• البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37094 / تحميل: 5999
الحجم الحجم الحجم
مسكن الفؤاد

مسكن الفؤاد

مؤلف:
العربية

و روي : أن موسىعليه‌السلام قال : « يا ربّ ، دلّني على أمرفيه رضاك عني أعمله ، فأوحى الله تعالى ، اليه : أن رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره ، قال : يا ربّ ، دلّني عليه ، قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي »(1) .

وفي مناجاة موسىعليه‌السلام : « أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني ، قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط؟ قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي ».

وروي ما هو أشد منه ، وذاك أن الله تعالى قال :

« أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سوائي »(2) .

ويروى : أن الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام : « يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد »(3) .

وعن ابن عباس : « أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال »(4) .

وعن ابن مسعود : لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحب إلي من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان.

وعن أبي الدرداء : « ذروة الايمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط »(5) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : « الزهد عشرة أجزاء : أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة

____________

1 ـ دعوات الراوندي : 71 ، والبحار 82 : 143.

2 ـ دعوات الراوندي : 74 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010 باختلاف في الفاظه.

3 ـ التوحيد : 337 / 4.

4 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 143.

5 ـ المحاسن : 17 / 47 ، مشكاة الانوار : 12 و 13 ، الجامع الصغير 1 : 382 / 2493 ، منتخب كنز العمال 1 : 178 و 256 و 257.

٨١

الرضا »(1) .

و قال الصادقعليه‌السلام : « صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره ، والراضي حقيقة هو المرضي عنه ، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلوب.

سمعت أبي محمد الباقرعليه‌السلام يقول : تعلق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا ، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته؟! حاشا الراضين العارفين عن ذلك ».

وروي : أن جابر بن عبد الله الانصاري ـرضي‌الله‌عنه ـ ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة.

فقال الباقرعليه‌السلام : « أما أنا يا جابر ، فإن جعلني الله شيخاً أحب الشيخوخة ، وإن جعلني شاباً أحب الشيبوبة(2) ، وإن أمرضني أحب المرض ، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحب الموت ، وإن أبقاني أحب البقاء ».

فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه ، وقال صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه قال : « ستدرك لي ولداً اسمه اسمي ، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الارض » ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين ، اي شاقه.

وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام ، أنه قال : « رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره »(3) .

وبإسناده عنهعليه‌السلام قال : « أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ أرضاهم بقضاء الله ـ عزوجل ـ »(4) .

وبإسناده عنهعليه‌السلام قال : « قال الله تعالى : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه

____________

1 ـ الكافي 2 : 51 / 10 و 104 / 4 ، روضة الواعظين : 432 ، مشكاة الانوار : 113.

2 ـ كذا ، ولعل صحتها الشبيبة : وهي الحداثة وسن الشباب ، اُنظر « الصحاح ـ شبب ـ 1 : 151 ».

3 ـ الكافي 2 : 49 / 1.

4 ـ الكافي 2 : 49 / 2.

٨٢

ـ يا محمد ـ من الصديقين عندي »(1) .

و عنهعليه‌السلام قال : « في ما أوحى الله عزوجل إلى موسىعليه‌السلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن ، فإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي ، أكتبه في الصديقين عندي ، إذا عمل برضاي ، وأطاع أمري »(2) .

وقيل للصادقعليه‌السلام : بأي شيء يعلم(3) المؤمن بأنه مؤمن؟ قال : « بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط »(4) .

وروي في الإسرائيليات : أن عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة ، فسأل عنها ، واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائماً ، وتبيت نائمة ، ويظل صائماً ، وتظلّ مفطرة ، فقال لها : أما لك عمل غير ما رايت؟ فقالت : ما هو والله غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره ، فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة ، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أن أكون في الظل ، فوضع العابد يديه على رأسه ، وقال : أهذه خصيلة؟ هذه ـ والله ـ خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.

____________

1 ـ الكافي 2 : 50 / 6.

2 ـ الكافي 2 : 51 / 7 ، أمالي المفيد : 93 / 2 ، أمالي الطوسي 1 : 243 ، المؤمن : 17 / 9 ، التمحيص 55 / 108 ، مشكاة الانوار : 299.

3 ـ في هامش « ح » : يعرف.

4 ـ الكافي 2 : 52 / 12.

٨٣

فصل

مرتبة الرضا عالية جداً على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة ، نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإن المحبة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه. الصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس ، فتبين بذلك أنّ الصبر والمحبة متنافيان.

