض اليقظة، وبعض الحسّ والحركة من تقليب وخلافه.

وأمّا الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقّت، وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخّ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الإنسانيّة ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم، وأخواته المشار إليها، وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم.

وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

=

٤٩

( البحث الرابع ) : النفس والروح مفهومان لحقيقةٍ واحدةٍ، فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ إنسان يُدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان !

وتخيّل التعدّد من أوهام العوام، ومَن بحكمهم من مدّعي العلم المبتلين بالجهل المركّب.

ويناسب هنا أنْ نرجع إلى الكتاب والسنّة ؛ لنرى رأيهما في حقّهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أمّا الروح فقد استُعملت في القرآن في معانٍ مختلفةٍ غير ما به حياة الإنسان وشخصيّته، بل ليس فيه أنّ آدمعليه‌السلام أعطاه الله روحاً، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ) كما ورد ( مثله ) في حقّ عيسىعليه‌السلام ، فلعلّ المراد من النفخ هو الإحياء فقط لا أنّ آدم وعيسى صاحبا روح(١) .

وأمّا قوله تعالى:( ويسئلونك عن الرُّوح قُلِ الرُّوح من أمر ربّي ) فالمراد بها مجهول، ويُحتمل أنّها الروح الأمين، أو روح القُدُس(٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِکَةُ وَ الرُّوحُ ) ، وبقوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاَئِکَةُ صَفّاً ) ، أو روح الإنسان. لكن في الأحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل...(٣) .

وأمّا قوله تعالى:( أُولٰئِکَ کَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيّدة للمؤمنين - رزقنا الله بفضله -

___________________

=

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام، وكذا في الفصل الرابع في جواب الإشكال السابع.

(١) نعم الأحاديث تدلّ على أن للإنسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناءً على أنّه غير الروح الأعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج١٨ وغيره من بحار الأنوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الإنسانية، كما لا يخفى.

وأما النفس والأنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلّق بها:

١ - النفس هي المسؤولة عن أعمال الإنسان كقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ ) ( البقرة ٢٨١ )، وقوله:

( وَ وُفِّيَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‌ ) (١) .

والآيات الدالّة عليه كثيرة(٢) .

٢ - أنّها تذوق الموت وإليها أُسند القتل، كقوله تعالى:( کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( آل عمران ١٨٠ )، ( الأنبياء ٢٥ )، ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ - أنّها تُلْهَم فجورها وتقواها.

٤ - أنّها المكلّفة:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة ٢٨٦ )، ولاحظ سورة الأنعام ١٥٢، والأعراف ٤٢، والمؤمنون ٦٢، والطلاق ٧.

٥ - أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوّامة، ومطمئنة وترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة.

٦ - أنّها متنعّمة في الجنّة، ( الزخرف ٧١ - فُصّلت ٣١ )(٣) .

وأمّا الأحاديث المعتَبَرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثيّة( معجم الأحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج١ - عقايد براى همه وغيرها )، وإليك جملة منها:

١ - صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

___________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨، ١٢٣، ٢٨١، آل عمران ٢٥..

(٣) ونسب إلى النفس - أيضاً - زائداً على ما في المتن: الإيمان والتفريط في جنب الله، والوسوسة، والتسويل، والشّحّ، والاشتهاء، والهوى، والأكنان، والحرج، والإخفاء، والاستيقان في آيات أُخر.

٥١

حول العرش، فقال: ( لا، المؤمن أكرم على الله مِن أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ فقال: ( هي عينٌ يُقال لها سلمى )(٢) .

٣ - صحيح الكناسي المروي في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام ...: ( إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... )(٣) .

٤ - صحيح الأحول المروي فيه قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدم قوله:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٤) ، قال: ( هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة)(٥) .

٥ - حسنة حمران، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٦) قال: ( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى )(٧) .

٦ - صحيح أبي بصير المروي في الكافي، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَ يَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٨) ،

___________________

(١) ص ٢٦٨ ج٦ بحار الأنوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١: ١٣٣.

(٨) الإسراء آية ٨٥.

٥٢

قال: ( خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل(١) ... )

٧ - معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادقعليه‌السلام :

( إنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا )(٢) .

أقول : هذا المضمون وارد في عدّة من الأحاديث، لكنّ أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيّدة لها.

٨ - موثّقة ابن بكير، عن الباقرعليه‌السلام : (... وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفَي عام)(٣) .

أقول : خلقة الأرواح قبل الأبدان بألفي عام وردت في جملة من الأحاديث(٤) ، ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمّةعليهم‌السلام ، والظاهر أنّها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، ولذا أوّله في الأسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تُطلق على الإنسان المركّب منها ومن البدن، بل يطلق على نفسها فقط، بخلاف النفس، فإنّها تطلق على خصوص معناها، كما تُطلق على معنىً يُعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة ( خود، خودتان، خودما )، أي: على مجموع الإنسان، كقوله تعالى:( فسلِّموا على أنفُسِكُم ) (٥) ، بل ربّما على ما استحال البدن والنفس فيه ؛ كما في حقّه تعالى:( وَ يُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (٦) .

