كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٧

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 307

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 307
المشاهدات: 35072
تحميل: 5951


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35072 / تحميل: 5951
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 7

مؤلف:
العربية

108 و من خطبة له ع

إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى اَلْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ اَلْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ اَلْإِسْلاَمِ وَ كَلِمَةُ اَلْإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا اَلْفِطْرَةُ وَ إِقَامُ اَلصَّلاَةِ فَإِنَّهَا اَلْمِلَّةُ وَ إِيتَاءُ اَلزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ اَلْعِقَابِ وَ حَجُّ اَلْبَيْتِ وَ اِعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ اَلْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ اَلذَّنْبَ وَ صِلَةُ اَلرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي اَلْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي اَلْأَجَلِ وَ صَدَقَةُ اَلسِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ اَلْخَطِيئَةَ وَ صَدَقَةُ اَلْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ اَلسُّوءِ وَ صَنَائِعُ اَلْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ اَلْهَوَانِ أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلذِّكْرِ وَ اِرْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ اَلْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ اَلْوَعْدِ وَ اِقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ اَلْهَدْيِ وَ اِسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى اَلسُّنَنِ وَ تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيثِ وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ وَ اِسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ اَلصُّدُورِ وَ أَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ اَلْقَصَصِ وَ إِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ اَلْحَائِرِ اَلَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ اَلْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ اَلْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَلْوَمُ ذكر ع ثمانية أشياء كل منها واجب.

٢٢١

أولها: الإيمان بالله و برسوله و يعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة و من الأعمال الواجبة و ترك القبائح و قد ذهب إلى أن ماهية الإيمان هو مجرد التصديق القلبي جماعة من المتكلمين و هو و إن لم يكن مذهب أصحابنا فإن لهم أن يقولوا إن أمير المؤمنين ع جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوي لأن الإيمان في أصل اللغة هو التصديق قال سبحانه و تعالى( وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) أي لست بمصدق لنا لا إن كنا صادقين و لا إن كنا كاذبين و مجيئه ع به على أصل الوضع اللغوي لا يبطل مذهبنا في مسمى الإيمان لأنا نذهب إلى أن الشرع استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا كما نذهب إليه في الصلاة و الزكاة و غيرهما فلا منافاة إذا بين مذهبنا و بين ما أطلقه ع.و ثانيها الجهاد في سبيل الله و إنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة لأنه من باب دفع الضرر عن النفس و دفع الضرر عن النفس مقدم على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح و التلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح و إنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان من أفعال القلوب فهو خارج عما يتقدم عليه و دفع الضرر من الأفعال المختصة بالجوارح و أيضا فإن الإيمان أصل الجهاد لأنه ما لم يعلم الإنسان على ما ذا يجاهد لا يجاهد و إنما جعله ذروة الإسلام أي أعلاه لأنه ما لم تتحصن دار الإسلام بالجهاد لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الإسلام فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن.و ثالثها كلمة الإخلاص يعني شهادة أن لا إله إلا الله و شهادة أن محمدا رسول الله قال فإنها الفطرة يعني هي التي فطر الناس عليها و الأصل الكلمة الأولى لأنها التوحيد و عليها فطر البشر كلهم و الكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها و إنما أخرت

٢٢٢

هذه الخصلة عن الجهاد لأن الجهاد كان هو السبب في إظهار الناس لها و نطقهم بها فصار كالأصل بالنسبة إليها.و رابعها إقام الصلاة أي إدامتها و الأصل أقام إقواما فحذفوا عين الفعل و تارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء فيقولون إقامة قال فإنها الملة و هذا مثل

