• البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38861 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
مسكن الفؤاد

مسكن الفؤاد

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و روي : أن موسىعليه‌السلام قال : « يا ربّ ، دلّني على أمرفيه رضاك عني أعمله ، فأوحى الله تعالى ، اليه : أن رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره ، قال : يا ربّ ، دلّني عليه ، قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي »(١) .

وفي مناجاة موسىعليه‌السلام : « أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني ، قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط؟ قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي ».

وروي ما هو أشد منه ، وذاك أن الله تعالى قال :

« أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سوائي »(٢) .

ويروى : أن الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام : « يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد »(٣) .

وعن ابن عباس : « أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال »(٤) .

وعن ابن مسعود : لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحب إلي من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان.

وعن أبي الدرداء : « ذروة الايمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط »(٥) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : « الزهد عشرة أجزاء : أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة

____________

١ ـ دعوات الراوندي : ٧١ ، والبحار ٨٢ : ١٤٣.

٢ ـ دعوات الراوندي : ٧٤ ، الجامع الصغير ٢ : ٢٣٥ / ٦٠١٠ باختلاف في الفاظه.

٣ ـ التوحيد : ٣٣٧ / ٤.

٤ ـ أخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٤٣.

٥ ـ المحاسن : ١٧ / ٤٧ ، مشكاة الانوار : ١٢ و ١٣ ، الجامع الصغير ١ : ٣٨٢ / ٢٤٩٣ ، منتخب كنز العمال ١ : ١٧٨ و ٢٥٦ و ٢٥٧.

٨١

الرضا »(١) .

و قال الصادقعليه‌السلام : « صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره ، والراضي حقيقة هو المرضي عنه ، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلوب.

سمعت أبي محمد الباقرعليه‌السلام يقول : تعلق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا ، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته؟! حاشا الراضين العارفين عن ذلك ».

وروي : أن جابر بن عبد الله الانصاري ـرضي‌الله‌عنه ـ ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة.

فقال الباقرعليه‌السلام : « أما أنا يا جابر ، فإن جعلني الله شيخاً أحب الشيخوخة ، وإن جعلني شاباً أحب الشيبوبة(٢) ، وإن أمرضني أحب المرض ، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحب الموت ، وإن أبقاني أحب البقاء ».

فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه ، وقال صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه قال : « ستدرك لي ولداً اسمه اسمي ، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الارض » ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين ، اي شاقه.

وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام ، أنه قال : « رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره »(٣) .

وبإسناده عنهعليه‌السلام قال : « أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ أرضاهم بقضاء الله ـ عزوجل ـ »(٤) .

وبإسناده عنهعليه‌السلام قال : « قال الله تعالى : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه

____________

١ ـ الكافي ٢ : ٥١ / ١٠ و ١٠٤ / ٤ ، روضة الواعظين : ٤٣٢ ، مشكاة الانوار : ١١٣.

٢ ـ كذا ، ولعل صحتها الشبيبة : وهي الحداثة وسن الشباب ، اُنظر « الصحاح ـ شبب ـ ١ : ١٥١ ».

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٩ / ١.

٤ ـ الكافي ٢ : ٤٩ / ٢.

٨٢

ـ يا محمد ـ من الصديقين عندي »(١) .

و عنهعليه‌السلام قال : « في ما أوحى الله عزوجل إلى موسىعليه‌السلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن ، فإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي ، أكتبه في الصديقين عندي ، إذا عمل برضاي ، وأطاع أمري »(٢) .

وقيل للصادقعليه‌السلام : بأي شيء يعلم(٣) المؤمن بأنه مؤمن؟ قال : « بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط »(٤) .

وروي في الإسرائيليات : أن عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة ، فسأل عنها ، واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائماً ، وتبيت نائمة ، ويظل صائماً ، وتظلّ مفطرة ، فقال لها : أما لك عمل غير ما رايت؟ فقالت : ما هو والله غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره ، فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة ، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أن أكون في الظل ، فوضع العابد يديه على رأسه ، وقال : أهذه خصيلة؟ هذه ـ والله ـ خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.

____________

١ ـ الكافي ٢ : ٥٠ / ٦.

