الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع0%

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 106

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

مؤلف: مركز الرسالة
تصنيف:

الصفحات: 106
المشاهدات: 38182
تحميل: 5128

توضيحات:

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 106 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38182 / تحميل: 5128
الحجم الحجم الحجم
الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع

مؤلف:
العربية

المبحث الرابع : اُصول الكفر وعلامات الكافر :

أولاً : اُصول الكفر :

إذا تتبعنا اُصول الكفر وأركانه في مصادرنا المعرفية ، فسنجد أنه يتمثل في ثلاثة خصال تشكّل ثالوث الكفر وهي : الاستكبار ، والحرص ، والحسد.

أما الاستكبار فقد أدى إلى امتناع ابليس (لعنه اللّه ) من السجود لآدمعليه‌السلام وعصى ـ بذلك ـ الأمر الإلهي ، بعد أن «اعترته الحمية ، وغلبت عليه الشقوة وتعزَّز بخلقة النار ، واستهون خلق الصّلصال ، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسُّخطة واستتماما للبليَّة وإنجازا للعدة ... »(١) .

أما الحرص فهو السبب المباشر في تكالب الناس في كلِّ عصر وجيل على حطام الدنيا ومتاعها القليل ، وهو من أخس الرذائل المؤدية إلى كفران النعم والشك بعد اليقين والوهن بعد العزيمة والوجل بعد الجذل ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الحرص وضرورة الابتعاد عنه لما فيه من نتائج وخيمة في دنيا الفرد وآخرته.

فعن أبي عبداللّه الصادقعليه‌السلام قال : «قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من علامات الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الدنيا ، والاصرار على الذنب » (٢) .

كما أنّ هناك أحاديث كثيرة تبيّن دعائم الكفر التي تتكى ء على اُصوله

__________________

١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤٢ / خطبة ١.

٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٩٠ / ٦ باب اُصول الكفر واركانه من كتاب الإيمان والكفر.

٦١

أو تتظافر معها وكلّها ترجع إلى أمراض نفسية خطيرة تبعد الإنسان عن دائرة الإيمان.

ثانيا : علامات الكافر :

لقد رسم القرآن لنا بدِّقة علامات الكافر ، ويمكن التطرق إليها ضمن الفقرات التالية :

١ ـ الجهل :

وهو أصل كلّ شر ومنبع كل رذيلة ، والكافر جاهل لا ترجى هدايته بالحجة والبرهان ولا بالموعظة والنصيحة( إنَّ الَّذينَ كفرُوا سَوآءٌ عَليهم ءأنذرتَهُم أم لم تُنذرهُم لا يُؤمِنُونَ ) (١) . فالجهل هو السبب الرئيسي وراء الكفر قال : أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لو أنَّ العباد حين جهلوا وقفوا ، لم يكفروا ولم يضلّوا(٢) .

ولأنَّ الكفار قد تبلّدت عقولهم ، فهم يعيشون حالة الخواء من الداخل كجذوع نخل خاوية لا روح فيها ولا ثمر لذلك أمر نبينا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاعراض عنهم بقوله تعالى :( خُذِ العَفوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عن الجَاهِلينَ ) (٣) .

٢ ـ موالاة الطاغوت :

سواءً أكان معنى الطاغوت الشيطان أو الدّنيا الدنية أو الحاكم الجبار

__________________

١) سورة البقرة ٢ : ٦.

٢) غرر الحكم.

٣) سورة الأعراف ٧ : ١٩٩.

٦٢

حسب اختلاف المفسرين ، فإنّ الطاغوت ما تكون موالاته والاقتداء به والاعتماد عليه سببا للخروج عن الحق. قال تعالى :( والَّذينَ كفرُوا أوليآؤهُم الطَاغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِنّ النُّورِ إلى الظُلماتِ ) (١) . ولا يتوقف الأمر عند حد الموالاة المجرّدة بل أنّ الكافر يذهب بعيدا في موالاته للطاغوت إلى حد القتال في سبيله والتضحية بالنفس والنفيس قال تعالى :( والَّذينَ كفرُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) (٢) .