قول النبي ص الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين.و خامسها إيتاء الزكاة و إنما أخرها عن الصلاة لأن الصلاة آكد افتراضا منها و إنما قال في الزكاة فإنها فريضة واجبة لأن الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة و الاعتبار الأول من القطع و الثاني من الوجوب و قال فإنها فريضة واجبة مثل أن يقول فإنها شي‏ء مقتطع من المال موصوف بالوجوب.و سادسها صوم شهر رمضان و هو أضعف وجوبا من الزكاة و جعله جنة من العقاب أي سترة.و سابعها الحج و العمرة و هما دون فريضة الصوم و قال إنهما ينفيان الفقر و يرحضان الذنب أي يغسلانه رحضت الثوب و ثوب رحيض و هذا الكلام يدل على وجوب العمرة و قد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء.و ثامنها صلة الرحم و هي واجبة و قطيعة الرحم محرمة قال فإنها مثراة في المال أي تثريه و تكثره.و منسأة في الأجل أي تنسؤه و تؤخره و يقال نسأ الله في أجلك و يجوز أنسأه بالهمزة.فإن قلت فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج

٢٢٣

قلت أما الصلاة فلأن تاركها يقتل و إن لم يجحد وجوبها و غيرها ليس كذلك و إنما قدمت الزكاة على الصوم لأن الله تعالى قرنها بالصلاة في كثير من الكتاب العزيز و لم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد و كثرة تأكيد الشي‏ء و ذكره دليل على أنه أهم و إنما قدم الصوم على الحج لأنه يتكرر وجوبه و الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج.ثم قال ع و صدقة السر فخرج من الواجبات إلى النوافل قال فإنها تكفر الخطيئة و التكفير هو إسقاط عقاب مستحق بثواب أزيد منه أو توبة و أصله في اللغة الستر و التغطية و منه الكافر لأنه يغطي الحق و سمي البحر كافرا لتغطيته ما تحته و سمي الفلاح كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض المحروثة.ثم قال و صدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق و الهدم و غيرها.قال و صنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان كأسر الروم للمسلم أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للأخذ.ثم شرع في وصايا أخر عددها و الهدي السيرة و

في الحديث و اهدوا هدي عمار يقال هدى فلان هدي فلان أي سار سيرته.و سمي القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى( نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً ) و استدل أصحابنا بالآية على أنه محدث لأنه لا فرق بين حديث و محدث في اللغة فإن قالوا إنما أراد أحسن الكلام قلنا لعمري إنه كذلك و لكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث لأنه إنما سمي الكلام و المحاورة و المخاطبة حديثا لأنه أمر يتجدد حالا فحالا و القديم ليس كذلك.

٢٢٤

ثم قال تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب من هذا أخذ ابن عباس قوله إذا قرأت ألم حم وقعت في روضات دمثات.ثم قال فإنه شفاء الصدور و هذا من الألفاظ القرآنية.ثم سماه قصصا اتباعا لما ورد في القرآن من قوله( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ ) .ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله.ثم قال بل الحجة عليه أعظم لأنه يعلم الحق و لا يعمل به فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل و إن كانا جميعا محجوجين أما أحدهما فبعلمه و أما الآخر فبتمكنه من أن يعلم.ثم قال و الحسرة له ألزم لأنه عند الموت يتأسف ألا يكون عمل بما علم و الجاهل لا يأسف ذلك الأسف.ثم قال و هو عند الله ألوم أي أحق أن يلام لأن المتمكن عالم بالقوة و هذا عالم بالفعل فاستحقاقه اللوم و العقاب أشد

٢٢٥

110 و من خطبة له ع

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا وَ لاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ لاَ تَعْدُو إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ اَلرَّغْبَةِ فِيهَا وَ اَلرِّضَاءِ بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً لَمْ يَكُنِ اِمْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً وَ لَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ إِلاَّ هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اِعْذَوْذَبَ وَ اِحْلَوْلَى أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى لاَ يَنَالُ اِمْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً وَ لاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا لاَ خَيْرَ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ اَلتَّقْوَى