٢ ـ الكافي ٢ : ٥١ / ٧ ، أمالي المفيد : ٩٣ / ٢ ، أمالي الطوسي ١ : ٢٤٣ ، المؤمن : ١٧ / ٩ ، التمحيص ٥٥ / ١٠٨ ، مشكاة الانوار : ٢٩٩.

٣ ـ في هامش « ح » : يعرف.

٤ ـ الكافي ٢ : ٥٢ / ١٢.

٨٣

فصل

مرتبة الرضا عالية جداً على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة ، نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإن المحبة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه. الصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس ، فتبين بذلك أنّ الصبر والمحبة متنافيان.

وأيضاً ، فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشد المنكرات نكراً ، وأظهر علامات العداوة طراً ، كما قيل :

ويحسن إظهار التجلّد للعدى

ويقبح إلا العجز عند الأحبة

 ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامّة ، وأوحشها في طريق المحبة ، وأنكرها في طريق التوحيد.

وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء ـ وهو في مقام النفس ـ لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.

وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبة ، لأنّ المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والإلتذاذ بالبلاء ، لشهود المتبلى فيه وإيثار مراد المحبوب ، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مرّ ، فيتنافيان.

وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات (١) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى ، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى ، وفناء الصفة قبل فناء الذات.

وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.

__________________

١ ـ في « ح » : مرغوبات.

٨٤

فصل

للرضا ثلاث درجات ، مترتبة في القوّة ترتّبها في اللّفظ :

الدرجة الاولى : أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضياً به ، بل راغباً فيه ، مريداً له بعقله ، وإن كان كارهاً له بطبعه ، طلباً لثواب الله تعالى عليه ، ومزيداً لزلفى لديه ، والفوز بالجنّة التي عرضها السموات والأرض ، وقد أعدت للمتقين.

وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين.

ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه ، فإنّ‍ه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منةً عظيمة بفعله.

ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضياً به ، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى ـ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق مافاقه ـ رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه ، وشكرالله تعالى عليه.

الدرجة الثانية : أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً ، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.

وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة(١) ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيها بين ذلك يحمل العذرة.

والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة ، التي تغلط في ما ترى كثيراً ، فترى الصغير كبيراً ، والكبير صغيراً ، والبعيد قريباً ، والقبيح جميلاً.

فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزليّ الأبديّ ، الذي لاينتهي كماله المدرك بعين البصيرة ، التي لايعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّاً عندالله ، فرحاً مسروراً برزق الله ، مستفيداً

__________________

١ ـ مذرة : خبيثة ، من التمذّر ، وهو خبث النفس « مجمع البحرين ـ مذر ـ ٣ : ٤٨٠ ».

٨٥

بالموت مزيد تنبّه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار ، وتشهد له جملة من الآثار ، وردت من أحوال المحبيّن وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاءالله تعالى ، وهذه مرتبة المقرّبين.

الدرجة الثالثة : أن يبطل أحساسه بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولايحس ، وتصيبه جراحة ولايدرك ألمه.

ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه ، بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كالّة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهمّ من مهماته ، يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعربه.

وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ماعداه.

ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا ، واشتغالهم بها ، واكبابهم عليها ، حتى لا يتألمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ـ لذلك ـ كثير مشاهد عياناً ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه ، قد يصيبه ما كان يتألّم به ، أو يغتمّ لولا عشقه ، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحب على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!

وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف ، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحب أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره ، بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه.

كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إن لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع.

٨٦

فصل :

في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم

إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة :

لمّا اشتد البلاء على أيوبعليه‌السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : « يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى »(١) .

وروي أن يونسعليه‌السلام قال لجبرئيلعليه‌السلام : « دلّني على أعبد أهل الأرض » ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :

إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول(٢) .

وروي أنّ عيسىعليه‌السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.

فقال له عيسىعليه‌السلام : « يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ».

فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.

فقال له : « صدقت ، هات يدك » فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسىعليه‌السلام ، وتعبد معه(٣) .

وقال بعضهم ، قصدت عبادان(٤) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون

__________________

١ ـ روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر ١ : ٤٠ ، وارشاد القلوب : ١٢٧.

(٢ و ٣) أخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٥٣.

٤ ـ عبادان : بلد تحت البصرة. « معجم البلدان ٤ : ٧٤ ».

٨٧

قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً.

وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة(١) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة.

وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً. وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه.

وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.

وكان عمران بن حصين(٢) ـرضي‌الله‌عنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة(٣) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله(٤) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني(٥) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة

__________________

١ ـ الإكلة : الحكة. « الصحاح ـ أكل ـ ٤ : ١٦٢٤ ».

٢ ـ في « ش » و « ح » : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه ٥٢ أو ٥٣ للهجرة. راجع « اسد الغابة ٤ : ١٣٧ ، تهذيب التهذيب ٨ : ١٢٥ ، الإصابة في تمييز الصحابة ٣ : ٢٦ ».

٣ ـ في « ش » : حاجته.

٤ ـ في « ش » زيادة : أن.

٥ ـ في « ش » : تزورني.

٨٨

الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به(١) ؟

وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة(٢) ، ودبرت الحراقيف(٣) ، وأصبحت نضواً(٤) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر.

وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره.

وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ؟

__________________

١ ـ اسد الغابة ٤ : ١٣٧ نحوه.

٢ ـ الضجعة : هيئة الإضطجاع. « لسان العرب ٨ : ٢١٩ ».

٣ ـ الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. « لسان العرب ٩ : ٤٦ ».

٤ ـ النّضو : المهزول. « لسان العرب ١٥ : ٣٣٠ ».

٨٩

فصل

إعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء ، وزوال المرض وحفظ الولد لاينافي الرضاء بالقضاء ، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء ، وندبنا إليه وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكباراً وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعا الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدالحصر ، وقدأثنى الله تعالى على الداعين من عباده ، فقال : ( ويدعوننا رغباً ورهباً )(١) .

ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره(٢) بطلبه ، وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرّض لمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع(٣) الرضاء ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء.

ومن علاماته أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألّم من ذلك ، من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملأ على مفسدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتى ترحمه الملائكة وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤمن ، وأجب دعوته ، فيقول الله تعالى : كيف أرحمه من شي به أرحمه؟

نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى ، واستحقاقه للخيبة والإجباه(٤) والطرد والإبعاد ، فلاحرج ، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها حتى لو اجيبت دعوته ، فلا يظنّن أنّ ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل الله تعالى أن يعجّل بإجابته(٥) لتستريح منه.

__________________

١ ـ الأنبياء ٢١ : ٩٠.

٢ ـ في « ش » : ما أمر.

٣ ـ في « ش » : مواقع.

٤ ـ الإجباه : الإستقبال بالمكروه.« لسان العرب ـ جبه ـ ١٣ : ٤٨٣ ».

٥ ـ في « ش » : اجابته.

٩٠

و كذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة ، من محبة الله تعالى وملائكته لصوته ، وتلذّذهم بمناجاته ، فتسأل الله تعالى تأخير اجابته(١) ، كذلك كما ورد في الأخبار ، فالمؤمن أبداً بين رجاء وخوف ، فإنّ بهما قوام الأعمال ، والإنزجار عن المعاصي ، والرغبة في الطاعات.

____________

١ ـ في « ح » : حاجته.

٩١

الباب الرابع : في البكاء

إعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء ، وإنّما هو طبيعة بشرية ، وجبلة إنسانية ، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها ، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبىء عن الجزع وتذهب بالأجر ، من شقّ الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.

وقد ورد البكاء في المصائب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن قبله من لدن آدمعليه‌السلام ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم.

فأوّل من بكى آدمعليه‌السلام على ولده هابيل ، ورثاه بأبيات مشهورة ، وحزن عليه حزناً كثيراً ، وإن خفي شيء فلا يخفى حال يعقوبعليه‌السلام ، حيث بكى حتى ابيضّت عيناه من الحزن(١) على يوسفعليه‌السلام .

ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ زين العابدينعليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه ، فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ »(٢) .

وروي عن بعض مواليه أنّه قال : برز يوماً إلى الصحراء فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه ، فأحصيت عليه ألف مرة ، وهو يقول : « لاإله إلا الله حقّاً حقاً ، لاإله إلاّ الله تعبّداً ورقاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً » ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل؟

فقال لي : ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي ، له إثنا عشرابناً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دارالدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ، ويقل

__________________

١ ـ في « ش » زيادة : فهو كظيم.

٢ ـ اللهوف في قتلى الطفوف : ٨٧.

