الفصل الثالث
البناء النفسي
إنَّ لكلِّ عقيدة أثرا في نفس صاحبها ، يدفعه إلى نوع من الأعمال والتصرفات ، ولقد كانت لعقيدة الإيمان باللّه في المسلمين آثار في النفس عميقة ، كان لها نتائجها العملية في الحياة العامة ، يمكن الإشارة إليها ـ إجمالاً ـ في النقاط التالية : ـ
أولاً : طمأنينة النفس :
إنّ الإنسان المتدين يجد في العقيدة اطمئنانا على الرغم من عواصف الأحداث من حوله ، فهي تدفع عنه القلق والتوتر ، وتخلق له أجواء نفسية مفعمة بالطمأنينة والأمل ، حتى ولو كان يعيش في بيئة غير مستقرة أو خطرة.
وتاريخ الإسلام يحدثنا بما لا يحصى من مصاديق ذلك ، فعلى الرغم من ان المسلمين الأوائل كانوا يعيشون ظروفا صعبة ، حيثُ الحروب المتوالية التي أثارتها قريش وحلفاؤها ، وما صاحبها من مقاطعة اقتصادية وعزلة اجتماعية وضغوط نفسية ، إلاّ أنّهم كانوا يتمتعون بمعنوية عالية ، ويندفعون للقتال بنفس مطمئنة إلى ثواب اللّه ورحمته.
عن أنس أنّ رسول اللّهصلىاللهعليهوآله قال يوم بدر : «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض ، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول اللّه ، جنّة
عرضها السّماوات والأرض؟!قال : نعم ، قال : بخ بخ! لا واللّه يا رسول اللّه ، لا بدَّ أن أكون من أهلها ،قال : فإنّك من أهلها » ، فأخرج تميرات من قرنه فجعل يأكل منهنَّ ، ثم قال : لئن حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها حياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثمّ قاتل حتى قتل(١) .
فالبيئة التي يتواجد فيها هذا المجاهد كانت خطرة ، فهو يعيش أجواء حرب بدر ، ولكن بيئته النفسية كانت سعيدة ، حيثُ يأمل العيش في جنّة عرضها السماوات والأرض فالمسلم بفضل عقيدة الإيمان باللّه تعالى يشعر بالرضا والاطمئنان بما يقع في محيطه من أحداث ، ويوطّن نفسه على قضاء اللّه وقدره ، فالمصيبة التي تصيبه في حاضره ، قد تتحول إلى بَرَكة ، والقرآن الكريم يُنمّي هذا الاحساس في نفس المؤمن قال تعالى :( وعَسى أن تكرهُوا شيئا وهو خيرٌ لكُم وعسى أن تُحبُّوا شيئا وهو شرٌّ لكُم واللّه يعلمُ وأنتم لا تعلمونَ ) (٢) .
وأحاديث أهل البيتعليهمالسلام تعمّق هذا الشعور في نفوس المسلمين ، فقد بعث أمير المؤمنينعليهالسلام كتابا إلى ابن عباس ، وكان ابن عباس يقول : ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّهصلىاللهعليهوآله كانتفاعي بهذا الكلام :« أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها » (٣) .
__________________
(١)السيرة النبوية ، لابي الفداء ٢ : ٤٢٠ ـ دار الرائد العربي ط٣.
(٢) البقرة ٢ : ٢١٦.
(٣) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٧٨ ـ كتاب ٢٢.
صحيح أنّ الإنسان العادي بطبعه يمتلكه اليأس والقنوط عند المصائب ، كما أشار القرآن صراحة لذلك بقوله :( وإن مسَّهُ الشرُّ فيئُوسٌ قنُوطٌ ) (١) ( ولئن أذقنا الإنسانَ مِنَّا رحمةً ثمَّ نزعناها منهُ إنَّهُ ليئوسٌ كفورٌ) (٢) ، ولكن الإنسان المؤمن المتسلح بالعقيدة وقور عند الشدائد ، صبور عند النوازل ، لا يتسرب الشك إلى نفسه :( لا ييئسُ من رَوحِ اللّه إلاّ القومُ الكافِرُونَ ) (٣) .
يصف مولى الموحدينعليهالسلام أولياء اللّه فيقول :« وإن صُبّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك ، علما بأنّ أزمّة الاُمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك » (٤) .
والملاحظ أنّه في الوقت الذي يركّز فيه أمير المؤمنينعليهالسلام في توصياته على عدم اليأس من رَوح اللّه ، فإنّه يؤكد في تعاليمه التربوية العالية على اليأس عما في أيدي الناس ، لكي يكون الإنسان متكلاً على ربِّه ، ولا يكون كلاًّ على غيره ، يقولعليهالسلام :« الغنى الأكبر اليأس عمّا في أيدي الناس » (٥) .
أساليب العقيدة في مواجهة المصائب :
ضمن هذا السياق ، تخفف العقيدة في نفوس معتنقيها من الضغوط
__________________
(١) فصلت ٤١ : ٤٩.
(٢) هود ١١ : ٩.
(٣) يوسف ١٢ : ٨٧.
(٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٣٤٩.
(٥) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٣٤.
والأزمات النفسية التي يتعرضون لها ، فتصبح ضعيفة الأثر والأهمية ، ضمن أساليب عديدة ، منها :
أ ـ بيان طبيعة الحياة الدنيا التي يعيش فيها الإنسان : وهذه المعرفة سوف تظهر بصماتها واضحة في وعيه وسلوكه ، فالعقيدة من خلال مصادرها المعرفية تبين طبيعة الدنيا وتدعوا إلى الزهد فيها.
يقول الإمام عليعليهالسلام : «أيُّها الناس ، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، فإنَّها عما قليل تُزيلُ الثاوي الساكن ، وتفجعُ المترف الآمن سرورها مشوب بالحزن » (١) .
وقال أيضا: « وأُحذركم الدنيا ، فإنّها دارُ شخوص ، ومحلَّةُ تنغيص ، ساكنها ضاعن ، وقاطنها بائن ، تميدُ بأهلها مَيَدان السفينة » (٢) .
وكان من الطبيعي والحال هذه أن تحذّر العقيدة من التعلق بأسباب الدنيا الفانية الذي ينتج آثارا سلبية تنعكس على نفس المسلم ، فعن علقمة ، عن عبداللّه ، قال : نام رسول اللّهصلىاللهعليهوآله على حصير فقام وقد أثّر في جنبه ، فقُلنا : يا رسول اللّه ، لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقالصلىاللهعليهوآله :« ما لي وللدُّنيا ، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها » (٣)
ويقول وصيه الإمام عليعليهالسلام :« وأُحذركُم الدنيا فإنّها منزلُ قُلعة ، وليست بدار نُجعة ، قد تزيّنت بغُرورها ، وغرَّت بزينتها ، دارُها هانت على ربِّها ، فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرها وحياتها بموتها ، وحلوها
__________________
(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٤٨ خطبة / ١٠٣.
(٢) نهج البلاغة : ٣١٠.
(٣) سُنن الترمذي ٤ : ٥٠٨ / ٢٣٧٧ باب ٤٤ ـ دار الفكر ط ١٤٠٨ ه.
بمُرِّها لم يُصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنَّ بها على أعدائه ، خيرُها زهيد وشرُّها عتيد. وجمعها ينفدُ ، ومُلكها يُسلب ، وعامرُها يخربُ. فما خيرُ دار تنقضُ نقضَ البناء ، وعُمر يفنى فيها فناء الزَّاد ، ومُدَّةٍ تنقطعُ انقطاع السير » (١) .
يقول الشيخ الديلمي : ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنينعليهالسلام بقوله :« دارٌ بالبلاءِ محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعيش فيها مذموم ، والأمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها » (٢) .
وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الادراك العميق للدنيا إلى حذر شديد منها ، ويكفينا الاستدلال على ذلك : سأل معاوية ضرار بن ضمرة الشيباني عن أمير المؤمنينعليهالسلام ، فقال : أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول :« يا دنيا! يا دنيا!! إليك عني ، أبيَّ تعرّضتِ؟! أم إليَّ تشوّقتِ؟! لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلّة الزّاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد » (٣) .
__________________
(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٦٧ / خطبة ١١٣.
(٢) ارشاد القلوب ، للديلمي ١ : ٣٠ ـ منشورات الرضي ـ قم.
(٣) تنبيه الخواطر ، الأمير ورّام ١ : ٧٩ / باب العتاب.