٣ ـ الافراط في الشهوات والملذات :

ومن علامات الكافر التي تميزه عن المؤمن ، إفراطه في شهواته وملذاته ، لاهم له غيرها حتى كأنه لم يخلق إلاّ لاجلها ، وقد وصفهم القرآن الكريم بهذا ، قال تعالى :( والَّذينَ كَفرُوا يَتَمتعُونَ ويأكُلُونَ كَما تأكُلُ الأنعامُ والنَّارُ مثوىً لهُم ) (٣) ، بينما نجد المؤمن يعتبر تلك الاُمور وسيلة إلى هدف أعلى لأنّها لم تكن غاية بحد ذاتها ومن هنا قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطَّيباتِ كالبهيمة المربُوطة ، همُّها علفُها ، أو المُرسلةِ شُغلُها تقمُّمها ، تكترشُ من أعلافها ، وتلهو عمَّا يُرادُ بها »(٤) ، وقالعليه‌السلام : «همّ الكافر لدنياه ، وسعيه لعاجله ، وغايته شهوته »(٥) .

__________________

١) سورة البقرة ٢ : ٢٥٧.

٢) سورة النساء ٤ : ٧٦.

٣) سورة محمد ٤٧ : ١٢.

٤) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٤١٨ / كتاب ٤٥.

٥) غرر الحكم.

٦٣

٤ ـ الخيانة والمكر والخداع والكذب :

ومن العلامات البارزة في حياة الكفّار الخيانة والمكر والخداع والكذب ، إذ لا رادع لهم عن ذلك لأنّهم فقدوا لذة الإيمان ودوره في محاسبة النفس ، وقد شخّص الإمام عليعليه‌السلام بدقة علامات الكافر بقوله : «الكافر خبٌّ لئيم ، خؤون مغرور بجهله .. »(١) . والخبّ هو : «الخدّاع ومعناه الذي يفسد الناس بالخداع ويمكر ويحتال في الأمر ، يقال فلان (خبّ ضبّ) إذا كان فاسدا مفسدا مراوغا»(٢) .

وأما الكذب فهو من أخصّ علامات الكافرين ، قال تعالى :( بل الَّذينَ كفروا يُكذّبُونَ ) (٣) . وقال أيضا :( إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ بآياتِ اللّه وأُولئكَ همُ الكاذِبُونَ ) (٤) فمما يميز المؤمن عن الكافر هو أنّ الأخير يكذب ويخون الأمانة وبذلك لا يمكن الثقة بأقواله ومعاملاته ، قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إياكم والكذب فإنَّ الكذب مجانب للإيمان »(٥) . وقال أيضا : «كلُّ خلَّةٍ يُطبع عليها المؤمن إلاّ الخيانة والكذب »(٦) . وقد ورد عن الحسن بن محبوب قال : قلتُ لأبي عبداللّهعليه‌السلام : يكون المؤمن بخيلاً؟ قال : «نعم ، قلتُ : فيكون كذّابا؟ قال :لا ولا خائنا ، ثم قال :يُجبل

__________________

١) غرر الحكم.

٢) مجمع البحرين ، للشيخ الطريحي ٢ : ٤٨.

٣) سورة الانشقاق ٨٤ : ٢٢.

٤) سورة النحل ١٦ : ١٠٥.

٥) كنز العمال ٣ : ٦٢٠ / ح ٨٢٠٦.

٦) المصدر السابق : ح ٨٢١١.

٦٤

المؤمن على كلِّ طبيعة إلاّ الخيانة »(١) .

ولا بدَّ من التنويه على أنّ المؤمن قد يكذب ولكن بداعي الصلاح أما الكافر فيكذب بداعي الفساد وشتان ما بين الداعيين ، وقد أحب اللّه تعالى الكذب في الصلاح ، جاء في وصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليعليه‌السلام : «يا علي إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد »(٢) . وقال له أيضا : «يا علي : ثلاث يحسن فيهنَّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعِدتك زوجتك ، والاصلاح بين الناس »(٣) . فالكافر إذن يتصف بالكذب ، وهو عندما يواجهه المؤمن بالبرهان الذي يكشف عن زيف دعواه ، تستبد به الحيرة ويتملكه الاضطراب فيتهم المؤمن بالكذب! ومن الشواهد القرآنية على هذا المنحى المنحرف ، موقف أهل مدين من دعوة شعيب وما سبقه من الرسل فقد :( كذَّبَ أصحابُ الأيكةِ المُرسَلِينَ * إذ قَال لهُم شُعيبٌ ألا تَتقُونَ * إنّي لكُم رسُولٌ أمينٌ قالوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرِينَ * وما أنتَ إلاّ بشرٌ مِثلُنا وإن نَّظُنكَ لَمِنَ الكَاذِبينَ ) (٤) .