٩٢

بكائي؟! »(١) .

وعن أنس بن مالك قال : دخلت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي سيف القين ، وكان ظئراً(٢) لإبراهيمعليه‌السلام ، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبله ، ويشمّه(٣) ، ثمّ دخل عليه بعد ذلك وإبراهيمعليه‌السلام يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذرفان ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله(٤) ؟ فقال : « يا ابن عوف ، إنّها رحمة ـ ثمّ أتبعها بأخرى ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنّا لفراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون »(٥) .

و عن أسماء ابنة زيد قالت : لمّا توفي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إبراهيمعليه‌السلام ـ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال له المعزي : أنت أحقّ من عظّم الله عزّ وجلّ حقّه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، لولا أنّه وعد حق وموعود جامع وأنّ الآخر تابع للأوّل ، لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ أفضل ممّا وجدناه ، وإنّا بك لمحزونون »(٦) .

وعن جابر بن عبدالله الأنصاريرضي‌الله‌عنه قال : أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عبدالرحمن بن عوف فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فقال له : « يا بني ، إنّي لا أملك لك من الله تعالى شيئاً » وذرفت عيناه ، فقال له عبدالرحمن : يا رسول الله تبكي ، أولم تنه عن البكاء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما نهيت عن النوح ، عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لايرحم ، ولولا أنّه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا ، لحزنّا عليك حزناً أشدّ من هذا ، وإنّا بك لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ، ولانقول

____________

١ ـ اللهوف في قتلى الطفوف : ٨٨.

٢ ـ الظئر : زوج المرضعة. « لسان العرب ٤ : ٥١٥ ».

٣ ـ في « ح » : ويضمه الى صدره.

٤ ـ في « ح » زيادة : تبكي.

٥ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٥.

٦ ـ سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٦ / ١٥٨٩ ، ومنتخب كنز العمال ٦ : ٢٦٥.

٩٣

ما يسخط الرب عزّ وجلّ »(١) .

وعن أبي امامة قال : جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين توفي ابنه وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله ، تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلّهم أشب منه ، أدسّه في التراب ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فماذا ، إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا على إبراهيم لمحزونون ».

وعن محمود بن لبيد قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع ذلك فحمدالله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : « أمّا بعد ـ أيّها الناس ـ أنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ ، لا ينكسفان لموت أ حد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد » ودمعت عيناه ، فقالوا : يا رسول الله تبكي ، وأنت رسول الله؟ فقال : « إنّما أنا بشر ، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول مايسخط الرب ، والله ـ يا إبراهيم ـ إنّا بك لمحزونون »(٢) .

وعن خالد بن معدان. قال لمّا مات إبراهيم بن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى ، فقيل : أتبكي يا رسول الله؟ فقال : « ريحانة وهبها الله لي ، وكنت أشمّها ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم مات إبراهيم : « ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنّما هو رحمة ، وما كان من حزن باللّسان وباليد فهو من الشيطان »(٣) .

وروى الزبير بن بكار : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج بإبراهيم خرج يمشي ، ثمّ جلس على قبره ، ثم دلّي ، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع في القبر دمعت عيناه ، فلمّا رأى الصحابة ذلك بكوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فأقبل عليه أبوبكر فقال : يا رسول الله ، تبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ ».

__________________

١ ـ التعازي : ٩ / ٨ باختلاف يسير ، وروي باختلاف في ألفاظه في سنن الترمذي ٢ : ٢٣٧ / ١٠١١ ، والجامع الكبير ١ : ٢٩٠ ، وروي نحوه في منتخب كنز العمال ٦ : ٢٦٥ عن عبد بن حميد.

٢ ـ روى نحوه الكليني في الكافي ٣ : ٢٠٨ / ٧ عن علي بن عبدالله عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، ورواه باختلاف في ألفاظه عن المغيرة بن شعبة البخاري في صحيحه ٢ : ٤٢ و ٤٨ ، ومسلم في صحيحه ٢ : ٦٢٨ و ٦٣٠.

٣ ـ الجامع الكبير ١ : ٧٠٩ باختلاف يسير.

٩٤

وعن السائب بن يزيد ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه ، فقيل : يا رسول الله ، بكيت؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب ، وإنّ القلب يحزن ولا نعصي الله عزّوجلّ »(١) .