ومن جملة تلك الشواهد ، نجد أنّ العقيدة تكشف طبيعة الدنيا وعاقبة من ينخدع بها أو يركن اليها ، وتبين قصور رؤية من ينشد الراحة التامة فيها ، عن الصادقعليهالسلام أنّه قال لأصحابه :« لا تتمنّوا المستحيل ، قالوا : ومن يتمنى المستحيل؟! فقال عليهالسلام : أنتم ، ألستم تمنّون الراحة في الدّنيا؟ قالوا : بلى ، فقال عليهالسلام : الرّاحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة » (١) .
ب ـ إنّ المصائب تستتبع أجرا وثوابا : الأمر الذي يخفف من وقع المصائب على الإنسان ، فيواجهها بقلب صامد ، ونفس مطمئنة إلى ثواب اللّه ورحمته ، فلا تترك في نفسه أثرا أكثر مما تتركه فقاعة على سطح الماء.
يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« المصائب مفاتيح الأجر » (٢) .
وكتب رجلٌ إلى أبي جعفرعليهالسلام يشكو إليه مصابه بولده ، فكتب إليهعليهالسلام :« أما علمت أنّ اللّه يختار من مال المؤمن ومن ولده ونفسه ليأجره على ذلك » (٣) .
جـ ـ إلفات نظر المسلم إلى المصيبة العظمى : وهي مصيبته في دينه ، مما يهوّن ويصغّر في نفسه المصائب الدنيوية الصغيرة ، وهي حالة امتصاص بارعة للضغوط النفسية تقوم بها العقيدة ، ويحتل هذا التوجه مركز الصدارة في سيرة أهل البيت التربوية ، روي أنّه رأى الصادقعليهالسلام رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده ، فقالعليهالسلام :« يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى ، وغفلت عن المصيبة الكبرى ، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدّا
__________________
(١) أعلام الدين ، للديلمي : ٢٧٨.
(٢) بحار الأنوار ٨٢ : ١٢٢ ـ عن مسكن الفؤاد.
(٣) بحار الانوار ٨٢ : ١٢٣ ـ عن مشكاة الانوار : ٢٨٠.
لما اشتد عليه جزعك ، فمصابك بتركك الاستعداد له ، أعظم من مصابك بولدك »(١) .
وكان أبو عبداللّهعليهالسلام يقول عند المصيبة :« الحمدُ للّه الذي لم يجعل مصيبتي في ديني ، والحمدُ للّه الذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم ممّا كانت ، والحمدُ للّه على الأمر الذي شاء أن يكون فكان » (٢) .
من جميع ما تقدم ، نخلص إلى أنّ العقيدة تصوغ نفوسا قوية مطمئنة ، تواجه عواصف الأحداث بقلب صامد ومطمئن إلى قضاء اللّه وقدره ، وترسم العقيدة للإنسان خطّ سيره التكاملي ، وعليه فالإنسان بلا عقيدة كالسفينة بلا بوصلة ، سرعان ما تصطدم بصخور الشاطئ فتتحطم.
ثانيا : تحرير النفس من المخاوف :
مما لا شكَّ فيه ، أنّ الخوف يبدد نشاط الفرد ، ويُشل طاقته الفكرية والجسمية ، وكان الإنسانُ الجاهلي في خوف دائم من أخيه الإنسان ودسائسه ، ومن الطبيعة المحيطة به وكوارثها ، ومن الموت الذي لا سبيل له إلى دفعه ، ومن الفقر والجدب ، ومن المرض وما يرافقه من آلام ، وتخفف العقيدة من وطأة الاحساس بتلك المخاوف التي تشلُّ طاقة الإنسان عن الحركة والانتاج ، وتجعله غرضا للهموم والهواجس.
الموت تحفة!
ينبّه القرآن الكريم إلى حقيقة أزلية ، على الإنسان أن يوطّن نفسه
__________________
(١) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : ٤٨٩ ـ منشورات الرضي ـ قم.
(٢) الكافي ، للكليني ٣ : ٢٦٢ / ٤٢ باب النوادر.
عليها ، وهي :( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) (١) .
وعليه فلا بدَّ مما ليس منه بد ، والموت لا بدَّ أن يدرك الحي يوما ما ، كما أدرك مَنْ قبله ، وهو شيء لا عاصم منه قال تعالى :( أينما تكُونوا يُدرككُم الموتُ ولو كُنتُم في بُروجٍ مشيَّدة .. ) (٢) . وقال :( قُلْ لَّن ينفعكُم الفرارُ إن فررتُم من الموتِ ) (٣) .
فالقرآن ـ إذن ـ يؤكد أنّ الموت لا بدَّ منه ، ثم أنّه أمرٌ منوط بإذن اللّه تعالى وليس بيد غيره ، وهذه حقيقة لها انعكاسات إيحائية على نفس الإنسان ، بأنَّ أي قوة أرضية أو سماوية لا تستطيع ـ مهما أُوتيت من قوة ـ أن تسلب الحياة عن الإنسان قال تعالى :( ما كان لنفسٍ أن تموتَ إلاَّ بإذن اللّه كتابا مُؤجَّلاً .. ) (٤) .
ولقد بيّن القرآن الكريم زيفَ مزاعم اليهود الذين كانوا مع حرصهم الشديد على الحياة يتصورون أنهم أولياء اللّه دون غيرهم ، فكشف عن زيف مزاعمهم بهذا التحدّي الذي يخاطب دفائن النفوس ، ذلك أنَّ المؤمن باللّه حقا لا يخشى الموت إذا حلَّ بساحته ، فالموت هو انتقال من دار فانية إلى دار باقية ، واليهود بما يمتازون به من نزعة مادية طاغية ، يخشون الموت ويتشبثون بالحياة ، ومن هنا واجههم القرآن الكريم بهذا التحدي البليغ قال تعالى :( قُل يأيُّها الَّذين هادُوآا إن زعمتم أنّكُم أولياءُ للّه
__________________
(١) آل عمران ٣ : ١٨٥.
(٢) النساء ٤ : ٧٨.
(٣) الأحزاب ٣٣ : ١٦.
(٤) آل عمران ٣ : ١٤٥.
من دُونِ النّاسِ فتَمنَّوا الموتَ إن كنتم صادقين * ولا يتمنَّونه أبدا بما قدَّمت أيديهم واللّه عليمٌ بالظالمين ) (١) .
ويقول الإمام عليعليهالسلام :« فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه » (٢) . والمثير في الأمر أنّ العقيدة في الوقت الذي تخفف من خوف الإنسان من الموت ، تصوّر الموت للمؤمن كأنه تحفة! ينبغي الإقدام عليه ، وفي ذلك يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« تحفة المؤمن الموت » وإنّما قال هذا لأنَّ الدنيا سجن المؤمن ، إذ لا يزال فيها في عناء من رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان ، فالموت إطلاق له من العذاب ، والإطلاق تحفة في حقّه لما يصل إليه من النعيم الدائم(٣) .
وقال الإمام أبو عبداللّه الحسينعليهالسلام لأصحابه يوم عاشوراء :« صبرا يا كرام! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدائم ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ » (٤) .
من جانب آخر ، تدعو مدرسة آل البيتعليهمالسلام إلى ضرورة معرفة الموت ، فإنّ معرفة الشيء قد تبدّد المخاوف منه ، قال أمير المؤمنينعليهالسلام :« إذا هبت أمرا فقع فيه ، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم مما تخاف منه » (٥) ، وقد روي عن الإمام علي بن محمد الهاديعليهالسلام أنّه قال لمريض من أصحابه ، عندما دخل عليه فوجده يبكي جزعا من الموت :« يا عبد اللّه ، تخاف من
__________________
(١) الجمعة ٦٢ : ٦ ـ ٧.
(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٨١ / خطبة ٣٨.
(٣) تنبيه الخواطر ، الأمير ورّام ١ ـ ٢ : ٢٦٨ باب ذكر الموت.
(٤) معاني الاخبار ، للصدوق : ٢٨٨ ـ منشورات جماعة المدرسين ـ ط ١٣٧٩ ه.
(٥) نهج البلاغة : قصار الحكم / ١٧٥.
الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت وتقذّرت ، وتأذيّت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كلّه ، أما تريد أن تدخله ، فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يا ابن رسول اللّه ، قالعليهالسلام :فذاك الموت هو ذلك الحمام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك ، وتنقيتك من سيئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته ، فقد نجوت من كلِّ غمٍّ وهمٍّ وأذى ، ووصلت إلى كلِّ سرور وفرح » ، فسكن الرجل واستسلم ونشط ، وغمض عين نفسه ، ومضى لسبيله(١) .
