• البداية
  • السابق
  • 117 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20468 / تحميل: 5137
الحجم الحجم الحجم
الدعاء  حقيقة - آدابه - آثارة

الدعاء حقيقة - آدابه - آثارة

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمدُ للّه ربِّ العالمين ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ..

وبعد : إنّ الدعاء مخُّ العبادة ، ولا يهلك مع الدعاء أحد û.

بهذا البيان الوجيز يجمع الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قيمة الدعاء وأثره في الحياة فإذا كان اللّه تعالى قد قال : « وما خلقتُ الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون » فإنّ الدعاء مخُّ العبادة وجوهرها ، الذي جعله القرآن الكريم في نصّ آخر مرادفا للعبادة : « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » ، فجعل الدعاء هنا ممثلاً للعبادة ومترجما لها.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّ الدعاء هو العبادة û ثم تلا هذه الآية الكريمة التي تعبر عن هذا المعنى ، وقال : هي واللّه العبادة ، هي واللّه العبادة û يريد الدعاء ..

ومن ناحية اُخرى تعطي هذه الآية الكريمة صورة الدعاء المقابلة لصورة الاستكبار صورتان متضادتان ، تعكس الاُولى خصائص العابد العارف بحق ربه تعالى شأنه والعارف بحقيقته عبدا للّه ، وبقيمة صلته بخالقه ومولاه ، فيما تعكس الثانية ، ملامح عاصٍ عنيد جافٍ بعيدٍ عن إدراك كل تلك المعاني الاُولى ليعود بنا هذا المشهد إلى تصديق دلالة الدعاء على العبادة ، وكون محلّه منها محل المخّ واللبّ والجوهر والمعنى.

وهذا هو الذي يفسّر لنا النصوص المعصومة التي تفيد بأنّ أفضل العبادة هو الدعاء ذلك أن غاية العبادة هي التقرب إلى اللّه تعالى بمعرفة حقه وسلطانه الذي لا يشركه فيه أحد ، والتذلل إليه المعبر عن يقين المرء بحاجته إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض ، الذي لا معطي لما منع ،

٥

ولا مانع لما أعطى ، ولا دافع لما قدّر إلاّ هو.

ولا تتجلى هذه المعاني في شيء مثل تجليها في الدعاء ، فهو أفضل وسيلة إذن للتعبير عنها وامتثالها وجدانا وسلوكا ، حاضرا ومستقبلاً ، إنّها الحالة التي تتجلى فيها العبودية في أروع صورها وأتمّها ، فلا غرابة في أن تكون هي أحب حالات العبد إلى اللّه تعالى ، ففي حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام : « أحبُّ الأعمال إلى اللّه عزَّ وجلّ في الأرض الدعاء ».

وإذا كانت الشريعة السمحة قد عُنيت بأمر من الاُمور إلى هذا الحدّ ، فلابدّ أن تضع للناس آدابه وشرائطه التي بها يستكمل صورته ويؤتي أُكُلَه ، وهكذا كان شأن هذه الشريعة السمحة والمحجة البيضاء مع الدعاء ، فعرّفت الناس بآدابه ، والتي في مقدمتها الصدق والاخلاص في التوجه إلى اللّه تعالى ، والثقة به ، واليقين بأنّه سميع مجيب ، وحسن التأدّب بين يديه بأدب العبد الخاضع الذي يرجو نظرة ربه ولطفه ورحمته كما عرّفتهم بشروطه التي بها يكون دعاءً صحيحا ترجى من ورائه أحسن الآثار العاجلة منها والآجلة ، وبدونها سيكون لغوا كسائر ما يهذر به بعض الناس في ساعات التسامح واللامبالاة.

وهذا الكتاب الذي يقدمه مركز الرسالة لقرّائه الكرام ضمن ( سلسلة المعارف الإسلامية ) سينفتح على كلِّ هذه الآفاق بالتعريف الوافي ، ضمن السياق الروحي والتربوي الذي لا غنى للإنسان عنه.

واللّه من وراء القصد وهو الهادي إلى سبيل الرشاد

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

الحمدُ للّه ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خير الأنام ومصباح الظلام محمد المصطفى الأمين وآله الهداة الميامين. وبعد :

قال تعالى :( ادعُوني أستجب لكم إنّ الذينَ يستكبرُونَ عن عِبادَتي سَيدخُلُونَ جَهنَّم داخِرِين ) (1) .