وروى مسلم في صحيحه : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله(٢) .

وروي : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قبّل ما بين عينيه ، ثمّ بكى طويلأ ، فلمّا رفع السرير قال : « طوباك ـ يا عثمان ـ لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها »(٣) .

واشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوده ، فلمّا دخل عليه وجده في غشيته ، فقال : « أو قد مات؟ » فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ، فقال : « ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم »(٤) .

وروي : أنّ ابنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثت إليه : إنّ ابنتي مغلوبة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لله ما أخذ ، ولله ما أعطى » وجاءها في ناس من أصحابه ، فأخرجت إليه الصبيّة ، ونفسها يتقعقع(٥) في صدرها ، فرقّ عليها ، وذرفت عيناه ، فنظر إليه أصحابه ، فقال : « ما لكم تنظرون إليّ؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء ، إنّما يرحم الله من عباده الرحماء »(٦) .

وعن اسامة بن زيد قال : اتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامامة بنت زينب ، ونفسها يتقعقع في صدرها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لله ما أخذ ، ولله ما اعطى ، وكلّ إلى أجل مسمّى » وبكى ، فقال له سعد بن عبادة : تبكي ، وقد نهيت عن

__________________

١ ـ ورد الحديث في الجامع الكبير ١ : ٢٠٧.

٢ ـ صحيح مسلم ٢ : ٦٧١ ، سنن النسائي ٤ : ٩٠ ، سنن أبي داود ٣ : ٢١٨ / ٣٢٣٤.

٣ ـ ورد الحديث في الجامع الكبير ١ : ٥٦٨.

٤ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٣٦ / ٩٢٤ باختلاف يسير.

٥ ـ تقعقع : اضطرب وتحرك. « القاموس المحيط ـ قعقع ـ ٣ : ٧٢ ».

٦ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٠ و ٧ : ١٥١و ٨ : ١٦٦ و ٩ : ١٤١ و ١٦٤ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٣٥ / ٩٢٣ ، التعازي : ١٠ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٦ / ١٥٨٨ ، سنن أبي داود ٣ : ١٩٣ / ٣١٢٥ ، سنن النسائي ٤ : ٢٢ باختلاف في ألفاظه.

٩٥

البكاء! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء »(١) .

ولما اصيب جعفر بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماء رضي الله عنها ، فقال لها : « أخرجي إليّ ولد جعفر ، فخرجوا إليه : فضمّهم إليه وشمّهم ودمعت عيناه ، فقالت : يا رسول الله ، اصيب جعفر؟ قال : نعم ، اُصيب اليوم »(٢) .

قال عبدالله بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول الله على اُمي ، فنعى إليها أبي ، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان(٣) الدموع حتى تقطر لحيته ، ثم قال : « اللّهم إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب ، فأخلفه في ذريته بأحسن ماخلفت أحداً من عبادك في ذريته » ثمّ إنّهعليه‌السلام قال : « يا أسماء ، ألا اُبشرك؟ » قالت : بلى بأبي أنت وأمي ، فقال : « إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين ، يطيربهما في الجنة ».

وعن أبي عبداللهعليه‌السلام ، عن أبيه ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه لمّا جاءته وفاة جعفر بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه وزيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدّاً ، وقال : « كانا يحدّثاني ويؤنساني ، فجاء الموت فذهب بهما »(٤) .

وعن خالد بن سلمة قال : لمّا جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزل زيد ، فخرجت إليه بنية لزيد ، فلمّا رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمشت في وجهها ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال(٥) : هاه هاه(٦) ، فقيل : يا رسول الله ، ما هذا؟ قال : « شوق الحبيب إلى حبيبه »(٧) .

ولمّا مات سعد بن معاذرضي‌الله‌عنه بكى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ مسند أحمد ٥ : ٢٠٤ و ٢٠٧ باختلاف يسير.

٢ ـ المغازي للواقدي ٢ : ٧٦٦ باختلاف يسير.

٣ ـ تهراقان : تجريان. « لسان العرب ١٠ : ٣٦٧ ».

٤ ـ الفقيه ١ : ١١٣ / ٥٢٧ باختلاف يسير.

٥ ـ كذا ، ولعل المناسب : حتى قال.

٦ ـ هاه هاه : حكاية صوت البكاء.

٧ ـ مكارم الأخلاق : ٢٢.