ضمن هذا الاطار ، قيل للإمام الصادقعليهالسلام : صف لنا الموت ، قالعليهالسلام :« للمؤمن كأطيب ريح يشمّه ، فينعس لطيبه ، وينقطع التّعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ » (٢) .
هكذا تقدم العقيدة إشعاعا من الأمن يخفف من وطأة الموت ، فإنّه للمؤمن تحفة وراحة. قال رسول اللّهصلىاللهعليهوآله : « شيئان يكرهما ابن آدم : يكره الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب »(٣) .
والأئمةعليهمالسلام يؤكدون على الاكثار من ذكر الموت ، لما فيه من آثار تربوية قيّمة ، فهو يميت الشهوات في النفس ، ويهوّن مصائب الدنيا التي تعصف بالإنسان مثل ريح السموم ، يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله : «أكثروا
__________________
(١) معاني الاخبار ، للصدوق : ٢٩٠.
(٢) عيون أخبار الرضا ، لابن بابويه ٢ : ٢٤٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط ١.
(٣) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : ٤٨٦ في ذكر الموت.
من ذكر الموت فإنّه يمحّص الذنوب ، ويزهّد في الدنيا » (١) .
ويقول الإمام عليعليهالسلام :« أكثروا ذكر الموت ، ويوم خروجكم من القبور ، وقيامكم بين يدي اللّه عزَّ وجل تهون عليكم المصائب » (٢) .
ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسنعليهماالسلام :« يا بُنيَّ أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجُمُ عليه ، وتُفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك » (٣) . وقالعليهالسلام أيضا :« من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير » (٤) .
ونعود لنقول إنّ العقيدة تحرر النفوس من شبح الخوف من الموت من خلال التأكيد على أنّه حقيقة لا بدَّ منها ، يجب التسليم بها ، والتسالم معها عبر معرفة حقيقة الموت ، وأنّه للمؤمن راحة ، وبدلاً من نسيانه أو تناسيه ، يجب أن نديم ذكره لما في ذلك من معطيات إيجابية قد أشرنا إليها فيما سبق.
الرّزق مضمون لطالبه :
هناك خوف ينتاب الإنسان ، وينغّص عليه حياته ، وهو الخوف من الفقر ، لكن العقيدة تبدد هذا الخوف من خلال التأكيد على حقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار ، وهي أنّ مقادير الرزق بيد اللّه تعالى ، وقد ضمنها لعباده ، وعليه فلا مبرّر لهذه المخاوف ، ومن يقرأ القرآن يجد آيات كثيرة ، تحثَّ على إزالة أسباب الخوف من الفقر التي أدّت بالجاهلي
__________________
(١) تنبيه الخواطر ١ : ٢٦٩.
(٢) الخصال ، للصدوق ٢ : ٦١٦ حديث الاربعمائة.
(٣) نهج البلاغة : ٤٠٠ كتاب ٣١.
(٤) روضة الواعظين : ٤٩٠.
إلى قتل أبنائه قال تعالى :( إنَّ اللّه هوَ الرّزَّاقُ ذو القوّةِ المتينُ ) (١) . وقال تعالى :( ولا تقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ نحنُ نرزُقُهُم وإياكُم ) (٢) .
وجاءت أحاديث الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله وآل بيته الأطهارعليهمالسلام على هذا المنوال ، قال رسول اللّهصلىاللهعليهوآله : «أبواب الجنة مفتَّحة على الفقراء والمساكين ، والرحمة نازلة على الرحماء ، واللّه راضٍ عن الأسخياء » (٣) .
ويقول وصيه الإمام عليعليهالسلام :« عياله الخلائق ، ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم » (٤) .
من جهة أُخرى ، قاموا بتصحيح مفهوم الناس عن الرّزق ، صحيح أنّ اللّه تعالى قد ضمن أرزاق عباده ، ولكن لا يعني ذلك أنّه يشجعهم على التواكل والكسل ، والقعود والابتعاد عن العمل ، وإنّما ربط تعالى تحصيل الرزق بشرط السعي والطلب ، يقول أمير المؤمنينعليهالسلام :« اطلبوا الرّزق فإنّه مضمون لطالبه » (٥) .
وكان أمير المؤمنينعليهالسلام يضرب بالمرّ ـ أي المسحاة ـ ويستخرج الأرضين ، وأنّه أعتق ألف مملوك من كدِّ يده(٦) .
وكانعليهالسلام يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى كلّت يده ،
__________________
(١) الذاريات ٥١ : ٥٨.
(٢) الإسراء ١٧ : ٣١.
(٣) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري ٢ : ٤٥٤.
(٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ١٢٤ / خطبة ٩١.
(٥) الارشاد ، للشيخ المفيد : ١٦٠ ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم.
(٦) الكافي ٥ : ٧٤ / ٢.
ويتصدّق بالأجر ، ويشدّ على بطنه حجرا(١) .
فلم يكن من عمله الشاق هذا ، حريصا على جمع المال لذاته ، فالإمام عليعليهالسلام لا تغرّه بيضاء ولا صفراء ، بل كان يطلب الرّزق الحلال من حِلِّه وينفقه في محله.
« ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال ، مولعة بجمعه واكتنازه ، فحريٌّ بالمؤمن الواعي المستنير ، أن لا ينخدع ببريقه ، ويغتر بمفاتنه ، وأن يتعظ بحرمان المغرورين به ، والحريصين عليه ، من كسب المثوبة في الآخرة ، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا ، فإنّهم خزّان أمناء ، يكدحون ويشقون في ادّخاره ثم يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين ، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المهنى والاغتباط »(٢) .
هكذا تستأصل العقيدة من النفوس جذور الخوف من الفقر ، وتجعله يسعى بكلِّ اطمئنان لضمان متطلبات عيشه الكريم.
المرض يمحو الذنب ويستدعي الثواب!
من جانب آخر لطّفت العقيدة من مخاوف الإنسان الدائمة من المرض من خلال التأكيد على حقيقة بديهية ، هي إنّ كلَّ جسم معرّض للسقم ، يقول الإمام عليعليهالسلام : « لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين : العافية والغنى. بينما تراهُ معافى إذ سقم ، وبينما تراهُ غنيا إذْ افتقر » (٣) .
__________________
(١) شرح النهج ١ : ٧.
(٢) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : ١٤٣ ـ دار الكتاب الاسلامي.
(٣) نهج البلاغة : ٥٥١ حكم ٤٢٦.
كما أكدت على أنّ المرض يسقط الذنب ، يقول الإمام السجادعليهالسلام :« إنَّ المؤمن إذا حمَّ حمى واحدة ، تناثرت الذُّنوب منه كورق الشجر » (١) . وعن أبي عبداللّهعليهالسلام قال :« صداع ليلة يحطُّ كلُّ خطيئة إلاّ الكبائر » (٢) .
وإضافة لذلك فإنّ فيه الثواب الجزيل ما يخفّف من وطأته على النفوس ، يقول الرسولصلىاللهعليهوآله :« عجبتُ من المؤمن وجزعه من السقم ، ولو يعلم ما له في السُقم من الثواب ، لأحبّ أن لا يزال سقيما حتى يلقى ربّه عزَّ وجل » (٣) .
ويحدّد الإمام الرضاعليهالسلام فلسفة المرض بقوله :« المرض للمؤمن تطهير ورحمة ، وللكافر تعذيب ولعنة ، وإنَّ المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب » (٤) .
ونعود لنقول بأنَّ اللّه لم يجعل المرض عبثا ، بل جعله وسيلةً لامتحان الإنسان ومعرفة صبره على النوازل ، لذلك امتحن به أنبياءه والصالحين من عباده ، فأيوبعليهالسلام ـ كما هو معروف ـ كان ابتلاؤه في جسده : (ولم يبقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر اللّه عزَّ وجل بهما ، وهو في ذلك كله صابر محتسب ، ذاكر للّه في ليله ونهاره وصباحه ومسائه ، وطال مرضه حتى عافه الجليس ، وأوحش منه الأنيس ، وأُخرج من بلده ، وانقطع عنه الناس ، ولم يبقَ أحد يحنو عليه سوى زوجته التي كانت ترعى له حقه
__________________
(١) ثواب الأعمال ، للشيخ الصدوق : ٢٢٨ ـ مكتبة الصدوق ـ طهران.
(٢) ثواب الأعمال ، للشيخ الصدوق : ٢٣٠.
