كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٨

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 307

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 307
المشاهدات: 19789
تحميل: 6127


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19789 / تحميل: 6127
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 8

مؤلف:
العربية

خالية من معاني الخلافة لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب و يقود القواد و يقطع الأقطاع و لا يراجع المعتمد في شي‏ء من الأمور أصلا فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء و قصده ابن طولون فكاتب إسحاق بن كنداحيق و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة فأمره أن يعترض المعتمد و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه و يعيدهم إلى سامراء و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد و الموالي بأجمعهم فاعترضهم إسحاق و قد قربوا من الرقة فأخذهم و قبض عليهم و قيدهم بالقيود الثقيلة و دخل على المعتمد فعنفه و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه و مفارقة أخيه على الحال التي هو بها و حرب من يحاول قتله و قتل أهل بيته و زوال ملكهم.ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء فأقر المعتمد على خلافته و منعه عن الخروج و أرسل أبو أحمد ابنه هارون و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة و قلد بسيفين من ذهب و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة و شيعه إلى منزله هارون و صاعد و قعدا على طعامه كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد و قوة نفسه و شدة شكيمته أن يكون بإزاء ذلك العدو و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ثم يصاب ولده بسهم و يصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه و لا تضعف قوته و بحق

٢٠١

ما سمي المنصور الثاني و لو لا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة.قال أبو جعفر ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة و جد الناجم في إعداد المقاتلة و المحاطة عن سوره و مدينته فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب و المجانيق و العرادات و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا و إلباسها جلود الجواميس و تغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير و الأدوية التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك و حورب صاحب الزنج من تحتها فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا و استأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي و كانت بإزاء دار الناجم و شرع في الحيلة في إحراقها و أحرق الموفق كثيرا من الرواشين المظلة على سور المدينة و شعثها و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها و أضرموا النار فيها و فعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة أشفى منها على التلف و اتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب فصعب ذلك على أبي أحمد و قوي بغرقه أمر الزنج و انصرف أبو أحمد

٢٠٢

آخر نهار هذا اليوم و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج إلى أن استبل من علته.قال أبو جعفر فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة فأمسك فيها عن الحرب انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب و الأدغال و الأحطاب فيه و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته و من بقي في نصرته من الزنج و هم حدود عشرين ألف مقاتل و انقطعت الميرة عنهم و بان للناس ضعف أمرهم فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم و كان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس و إذا تطاول حبسه أطلقه.و لما أبل الموفق من علته و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه كما فعل بالجانب الغربي ليتمكن من قتله أو أسره فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق و توسيع المسالك و إحراق الأسوار المبنية و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد و أمر الزنج يزداد ضعفا

٢٠٣

و طالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط.ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج و أمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس فحملهم إلى أبي أحمد فخلع على سليمان و من معه و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية و وصله بمال جليل و وصل أصحابه و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم ليزدادوا ثقة بأمانته فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم في الحباء و البر و الخلع و الجوائز فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب فوهى أمره و ضعف و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم و هو من قوادهم المشهورين فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه فأجيب إلى سؤاله و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده و جماعة من قواده فصاروا إلى أبي أحمد فوصله بصلة جليلة و خلع عليه خلعا كثيرة و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم و أرسله في الشذوات فوقفوا بحيث يراهم الناجم و أصحابه نهارا فعظم ذلك عليه و على أوليائه و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو و لا يعرفها أصحاب أبي أحمد ففعل

٢٠٤

و كبس عسكر الناجم سحرا فأوقع بهم و هم غارون فقتل منهم مقتلة عظيمة و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق و ذعر الزنج من شبل و ما فعله فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة و لا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف و وصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية.و صح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما و أمر بإحضار قواد المستأمنة و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة و أن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه و طاعته و أنهم لن يأتوا بشي‏ء يتعرضون به لطاعة ربهم و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم و أصحابه و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته و المعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم و يجهدوا على الولوج إلى الناجم و التوغل إليه في حصونه حتى يمكنهم الله منه و من أشياعه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله و تصغير منزلته و وضع مرتبته.فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه و بما هم عليه من صحة الضمائر من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة عدوه و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم و دلهم على ثقته بهم و إحلاله إياهم