٢٢٦

مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ وَ مَنِ اِسْتَكْثَرَ مِنْهَا اِسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ وَ ذِي طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً سُلْطَانُهَا دُوَلٌ وَ عَيْشُهَا رَنَقٌ رَنِقٌ وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالاً وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَ لاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ اَلدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ اَلْمَنُونِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ اَلْأَبَدِ وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ اَلسَّغَبَ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ اَلضَّنْكَ أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ اَلظُّلْمَةَ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ اَلنَّدَامَةَ أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ فَبِئْسَتِ اَلدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا وَ اِتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً وَ أُنْزِلُوا

٢٢٧

اَلْأَجْدَاثَ فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ اَلصَّفِيحِ أَجْنَانٌ وَ مِنَ اَلتُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ اَلرُّفَاتِ جِيرَانٌ فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً وَ لاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ وَ قَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ وَ جُهَلاَءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ وَ لاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ اَلْأَرْضِ بَطْناً وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى اَلْحَيَاةِ اَلدَّائِمَةِ وَ اَلدَّارِ اَلْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) خضرة أي ناضرة و هذه اللفظة من الألفاظ النبوية

قال النبي ص إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون.و حفت بالشهوات كان الشهوات مستديرة حولها كما يحف الهودج بالثياب و حفوا حوله يحفون حفا أطافوا به قال الله تعالى( وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ ) .قوله و تحببت بالعاجلة أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة و النفوس مغرمة مولعة بحب العاجل فحذف الجار و المجرور القائم مقام المفعول.قوله و راقت بالقليل أي أعجبت أهلها و إنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم.

٢٢٨

قوله و تحلت بالآمال من الحلية أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها.قوله و تزينت بالغرور أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له.و الحبرة السرور و حائلة متغيرة و نافدة فانية و بائدة منقضية و أكالة قتالة و غوالة مهلكة و الغول ما غال أي أهلك و منه المثل الغضب غول الحلم.ثم قال إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به وهو قوله ( وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً ) .فاختلط أي فالتف بنبات الأرض و تكاثف به أي بسبب ذلك الماء و بنزوله عليه و يجوز أن يكون تقديره فاختلط بنبات الأرض لأنه لما غذاه و أنماه فقد صار مختلطا به و لما كان كل واحد من المختلطين مشاركا لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز فاختلط به نبات الأرض كما يجوز فاختلط هو بنبات الأرض.و الهشيم ما تهشم و تحطم الواحدة هشيمة و تذروه الرياح تطيره و كان الله على ما يشاء من الإنشاء و الإفناء مقتدرا.قوله من يلق من سرائها بطنا إنما خص السراء بالبطن و الضراء بالظهر لأن الملاقي لك بالبطن ملاق بالوجه فهو مقبل عليك و المعطيك ظهره مدبر عنك.و قيل لأن الترس بطنه إليك و ظهره إلى عدوك و قيل لأن المشي في بطون الأودية أسهل من السير على الظراب و الآكام.و طله السحاب يطله إذا أمطره مطرا قليلا يقول إذا أعطت قليلا من الخير أعقبت ذلك بكثير من الشر لأن التهتان الكثير المطر هتن يهتن بالكسر هتنا و هتونا و تهتانا.

٢٢٩

قوله و حري أي جدير و خليق يقال بالحري أن يكون هذا الأمر كذا و هذا الأمر محراة لذلك أي مقمنة مثل محجاة و ما أحراه مثل ما أحجاه و أحر به مثل أحج به و تقول هو حري أن يفعل ذلك بالفتح أي جدير و قمين لا يثنى و لا يجمع قال الشاعر

و هن حري ألا يثبنك نقرة

و أنت حري بالنار حين تثيب

فإذا قلت هو حر بكسر الراء و حري بتشديدها على فعيل ثنيت و جمعت فقلت هما حريان و حريان و حرون مثل عمون و أحراء أيضا و في المشدد حريون و أحرياء و هي حرية و حرية و هن حريات و حريات و حرايا.فإن قلت فهلا قال و حرية إذا أصبحت لأنه يخبر عن الدنيا قلت أراد شأنها فذكر أي و شأنها خليق أن يفعل كذا.و اعذوذب صار عذبا و احلولى صار حلوا و من هاهنا أخذ الشاعر قوله