الدعاء عبادة يمارسها الإنسان في جميع حالاته ، لأنّه يترجم عمق الصلة بين العبد وبارئه ، ويعكس حالة الافتقار المتأصلة في ذات الإنسان إلى اللّه سبحانه ، والإحساس العميق بالحاجة إليه والرغبة فبما عنده.

فالدعاء مفتاح الحاجات ووسيلة الرغبات ، وهو الباب الذي خوّله تعالى لعباده كي يلجوا إلى ذخائر رحمته وخزائن مغفرته ، وهو الشفاء من الداء ، والسلاح في مواجهة الاعداء ، ومن أقوى الأسباب التي يستدفع بها البلاء ويُردُّ القضاء.

ولذلك فإنّنا نجد الدعاء من أبرز القيم الرفيعة عند الأنبياء والأوصياء والصالحين ، ومن أهمّ السنن المأثورة عنهم.

ولقد اهتمّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته المعصومونعليهم‌السلام بالدعاء اهتماما خاصا ، وحفلت كتب الدعاء الكثيرة المروية عنهمعليهم‌السلام بتراث فذّ

__________________

(1) سورة غافر : 40 / 60.

٧

من أدعيتهم ، يُعدُّ صفحة مشرقة من صفحات التراث الإسلامي ، فهو من حيث الفصاحة والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع ، ومن حيث المضمون وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وتلقين اُصول العقيدة وتهذيب النفوس وصفائها وتنمية نزعاتها الخيرة لتصل إلى درجات الطاعة والفضيلة.

والرسالة التي بين يديك هي إحدى ثمرات ذلك الأدب الرفيع ، فهي دراسة متواضعة تعكس للقارئ الكريم وباسلوب بسيط أهم ما يتعلق بموضوع الدعاء وفقا لما جاء في الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، وذلك في أربعة فصول :

الفصل الأول : مفهوم الدعاء وعلاقته بالعبادة.

الفصل الثاني : آداب الدعاء.

الفصل الثالث : استجابة الدعاء ، ويشتمل على العوامل المؤثرة في استجابة الدعاء ، وأسباب تأخر الاجابة ، والدعوات المستجابة وغير المستجابة.

الفصل الرابع : آثار الدعاء في الدنيا والآخرة.

نرجو من اللّه تعالى أن ينفع بها الإخوة المؤمنين ، ونسأله سبحانه العون والسداد ، ونستلهمه التوفيق والرشاد.

٨

الفصل الأول

مفهوم الدعاء وعلاقته بالعبادة

الدعاء في اللغة :

الدعاء : هو أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك.

تقول : دعوت فلانا أدعوه دعاءً ، أي ناديته وطلبت إقباله ، وأصله دُعاوٌ ، إلاّ أنّ الواو لمّا جاءت بعد الألف هُمزت.

وللدعاء في الكتاب الكريم وجوه عدّة ، كلّها تدور حول المعنى اللغوي المتقدم ، نذكر منها :

1 ـ النداء ، يقال : دعوت فلانا ، أي ناديته وصحت به ، قال تعالى : «فَقُل تعالوا ندعُ أبنَاءَنا وأبنَاءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسنَا وأنفُسَكُم »(1) أي ، ننادي ...

وقد يستعمل كل واحد من النداء والدعاء موضع الآخر ، قال تعالى : «كمَثلِ الذي يَنعقُ بما لا يَسمَعُ إلاّ دُعاءً ونِداءً »(2) .

__________________

(1) سورة آل عمران : 3 / 61.

(2) سورة البقرة : 2 / 171.

٩

 2 ـ الطلب ، يقال : دعاه ، أي طلبه ، قال تعالى : «وإن تدعُ مُثقلةٌ إلى حَملِها »(1) ، أي تطلب أن يحمل عنها.

3 ـ القول ، قال تعالى : «فما كان دعواهُم إذ جاءَهُم بأسُنَا »(2) ، أي قولهم إذ جاءهم العذاب.

4 ـ العبادة ، قال تعالى : «لن ندعُوا مِن دُونه إلها »(3) ، أي نعبد.

5 ـ الاستعانة ، قال تعالى : «وادعوا شُهداءَكُم من دونِ اللّه »(4) ، أي استعينوا واستغيثوا بهم.

6 ـ الحثّ على الشيء ، قال تعالى : «قال ربِّ إنِّي دعوتُ قومي ليلاً ونهارا »(5) ، أي حثثتهم على عبادة اللّه سبحانه.

7 ـ النسبة ، قال تعالى : «ادعُوهُم لآبائهم هو أقسطُ »(6) ، أي انسبوهم واعزوهم.