٢٠٥

محل أوليائه و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره ليظهر من حسن جهادهم بين يديه و خلوص نياتهم في الحرب و نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم.فأجابهم إلى ذلك و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد.قال أبو جعفر ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه و دخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب في خمسين ألف مقاتل من البر و البحر فرسانا و رجالة يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن و لهم ضجيج و أصوات هائلة فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين.و اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا و صبر أصحاب أبي أحمد و صدقوا القتال فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج و قتل منهم خلق عظيم و أسر منهم أسرى كثيرة فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة و قصد بنفسه دار الناجم فوافاها و قد لجأ الناجم إليها و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه.فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و تفرقوا عنها و دخلها غلمان الموفق و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث فأخذوه و انتهبوه و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث و تخلص الناجم بنفسه و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقية في التوكيل و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج و تشاغل أصحاب أبي أحمد بنهب

٢٠٦

الأموال من دور الزنج فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم فخرجوا عليهم من عدة مواضع و خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم فكشفوهم و اتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم جماعة و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع.ثم تراجع الناس و دامت الحرب إلى وقت العصر فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم و أحجم الزنج عن أتباعهم و عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم.قال أبو جعفر و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق و المضايق فكانت بين لؤلؤ و بين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة استظهر فيها لؤلؤ عليهم و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه.قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبعين و مائتين تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة من كور الأهواز و نواحيها و قدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل يقودهم رجل من عبد القيس و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس و رئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة و كان أبو أحمد يجلس لكل من يرد و يخلع عليه و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات فعظم جيشه جدا و امتلأت بهم الأرض و صح

٢٠٧

عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره فرتب جيوشه و قسمهم على القواد و أمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له و ركب بنفسه و ركب جيشه و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا فكانت بينهم وقعة شديدة منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج فولوا منهزمين فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون فقتل منهم كثير و غرق كثير و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله فاحتووا عليها و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع و الهمداني و جماعة من أكابر القواد عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره في النهر المعروف بالسفياني فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر لأن أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول و فقده أصحابه فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم و عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر فاقتحمه لؤلؤ بفرسه و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه.و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر و مضى الناجم هاربا و لؤلؤ يتبعه في أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور و لؤلؤ و أصحابه يطردونهم من ورائهم حتى ألجئوهم إلى نهر آخر فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل فحمله الموفق معه في شذاته و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم حسبما كان مستحقا له و لهذا نادى

٢٠٨

أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا كان الفتح للؤلؤ.قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إياه و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما كان منهم و عجزهم و أغلظ لهم فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب الناجم و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه.ثم تحالفوا بين يديه و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم و بينه و سألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها و العبور فيها.فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير عن تنصلهم و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره و ذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين و مائتين و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به و أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر و هم مغيظون محنقون من التقريع و التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة أزالوهم عن مواقفهم فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض و اتبعهم الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم و انقطع

٢٠٩

الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج فقتل جماعة من كماته و ظفر به فأسر و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد فاستبشر الناس بأسر سليمان و كثر التكبير و الضجيج و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار و هو من قدماء قواد الناجم فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق في طلب الناجم و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره.فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق فوافاه بشير آخر و معه كف زعم أنها كفه فقوي الخبر عنده بعض القوة فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض و معه رأس الناجم فوضعه بين يديه فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه فرآه الناس و ارتفعت الأصوات و الضجيج.قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي فلما علما أنهما مقتولان افترقا فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام و معه جماعة من غلمان لؤلؤ فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف

٢١٠

بنهر الأمير فقذف بنفسه يروم النجاة و قبل ذلك كان ابن الناجم و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه و مضى يؤم النهر المعروف بالديناري متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم و دل الموفق عليهما بعد ذلك.و قيل له إن معهما جمعا من الزنج و جماعة من جلة قوادهم فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم و أعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان و حملوهم إلى الموفق فقتل منهم جماعة و أمر بالاستيثاق من المهلبي و أنكلاني بالحديد و الرجال الموكلين بهما.قال أبو جعفر و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب و رأس الناجم منصوب بين يديه على قناة في شذاة يخترق به في النهر و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة فخرج إليها و الرأس بين يديه و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه حتى وافى قصره بالموفقية هذه رواية أبي جعفر و أكثر الناس عليهما.و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي فسلمه إلى ابنه أبي العباس و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك.و الرواية الأولى هي الصحيحة و الذي جعل كردناجا هو قرطاس الذي رمى أبا أحمد