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة

إذا اخضر منها جانب جف جانب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرة

على ذاهب منها فإنك ذاهب

و ارتفع جانب المذكور بعد إن لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر أي و إن اعذوذب جانب منها لأن إن تقتضي الفعل و تطلبه فهي كإذا في قوله تعالى( إِذَا اَلسَّماءُ اِنْشَقَّتْ ) .و أمر الشي‏ء أي صار مرا و أوبى صار وبيا و لين الهمز لأجل السجع.و الرغب مصدر رغبت في الأمر رغبة و رغبا أي أردته.يقول لا ينال الإنسان منها إرادته إلا أرهقته تعبا يقال أرهقه إثما أي حمله و كلفه.

٢٣٠

فإن قلت لم خص الأمن بالجناح و الخوف بالقودام قلت لأن القوادم مقاديم الريش و الراكب عليها بعرض خطر عظيم و سقوط قريب و الجناح يستر و يقي البرد و الأذى قال أبو نواس

تغطيت من دهري بظل جناحه

فصرت أرى دهري و ليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت

و أين مكاني ما عرفن مكاني

و الهاء في جناحه ترجع إلى الممدوح بهذا الشعر.و توبقه تهلكه و الأبهة الكبر و الرنق بفتح النون مصدر رنق الماء أي تكدر و بالكسر الكدر و قد روي هاهنا بالفتح و الكسر فالكسر ظاهر و الفتح على تقدير حذف المضاف أي ذو رنق.و ماء أجاج قد جمع المرارة و الملوحة أج الماء يؤج أجاجا و الصبر بكسر الباء هذا النبات المر نفسه ثم سمي كل مر صبرا و السمام جمع سم لهذا القاتل يقال سم و سم بالفتح و الضم و الجمع سمام و سموم.و رمام بالية و أسبابها حبالها و موفورها و ذو الوفر و الثروة منها و المحروب المسلوب أي لا تحمى جارا و لا تمنعه.ثم أخذ قوله تعالى( وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ اَلْأَمْثالَ ) فقال أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا نصب أطول بأنه خبر كان و قد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول

٢٣١

أعمارا بقوله( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) و ثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا فإن من آثارهم الأهرام و الإيوان و منارة الإسكندرية و غير ذلك و أما بعد الآمال فمرتب على طول الأعمار فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد و إن عنى به علو الهمم فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان و قد كان فيهم من ملك معمورة الأرض كلها و كذلك القول في أعد عديدا و أكثف جنودا و العديد العدو الكثير و أعد منهم أي أكثر.قوله و لا ظهر قاطع أي قاطع لمسافة الطريق.و الفوادح المثقلات فدحه الدين أثقله و يروى بالقوادح بالقاف و هي آفة تظهر في الشجر و صدوع تظهر في الأسنان.و أوهقتهم جعلتهم في الوهق بفتح الهاء و هو حبل كالطول و يجوز التسكين مثل نهر و نهر.و القوارع المحن و الدواهي و سميت القيامة قارعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى و ضعضعتهم أذلتهم قال أبو ذؤيب

أنى لريب الدهر لا أتضعضع

و ضعضعت البناء أهدمته.و عفرتهم للمناخر ألصقت أنوفهم بالعفر و هو التراب و المناسم جمع منسم بكسر السين و هو خف البعير.

٢٣٢

و دان لها أطاعها و دان لها أيضا ذل و أخلد إليها مال قال تعالى( وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ ) .و السغب الجوع يقول إنما زودتهم الجوع و هذا مثل كما قال