(٣) كتاب التوحيد ، للصدوق : ٤٠٠ ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
(٤) ثواب الأعمال ، للصدوق : ٢٢٩ باب ثواب المرض.
وتعرف قديم إحسانه إليها ولم يزد هذا كله أيوبعليهالسلام إلاّ صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا ، حتى إنّ المثل ليضرب بصبره)(١) . فكان نتيجة هذا الصبر والاحتساب أن ردَّ اللّه تعالى إليه كلّ ما أخذ منه كرما وإحسانا.
والعقيدة في الوقت الذي تأمر المسلم بالتزام الصبر ، تنصحه بعدم الشكوى من المرض ، فالشكوى تعني ضمن ما تعنيه ، اتّهام اللّه تعالى في قضائه ، كما أنّها تحطّ من قدر الإنسان في نظر الناس ، وتبعث على الشماتة به أو التهكم عليه ، يقول أمير المؤمنينعليهالسلام :« كان لي فيما مضى أخ في اللّه ، وكان يعظّمه في عيني صغر الدّنيا في عينه وكان لا يشكو وجعا إلاّ عند بُرئه »(٢) .
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ العقيدة في الوقت الذي تبدّد غيوم المخاوف في نفس الإنسان ، تنمّي فيه شعور الخوف من اللّه تعالى وحده باعتباره السبيل للتحرّز من جميع المخاوف ، وتحذّر من عصيانه ، وتلوّح بشدّة انتقامه ، والقرآن الكريم في آيات كثيرة يعمّق من شعور النفس بالخوف من اللّه تعالى ، منها :( قُل إنّي أخافُ إن عصَيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ ) (٣) . وقال تعالى :( وأمّا من خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النَّفسَ عَنِ الهوى * فإنَّ الجنَّة هي المأوى ) (٤) .
وقال رسول اللّهصلىاللهعليهوآله :« ما سلط اللّه على ابن آدم إلاّ من خافه ابن آدم ،
__________________
(١) البداية والنهاية ، لابن الأثيرالدمشقي ١ : ٢٥٤ / ١ ـ دار احياء التراث العربي ١٤٠٨ ط ١.
(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٢٦.
(٣) الانعام ٦ : ١٥.
(٤) النازعات ٧٩ : ٤٠ ـ ٤١.
ولو أنّ ابن آدم لم يخف إلاّ اللّه ما سلّط اللّه عليه غيره » (١) .
وقالصلىاللهعليهوآله أيضا : « طوبى لمن شغله خوف اللّه عن خوف الناس »(٢) .
وبطبيعة الحال إنّ لهذا النوع من الخوف آثارا تربوية مهمة تعود لصالح الفرد ، وفي هذا الصدد ، يقول الإمام الصادقعليهالسلام :« من عرف اللّه خاف اللّه ، ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا » (٣) .
وتترتب عليه آثار اجتماعية أيضا حيثُ إنّه يدفع الفرد إلى مدِّ يدِّ العون إلى الآخرين ، قال تعالى :« ويُطعمونَ الطعامَ على حُبّهِ مسكِينا ويتِيما وأسيرا * إنَّما نُطعمكُم لوجهِ اللّه لا نُريدُ منكُم جزآءً ولا شُكورا * إنّا نخافُ مِنْ ربّنا يوما عبُوسا قمطريرا » (٤) .
وصفوة القول ، لقد غيرت العقيدة النفوس ، وفتحت لها آفاقا واسعة بتحريرها من مخاوفها ، كما أوصلت حبلها بخالقها ، وأشعرتها بنعمائه ، وخوفتها من أليم عقابه.
ثالثا : معرفة النفس
من معطيات العقيدة ، أنها تدفع الإنسان المسلم إلى معرفة نفسه ، فلا يمكن السمو بالنفس دون معرفة طبيعتها ، وهذه المعرفة هي خطوة أولية للسيطرة عليها وكبح جماحها ، يقول الإمام الباقرعليهالسلام :« لا معرفة
__________________
(١) كنز العمال ٣ : ١٤٨ / ٥٩٠٩.
(٢) تحف العقول ، لابن شعبة الحرّاني : ٢٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط٥.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ٦٨ / ٤ باب الخوف والرجاء.
(٤) الإنسان ٧٦ : ٨ ـ ١٠.
كمعرفتك بنفسك » (١) .
ثم إنَّ هناك علاقة ترابطية وثيقة بين معرفة اللّه ومعرفة النفس ، فمن خلال معرفة الإنسان لنفسه وطبيعتها وقواها ، يستطيع التعرف على خالقها ويُقدّر عظمته ، ففي الحديث الشريف :« من عرف نفسه فقد عرف ربه وبالمقابل فإنّ نسيان اللّه تعالى يؤول إلى نسيان النفس : « ولا تكُونُوا كالَّذينَ نسُوا اللّه فأنساهُم أنفُسَهُم » (٢) .
دور العقيدة في تعريف الإنسان بنفسه :
مما لا شكّ فيه أنّ العقيدة ـ عبر مصادرها المعرفية ورموزها ـ قامت بدور كبير في الكشف عن طبيعة النفس ، وشخّصت بدّقة متناهية أمراضها والآثار الناجمة عنها.
فالقرآن الكريم يقرُّ صراحة بأنّ النفس أمارة بالسوء :( وما أُبرّئُ نفسي إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رحمَ ربي .. ) (٣) .
كما يقرُّ القرآن أيضا ، بأنّ النفس شحيحة قال تعالى :( وأُحضرتِ الأنفسُ الشُّحّ .. ) (٤) ، وقال :( من يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأُولئكَ هُمُ المُفلحُون ) (٥) .
وهناك طائفة من الأحاديث تسلط الضوء على طبيعة النفس ، وتقدّم
__________________
(١) تحف العقول : ٢٠٨ من وصية الإمام الباقرعليهالسلام لجابر الجعفي.
(٢) الحشر ٥٩ : ١٩.
(٣) يوسف ١٢ : ٥٣.
(٤) النساء ٤ : ١٢٨.
(٥) الحشر ٥٩ : ٩.
الرؤية العلاجية لأمراضها ، منها : ما كتبه الإمام عليعليهالسلام إلى الاشتر النخعي لمّا ولاّه مصر ، وجاء فيه :« وأمرهُ أن يكسر نفسهُ من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فإنَّ النفس أمّارة بالسَّوءِ ، إلاّ ما رحم اللّه » (١) .
ومن خطبة لهعليهالسلام ضمّنها مواعظ للناس ، جاء فيها :« نستعينه من هذه النّفوس البطاء عمَّا أُمرت به ، السِّراع إلى ما نُهيت عنه » (٢) .
ويقولعليهالسلام أيضا :« النفس مجبولة على سوء الأدب ، والعبدُ مأمور بملازمة حسن الأدب ، والنّفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، والعبدُ يجهد بردّها عن سوء المطالبة ، فمتى أطلق عنانها فهو شريك في فسادها ، ومن أعان نفسه في هوى نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه » (٣) .
على هذا الصعيد لا بدَّ من الاشارة إلى أنّ الأمراض النفسية إذا لم تُعالج ، فإنّها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة ، فعلى سبيل الاستشهاد نجد أنّ الفتنة الكبرى التي حصلت للمسلمين في السقيفة ، عندما أُقصيت القيادة الشرعية عن مركز القرار ، كانت جذورها نفسية ، ويكفينا الاستدلال على ذلك بكلام أمير المؤمنينعليهالسلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به؟ فقالعليهالسلام :« أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدّون برسول اللّه صلىاللهعليهوآله نوطا ، فإنها كانت أثَرَة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحَكَم اللّه » (٤) .
__________________
(١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٢٧ كتاب ٥٣.
(٢) نهج البلاغة : ١٦٩ / خطبة ١١٤.
(٣) ميزان الحكمة ١ : ١٦ عن مشكاة الأنوار.
(٤) نهج البلاغة : ٢٣١.
فالشحُّ الكامن في نفوس البعض كان السبب الأساس في أول وأعظم انحراف شهدته المسيرة الإسلامية بعد ساعات قليلة من رحيل الرسولصلىاللهعليهوآله . لذلك كان أئمة أهل البيتعليهمالسلام مع عصمتهم المحققة ، يلجؤون إلى اللّه تعالى بالدعاء لكي يقيهم هذا المرض النفسي الخطير ، فعن الفضل بن أبي قرة قال : رأيت أبا عبداللّهعليهالسلام يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول :« اللهمَّ قني شحَّ نفسي ، فقلتُ : جعلتُ فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء؟ قالعليهالسلام :وأيُّ شيءٍ أشدُّ من شُح النفس ، إن اللّه يقول : « ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فاُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ »(١) .