8 ـ السؤال ، قال تعالى : «قال ادعُ لنا ربَكَ »(7) أي سله(8) .

__________________

(1) سورة فاطر : 35 / 18.

(2) سورة الاعراف : 7 / 5.

(3) سورة الكهف : 18 / 14.

(4) سورة البقرة : 2 / 23.

(5) سورة نوح : 71 / 5.

(6) سورة الاحزاب : 33 / 5.

(7) سورة البقرة : 2 / 69.

(8) يراجع في معنى الدعاء ، صحاح الجوهري ـ دعا ـ 6 : 2337. ومعجم مقاييس اللغة ـ دعو ـ 2 : 279. وأساس البلاغة ـ دعو ـ 131. والقاموس المحيط ـ دعا ـ 4 : 329. ولسان العرب

١٠

الدعاء في الاصطلاح :

طلب الأدنى من الأعلى : على جهة الخضوع والاستكانة(1) .

ودعاء العبد ربه جلَّ جلاله : طلب العناية منه ، واستمداده إياه المعونة(2) .

ويقال : دعوتُ اللّه أدعوهُ دعاءً : ابتهلتُ إليه بالسؤال ، ورغبتُ فيما عنده من الخير(3) .

قال تعالى : «وقالَ ربُكُم ادعُوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرُون عن عبادتي سيدخُلُون جهنَّم داخرين »(4) .

ويقول العلاّمة المجلسي : الأدعية المأثورة على نوعين :

1 ـ الأوراد والأذكار الموظفة المقررة في كلِّ يوم وليلة المشتملة على تجديد العقائد وطلب المقاصد والأرزاق ودفع كيد الأعداء ونحو ذلك ، وينبغي للمرء أن يجتهد في حضور القلب والتوجه والتضرع عند قرائتها ، لكن يلزم أن لا يتركها إن لم يتيسر ذلك.

2 ـ المناجاة ، وهي الأدعية المشتملة على صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار وإظهار الحب والتذلل والانكسار ، وظني أنه

__________________

ـ دعا ـ 14 : 257. ومفردات الراغب : 170. والأنباء بما في كلمات القرآن من أضواء 2 : 270.

(1) عمدة الداعي : 12.

(2) تفسير الرازي 5 : 97.

(3) المصباح المنير 1 : 194.

(4) سورة غافر : 40 / 60.

١١

لا ينبغي أن تقرأ إلاّ مع البكاء والتضرع والخشوع التام ، وينبغي أن تترصد الأوقات لها.

وهذان القسمان من الدعاء ببركة أهل البيتعليهم‌السلام عندنا كثير.

فأما القسم الأول فأكثرها مذكورة في مصباحي الشيخ الطوسي والكفعمي ، وكتابي التتمات والاقبال لابن طاووس في ضمن التعقيبات وأدعية الاُسبوع وأعمال السنة وغيرها.

والقسم الثاني أيضا منشورة في عرض تلك الكتب وغيرها ، كالأدعية الخمس عشرة ، والمناجاة المعروفة بالانجيلية ، ودعاء كميل النخعي وغيرها ، والصحيفة الكاملة جلّها بل كلّها في المقام الثاني(1) .

علاقة الدعاء بالعبادة :

تقدّم أن العبادة هي أحد الاُمور التي يصدق عليها مفهوم الدعاء اللغوي الواسع ، ويدل على ذلك آيات قرآنية كثيرة وردت في هذا السياق ، منها قوله تعالى : «لن ندعُوا مِن دُونِه إلها »(2) أي لن نعبد إلها دونه ، فهذه الآية وغيرها تترجم الصلة اللغوية الدائمة القائمة بين العبادة والدعاء.

أما الصلة الاصطلاحية بين العبادة والدعاء ، فإنّ الدعاء في نفسه عبادة ؛ لأنّهما يشتركان في حقيقة واحدة ، هي إظهار الخشوع والافتقار إلى اللّه تعالى ، وهو غاية الخلق وعلّته ، قال تعالى : «وما خلقتُ الجنَّ

__________________

(1) الاعتقادات / المجلسي : 41.

(2) سورة الكهف: 18 / 14.

١٢

والانسَ إلاّ لِيعبُدُونِ »(1) ، وقال تعالى : «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُم ربي لولا دُعاؤكُم »(2) .

فالدعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلى خالقه تعالى مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه : «إنّ الذينَ يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين » »(3) يعني أنّ الدعاء هو معظم العبادة وأفضلها ، وذلك كقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحج عرفة » أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم(4) .