ومن الشواهد القرآنية الاُخرى الدالة على تكذيب الكاذب للمؤمن ما قصّه اللّه تعالى من كذب زليخا امرأة العزيز على يوسفعليه‌السلام عندما راودته عن نفسه وعرضت عليه مفاتنها ، ولما استعصم قذفته كذبا وزورا ، ولكن يوسف دفع التهمة عن ساحته ، وقيّض اللّه تعالى له حكما من أهلها

__________________

١) الاختصاص : ٢٣١.

٢) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : ٤٣٣.

٣) المصدر السابق : ٤٣٧.

٤) سورة الشعراء ٢٦ : ١٧٦ ـ ١٨٦.

٦٥

فقطع النزاع كما حكاه القرآن الكريم :( إنَّ كانَ قميصهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَت وهُوَ مِنَ الكاذِبينَ * وإن كانَ قميصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَت وهُوَ مِن الصَّادِقينَ * فلمَّا رءا قَميصَهُ قُدَّ مِن دُبُر قَالَ إنَّهُ مِن كيدكُنَّ إنَّ كَيدَكُنَّ عظيمٌ ) (١) . فقد استخدمت هذه المرأة ضد يوسفعليه‌السلام سلاح الكذب والافتراء ولكن اللّه صرف عنه السوء والفحشاء.

ولا شكَّ أنّ الأنبياءعليهم‌السلام منزّهون عن القبائح كلّها ورأسها الكذب.

٥ ـ السخرية والاستهزاء بالآخرين :

ولما كان الكافر جاهلاً يعجز ـ عادة ـ عن الرد على أهل الإيمان بالحجة والبرهان ، يعبر عن عجزه هذا بالاستهزاء بهم والسخرية منهم ، يقول تعالى :( زُيّنَ للَّذينَ كَفرُوا الحَياةُ الدُّنيا ويَسخَرونَ مِنَ الَّذين آمنُوا ..) (٢) . وهذه أحد علامات الكفّار في كلِّ زمان ومكان ، يسخرون من المصلحين ويتهمونهم بالجهل والتخلف وعدم المسايرة لروح العصر!

فعلى سبيل المثال ، لما أمر اللّه نوحا أن يصنع السفينة ، كان تحوله من داعٍ إلى اللّه إلى نجّار سببا في تعجب الكفّار فجعلوا من هذا الأمر مادةً للسخرية والتندّر عليه( ويَصنَعُ الفُلكَ وكُلَّما مرَّ عَليهِ ملأٌ مِن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قال إن تَسخَرُوا مِنَّا فإنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرُونَ ) (٣) .

وكان أهل مدين لا يؤمنون باللّه ويعبدون سواه وكانوا من أسوأ الناس معاملة ينقصون الكيل والميزان إذا باعوا ، فبعث اللّه فيهم رجلاً منهم وهو

__________________

١) سورة يوسف ١٢ : ٢٦ ـ ٢٨.

٢) سورة البقرة ٢ : ٢١٢.

٣) سورة هود ١١ : ٣٨.

٦٦

رسوله شعيبعليه‌السلام فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده ، ونهاهم عن تعاطي هذه الافعال القبيحة وأمرهم بالعدل وحذرهم من عاقبة الظلم ، ولكن القوم أصروا على باطلهم وقابلوه بالاستهزاء والتهكم( قالوا يا شُعيب أصلواتُكَ تأمرُكَ أن نَّترك ما يعبدُ ءآباؤنا أو أن نَّفعل في أموالنا ما نشاءُ ) (١) .

وهذه النفسية المعقدة سببت لهم ضياع فرص الهداية إلى الأبد إذ كلّما سمعوا كلاما فسروه تفسيرا سلبيا واستهزؤا به.