رابعا : السيطرة على النفس
منهج العقيدة في تربية النَّفس ، أنّها تدعو إلى عدم كبت رغباتها لأنّ الكبت يقتُل حيويتها ، ويُبدد طاقتها ، فلا تعمل ولا تنتج ، وفي الوقت ذاته لا تشجع العقيدة على إطلاق رغباتها بلا ضوابط ، بل تحثُّ على اتّباع سياسة حكيمة معها ، يقول أمير المؤمنينعليهالسلام : « سياسة النفس أفضل سياسة »(٢) .
وعملية السيطرة على النفس تتحقق من خلال ضبط رغباتها وتوجيه نزواتها نحو الاعتدال ، وتتحقق أيضا من خلال محاسبتها ، قال الإمام موسى بن جعفرعليهالسلام :« ليس مِنَّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم ، فإن عمل حسنة استزاد اللّه تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه » (٣) .
__________________
(١) ميزان الحكمة ٥ : ٣٣ عن نور الثقلين ٥ : ٢٩١.
(٢) ميزان الحكمة ١٠ : ١٣٤ عن غرر الحكم.
(٣) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : ٣٥١. والحديث في الوافي ٣ : ٦٢ عن الكافي.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ العقيدة لا تحبذ اتّباع الوسائل الملتوية من أجل السيطرة على النفس ، فعن طلحة قال : انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرّغ في الرمضاء ، وكان يقول لنفسه : ذوقي ، وعذاب جهنّم أشد حرّا ، أجيفة باللّيل بطّالة بالنّهار؟!
قال : فبينا هو كذلك إذ أبصره النبيَّصلىاللهعليهوآله في ظل شجرة فأتاه ، فقال : غلبتني نفسي ، فقال له النبيَّصلىاللهعليهوآله :« ألم يكن لك بدٌّ من الذي صنعته؟ » (١) .
من هذا التوجه النبوي ، نجد أنّه في الوقت الذي تشجّع فيه العقيدة كلّ محاولة صادقة من الإنسان للسيطرة على نفسه ، نجد أيضا أنّها لا تُحبّذ اتّباع الأساليب غير العقلانية للسيطرة على النفس ، فالنفس تحتاج إلى صبر وسياسة طويلة ورياضة خاصة لتقلع عن ضراوة عاداتها ، كتلك الرياضة التي أقسم أمير المؤمنينعليهالسلام على اتّباعها مع نفسه :« وأيم اللّه ـ يمينا أستثني فيها بمشئية اللّه ـ لأروضنَّ نفسي رياضة تَهشُ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما » (٢) .
وإنّ الإنسان ليقف مبهورا أمام قدرة الإمامعليهالسلام في السيطرة على نفسه ، رغم أنّ الأموال كانت تجبى إليه من مختلف بلدان الخلافة الإسلامية أيام خلافته ، ولقد أبرَّ بقسمه الذي قطعه على نفسه ، عن حبة العرني قال : أُتي أمير المؤمنينعليهالسلام بخوان فالوذج فوضع بين يديه ونظر إلى صفائه وحسنه فوجى باصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثمَّ سلّها ولم يأخذ منه شيئا ، وتلمّظ اصبعه وقال: « إنَّ الحلال طيّب ، وما هو بحرام ، ولكنّي أكره أن أعوّد
__________________
(١) المحجة البيضاء ، للمحقق الكاشاني ٨ : ٦٨ ـ مؤسسة الاعلمي ط٢.
(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤١٩.
نفسي ما لم أعوّدها ، ارفعوه عنّي فرفعوه » (1) .
وكانعليهالسلام يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه ، فقيل له في ذلك ، فقالعليهالسلام :« أخافُ هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن » (2) .
الخوف والرجاء :
مما يمكن التأكيد عليه أنّ في النفس خطان متقابلان هما الخوف والرجاء ، والعقيدة تعمد إلى كلا الخطين ، فتبدد عن النفس كل خوف باطل وكل رجاء منحرف ، وبدلاً من ذلك تُنمّي الخوف من اللّه من جانب ، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالى :( يحذرُ الآخرةَ ويرجُو رحمةَ ربهِ ... ) (3) ، فليست نظرتها أحادية الجانب كأن تركز على جانب الخوف فتؤيس الإنسان من رحمة اللّه ، أو تركز ـ بالمقابل ـ على الرجاء فتضعف في نفسه الخشية من اللّه.
يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« لو تعلمون قدر رحمة اللّه لاتّكلتم عليها وما عملتم إلاّ قليلاً ، ولو تعلمون قدر غضب اللّه لظننتم بأن لا تنجوا » (4) .
ويقول وصيه الإمام عليعليهالسلام :« إنّ استطعتم أن يشتدَّ خوفكم من اللّه وأن يحسن ظنّكم به ، فاجمعوا بينهما ، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه ، وإنّ أحسن الناس ظنّا باللّه أشدهم خوفا للّه » (5) .
__________________
(1) وسائل الشيعة 16 : 508 ـ دار احياء التراث العربي.
(2) وسائل الشيعة 16 : 509.
(3) الزمر 39 : 9.
(4) كنز العمال 3 : 144 / 5894.
(5) نهج البلاغة : 384.
وتجدر الاشارة إلى أنّ الناس « يختلفون في طباعهم وسلوكهم اختلافا كبيرا ، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم ، رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجّي والتخويف فمنهم من يصلحه الرجاء ، وهم العصاة النادمون على ما فرّطوا في الآثام ، فحاولوا التوبة إلى اللّه ، بيد أنهم قنطوا من عفو اللّه وغفرانه ، لفداحة جرائمهم ، وكثرة سيئاتهم ، فيعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف اللّه ، وسعة رحمته وغفرانه.
أما الذين يصلحهم الخوف : فهم المردة العصاة ، المنغمسون في الآثام ، والمغترون بالرجاء ، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف ، بما يهددهم من العقاب الأليم ، والعذاب المهين »(1) .
وكان لأتباع مدرسة أهل البيتعليهمالسلام الذين سكن خوف اللّه تعالى في نفوسهم وانعكس على جوارحهم ، وزرع رجاؤه في قلوبهم ، أروع الامثلة في هذا المجال ، فروي عن أبي ذررحمهالله أنّه بكى من خشية اللّه حتّى اشتكى بصره ، فقيل له لو دعوت اللّه يشفي بصرك؟! ، فقال : إنّي عن ذلك مشغول ، وما هو أكبر همّي. قالوا : وما شغلك عنه؟! قال : العظيمتان : الجنة والنار(2) .
من جانب آخر يُنمّي روّاد هذه المدرسة الإلهية شعور الرّجاء في النفوس ، فمن وصايا أمير المؤمنين لابنه الإمام الحسنعليهماالسلام : « أي بُنيَّ ، لا تؤيّس مذنبا ، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير ، وكم من مقبل على عمل مفسد من آخر عمره ، صائر إلى النار ، نعوذ باللّه منها » (3) .
__________________
(1) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : 129 ـ دار الكتاب الاسلامي.
(2) روضة الواعظين : 285 في فضائل أبي ذررضياللهعنه .
(3) تحف العقول : 66 ـ مؤسسة الاعلمي ط 5.
الفصل الرابع
البناء الأخلاقي
العقيدة تشكّل مرتكزا متينا للأخلاق ، لأنّها تخلق الواعز النفسي عند الإنسان للتمسك بالقيم الأخلاقية السامية ، على العكس من العقائد الوضعية التي تساير شهوات الإنسان ، وتنمّي بذور الأنانية المغروسة في نفسه.
والأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في العقيدة الإسلامية ، قال الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« بُعثتُ لاتُمّم مكارم الأخلاق » (1) . وقالصلىاللهعليهوآله أيضا : الخُلق الحسن نصف الدين ، وقيل له : ما أفضل ما أعطى المرئ المسلم؟ قال :الخُلق الحسن » (2) .
الإسلام يربط بين الدين الحق والأخلاق ، مثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها في أنّ الدين يحثُّ على الأخلاق الحسنة ويقوم بتهذيب الطباع ويجعل ذلك تكليفا في عنق الفرد يستتبع الثواب أو العقاب ، وعليه فلم يقدّم الدين توجهاته الأخلاقية المثالية بصورة مجردة عن المسؤولية ، وإنّما جعل الأخلاق نصف الدين ، لأن الدين اعتقاد وسلوك. والأخلاق تمثل الجانب السلوكي للفرد.