و مدحته فأجازني الحرمانا

و معنى قوله أو نورت لهم إلا الظلمة أي بالظلمة و هذا كقوله هل زودتهم إلا السغب و هو من باب إقامة الضد مقام الضد أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة و الضنك الضيق.ثم قال فبئست الدار و حذف الضمير العائد إليها و تقديره هي كما قال تعالى( نِعْمَ اَلْعَبْدُ ) و تقديره هو.و من لم يتهمها من لم يسؤ ظنا بها و الصفيح الحجارة و الأجنان القبور الواحد جنن و المجنون المقبور و منه قول الأعرابية لله درك من مجنون في جنن و الأكنان جمع كن و هو الستر قال تعالى( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبالِ أَكْناناً ) .و الرفات العظام البالية و المندبة الندب على الميت لا يبالون بذلك لا يكترثون به و جيدوا مطروا و قحطوا انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط و هو الجدب و إلى معنى قوله ع فهم جيرة لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد متدانون لا يتزاورون و قريبون لا يتقاربون نظر البحتري فقال

٢٣٣

بنا أنت من مجفوة لم تؤنب

و مهجورة في هجرها لم تعتب

و نازحة و الدار منها قريبة

و ما قرب ثاو في التراب مغيب

و قد قال الشعراء و الخطباء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول الرضي أبي الحسنرحمه‌الله في مرثية لأبي إسحاق الصابي

أعزز علي بأن نزلت بمنزل

متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم

و الدهر يعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم

من غير أطناب و لا أوتاد

ركب أناخوا لا يرجى منهم

قصد لإتهام و لا إنجاد

كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة

للدهر نازلة بكل مقاد

فتهافتوا عن رحل كل مذلل

و تطاوحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع و إنهم

متفردون تفرد الآحاد

فقوله بادون في صور الجمع...البيت هو قوله ع جمع و هم آحاد بعينه و قال الرضيرحمه‌الله تعالى أيضا

متوسدين على الخدود كأنما

كرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العيون بحسنها

أمسيت أوقرها من البوغاء

و نواظر كحل التراب جفونها

قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها

و نأوا عن الطلاب أي تناء

٢٣٤

قوله قربت ضرائحهم...البيت هو معنى قوله ع و جيرة و هم أبعاد بعينه.و من هذا المعنى قول بعض الأعراب

لكل أناس مقبر في ديارهم

فهم ينقصون و القبور تزيد

فكائن ترى من دار حي قد أخرجت

و قبر بأكناف التراب جديد

هم جيرة الأحياء أما مزارهم

فدان و أما الملتقى فبعيد

و من كلام ابن نباتة وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان.و منه قوله أسير وحشة الانفراد فقير إلى اليسير من الزاد جار من لا يجير و ضيف من لا يمير حملوا و لا يرون ركبانا و انزلوا و لا يدعون ضيفانا و اجتمعوا و لا يسمون جيرانا و احتشدوا و لا يعدون أعوانا و هذا كلام أمير المؤمنين ع بعينه المذكور في هذه الخطبة و قد أخذه مصالتة.و منه قوله طحنتهم طحن الحصيد و غيبتهم تحت الصعيد فبطون الأرض لهم أوطان و هم في خرابها قطان عمروا فأخربوا و اقتربوا فاغتربوا و اصطحبوا و ما اصطحبوا.و منه قوله غيبا كأشهاد عصبا كآحاد همودا في ظلم الإلحاد إلى يوم التناد.

٢٣٥

و اعلم أن هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين و رواها لقطري بن الفجاءة و الناس يروونها لأمير المؤمنين ع و قد رأيتها في كتاب المونق لأبي عبيد الله المرزباني مروية لأمير المؤمنين ع و هي بكلام أمير المؤمنين أشبه و ليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين ع فإن الخوارج كانوا أصحابه و أنصاره و قد لقي قطري أكثرهم

٢٣٦

111 و من خطبة له ع يذكر فيها ملك الموت و توفيه الأنفس

هَلْ تُحِسُّ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى اَلْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا أَمْ اَلرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أما مذهب جمهور أصحابنا و هم النافون للنفس الناطقة فعندهم أن الروح جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية ينفذ في العروق الضوارب و الحياة عرض قائم بالروح و حال فيها فللدماغ روح دماغية و حياة حالة فيها و كذلك للقلب و كذلك للكبد و عندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه لو لا ذلك لتعذر عليه و هو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق و المغرب لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد قال أصحابنا و لا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين للأرواح عند انقضاء الأجل قالوا و كيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب لأنه جسم لطيف هوائي لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة فيخالط الروح