ويصف لنا تعالى حالة التذبذب والنفاق التي يعيشها هؤلاء بقوله الكريم :( وإذا لَقُوا الَّذينَ آمنُوا قَالُوا آمَنّا وإذا خَلَوا إلى شَياطِينِهِم قَالُوا إنّا مَعكُم إنَّما نَحنُ مُستهزِؤنَ ) (٢) .

٦ ـ الغرور والاستكبار :

إنَّ من عادة الكفّار الاغترار بقدرتهم وقوتهم مع المكابرة عن قبول الحق ، سادرين في غيهم ، لاهين في غفلتهم ، متناسين أو ناسين سخط اللّه القوي عليهم حتى لكأنهم يظنون أنّ قوتهم لا تضمحل وسطوتهم لا تزول ، وقد سخر القرآن الكريم من ذلك التعجرف والغرور وسفّه أحلام هؤلاء الجهلاء قائلاً :( أمّن هذا الَّذي هُوَ جُندٌ لَكُم يَنصُرُكُم مِن دونِ الرحمنِ إن الكافِرُونَ إلاّ في غُرُور ٍ) (٣) . ولهذا ، نراهم عندما يحاول المؤمنون أن يبرهنوا لهم عن قصور هذه الرؤية ، وأنّ معادلات القوة ليست ثابتة ، تأخذهم العزّة بالإثم ، فيتجهون للعناد والشقاق ، قال تعالى :( بَلِ الَّذينَ

__________________

١) سورة هود ١١ : ٨٧.

٢) سورة البقرة ٢ : ١٤.

٣) سورة الملك ٦٧ : ٢٠.

٦٧

كَفَرُوا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ ( (١) .

ومن الأمثال الرائعة التي ضربها القرآن الكريم في هذا المجال قصة صاحب الجنتين ، الذي كان كافرا غنيا قد أبطرته النعمة ، فأخذ يحاور صاحبه المؤمن الفقير مفتخرا عليه بأمواله وكثرة أعوانه. وما سرده اللّه من تحاورهما يصوّر للإنسان بأجلى بيان كيف ينفخ الشيطان في اُنوف أصحاب المال ويطغيهم حتى يلقيهم في مهاوي الهلكة. وكيف يعلو الإيمان بنفس صاحبه ويجعل له حسن العاقبة في الدارين(٢) .

قال تعالى :( واضرِب لهُم مَثلاً رَّجُلَينِ جَعلنا لأحدِهِما جنَّتينِ مِن أعنابٍ وحَففنَاهُما بنخلٍ وجعلنَا بَينَهُما زَرعَا * كِلتَا الجَنتَينِ ءاتت اُكلَها ولم تَظلِم مِنهُ شَيئا وفجَّرنا خِلالهُما نَهرا * وكانَ لَهُ ثَمرٌ فقالَ لِصاحبِهِ وهُوَ يَحاورهُ أنا أكثرُ مِنكَ مالاً وأعزُّ نفرا * ودَخلَ جنَّتهُ وَهُوَ ظَالمٌ لِنفسِه قالَ ما أظنُ أن تَبيدَ هذهِ أبدا * ومآ أظُنُّ السّاعةَ قآئمةً ولئِن رُّددتُ إلى رَبّي لأجدَنَّ خَيرا مِنها مُنقلبا * قالَ لَهُ صاحبُهُ وَهُوَ يُحاورُهُ أكفرتَ بالَّذي خَلقكَ من تُرابٍ ثُمَّ من نُّطفةٍ ثُمَّ سوَّاكَ رجُلاً * لكنّا هُوَ اللّه ربّي ولا أُشرِكُ بِربّي أحَدا وأُحِيطَ بثمرهِ فأصبَحَ يُقلّبُ كفَّيهِ على مآ أنفقَ فِيهَا وهِي خَاويةٌ على عُروشِهَا ويقُولُ ياليتَني لم أُشرك بِربي أحَدا * ولم تَكُن لَّهُ فِئةٌ يَنصُرُونهُ مِن دونِ اللّه وما كانَ مُنتَصِرا ) (٣) .

__________________

١) سورة ص ٣٨ : ٢.

٢) الامثال في القرآن ، للدكتور محمود بن الشريف : ١٠٥ دار مكتبة الهلال ـ بيروت ط٥.

٣) سورة الكهف ١٨ : ٣٢ ـ ٤٣.