__________________
(1) كنز العمال 11 : 240 / 31969.
(2) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : 376 ـ منشورات الرضي ـ قم.
قال الإمام الباقرعليهالسلام :« إنَّ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا » (1) . جاء رجل إلى رسول اللّهصلىاللهعليهوآله من بين يديه فقال : يا رسول اللّه ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله :« حُسن الخلق . ثم أتاه من قبل شماله فقال : ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله : حُسن الخلق. ثم أتاه عن يمينه فقال : ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله : حُسن الخُلق ، ثم أتاه من ورائه فقال : ما الدين؟ فالتفت إليهصلىاللهعليهوآله وقال :أما تفقه الدين؟ هو أن لا تغضب » (2) .
وقال أمير المؤمنينعليهالسلام :« عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلقه » (3) .
يقول العلاّمة الطباطبائي : « إنّ الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلاّ إذا اعتمدت على التوحيد ، وهو الإيمان بأنّ للعالم ـ ومنه الإنسان ـ إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يُغلَب في قدرته ، خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعّمين أو معذّبين.
ومن المعلوم أنّ الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان همّ إلاّ مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكانت التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة ـ عقيدة التوحيد ـ لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلاّ التمتع بمتاع
__________________
(1) اُصول الكافي 2 : 99 / 1 كتاب الايمان والكفر.
(2) المحجة البيضاء 5 : 89.
(3) تحف العقول : 200.
الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية »(1) .
إنَّ العقائد الالحادية بإزالتها من النفوس البشرية شعور التعلق بالخالق الكامل ، والمثل الأعلى المطلق ، والشعور برقابته وحسابه والمسؤولية اتجاهه ، أزالت الركيزة الأساسية للأخلاق ، ولم تستطع أن تعوض عنها بركيزة أُخرى في مثل قوتها.
الأخلاق ضرورة اجتماعية ، فهي بمثابة صمّام أمان أمام نزعة الشر الكامنة في الإنسان ، والتي تدفعه لمد خيوط الأذى لأبناء جنسه ، وعليه فالبناء الاجتماعي بدون منظومة الأخلاق كالبناء على كثيب من الرمال ، قال أمير المؤمنينعليهالسلام :« لو كنّا لا نرجوا جنّة ، ولا نخشى نارا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق ، فإنّها ممّا تدلُّ على سبيل النّجاح » (2) .
أساليب العقيدة في بناء الإنسان أخلاقيا :
لما كانت قضية الأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في توجهات العقيدة الإسلامية ، نجد أنّها اتّبعت أساليب وطرق عدّة متضافرة كبناء يتصل بعضه ببعض ، تشكّل بمجموعها السور الوقائي الذي يحمي الإنسان من الانحدار والسقوط الأخلاقي ، ويمكن إجمال هذه الأساليب ، بالنقاط الآتية : ـ
أولاً : تحديد العقيدة للمعطيات الأخروية للأخلاق :
فمن اتّصف بالأخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزيل والدرجات
__________________
(1) الميزان في تفسير القرآن ، العلاّمة الطباطبائي 11 : 157 ـ مؤسسة الأعلمي ط2.
(2) مستدرك الوسائل 2 : 283.
الرفيعة ، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الأليم.
قال الرسولصلىاللهعليهوآله :« إنّ العبد ليبلغ بحسن خُلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة » (1) .
وقال أيضا :« إنَّ حُسن الخُلق يبلغ درجة الصّائم القائم » (2) .
وقال موصيا :« يا بني عبدالمطلب ، أفشوا السلام وصِلوا الأرحام ، وأطعموا الطعام ، وطيّبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام » (3) .
وقال أيضا :« إنَّ الخُلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد » (4) .
وفي هذا السياق ، قال الإمام الصادقعليهالسلام :« إنَّ اللّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخُلق كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه يغدو عليه ويروح » (5) .
ثم إنّ هناك تلازما بين قبول الأعمال عموما والعبادية منها على وجه الخصوص وبين الأخلاق ، فقد روي أنّ رسول اللّهصلىاللهعليهوآله سمع امرأة تسبُّ جارتها وهي صائمة ، فدعا بطعام فقال لها :« كلي! فقالت إنّي صائمة! فقال صلىاللهعليهوآله : كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك ..؟! »(6) .
__________________
(1) المحجة البيضاء 5 : 93.
(2) ارشاد القلوب 1 ـ 2 : 133 ـ منشورات الرضي ـ قم.
(3) ارشاد القلوب 1 ـ 2 : 133.
(4) اُصول الكافي 2 : 100 / 7 كتاب الإيمان والكفر.
(5) اُصول الكافي 2 : 101 / 12 كتاب الايمان والكفر.
(6) الاخلاق ، للسيد عبداللّه شبر : 70 ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم.
ثانيا : بيان العقيدة للمعطيات الدنيوية للأخلاق :
فمن يتّصف بالأخلاق الحسنة ، يستطيع التكيّف والمواءمة مع أبناء جنسه ، ويعيش قرير العين ، مطمئن النفس ، هادئ البال ، أما من ينفلت من عقال القيم والمبادئ الأخلاقية ، فسوف يتخبط في الظلام ، ويعيش القلق والحيرة فيعذب نفسه ويكون ممقوتا من قبل أبناء جنسه ، ويدخل في متاهات لا تُحمد عقباها.
يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« حُسن الخُلق يثبّت المودّة » (1) . وقال وصيه الإمام عليعليهالسلام :« وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق » (2) . وقال الإمام الصادقعليهالسلام موصيا :« وإن شئت أن تُكرَم فَلِنْ ، وإن شئت أن تُهان فاخشن » (3) ، وقال أيضاعليهالسلام :« البر وحسن الخُلق يُعمران الدّيار ، ويزيدان في الأعمار » (4) .
وبالمقابل فإنّ للأخلاق السيئة معطيات سلبية يجد الإنسان آثارها في دار الدنيا ، قال الإمام الصادقعليهالسلام :« من ساء خُلقه عذَّب نفسه » (5) ، وقالعليهالسلام لسفيان الثوري الذي طلب منه أن يوصيه :« لا مروءة لكذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا خُلّة لمختال ، ولا سؤدد لسيء الخُلق » (6) .
__________________
(1) تُحف العقول : 38.
(2) تحف العقول : 98.
(3) تحف العقول : 356.
(4) اُصول الكافي 2 : 100 / 8 كتاب الايمان والكفر.
(5) اُصول الكافي 2 : 321 / 4 كتاب الإيمان والكفر.
(6) في رحاب أئمة أهل البيتعليهمالسلام ، للسيد محسن الأمين 4 : 69 عن تحف العقول.
مما تقدم اتضح أنّ العقيدة ترغّب الإنسان بالتحلي بالأخلاق الحميدة من خلال إبرازها للمعطيات الإيجابية ـ الأخروية والدنيوية ـ التي سيحصل عليها إذا سار في طريق التزكية ، وبالمقابل تردعه عن الأخلاق السيئة من خلال بيان الآثار السلبية ـ الاُخروية والدنيوية ـ المترتبة عليها.
ثالثا : تقديم التوصيات والنصائح :
تقدم العقيدة ـ من خلال مصادرها المعرفية ـ التوصيات القيمة في هذا الصدد ، التي تزرع في الإنسان براعم الأخلاق الحسنة ، وتستأصل ما في نفسه من قيم وأخلاق فاسدة.
من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبيصلىاللهعليهوآله قال : «أنا أديب اللّه ، وعلي أديبي ، أمرني ربي بالسخاء والبر ، ونهاني عن البخل والجفاء ، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزَّ وجل من البخل وسوء الخلق ، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل »(1) .
وقال وصيه الإمام عليعليهالسلام :« روضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة ، فإنَّ العبد المسلم يبلغ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم »(2) .
وقال أيضا موصيا : «عوّد نفسك السّماح وتخيّر لها من كلِّ خلق أحسنه ، فإنّ الخير عادة »(3) .
وقالعليهالسلام : «وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق
__________________
(1) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 17.
(2) الخصال ، للصدوق 2 : 621 حديث الاربعمائة.
(3) بحار الانوار 77 : 213 عن كشف المحجة لثمرة المهجة : 157 الفصل 154 ـ طبع النجف الأشرف.
الدنية فإنّها تضع الشريف وتهدم المجد »(1) .