___________________

(١) الكافي ١: ٢٧٣، نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج٥٨ وغيره من بحار الأنوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو: أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لا تأمر بالشرّ بل تأمر بالخير دائماً، وأمّا النفس، فهي تأمر بالخير والشرّ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن أسند الشرّ إلى النفس ولم يسنده إلى الروح، لكنّ القرآن لم يفصّل القول في الروح الإنسانيّة، كما عرفت، وما تقدّم من الأحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.

وبالجملة : هما مفهومان لمصداقٍ واحدٍ كما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة - وهي دلالة العلم على وجود الروح - فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط ؛ حتى لا يطول بنا المقام:

والمادّة التي يتكوّن منها الدماغ، هي عين المادّة التي تنشأ منها بقيّة أعضاء الجسد، ونوع الحياة الذي يتسبّب في نشوء الجميع واحد. فإنّ أصل الجنين خليّة واحدة ثمّ تتكثّر، وعليه، يلزم أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنسٍ واحدٍ دون اختلاف تخصّصاتها، وهي وظائف غير إراديّة ولا فكريّة، لأنّها اللاّرادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولّد - بصورة آليّة - المريد من غير المريد والمفكِّر من غير المفكِّر.

وماقيل من أنّ: الإرادة، والفكر، والشعور، وغيرها من الأنشطة الإنسانيّة الاختياريّة، إنّما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، غير صحيح ؛ فإنّ كلّ تفاعلٍ لابُدّ له من عامل، فهو إن كان خارجيّاً يلزم استناد إرادته وأفكاره ومشاعره المختلفة غير اختياريّة له، مع أن المادّيّين لم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - ولا مرّة واحدة أن يضعوا العناصر والمركّبات في أنابيب الاختبار، ثمّ يدفعونها بالتأشيرات المعنويّة بدلاً من العوامل المادّيّة المعهودة.

٥٤

وإن كان داخليّاً فما هو ؟

هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب، أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ، أم هو شيءٌ آخر ؟

فليكن أيّ شيء فلماذا تتحدّد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم، باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهةٍ أُخرى ؟

إنّ محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص والأزمان، وأنشطتهما المادّيّة واحدة، فلماذا تتعدّد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها ؟

فتتعدّد الأفكار، وتتعدّد المشاعر والأحاسيس، وتعدّد الاكتشافات، وتتعدّد المواهب عند الأشخاص، بل وتعدّد عند الشخص الواحد في ساعتين...، أقول : ولا تفسير له سوى الإقرار بوجود الروح...(١) . انتهى ما أردنا نقله.

واعلم أنّ الاعتقاد بوجود الروح، لا ينقص من أهميّة المخّ وعظم عمله، فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم: إنّ كثيراً من العلماء، ذكروا أنّ المظاهر النفسيّة: كالوعي، والإدراك، والانفعال، والذاكرة، والقدرة على التعلّم، والإحساس النهائي للّذّة والألم، وكلّ هذه المظاهر النفسيّة لم يثبت علميّاً - إلى الآن - أنّ مراكزها النهائيّة موجودة في خلايا المخّ.

والحقيقة أنّنا نتعلّم الطبّ حسب المدرسة الغربيّة، التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى: أنّ المظاهر النفسيّة عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقّدة تحدث داخل خلايا المخّ، وهذا أمر لم يثبت علميّاً للآن(٢) .

أقول : ولتأثير الروح والمخّ وأهمّيّة كلتيهما لنضرب مثلاً، ونشبّه

___________________

(١) ص ١٢٧ إلى ص١٣١ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة، نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصوِّر، وخلايا المخّ بجهاز التصوير، والصورة كما تحتاج إلى المصوِّر تحتاج إلى آلة التصوير ولا يغني أحدهما عن الآخر في إنتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الإنسان.

المتدبّر في البحثين الأخيرين، يقتنع بسهولة أنّ الحياة الإنسانيّة إنّما هي بتعلّق الروح بالبدن، كما أنّ موت الإنسان بانقطاع هذا التعلّق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الإنسان، ولا موته بموتها، وهذا الذي اعتقده علماء الإسلام، هو الصحيح المطابق للبراهين العقليّة أيضاً.

وإنْ شئت فقل: إنّ قوام إنسانيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، وإنّ فُرض موجوداً تامّاً في الخارج وكان جميع خلاياه حيّة، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو - قبل تعلّق الروح - جنين الإنسان، وما يؤل إلى الإنسان وليس بإنسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن ؟

هذا هو السؤال المهمّ في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الأجنّة، وسائر العلوم للإجابة عليه، لحدّ الآن، ولا أظنّ اهتداء العقل إليه أيضاً، فلا بُدّ من الرجوع إلى الدين فيه، لكنّ القرآن الكريم - وحسب فهمي - ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلّق الروح بالبدن، سوى قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‌ ) (١) ، ولا بُعد في إرادة تعلّق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ إنشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح، ويؤكِّده قوله:( فَتَبَارَکَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلّق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يُستفاد أنّ تعلق الروح

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أيّ شهرٍ من شهور الحمل، وإنّما يُستفاد من الآية المذكورة أنّه بعد كسوة العظام لحماً. وإن قدّر الطب بشكلٍ دقيقٍ محسوسٍ على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلّق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل، بل ظاهر قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ) ، الفصل بينهما، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الأحاديث، فنقول:

١ - الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(... فإذا أُنشئ فيه خلقٌ آخر، وهو الروح، فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أُنثى فخمسمئة دينار )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي، قال:

سألت أبا جعفرعليه‌السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تُعرف بها ؟

فقال: ( النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة.

قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تُعرف بها ؟

فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة.

قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تُعرف بها ؟

قال: هي مضغة لحمٍ حمراءَ فيها عروقٌ خضرٌ مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم.

قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟

فقال: إذا كان عظماً شقّ له السمع والبصر، ورُتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الديّة كاملة )(٢) ، ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت(٣) .

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

___________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الأحاديث.

٥٧

يضر، فإنّه مذكور في صحيح زرارة وغيره، الآتية في مسألة الإجهاض(١) . ولم يذكر تعلّق الروح بالجنين أيضاً.

أقول : لا يُفهم من هذه الأحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الإنسانيّة، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم ١٢١ من الحمل، بل يُحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك، كما لا يخفى، بل في رواية أبي شبل:

( هيهاتَ يا أبا شبل، إذا مضت الخمسة الأشهر فقد صارت فيه الحياة، وقد استوجب الديّة)(٢) ، ولعلّه اشتباه ومحرّف الأربعة الأشهر، لكنّه محتمل، إذ لا يخالفه نصٌّ معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية(٣) ، ولا بُدّ لك أن تُلاحظ ما يأتي من الآية والأحاديث في المسألة الآتية، مع هذه الأحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق، أنّ جميع الأحاديث لا تدلّ على أنّ نفخ الروح يكون في أوّل الشهر الخامس من الحمل، حتّى معتبرة ابن الجهم في المطلب الأوّل من المسألة الآتية، وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمّل جيّداً، والله العالم.

ولعلّه لأجل ما ذكرنا ؛ قال صاحب الجواهرقدس‌سره في باب الدية ( ص٣٦٥ ج٤٣ ): بل عن ظاهر الأصحاب عدم اعتبار مضيّ الأربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتّب عليه الديّة، وإن قال الصادقعليه‌السلام في خبر زرارة:

( السّقط إذا تمّ له أربعة أشهر غُسِّل )(٤) .

وأفتى الأصحاب بمضمونه، إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي تحقّق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

___________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الأحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧: ٣٤٦، نسخة الكومبيوتر.

(٤) الكافي ٣: ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين(١)

الإجهاض: إلقاء حَمْلٍ ناقص الخَلْق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يُعبّر عن الإجهاض بالإسقاط، أو الطرح أو الإلقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الأطبّاء:

١ - الثابت في علم الأجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويُسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وإنّما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترةٍ من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو - أيضاً - نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة(٢) .

٢ - فترة الإنشاء - يعني به قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (٣) -

___________________

(١) الإجهاض - كما في معاجم اللُّغة واستعمال الفقهاء - هو إلقاء الحمْل ناقص الخَلْق، أو ناقص المدّة.

وقد أطلق مجمع اللُّغة العربية كلمة الإجهاض: على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة الإسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصبة من ناحية خلويّة بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضةً فاسدةً لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... ص٦٧٧، الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم: أنّه في الأُسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الأُسبوع الأوّل إلى الأُسبوع السادس كانت مجموعة من الأنسجة لم تظهر بالفيلم، وإنّما ظهر لنا من بعد الأُسبوع السادس، وبعد الأربعين يوماً بدأ يتخلّق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الأطراف، بدء خَلْقٍ آخر... ( و) من بعد الأُسبوع السادس ما هو إلاّ نموٌّ وليس تكويناً جديداً(١) .

٣ - إنّ الجنين يتحرّك ويتحرّك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن ٍطويل، ولكنّ السيّدة لا تحس به ؛ لأنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمرّ زمن حتّى يكبر الجنين، فتستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم ؛ فتشعر بها السيّدة بعد أربعة أشهر من الحمل، بل إنّ لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقّات قلب الجنين وهو في الأُسبوع الخامس، ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتّى مِن قبل ذلك...(٢) .

وقيل: إنّ الحركة متّصلة قبل ذلك ؛ لأنّ الخلايا منذ المراحل الأُولى في حركة، حتّى إنْ لم ترها الأجهزة ؛ لأنّ الخلايا تتحرّك، وترتّب نفسها إلى آخره(٣) .

٤ - مبرِّرات الإجهاض في الغرب قد اتّسعت حتّى بلغت خاتمة المطاف بالإجهاض حسب الطلب !!!

ومن المبرِّرات: الدواعي الطبّيّة، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الأُمّ إن استمرّ الحمل، ثمّ الخطر على صحّتها، ثمّ على صحّتها الجسميّة، أو النفسيّة، ثمّ عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثمّ على الصحّة الجسميّة أو

___________________

(١) ص٢٣٤ وص٢٣٥، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٢٥٤ وص٢٥٥، نفس المصدر.

(٣) ص٢٨٢، نفس المصدر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99