٦٨

الفصل الثالث

ما يخرج عن الإيمان

المؤمن هو الذي يسير بخطى ثابتة على درب الإيمان الواضح المعالم ولكن قد يتعرض لعواصف هوجاء من الأهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب ، وتسقطه من قمة جبل الإيمان إلى وادي الكفر السحيق ، وعندئذٍ يصبح فقيرا من الناحية المعنوية بعد أن كان غنيا بإيمانه ، سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلاً : « فأيُّ فقر أشدّ؟» قالعليه‌السلام : «الكفر بعد الإيمان »(١) .

وسقوط الإنسان في حضيض الكفر بعد الايمان إنّما يتم على مراحل وخطوات ، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الإنسان سياسة : الخطوة خطوة! لذلك حذر تعالى المؤمنين من إتّباع خطواته قائلاً :( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ ) (٢) ، وقال أيضا :( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا ادخُلُوا في السّلمِ كافةً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لكُم عَدوٌّ مّبينٌ ) (٣) .

__________________

١) معاني الاخبار : ١٩٨.

٢) سورة النور ٢٤ : ٢١.

٣) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨.

٦٩

فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الإنسان بشتى الحيل والسبل ولا يتمكن من إيقاع الطلاق فجأة بين الإنسان والإيمان لذلك يسعى للوصول إلى هدفه التضليلي على مراحل.

واللّه تعالى يبغض ذلك الإنسان الذي يلقي بزمام أمره إلى عدوه الشيطان حيثُ السقوط التدريجي والهلاك ، ويؤيده الأثر الوارد عن سلمان الفارسيقدس‌سره أنه قال : «إذا أراد اللّه عزَّ وجل هلاك عبد نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ خائنا مخونا فإذا كان خائنا مخونا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت من الأمانة لم تلقه إلاّ فظّا غليظا ، فإذا كان فظا غليظا نزعت منه ربقة الإيمان ، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلاّ شيطانا ملعونا»(١) .

المبحث الأول : عوامل زوال الإيمان :

هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج الإنسان عن طريق الإيمان السوّي ، يمكن الإشارة إلى أبرزها بالنقاط الآتية :

أولاً : عدم معرفة الأئمة : لمّا كان الأئمةعليهم‌السلام هم السبيل إلى اللّه تعالى ، والمسلك إلى رضوانه وحججه على عباده لذا وجبت معرفتهم ومحبتهم ، ويؤيد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » (٢) ومن هنا قال الإمام الباقر أو الصادقعليهما‌السلام :

__________________

١) اُصول الكافي ٢ : ٢٩١ / ١٠ كتاب الإيمان والكفر.

٢) صحيح البخاري ٥ : ١٣ باب الفتن ، وصحيح مسلم ٦ : ٢١ ـ ٢٢ / ١٨٤٩.

واُصول الكافي ١ : ٣٠٣ / ٥ ، وكمال الدين ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣ / ١٠ و ١١ و ١٢ و ١٥ باب

٧٠

«لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف اللّه ورسوله والأئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له »(١) . وقال الإمام الباقرعليه‌السلام في بيان قوله تعالى :( كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلماتِ ليسَ بِخَارجٍ مِنها ) « الذي لا يعرف الإمام(٢) .

فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف إمام زمانه وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راع نحو المجهول ، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : قلتُ له ما أدنى ما يكون به الرجل ضالاً؟ قالعليه‌السلام : «أن لا يعرف من أمر اللّه بطاعته ، وفرض ولايته ، وجعله حُجَّته في أرضه ، وشاهده على خلقه . قلتُ : فمن هم يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام : الّذين قرنهم اللّه بنفسه وبنبيّه فقال :( يا أيُّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأُولي الأمر منكم ) » قال : فقبّلت رأسه وقلتُ : أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي(٣) .

فكلّ إنكار للأئمةعليهم‌السلام ـ إذن ـ يجرّ إلى هاوية الكفر كما أنّ إدعاء الإمامة بغير وجه حق يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر ، عن الفضيل ، عن أبي عبداللّهعليه‌السلام قال : «من ادّعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر »(٤) .

ثانيا : الغلو : وهو من العوامل الأساسية التي تسهم في خروج الإنسان

__________________

الإمامة والتبصرة على اختلافٍ في اللفظ ولا بدَّ أن يكون المراد في جميع الألفاظ هو مادلّ عليه اللفظ المذكور أعلاه.