ويؤيد ذلك حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «أفضل العبادة الدعاء »(5) .

وما رواه سدير عنهعليه‌السلام ، قال : قلت لأبي جعفر الباقرعليه‌السلام : أي العبادة أفضل؟ فقالعليه‌السلام : «ما من شيء أفضل عند اللّه عزَّ وجلَّ من أن يسأل ويطلب ممّا عنده »(6) .

وإذا قيل : إنّ الدعاء لا يصحّ إطلاقه على العبادة الشرعية التكليفية ، فإنّ الصيام مثلاً لا يسمى دعاءً لغةً ولا شرعا ، وعليه فليس كلّ عبادة شرعية دعاءً.

__________________

(1) سورة الذاريات : 51 / 56.

(2) سورة الفرقان : 25 / 77.

(3) الكافي 2 : 339 / 7 ، والآية من سورة غافر : 40 / 60.

(4) تفسير الرازي 5 : 99.

(5) الكافي 2 : 338 / 1.

(6) الكافي 2 : 338 / 2.

١٣

نقول : (الدعاء من العبد لربه : هو عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية ، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاءً ، لأنّ العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلّة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه ، وهو الدعاء)(1) .

وإلى ذلك يشير قوله تعالى : «وقالَ ربُكُم ادعُوني استجب لكم إنّ الذينَ يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين »(2) ، فالآية تدعو إلى الدعاء وتحثّ عليه وتعد بالاجابة ، وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة ، فقد عبّرت أولاً بالدعاء (ادعوني) ثمّ عبرت عن الدعاء بالعبادة (عن عبادتي) أي عن دعائي ، بل (إنّ الآية تجعل مطلق العبادة دعاءً ، حيث إنها تشتمل على الوعيد لترك الدعاء بالنار ، والوعيد بالنار إنّما هو على ترك العبادة رأسا ، لا على ترك بعض أقسامها دون بعض ، فأصل العبادة إذن دعاء)(3) .

وإذا تأملنا في قوله تعالى : «وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجيبُ دعوة الداع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون »(4) .

نلاحظ أنه (كما يشتمل على الحكم وهو إجابة الدعاء ، كذلك يشتمل على علله ، فكون الداعين عبادا للّه تعالى هو الموجب لقربه منهم ، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم)(5) .

__________________

(1) تفسير الميزان 10 : 38.

(2) سورة غافر 40 : 60.

(3) تفسير الميزان 2 : 33.

(4) سورة البقرة : 2 / 186.

(5) تفسير الميزان 2 : 32.

١٤

فاخلاص العبودية للّه تعالى هو علّة القرب منه تعالى والارتباط به ، والقرب منه هو مظنّة الإجابة ، وهو يكشف عن الصلة الموضوعية بين حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «عليكم بالدعاء ، فانكم لا تُقرّبون بمثله »(1) .

الدعاء مخُّ العبادة :

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الدعاء مخُّ العبادة ، ولا يهلك مع الدعاء أحد(2) هذا الحديث المبارك يكشف لنا عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلّى في إقبال العبد المحتاج على المعبود الغني «يا أيُّها النَّاسُ أنتم الفقراءُ إلى اللّه واللّه هو الغنيُ الحميدُ »(3) .

وهذا الاقبال هو التعبير الحي عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق ، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربّه تعالى في جميع أموره واعترافه الخاضع بالعبودية له تعالى ، والتي تتجسد في الشعور بالارتباط العميق باللّه سبحانه ، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق ، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة ، فهو إذن مخ العبادة وحقيقتها وأجلى صورها ، قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفضل العبادة الدعاء ، وإذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة ، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد »(4) .

__________________

(1) الكافي 2 : 339 / 6.

(2) بحار الأنوار 93 : 300.

(3) سورة فاطر : 35 / 15.

(4) عدة الداعي : 35.

١٥

الدعاء في البلاء والرخاء :

الدعاء باعتباره عبادة تسمو بالنفس وتشرق بالروح وتوصل الإنسان بربه بارى ء الكون ، يجب أن لا ينحصر في وقت الشدة والاضطرار بل يجب أن يكون في جميع الأحوال ، نابعا من التسامي النفسي والانفتاح الروحي والكمال الانساني.