من هذه الشواهد المنتخبة ، نستطيع القول بأنّ العقيدة تقدّم نصائحها وتوصياتها القيمة مُدعمة بالمعطيات والدلائل المقنعة ، لتشكّل جدارا من المنعة يحول دون جنوح الإنسان المسلم إلى هاوية الأخلاق السيئة.
رابعا : أُسلوب الأُسوة الحسنة :
وهو أحد الأساليب التربوية للعقيدة ، تربط الأفراد المنتسبين إليها برموزها ، لكونهم التجسيد المثالي أو الكامل لتوجهاتها ، وهم المنارة التي تبعث أنوارها ، وعليه فهي تحث الأفراد على الاقتداء بهم بغية التأثر بأخلاقهم والتزود من علومهم.
قال تعالى :( لقد كانَ لكُم في رسولِ اللّه أُسوةٌ حسنةٌ .. ) (2) . لأنّ سيرة الرسولصلىاللهعليهوآله هي التجسيد الواقعي الكامل للرسالة ، ولما كان الرسولصلىاللهعليهوآله ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ يمثل قمةً في مكارم الأخلاق : « وإنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم »(3) توجّب على المسلمين أن يدرسوا أخلاقه ويهتدوا بسنته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
كان رسول اللّهصلىاللهعليهوآله يستمد خُلقه من اللّه تعالى ومن كتابه الكريم ، قال تعالى : «خُذِ العَفوَ وَأمُر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهِلِينَ »(4) .
وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية الجامعة لمكارم الأخلاق ، سأل
__________________
(1) بحار الانوار 78 : 53 عن الغرر والدرر ، للآمدي.
(2) الأحزاب 33 : 21.
(3) القلم 68 : 4.
(4) الأعراف 7 : 199.
الرسولصلىاللهعليهوآله جبرئيلعليهالسلام عن ذلك فقال : «لا أدري حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال : يا محمد إنَّ اللّه يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك »(1) .
لقد دعا الرسولصلىاللهعليهوآله إلى التحلّي بمكارم الأخلاق كالتواضع والجود والأمانة والحياء والوفاء وما إلى ذلك ، كما نهى عن مساوئ الأخلاق كالبخل والحرص والغدر والخيانة والغرور والكذب والحسد والغيبة. وهكذا جهد لتقويم كل خلق شائن ، والشواهد كثيرة ، لا يسع المجال لها ، قال الإمام عليعليهالسلام : «ولقد كان صلىاللهعليهوآله يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه »(2) .
فالرسولصلىاللهعليهوآله وهو الرمز الأكبر للعقيدة الإسلامية ، يحرص أشد الحرص على هداية الناس إلى سواء السبيل ، لأنَّ عملية البناء الحضاري للإنسان تصبح عبثا لا طائل تحته من دون عملية التوجيه والهداية. وأهل البيتعليهمالسلام هم نجوم الهداية الأبدية لهذه الاُمة ، قال أميرالمؤمنينعليهالسلام :« ألا إنّ مثل آل محمد صلىاللهعليهوآله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجمٌ »(3) .
والهداية ـ بلا شك ولا شبهة تستلزم النجاة ـ هي الغاية المنشودة للإنسان المسلم ، ومن هنا يكمن المعنى العميق ، والتشبيه البليغ ، في حديث الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب
__________________
(1) مجمع البيان ، للطبرسي 3 : 89 ـ منشورات مكتبة الحياة عام 1980 م.
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 228 / خطبة 160.
(3) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 7 : 84.
حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(1) .
وصفوة القول ، إن لأهل البيتعليهمالسلام دورا كبيرا في بناء الإنسان المسلم ، وانقاذه من شتى أنواع الانحدار والضلال وليصل به إلى شاطئ النجاة.
قال أمير المؤمنينعليهالسلام : «اُنظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتَّبعوا أثرهم ، فلن يُخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً (2) ، وقال عليهالسلام أيضا : نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي »(3) .
ولقد سار الأئمة الأطهارعليهمالسلام على نهج النبيصلىاللهعليهوآله وسنته ، فقاموا بدور حضاري مشهود في إشاعة وترسيخ الأخلاق الفاضلة ، والردع عن الاخلاق الذميمة ، وكانوا يركزون على الجوهر بدلاً من المظهر ، ويعتبرون تحلية الجوانح بالاخلاق الفاضلة أفضل وأولى من تحلية الجوارح بالملابس الفاخرة ، فأصبح سلوكهم لنا أُسوة ومواقفهم قدوة ، فعن الإمام الصادقعليهالسلام : «خطب علي عليهالسلام الناس وعليه إزار كرباس غليظ ، مرقوع بصوف ، فقيل له في ذلك ، فقال : يخشع القلب ، ويقتدي به المؤمن »(4) .
والباحث يجد أن قضية الاخلاق قد احتلت مساحةً كبيرةً من آثار أهل البيتعليهمالسلام كنهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما لما لهذه القضية الجوهرية من دور مهم في البناء التربوي للإنسان المسلم ، عن جرّاح
__________________
(1) المراجعات ، للسيد عبدالحسين شرف الدين : 23 المراجعة الثامنة ، وفي هامش (37) اخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد.
(2) شرح النهج ، لابن أبي الحديد 7 : 76.
(3) شرح النهج 18 : 273.
(4) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 113.
المدائني أنّه قال : قال لي أبو عبداللّهعليهالسلام : «ألا أُحدّثك بمكارم الأخلاق؟ الصفح عن الناس ، ومواساة الرّجل أخاه في ماله ، وذكر اللّه كثيرا »(1) .
وفي الوقت الذي يردع فيه آل البيتعليهمالسلام كل انحراف أخلاقي ، فإنّهم يسترون على الناس معائبهم ، ولا يستغلون ذلك ذريعة للتشهير بهم والنيل منهم ، فمن كتاب أمير المؤمنينعليهالسلام للأشتر لمّا ولاّه مصر : «وليكن أبعد رعيّتك منك ، وأشنأهم عندك ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإنّ في الناس عيوبا ، الوالي أحقُّ من سَتَرها ، فلا تكشفنَّ عمّا غاب عنك منها ، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك فاستر العورة ما استطعت »(2) .
وكانوا يتبعون أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، فعن الحسين بن عليعليهماالسلام أنه قال لرجل اغتاب رجلاً : « يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها أدام كلاب النّار »(3) .
وقال رجل للإمام علي بن الحسينعليهماالسلام : إنّ فلانا ينسبك إلى أنّك ضالٌّ مبتدع ، فقال له الإمامعليهماالسلام : «ما رعيت حقّ مجالسة الرجل ، حيثُ نقلت إلينا حديثه ، ولا أدّيت حقّي حيثُ أبلغتني من أخي ما لست أعلمه! واعلم أنّ من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار ، أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه »(4) .
وكان من دعائهعليهالسلام : «اللهمَّ إنّي أُعوذ بك من هيجان الحرص وسَورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلّة القناعة وشكاسة الخُلق .. »(5) .
__________________
(1) معاني الاخبار ، للصدوق : 191.
(2) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 429 كتاب 53.
(3) تحف العقول : 176 ـ مؤسسة الاعلمي ط 5.
(4) الاحتجاج ، للطبرسي 1 ـ 2 : 315 ـ مؤسسة الاعلمي ط 1401 ه.
(5) الصحيفة السجادية الجامعة : 69 ـ مؤسسة الامام المهدي (عج) ـ قم ط1.
وهذا الموقف التربوي العجيب :
ليس الاقتداء وقفا على ميدان الخلق الفردي والاجتماعي ، بل له أُفق واسع سعة آفاق الحياة ، فكم سيتعلّم الحكام والساسة من دروس صانعي التاريخ ومهندسي الفكر! لننظر في هذا الحدث ـ الذي قد يبدو صغيرا ـ في تاريخ أمير المؤمنينعليهالسلام ، متطلّعين إلى ما يعكسه من صورة القائد القدوة والإمام الأُسوة ، وإلى ما يمكن ان نستلهم منه في جوانب حياتنا ، فردية كانت ، أو اجتماعية :
قام أعرابيٌّ يوم الجمل إلى أمير المؤمنينعليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول أنّ اللّه واحد؟
قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟!
فقال أمير المؤمنينعليهالسلام : «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم! »
ثم قالعليهالسلام : «يا أعرابي إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزَّ وجل ، ووجهان منها يثبتان فيه. فامّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الاعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النّوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان الذي يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم
في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزَّ وجلَّ »(1) .