١) اُصول الكافي ١ : ١٨٠ / ٢.

٢) المصدر السابق ١ : ١٨٥ / ١٣.

٣) معاني الأخبار : ٣٩٤. والآية من سورة النساء ٤ : ٥٩.

٤) ثواب الأعمال : ٢٥٥.

٧١

عن حضيرة الإيمان ، عن سعيد بن جبير قال : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ما غلا أحد من القدرية إلاّ خرج عن الإيمان »(١) . وعن بريد العجليّ ، قال : قلتُ لأبي عبداللّهعليه‌السلام ما أدنى ما يصير به العبد كافرا؟ قال : فأخذ حصاة من الأرض ، فقالعليه‌السلام : «أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه على ذلك ويدين اللّه بالبراءة ممّن قال بغير قوله ، فهذا ناصب قد أشرك باللّه وكفر من حيث لا يعلم »(٢) .

ثالثا : العصبية : الإيمان يعني إلتزام الحق ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم على قواعد الحق والعدالة عند التعارض بينهما وعليه فمن تعصّب فقد انقلب على عقبيه عن الإيمان وصُنّف مع أعراب الجاهلية ، قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية »(٣) ، كما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه »(٤) .

هذا ، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم وغير مخرج عن الإيمان كأن يحب الإنسان قومه بحيث لا يؤدي ذلك إلى الظلم والعدوان ، وقد وضع الإمام زين العابدينعليه‌السلام المقياس الصحيح للتفريق ، فقالعليه‌السلام : «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن

__________________

١) ثواب الأعمال وعقاب الاعمال ، للصدوق : ٢٥٤.

٢) معاني الاخبار : ٣٩٣.

٣) اُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ٣ كتاب الإيمان والكفر.

٤) المصدر السابق : ٣٠٧ / ١.

٧٢

يعين قومه على الظلم »(١) .

رابعا : ضرب القرآن بعضه ببعض : المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه فيضرب بعضه ببعض ليثبت حجته ويسكت خصمه تجنيا على الحق والحقيقة ، وتشويها لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية ، وهذا هو عين الجحود والكفر باللّه تعالى ، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبداللّهعليه‌السلام : «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر » ، وسألت محمد بن الحسنرحمه‌الله عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اُخرى(٢) ، بمعنى التمويه على الآخرين بلا دليل أو برهان.

خامسا : الطمع : وهو أحد العوامل النفسية التي تسهم في إخراج الإنسان من بوتقة الإيمان ، قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام : «ما ثبات الإيمان؟» قالعليه‌السلام : «الورع ، قيل : فما زواله؟ قال :الطمع »(٣) .

المبحث الثاني : مرتكب الكبيرة :

بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج الإنسان من سكة الإيمان ، نجد من المناسب التطرق إلى مسألة مرتكب الكبيرة فقد اختلف أهل القبلة فيمن أقرَّ بالشهادتين ، وأتى بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلى ذلك. هل هو كافر مخلد في النار ، أو أنه مؤمن فاسق يعاقب على

__________________

١) اُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٢) معاني الأخبار : ١٩٠.

٣) الاختصاص : ٣١.

٧٣

الذنب بما يستحق ، ثم يدخل الجنة؟ ذهب الخوارج إلى كفر مرتكب الكبيرة ، وقال الإمامية والأشاعرة وأكثر الاصحاب والتابعين إلى إنّه مؤمن اتّصف بالفسق ، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثا وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أي لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن. وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهدا قرآنيا على أنّ كبائر الذنوب لا تخرج عن الإيمان وذلك انّه لا خلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسفعليه‌السلام بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب وبيعه بالثمن البخس وكذبهم على الذئب وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي اللّه يعقوب من الحزن كان كبيرا من الذنوب. وقد قصّ اللّه قصتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم فإن كان الحسد لا يخرج عن الإيمان ، فالكبير من الذنوب أيضا لا يخرج عن الأديان(١) .

واستدل العلاّمة الحلي في شرح التجريد على صحة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدل : «بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ اللّه مدة عمره ثم عصى آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه على إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلدا في النار ، تماما كمن أشرك باللّه مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء»(٢) .