الدعاء في البلاء :

إنّ علاقة الإنسان بربه علاقة ذاتية متأصلة في نفس الإنسان ، ولكلِّ امرى ء طريق من قلبه إلى خالقه ، وثمة باب في القلوب يفتح إلى من بيده مجريات الأحداث وهو بكلِّ شيء محيط ، فحتى أشقى الأشقياء نجده عند الابتلاء بالمصائب والمحن ، وعندما توصد في وجهه الأبواب ، وتنقطع به العلل والأسباب ، يفزع إلى خالقه وينقطع إليه ضارعا منكسرا ، وهذا أمر ذاتي يتساوى فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم ، قال تعالى : «وإذا مسَّ الإنسانَ الضُرُّ دعانا لجنبِهِ أو قاعِدا أو قائما فلمّا كشفنا عنه ضُرَّهُ مرَّ كأن لم يدعُنا إلى ضُرٍّ مَّسّهُ »(1) .

وقال تعالى : «وإذا مسَّ النَّاس ضُرٌّ دعوا ربَهُم مُنيبين إليه ثم إذا أذاقهُم منهُ رحمةً إذا فريقٌ منهم بربهم يُشركون »(2) .

وقال تعالى : «وإذا مسَكُم الضُرُّ في البحر ضلَّ من تدعُونَ إلاّ إياهُ فلمّا نجَّاكم إلى البرِّ أعرضتُم وكان الإنسانُ كفورا »(3) ، والآيات في هذا المعنى

__________________

(1) سورة يونس : 10 / 12.

(2) سورة الروم : 30 / 33.

(3) سورة الاسراء 17 : 67.

١٦

كثيرة ، وكلّها تدلُّ على أنّ التوجه إلى اللّه تعالى في حال الشدة والاضطرار أصيل في فطرة الإنسان وطبيعي في وجوده.

قال رجل للإمام الصادقعليه‌السلام : يا بن رسول اللّه ، دلّني على اللّه ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيّروني ، فقال له : «يا عبداللّه ، هل ركبت سفينة قط؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : فهل كُسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الأشياء قادرٌ على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : نعم. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو اللّه القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الاغاثة حيث لا مغيث »(1) .

لقد جعل الإمام الصادقعليه‌السلام الرجل يعرف اللّه تعالى عن طريق قلبه ، لقد دلّه الإمامعليه‌السلام على ذلك الطريق الذي يوصل بين القلب والخالق القادر ، إنّ هذا الاتجاه الفطري الذي يتجلّى عند تقطع الأسباب ويتوجه إلى القدرة القاهرة الغالبة على الأسباب والعلل الظاهرة ، هو الدليل على وجود تلك القدرة ، ولولا وجودها لما وجدت تلك الفطرة في قلب الإنسان.

إنّ التوجه إلى اللّه تعالى في حال الشدّة والاضطرار والتضرع إليه بالدعاء ، أمرٌ غير مرئي بالحواس ، ويمكننا أن نشبّهه بتوجّه غريزي مرئي ومعروف ، ذلك هو ميل الطفل إلى ثدي أُمّه ، هو غريزة تنشأ معه منذ ولادته ، فإذا جاع تحركت فيه هذه الغريزة وهدته إلى البحث عن ثدي أُمّه الذي لم يره ولم يعرفه ولم يتعوّد عليه ، فلولا وجود ثدي ولبن يناسبان

__________________

(1) بحار الانوار 3 : 41 / 16.

١٧

معدة الطفل لما أرشدته الغريزة إليهما ، وكذلك حال الغرائز الاُخرى في الإنسان ، فلولا وجود تلك القدرة القاهرة لما وجدت تلك الفطرة وذلك التوجّه الغريزي في ذات الإنسان.

إنَّ هذا الأمر الأصيل في وجود الإنسان ، قد تغطّيه حجب الإثم والشقاء بعدما يظهر للعيان بنداء الفطرة ، فيتراءى للإنسان أنّه قد استغنى ، فيطغى ويعرض عن خالقه متعلّقا بالاسباب التي هي دونه ، قال تعالى : «كلاّ إنَّ الإنسان ليطغى * ان رآهُ استغنى »(1) ، وقال تعالى : «فلمّا كشفنا عنه ضرَّهُ مرَّ كأن لم يدعُنا إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ »(2) ، وقال تعالى : «فلمَّا نجاكم إلى البرِّ أعرضتُم »(3) .

فإذا اقتصر الإنسان على الدعاء في حال الاضطرار والشدة ، فان ذلك لا يمثل كمالاً إنسانيا ولا إخلاصا عباديا ، بل هو جفاء وقسوة وابتعاد عن رحاب الرحمة والمغفرة.