٢٣٧

التي هي كالشبيهة به لأنها جسم لطيف بخاري ثم يخرج من حيث دخل و هي معه و إنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه و هو حضور الأجل فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء فالتزموا ذلك و قالوا ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء فإن فيه مسام و منافذ و في كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام.قالوا و لو فرضنا أنه لا مسام فيه لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كما يلجه الحجر و السمك و غيرهما و كالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره و تحفره و قوة الملك أشد من قوة الريح.ثم نعود إلى الشرح فنقول الملك أصله مألك بالهمز و وزنه مفعل و الميم زائدة لأنه من الألوكة و الألوك و هي الرسالة ثم قلبت الكلمة و قدمت اللام فقيل ملأك قال الشاعر

فلست لإنسي و لكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب

ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل ملك فلما جمع ردت الهمزة إليه فقالوا ملائكة و ملائك قال أمية بن أبي الصلت

و كأن برقع و الملائك حولها

سدر تواكله القوائم أجرد

و التوفي الإماتة و قبض الأرواح قال( الله تعالى اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) .و التقسيم الذي قسمه في وفاة الجنين حاصر لأنه مع فرضنا إياه جسما يقبض الأرواح التي في الأجسام إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله

٢٣٨

أو خارجا عنها و القسم الثاني ينقسم قسمين أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها و الثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها و ذلك بأن تطيعه الروح و تكون مسخرة إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها و هذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها و لو قسمها واضع المنطق لما زاد.ثم خرج إلى أمر آخر أعظم و أشرف مما ابتدأ به فقال كيف يصف إلهه من يعجز عن وصف مخلوق مثله و إلى هذا الغرض كان يترامى و إياه كان يقصد و إنما مهد حديث الملك و الجنين توطئة لهذا المعنى الشريف و السر الدقيق

فصل في التخلص و سياق كلام للشعراء فيه

و هذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص و أكثر ما يقع في الشعر كقول أبي نواس

تقول التي من بيتها خف مركبي

عزيز علينا أن نراك تسير

أ ما دون مصر للغني متطلب

بلى إن أسباب الغنى لكثير

فقلت لها و استعجلتها بوادر

جرت فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديك برحلة

إلى بلد فيه الخصيب أمير

و من ذلك قول أبي تمام

يقول في قومس صحبي و قد أخذت

منا السرى و خطا المهرية القود

أ مطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا

فقلت كلا و لكن مطلع الجود

٢٣٩

و منه قول البحتري:

هل الشباب ملم بي فراجعة

أيامه لي في أعقاب أيامي

لو أنه نائل غمر يجاد به

إذن تطلبته عند ابن بسطام

و منه قول المتنبي و هو يتغزل بأعرابية و يصف بخلها و جبنها و قلة مطعمها و هذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة

في مقلتي رشأ تديرهما

بدوية فتنت بها الحلل

تشكو المطاعم طول هجرتها

و صدودها و من الذي تصل

ما أسأرت في القعب من لبن

تركته و هو المسك و العسل

قالت إلا تصحو فقلت لها

أعلمتني أن الهوى ثمل

لو أن فناخسر صبحكم

و برزت وحدك عاقه الغزل

و تفرقت عنكم كتائبه

إن الملاح خوادع قتل

ما كنت فاعلة و ضيفكم

ملك الملوك و شأنك البخل

أ تمنعين قرى فتفتضحي

أم تبذلين له الذي يسل

بل لا يحل بحيث حل به

بخل و لا جور و لا وجل

و هذا من لطيف التخلص و رشيقه و التخلص مذهب الشعراء و المتأخرون يستعملونه كثيرا و يتفاخرون فيه و يتناضلون فأما التخلص في الكلام المنثور فلا يكاد يظهر لمتصفح الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد و قد وردت منه مواضع في القرآن العزيز فمن

٢٤٠