وليس من شك أنّ سيئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالى :( إنَّ الحسناتِ يُذهبن السيئات ) (٣) .

والباحث المتجرّد عن الهوى والغرض ، يلاحظ أنّ رأي أهل البيتعليهم‌السلام

__________________

١) الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ١١ منشورات مكتبة الداوري ١٣٩٦ هـ ط٤.

٢) اُنظر التفسير الكاشف ، للشيخ محمد جواد مغنية ١ : ١٣٩.

٣) سورة هود ١١ : ١١٤.

٧٤

حول هذه المسألة الحساسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الإسلام السمحة ، ويتلائم مع رحمة اللّه الواسعة. فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ ، لذلك فتح اللّه تعالى أمامه باب التوبة على مصراعيه ، عن أبي عبداللّهعليه‌السلام : «إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها »(١) .

وعليه فآل البيتعليهم‌السلام لا يؤيسون الناس من رحمة اللّه ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد إرتكاب الذنب وإن كان كبيرا ، فهناك ربّ رؤوف يتصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحدا في النار من الموحدين.

وتزداد هذه الرؤية وضوحا وإشراقا من الأمل ، بما ورد عن أبي عبداللّهعليه‌السلام : «ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة ، فيقول : وهو نادم ، استغفر اللّه الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذي الجلال والاكرام وأسئله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليَّ إلاّ غفرها اللّه عزَّ وجلَّ له »(٢) .

وعنهعليه‌السلام : «قد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما ، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّه عزَّ وجلَّ عنها كان خارجا من الإيمان ، ساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا

__________________

١) اُصول الكافي ٢ : ٤٣٦ / ١٣ كتاب الإيمان والكفر.

٢) المصدر السابق : ٤٣٨ / ٧.

٧٥

حلال ودان بذلك ، فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان داخلاً في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار »(١) .

نعم الذي يحرم من مغفرة اللّه هو الذي لم تعرف له توبة قط بعد كفره ومات على جحوده وإنكاره للحق تبارك وتعالى ، وكذلك من كفر بعد إيمانه وتاب ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلى حضيض الكفر وازداد كفرا قال تعالى :( إنَّ الَّذين آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ ازدادُوا كُفرا لم يكنِ اللّه ليغفر لهُم ولا ليهديهُم سبيلاً ) (٢) .

__________________

١) اُصول الكافي ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

٢) سورة النساء ٤ : ١٣٧.

٧٦

الفصل الرابع

أثر الإيمان والكفر على الفرد والمجتمع

إنَّ الإيمان باللّه تعالى هو منبع الفضائل ، كما أنّ الكفر به هو مصدر الرذائل كلّها. فبينما كان الفرد مدَّنسا بالشرك ، وعبدا لأهوائه ولأصنامه الموهومة وللقوى الإجتماعية المتنفذة ، أصبح ببركة الإيمان مطهرا من الشرك وسيدا على نفسه ووجد طريقا للخلاص من جاهليته في الاعتقاد والسلوك. وبينما كان المجتمع الجاهلي ممزقا وفاقدا للعدالة غدا بفضل عقيدة التوحيد قويا موحدا يرتكز على قواعد الحق والعدل.

ومن الشواهد التي تعكس لنا النَّقلة الحضارية الكبرى التي أحدثها الإيمان على صعيد الفرد والمجتمع ما قاله جعفر بن أبي طالبقدس‌سره للنجاشي ملك الحبشة لمّا سأله الأخير عن سبب هجرتهم ومفارقتهم دين قومهم ، فأجابه قائلاً : «أيُّها الملك ، كنّا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويُّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق

٧٧

الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد اللّه وحده ولا نشرك به شيئا ..»(١) .

وبذلك كشف له عن التحوّل الحضاري الذي أحدثه الإسلام في فترة وجيزة. لما له من تأثير كبير على حياة الفرد والمجتمع كما سيتضح في المبحث الآتي :

المبحث الأول : أثر الإيمان والكفر على الفرد :

كان الإسلام نقطة البدء في ميلاد إنسان جديد ، يعشق القيم والحكمة ، ويتطلع إلى آفاق العلم والمعرفة ، ويمتاز بسكينة النفس والسلوك المثالي وعمق الحس الإنساني.