٩٦

كثيراً.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاُمّ سعد بن معاذ يوماً : « ألا يرقأ(١) دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك اهتز له العرش ».

قيل : وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته (٢) .

وعن البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ بصر بجماعة ، فقال : « على ما اجتمع هؤلاء؟ » فقيل : على قبر يحفرونه ، قال : فبدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثمّ أقبل علينا فقال : « إخواني ، لمثل هذا فأعدّوا »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العبرة لا يملكها أحد ، صبابة المرء على أخيه »(٤) .

ولما انصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أٌحد راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش ، فنعى لها الناس أخاها عبدالله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها خالها حمزة ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لزوج المرأة منها لمكان » لما رأى صبرها عن أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها(٥) .

ثمّ مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دار من دور الأنصار من بني عبدالأشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى ، ثم قال : « لكن حمزة لا بواكي له » فلمّا رجع سعد بن معاذ وأٌسيد بن حضير(٦) إلى دار بني عبدالأشهل ، أمرانساءهم أن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا سمع

__________________

١ ـ يرقأ الدمع : يجف وينقطع. « لسان العرب ١ : ٨٨ ».

٢ ـ مسند أحمد ٦ : ٤٥٦ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٢٠٦ ، الجامع الكبير ١ : ٣٦٠.

٣ ـ مسند أحمد ٤ : ٢٩٤ ، وروي نحوه في سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٣ / ٤١٩٥.

٤ ـ الجامع الصغير ٢ : ١١٣ / ٥١٣٥ ، وروي باختلاف يسير في الدرالمنثور ١ : ١٥٨.

٥ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ١٠٤.

٦ ـ في « ح » : أسيد بن حصين ، وفي « ش » : أسيد بن خضير ، والصواب ماأثبتناه ، وهو اُسيد بن حُضير ، أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة توفي سنة ٢٠ للهجرة ودفن بالبقيع ، راجع « اُسد الغابة : ١ : ٩٢ ، تهذيب التهذيب ١ : ٣٤٧ ».

٩٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهنّ على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ارجعن ـ يرحمكن الله ـ قد واسيتنّ بأنفسكن ».

وروى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى الصادقعليه‌السلام : « إنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته »(١) .

__________________

١ ـ التهذيب ١ : ٤٦٥ / ١٥٢٤.

٩٨

فصل

عن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب »(١) .

وعن أبي اُمامة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لعن الله الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور »(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة(٣) .

وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كبر مقتاً عندالله الأكل من غير جوع ، والنوم من غير سهر ، والضحك من غير عجب ، والرنّة عند المصيبة ، والمزمار عند النعمة(٤) .

وعن يحيى بن خالد : أنّ رجلأ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : مايحبط الأجر عند المصيبة؟ قال : « تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، من رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط »(٥) .

وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت : لمّا مات أبو سلمةرضي‌الله‌عنه قلت : غريب وفي أرض (غربة ، لأبكينّه)(٦) بكاءً يتحدّث عنه ، فكنت قد تهيّأت للبكاء ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني ، فاستقبلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : « أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه » فكففت عن البكاء(٧) .

وعن الباقرعليه‌السلام : « أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمدالله ـ جلّ ذكره ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ ، ومن لم يفعل ذلك

__________________

١ ـ مسند احمد ١ : ٣٨٦ ، صحيح البخاري ٢ : ١٠٤ ، صحيح مسلم ١ : ٩٩ / ١٦٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٤ / ١٥٨٤ ، سنن النسائي ٤ : ٢٠ و٢١ ، والبحار ٨٢ : ٩٣ / ٤٥.

٢ ـ الجامع الصغير ٢ : ٤٠٥ / ٧٢٥٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٥ / ١٥٨٥ ، والبحار ٨٣ : ٩٣.

٣ ـ سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٤ / ١٥٨٣.

٤ ـ الجامع الصغير ٢ : ٢٦٨ / ٦٢١٦.

٥ ـ البحار ٨٢ : ٩٣.

٦ ـ في « ح » : غريبة لأبكين عليه.

٧ ـ صحيح مسلم ٢ : ٦٣٥ / ٩٢٢.

٩٩

جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله عزوجل أجره(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره »(٢) .

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٢٢٢ / ١.

٢ ـ الكافي ٣ : ٢٢٤ / ٤ باختلاف يسير.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169