الدعاء في الرخاء :

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله موصيا الفضل بن العباس : «احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده أمامك، تعرّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدّة »(4) يعني أدع اللّه في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب لدعائك في الشدّة ولاينساك ، ولا تكن من الذين نسوا اللّه فنسيهم ، وذلك لأنّ من نسي ربه

__________________

(1) سورة العلق : 96 / 6 ـ 7.

(2) سورة يونس : 10 / 12.

(3) سورة الاسراء : 17 / 67.

(4) من لا يحضره الفقيه 4 : 296 / 896.

١٨

في الرخاء أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء ، ثم إذا دعا ربه في الشدّة ، كان معنى عمله أنّه يذعن بالربوبية في حال الشدّة وحسب ، وليس هو تعالى على هذه الصفة ، بل هو ربّ في كلِّ حال وعلى جميع التقادير.

عندما يكون الإنسان في حال رخاء واطمئنان ، يجب أن يعلم بأنّ ما هو فيه من نعمة مزجاة هي من اللّه ، وانه هو القادر على أن يسلبه إياها كما هو القادر على أن يزيده منها ، وذلك لأنّه خالق الكون والإنسان والحياة ، وأنه اللطيف بعباده الرؤوف بهم.

ولهذا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والصالحين يتوجهون إلى ربهم بنفس متسامية مشرقة حتى عندما يكونون في رخاء وبحبوحة عيش ، يدعو ربهم ويتوسلون به ليديم عليهم نعمته ويزيدهم من فضله :« وزكريا إذ نادى ربهُ ربِّ لا تذرني فردا وأنت خيرُ الوارثينَ * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا لهُ زوجهُ إنهم كانوا يُسارعون في الخيرات ويدعُوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين »(1) .

إنّ اللّه تعالى يستجيب لهم وينظر إليهم بعين رحمته في حال رخائهم ، ويسرع إلى نجدتهم ورفع البلاء عنهم في حال المحنة والابتلاء كما يسرعون إلى استدعاء رحمة ربهم ، وقد ورد في الروايات ما يدلُّ على استحباب التقدم بالدعاء في الرخاء قبل نزول البلاء.

فعن الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه كان يقول : «ما من أحد ابتلي وان عظمت بلواه أحقُّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء »(2) .

__________________

(1) سورة الأنبياء : 21 / 89 ـ 90.

(2) من لا يحضره الفقيه 4 : 285 / 853. وأمالي الصدوق : 218 / 5. ونهج البلاغة ـ الحكمة (302).

١٩

وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام أنّه كان يقول : «لم أرَ مثل التقدّم في الدعاء ، فان العبد ليس تحضره الاجابة في كلِّ ساعة »(1) .

وعن الإمام أبي الحسنعليه‌السلام : «إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحوا من دعائه في الشدة ، ليس إذا اعطي فتر ، فلا تملّ الدعاء ، فإنّه من اللّه عزَّ وجلّ بمكان »(2) .

فالدعاء الاضطراري الذي يمثل نداء الفطرة والغريزة لا تتخطّاه الاجابة ، لأنّه يقع ضمن دائرة الرحمة الالهية التي وسعت كل شيء ، والدعاء الاختياري الذي يصدر عن منطقة الوعي ونداء العقل وينبض بحركة الروح والشعور في الذات وحركة القلب المنقطع إلى ربه المتخلي عن جميع الأسباب في الشدة والرخاء ، هو الآخر لا تتخطّاه الاجابة ، وهو مخُّ العبادة وجوهرها النقي ، وهو الذي وصف به المتقون : «ذُبُل الشفاه من الدعاء ، صُفُر الألوان من السهر ، على وجوههم غيرة الخاشعين »(3) .

والدعاء بالمعنى الأخير عبادة حيّة متحركة لا تخضع للزمان والمكان المعينين ولا للأفعال الخاصة والكلمات المحددة ، بل ينطلق فيها الإنسان حرا في المكان الذي يقف فيه ، والوقت الذي يختاره ، واللغة التي يتحدث بها ، والكلمات التي يعبر بها ، والمضمون الذي يريده.

اقتران الدعاء بمظاهر العبادة :

لقد اهتم الشارع المقدس بالدعاء لأنّه أحب الأعمال إلى اللّه تعالى في

__________________

(1) الارشاد : 259.

(2) 2 : 354 / 1. وقرب الاسناد : 171.

(3) نهج البلاغة : الخطبة (121).

٢٠