إنَّ هذا التحوّل لم ينطلق من فراغ ، ولم يحدث على سبيل الصدفة ، وإنّما حصل نتيجة مباشرة لمعطيات الإيمان الحضارية ، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها عبر آثاره المتعددة بالنقاط الآتية :

أولاً : أثره العلمي :

فتح الإسلام بنوره النوافذ المغلقة أمام عقل الإنسان الجاهلي الذي لم يكن له سابق عهد بأبسط العلوم والمعارف التي جاء بها الإسلام العظيم ، ووجه تفكير ذلك الإنسان الوجهة الصحيحة إذ دفعه إلى تعقّل ما في هذا الكون الفسيح من قوى وأسرار وطلب منه التأمل في أقطار السموات

__________________

١) السيرة النبوية ، لابن هشام ١ : ٣٤٩ دار الفكر ـ القاهرة.

٧٨

والأرض لغايات كثيرة أهمها معرفة الحق تعالى والبرهان على وجوده الشريف من خلال ما يشعره الإنسان وما يراه ، وكذلك ليكتشف من خلال هذا التأمل القوانين الرائعة التي تحكم هذا العالم بمنتهى الدقة ، مما ساعد هذا على ميلاد حركة علمية ومعرفية استفاد منها العلماء الالهيون ، وعلماء الطبيعة منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا ، ولم تقتصر آثار الإيمان بدين الإسلام على تلك المعطيات العلمية ، بل هناك الكثير منها والتي لا زالت منبعا ثرّا لعلماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ والفلسفة والكلام زيادة على ما في دستور الإسلام القرآن العظيم من نظم ودساتير وسياسات هي في منتهى الدقة والإحكام.

وبالجملة فإنّ الحضارة الإسلامية التي دانت لها أوربا قرونا عديدة إنّما نشأت بفعل الإيمان بهذا الدين وما أوجبه من السعي المتواصل نحو المعرفة والتي ترجمها في أحداثه التاريخية الاُولى بضرورة القضاء على الاُمّية ـ كما في فداء أسرى بدر ـ بصفتها وباء الاُمم ومعول هدمها ، ومن هنا جاء الحث على أهل العلم أن يعلّموا الناس ما يجهلون ، وفي ذلك يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلّموا »(١) .

كما حثَّ الإسلام مريديه على الاستزادة من العلم النافع الذي يقرّب الانسان من اللّه تعالى ، يقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أُتي عليَّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك

__________________

١) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٥٩ / حكم ٤٧٨.

٧٩

اليوم »(١) .

وقد حدد وصيه الإمام عليعليه‌السلام المعطيات الإيجابية للعلم ودوره المهم في تقدم الإنسان وسعادته ، عندما قال : «اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة »(٢) .

لقد أولى الدين للعلم أهمية بالغة وجعل له تقدما رتبيا حتى على العبادة ، يقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم »(٣) . وروى أبو حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال : «عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد »(٤) .

وهذه النصوص تعطينا صورة صادقة على توجيه الإسلام للفرد نحو ميادين العلم والمعرفة ، وذلك لأنَّ المعرفة بصيرة ، والبصيرة قوة.

ثانيا : أثره العملي :

ويظهر هذا الأثر واضحا على أخلاق المؤمن وسلوكه ، فبينما يتّبع الكافر سلوكا إنتهازيا لا يؤمن بنظافة الوسيلة ولا شرف الغاية ، ويضع مصالحه الآنية في سلّم الأولوية ، غاضا النظر عن القيم والأخلاق ، نجد بالمقابل الإنسان المتسلح بالإيمان يسلك سلوكا مثاليا يرتكز على الثوابت الأخلاقية وقواعد السلوك السوّي ، والملاحظ أنّه كلما كمل إيمان الفرد كلّما حسنت أخلاقه وتكاملت فضيلته ، وفي الحديث الشريف :

__________________

١) كنز العمال ١٠ : ١٣٦ / ح ٢٨٦٨٧.

٢) غرر الحكم.

٣) كنز العمال ١٠ : ١٤٥ / ح ٢٨٧٤٠.

٤) اُصول الكافي ١ : ٣٣ / ٨ كتاب فضل العلم.

٨٠