٢١١

بالسهم ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود.قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي العباس في الحرب إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به.قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا.قال أبو جعفر ثم تتابع مجي‏ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم كي لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الإسلام و أهله و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر فمات أكثرها عطشا و ظفر الأعراب بمن سلم منهم فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية بعد قتل الناجم مدة ليزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا و يتراجع أهل البلاد إليها فقد كان الناجم أجلاهم عنها و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد و معه رأس الناجم فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى من هذه السنة و رأس الناجم بين يديه على قناة و الناس مجتمعون يشاهدونه.و قد روى غير أبي جعفر و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر عن العلاء بن صاعد بن مخلد قال لما حمل رأس صاحب الزنج و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش

٢١٢

لم ير مثله و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم الله معاوية و زاد حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت و الله لقد بلغ أبي إلى الموت و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم و حصنا حرمهم و أولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم و لم أزل أداريه و أرفق به حتى سار.فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد و نزل بالمدائن و أن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا و أصحبهم دنان النبيذ و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء و يتركوا خيامهم و أثقالهم لينتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلك فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان و كانت كثيرة جدا فشربوا تلك الليلة و سكروا و باتوا على غرة فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى فأصاب منهم ما أراد فباطل موضوع لا أصل له و الذي بيتهم و هم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس و ستين و مائتين و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية هكذا رواه الناس كلهم.قال أبو جعفر فأما علي بن أبان و أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما فإنهم

٢١٣

حملوا إلى بغداد في الحديد و القد فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين و سبعين و مائتين فكانت للزنج حركة بواسط و صاحوا أنكلاني يا منصور و كان الموفق يومئذ بواسط فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه فدخل فتح السعيدي إليهم فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم و علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم.ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة فأمر بصلبهم بحضرة الجسر فأخرجوا من البالوعة و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم و تقشرت جلودهم فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي و ثلاثة على الجانب الغربي و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر و هو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته و قد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه

٢١٤

مِنْهَا مِنْهُ فِي وَصْفِ اَلْأَتْرَاكِ كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ اَلْمَجَانُّ اَلْمُطْرَقَةُ اَلْمُطَرَّقَةُ يَلْبَسُونَ اَلسَّرَقَ وَ اَلدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ اَلْخَيْلَ اَلْعِتَاقَ وَ يَكُونُ هُنَاكَ اِسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّى يَمْشِيَ اَلْمَجْرُوحُ عَلَى اَلْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ اَلْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ اَلْمَأْسُورِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ اَلْغَيْبِ فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ وَ إِنَّمَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ اَلآْيَةَ فَيَعْلَمُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ فِي اَلنَّارِ حَطَباً أَوْ فِي اَلْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ اَلْغَيْبِ اَلَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اَللَّهُ وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اَللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي

٢١٥

المجان جمع مجن بكسر الميم و هو الترس و إنما سمي مجنا لأنه يستتر به و الجنة السترة و الجمع جنن يقال استجن بجنة أي استتر بسترة.و المطرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا يقال جاءت الإبل مطاريق أي يتلو بعضها بعضا و النعل المطرقة المخصوفة و أطرقت بالجلد و العصب أي ألبست و ترس مطرق و طراق النعل ما أطرقت و خرزت به و ريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض و طارق الرجل بين الثوبين إذا لبس أحدهما علي الآخر و كل هذا يرجع إلى مفهوم واحد و هو مظاهرة الشي‏ء بعضه بعضا و يروى المجان المطرقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة.و السرق شقق الحرير و قيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة.و يعتقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها و استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى قال ابن الزبعري

حيث ألقت بقباء بركها

و استحر القتل في عبد الأشل

و المفلت الهارب.يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه و لم يطلع عليه أحدا من خلقه و هي الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة( إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )

٢١٦

و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه و هو ما عدا هذه الخمسة و الإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك.و تضطم عليه جوانحي تفتعل من الضم و هو الجمع أي يجتمع عليه جوانح صدري و يروى جوارحي و قد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك كم بقي من عمري فرفعت يدك اليمنى و فتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام فقال و لا واحدة منهن بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله( إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ ) الآية.فإن قلت لم ضحك ع لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب و هل هذا إلا زهو في النفس و عجب بالحال قلت قد روي أن رسول الله ص ضحك في مناسب هذه الحال لما استسقى فسقي و أشرف درور المطر فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم فدعا و أشار بيده إلى السحاب فانجاب حول المدينة كالإكليل و هو ع يخطب على المنبر فضحك حتى بدت نواجده و قال أشهد أني رسول الله و سر هذا الأمر أن النبي أو الولي إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه أو عرف الناس وجاهته عند الله فلا بد أن يسر بذلك و قد يحدث الضحك من السرور و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه و العجب و كان محض السرور و الابتهاج و قد قال تعالى في صفة أوليائه( فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .فإن قلت فإن من جمله الخمسة( وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ) و قد أعلم

٢١٧

الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده نحو قوله ستفتح مكة و أعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده نحو قوله له ستقاتل بعدي الناكثين الخبر.قلت المراد بالآية أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه

فصل في ذكر جنكزخان و فتنة التتر

و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه قد رأيناه نحن عيانا و وقع في زماننا و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق و الشام و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق و ببلاد ما وراء النهر و بخراسان و ما والاها من بلاد العجم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته و إن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان و هؤلاء دوخوا المشرق كله و تعدت نكايتهم إلى بلاد أرمينية و إلى الشام و وردت خيلهم إلى العراق و بخت‏نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس و قتل من كان بالشام من بني إسرائيل و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخربها هؤلاء و إلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم

٢١٨

و نحن نذكر طرفا من أخبارهم و ابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ و بالكتب المتضمنة أصناف الأمم لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا و لكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من القفجاق و اليمك و البرلو و التفريه و اليتبه و الروس و الخطا و القرغز و التركمان و لم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد و هو كتاب مروج الذهب للمسعودي فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ التتر و الناس اليوم يقولون التتار بألف و هذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق في جبال طمغاج من حدود الصين و بينهم و بين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر و قد كان خوارزمشاه و هو محمد بن تكش استولى على بلاد ما وراء النهر و قتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى و سمرقند و بلاد تركستان نحو كاشغر و بلاساغون و أفناهم و كانوا حجابا بينه و بين هذه الأمة و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده و كان في ذلك غالطا لأن ملوك الخطا كانوا وقاية له و مجنا من هؤلاء فلما أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم فأساء قواده و أمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم و سدوا طرق التجارة عنهم فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون و خرجوا إلى بلاد تركستان فأوقعوا بقواد خوارزمشاه و عماله هناك و ملكوا البلاد و تراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه و سلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه فأغضى على ذلك و رأى أن سعة ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه و أن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك و ترك بلاد تركستان لهم و استقر الأمر على أن تركستان لهم و ما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند و بخارى و غيرهما لخوارزمشاه فمكثوا كذلك نحو أربع سنين.

٢١٩

ثم إن المعروف بجنكزخان و الناس يلفظونه بالراء و ذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر أنه جنكز بالزاي المعجمة عن له رأي في النهوض إلى بلاد تركستان و ذلك أن جنكزخان هذا هو رئيس التتار الأقصين في المشرق و ابن رئيسهم و ما زال سلفه رؤساء تلك الجهة و كان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب و إنما عن له هذا الرأي لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم و إنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها غار من ذلك و أراد الرئاسة العامة لنفسه و أحب الملك و طمع في البلاد فنهض بمن معه من أقاصي الصين حتى صار إلى حدود أعمال تركستان فحاربه التتار الذين هناك و منعوه عن تطرق البلاد فلم يكن لهم به طاقة و هزمهم و قتل كثيرا منهم و ملك بلاد تركستان بأجمعها و صار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه و إن كان بينهما مسافة بعيدة و صار بينه و بين خوارزمشاه سلم و مهادنة إلا أنها هدنة على دخن.فمكثت الحال على ذلك يسيرا ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه على ألسنة التجار من الأخبار و أن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما يليها و أنه في التأهب و الاستعداد فلو داراه لكان أولى له لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم فتعذرت عليهم الكسوات و منع عنهم الميرة و الأقوات التي تجلب و تحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان فلو اقتنع بذلك لكان قريبا لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة المعروفة بأوتران و هي آخر ولايته بما وراء النهر أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار و معهم شي‏ء عظيم من الفضة إلى سمرقند ليشتروا له و لأهله و بني عمه كسوة و ثيابا و غير ذلك.

٢٢٠