وكنظرة مقارنة ، كم يكون البَّون شاسعا بين ما فعله الإمام عليعليهالسلام مع الأعرابي ، مع ما فيهعليهالسلام من تقسّم القلب ، كما وصفه أصحابه ، نتيجة للفتنة التي عصفت بالمسلمين في الجمل ، وبين ما فعله عمر بن الخطاب مع الأصبغ بن عسل حين سأله عن متشابه القرآن ، مع أنّ عمر كان يعيش مطمئنا في المدينة ، نقل ابن حجر ، أنّه قدم المدينة على عهد عمر بن الخطاب رجل يدعى الأصبغ بن عسل ، سأله عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وضربه بدرّته حتى أدمى رأسه ، وأسقط عطاءه ، ونهى عن مجالسته ـ ثم ـ قرر نفيه إلى البصرة ، وكتب إلى عامله عليها ، أبو موسى الأشعري : (أما بعد فإنّ الأصبغ تكلّف ما كُفي وضيّع ما وُلي ، فإذا جاء كتابي فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهده)(2) .
أهل البيتعليهمالسلام الأُسوة بعد النبيصلىاللهعليهوآله :
أهل البيتعليهمالسلام هم أحد الثقلين الذين أوصى الرسولصلىاللهعليهوآله أبناء أُمته بالتمسك بهما ، والسير على خطاهما :« إنّي قد تركت فيكم الثّقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب اللّه حبلٌ متينٌ ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (3) .
__________________
(1) كتاب الخصال ، للشيخ الصدوق : 2 / باب الواحد طبع جماعة المدرسين ـ قم. ومعاني الاخبار : 5 / باب معنى الواحد.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني 2 : 198 ـ دار احياء التراث العربي ط1 عام 1328 ه.
(3) بحار الانوار 23 : 106. كنز العمال 1 : 172 (وللحديث طرق مختلفة عن الفريقين).
الخلاصة
إنَّ العقيدة الإسلامية هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي ، التي تصوغ للإنسان المسلم نظرته التوحيدية للكون والحياة ، وتنتج له مفاهيم صالحة تعكس وجهة نظر الإسلام في شتى المجالات ، كما تنتج له عواطف وأحاسيس خيرة.
فالعقيدة تمثل عنصر القوة ، وهي التي صنعت المعجزات وحققت الانتصارات الكبرى في صدر الإسلام.
ولأجل النهوض بالإنسان المسلم لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة لمن سبقه ، وترسيخ قناعته بصوابيتها وصلاحيتها لجميع العصور.
ويمكننا إيجاز الدور الهام الذي قامت به العقيدة من أجل بناء الإنسان على جميع الاصعدة بما يلي :
1 ـ على الصعيد الفكري : اعتبرت الإنسان موجودا مكرّما ، أما الخطيئة التي قد يقع فيها فهي أمر طارئ يمكن معالجته بالتوبة ، وبذلك أشعرت الإنسان بقدرته على الارتقاء ، ولم تؤيسه من رحمة اللّه وعفوه ، ثم أنّ العقيدة حررت الإنسان من الاستبداد السياسي للحكام الوضعيين الظالمين ، كما حررته من عادة تأليه البشر ، وأطلقت حريته ، ولكن ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى ، كما ربطت الحرية
الإنسانية بالعبودية للّه وحده ، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته.
كما حررت الإنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من حوله ، ومن الأساطير والخرافات في الاعتقاد والسلوك.
ومن خلال عملية تحرير الفكر ، قامت بعملية البناء ، فأعطت مكانة كبيرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقا معرفية واسعة ، كما فتحت أمامه نافذة الغيب ، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضيقة ، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات اللّه الآفاقية والأنفسية ، وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات.
ولم تقتصر على ذلك بل وجهت طاقة العقل لاكتشاف السنن التاريخية الحاكمة على الاُمم والشعوب ، كما وجهت العقل للنظر في حكمة التشريع لترصين قناعة المسلم بشريعته وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
من جهة اُخرى دفعت العقيدة الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة ، وربطت بين العلم والإيمان ، فكل تفكيك بينهما سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة ، كما وجهت العقل للنظر المستقل والملاحظة الواعية واستنباط النتائج من مقدمات يقينية ، ودعته إلى عدم التقليد في اُصول الدين.
2 ـ على الصعيد الاجتماعي : قامت العقيدة بدور تغييري كبير ، فبينما كان فكر الإنسان الجاهلي منصبّا حول ذاته ومصالحها ، غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة يضحي بالغالي والنفيس في سبيل مبادئ دينه ومصالح مجتمعه.
وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص الإنسان على مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعي للفرد نحو الآخرين.
وقد نمّت العقيدة هذا الشعور بأساليب عدّة منها : إيقاظ حسّ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين ، وتنمية روح التضحية والايثار لدى الفرد المسلم ، ودفعه للانصباب في قالب الجماعة.
من جهة أُخرى ، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الأفراد ، من روابط تقوم على أساس العصبية للقرابة ، أو على أساس اللون أو المال أو الجنس ، إلى روابط أسمى تقوم على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة والأخاء الإنساني.
ونقلت العقيدة الأفراد من حالة التناقض والصراع إلى حالة التعارف والتعاون ، فشكلوا أُمّة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن كانوا قبائل وجماعات متفرقة ومتناحرة ، لا تقيم لهم الاُمم وزنا.
أضف إلى ذلك أن العقيدة الإسلامية قد قامت بتغيير العادات والتقاليد الجاهلية التي تسيء لكرامة الإنسان وتسبب له العنت والمشقة.
3 ـ على الصعيد النفسي : أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان للإنسان ، مهما كانت عواصف الأحداث من حوله.
وقد اتّبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الإنسان على حين غرّة ، ومن تلك الوسائل : بيان طبيعة الدنيا ، وأنّها دار محن واختبار ، مليئة بتيارات المصائب التي تهب على الإنسان كريح السموم ، وعليه فمن المستحيل على الإنسان أن يطلب الراحة والسكينة فيها. وعليه أن يضع نصب عينه النجاح في هذا الامتحان الالهي في الدنيا التي هي دار تكليف. ولقد خففت العقيدة من وطأة المصائب عبر التأكيد على أنّها تستتبع أجرا وثوابا ، كما وجهت نظر الإنسان للمصيبة العظمى وهي المصيبة في الدين ، الأمر الذي يخفف من وقع المصائب الدنيوية الصغيرة.
من جانب آخر ، حرّرت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشلّ نشاط الإنسان وتكبت طاقته وتجعله نهبا لعوامل القلق والحيرة كما شجّعت العقيدة الإنسان إلى معرفة نفسه ، فبدون هذه المعرفة للنفس يصبح من الصعوبة بمكان السيطرة عليها وكبح جماحها ، ثم بدون معرفة النفس لا يمكن معرفة اللّه تعالى حق معرفته.
ومن خلال البحث استنتجنا بأنّ الأمراض النفسية الخطيرة كالعصبية والشح والأثَرة إذا لم تعالج فإنّها ستؤدي إلى عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة ، كتلك الفتنة التي عصفت بالمسلمين في السقيفة ، التي بيّن الإمام عليعليهالسلام جذورها النفسية.
4 ـ على الصعيد الاخلاقي : قامت العقيدة بدور خلاّق في بناء منظومة الاخلاق للفرد المسلم ، وفق أُسس دينية تستتبع ثوابا أو عقابا ، وليس مجرّد توصيات إرشادية لا تتضمن المسؤولية ، على العكس من القوانين الوضعية ، التي أزالت شعور رقابة اللّه والمسؤولية أمامه من نفس الفرد ، وبذلك نسخت ركيزة الأخلاق ، فالأخلاق بدون الإيمان تفقد ضمانات الالتزام بها.
والملاحظ أنّ العقيدة اتّبعت أساليب عدّة لدفع الأفراد للتحلّي بالأخلاق الحسنة وتجنّب الأخلاق السيئة منها :
إبراز المعطيات الاُخروية وأيضا الدنيوية المترتبة على الأخلاق الحسنة أو السيئة.
كما اتّبعت أُسلوب « الاُسوة الحسنة » لتربط الأفراد برموز العقيدة ومرشديها بغية التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسي بسيرتهم.
المحتويات
المقدِّمة 7
الفصل الأول. 11
البناء الفكري. 11
الفصل الثاني. 43
البناء الاجتماعي والتربوي. 43
الفصل الثالث.. 61
البناء النفسي. 61
الفصل الرابع. 83
البناء الأخلاقي. 83
المحتويات.. 99