وأيضاً ، فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشد المنكرات نكراً ، وأظهر علامات العداوة طراً ، كما قيل :

ويحسن إظهار التجلّد للعدى

ويقبح إلا العجز عند الأحبة

 ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامّة ، وأوحشها في طريق المحبة ، وأنكرها في طريق التوحيد.

وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء ـ وهو في مقام النفس ـ لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.

وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبة ، لأنّ المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والإلتذاذ بالبلاء ، لشهود المتبلى فيه وإيثار مراد المحبوب ، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مرّ ، فيتنافيان.

وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات (1) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى ، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى ، وفناء الصفة قبل فناء الذات.

وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.

__________________

1 ـ في « ح » : مرغوبات.

٨٤

فصل

للرضا ثلاث درجات ، مترتبة في القوّة ترتّبها في اللّفظ :

الدرجة الاولى : أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضياً به ، بل راغباً فيه ، مريداً له بعقله ، وإن كان كارهاً له بطبعه ، طلباً لثواب الله تعالى عليه ، ومزيداً لزلفى لديه ، والفوز بالجنّة التي عرضها السموات والأرض ، وقد أعدت للمتقين.

وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين.

ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه ، فإنّ‍ه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منةً عظيمة بفعله.

ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضياً به ، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى ـ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق مافاقه ـ رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه ، وشكرالله تعالى عليه.

الدرجة الثانية : أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً ، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.

وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة(1) ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيها بين ذلك يحمل العذرة.

والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة ، التي تغلط في ما ترى كثيراً ، فترى الصغير كبيراً ، والكبير صغيراً ، والبعيد قريباً ، والقبيح جميلاً.

فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزليّ الأبديّ ، الذي لاينتهي كماله المدرك بعين البصيرة ، التي لايعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّاً عندالله ، فرحاً مسروراً برزق الله ، مستفيداً

__________________

1 ـ مذرة : خبيثة ، من التمذّر ، وهو خبث النفس « مجمع البحرين ـ مذر ـ 3 : 480 ».

٨٥

بالموت مزيد تنبّه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار ، وتشهد له جملة من الآثار ، وردت من أحوال المحبيّن وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاءالله تعالى ، وهذه مرتبة المقرّبين.

الدرجة الثالثة : أن يبطل أحساسه بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولايحس ، وتصيبه جراحة ولايدرك ألمه.

ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه ، بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كالّة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهمّ من مهماته ، يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعربه.

وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ماعداه.

ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا ، واشتغالهم بها ، واكبابهم عليها ، حتى لا يتألمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ـ لذلك ـ كثير مشاهد عياناً ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه ، قد يصيبه ما كان يتألّم به ، أو يغتمّ لولا عشقه ، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحب على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!

وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف ، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحب أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره ، بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه.

كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إن لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع.

٨٦

فصل :

في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم

إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة :

لمّا اشتد البلاء على أيوبعليه‌السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : « يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى »(1) .

وروي أن يونسعليه‌السلام قال لجبرئيلعليه‌السلام : « دلّني على أعبد أهل الأرض » ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :

إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول(2) .

وروي أنّ عيسىعليه‌السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.

فقال له عيسىعليه‌السلام : « يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ».

فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.

فقال له : « صدقت ، هات يدك » فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسىعليه‌السلام ، وتعبد معه(3) .

وقال بعضهم ، قصدت عبادان(4) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون

__________________

1 ـ روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر 1 : 40 ، وارشاد القلوب : 127.

(2 و 3) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 153.

4 ـ عبادان : بلد تحت البصرة. « معجم البلدان 4 : 74 ».

٨٧

قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً.

وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة(1) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة.

وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً. وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه.

وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.

وكان عمران بن حصين(2) ـرضي‌الله‌عنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة(3) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله(4) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني(5) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة

__________________

1 ـ الإكلة : الحكة. « الصحاح ـ أكل ـ 4 : 1624 ».

2 ـ في « ش » و « ح » : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه 52 أو 53 للهجرة. راجع « اسد الغابة 4 : 137 ، تهذيب التهذيب 8 : 125 ، الإصابة في تمييز الصحابة 3 : 26 ».

3 ـ في « ش » : حاجته.

4 ـ في « ش » زيادة : أن.

5 ـ في « ش » : تزورني.

٨٨

الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به(1) ؟

وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة(2) ، ودبرت الحراقيف(3) ، وأصبحت نضواً(4) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر.

وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره.

وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ؟

__________________

1 ـ اسد الغابة 4 : 137 نحوه.

2 ـ الضجعة : هيئة الإضطجاع. « لسان العرب 8 : 219 ».

3 ـ الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. « لسان العرب 9 : 46 ».

4 ـ النّضو : المهزول. « لسان العرب 15 : 330 ».

٨٩

فصل

إعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء ، وزوال المرض وحفظ الولد لاينافي الرضاء بالقضاء ، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء ، وندبنا إليه وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكباراً وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعا الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدالحصر ، وقدأثنى الله تعالى على الداعين من عباده ، فقال : ( ويدعوننا رغباً ورهباً )(1) .

ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره(2) بطلبه ، وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرّض لمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع(3) الرضاء ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء.

ومن علاماته أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألّم من ذلك ، من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملأ على مفسدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتى ترحمه الملائكة وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤمن ، وأجب دعوته ، فيقول الله تعالى : كيف أرحمه من شي به أرحمه؟

نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى ، واستحقاقه للخيبة والإجباه(4) والطرد والإبعاد ، فلاحرج ، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها حتى لو اجيبت دعوته ، فلا يظنّن أنّ ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل الله تعالى أن يعجّل بإجابته(5) لتستريح منه.

__________________

1 ـ الأنبياء 21 : 90.

2 ـ في « ش » : ما أمر.

3 ـ في « ش » : مواقع.

4 ـ الإجباه : الإستقبال بالمكروه.« لسان العرب ـ جبه ـ 13 : 483 ».

5 ـ في « ش » : اجابته.

٩٠

و كذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة ، من محبة الله تعالى وملائكته لصوته ، وتلذّذهم بمناجاته ، فتسأل الله تعالى تأخير اجابته(1) ، كذلك كما ورد في الأخبار ، فالمؤمن أبداً بين رجاء وخوف ، فإنّ بهما قوام الأعمال ، والإنزجار عن المعاصي ، والرغبة في الطاعات.

____________

1 ـ في « ح » : حاجته.

٩١

الباب الرابع : في البكاء

إعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء ، وإنّما هو طبيعة بشرية ، وجبلة إنسانية ، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها ، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبىء عن الجزع وتذهب بالأجر ، من شقّ الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.

وقد ورد البكاء في المصائب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن قبله من لدن آدمعليه‌السلام ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم.

فأوّل من بكى آدمعليه‌السلام على ولده هابيل ، ورثاه بأبيات مشهورة ، وحزن عليه حزناً كثيراً ، وإن خفي شيء فلا يخفى حال يعقوبعليه‌السلام ، حيث بكى حتى ابيضّت عيناه من الحزن(1) على يوسفعليه‌السلام .

ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ زين العابدينعليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه ، فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ »(2) .

وروي عن بعض مواليه أنّه قال : برز يوماً إلى الصحراء فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه ، فأحصيت عليه ألف مرة ، وهو يقول : « لاإله إلا الله حقّاً حقاً ، لاإله إلاّ الله تعبّداً ورقاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً » ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل؟

فقال لي : ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي ، له إثنا عشرابناً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دارالدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ، ويقل

__________________

1 ـ في « ش » زيادة : فهو كظيم.

2 ـ اللهوف في قتلى الطفوف : 87.

٩٢

بكائي؟! »(1) .

وعن أنس بن مالك قال : دخلت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي سيف القين ، وكان ظئراً(2) لإبراهيمعليه‌السلام ، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبله ، ويشمّه(3) ، ثمّ دخل عليه بعد ذلك وإبراهيمعليه‌السلام يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذرفان ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله(4) ؟ فقال : « يا ابن عوف ، إنّها رحمة ـ ثمّ أتبعها بأخرى ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنّا لفراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون »(5) .

و عن أسماء ابنة زيد قالت : لمّا توفي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إبراهيمعليه‌السلام ـ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال له المعزي : أنت أحقّ من عظّم الله عزّ وجلّ حقّه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، لولا أنّه وعد حق وموعود جامع وأنّ الآخر تابع للأوّل ، لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ أفضل ممّا وجدناه ، وإنّا بك لمحزونون »(6) .

وعن جابر بن عبدالله الأنصاريرضي‌الله‌عنه قال : أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عبدالرحمن بن عوف فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فقال له : « يا بني ، إنّي لا أملك لك من الله تعالى شيئاً » وذرفت عيناه ، فقال له عبدالرحمن : يا رسول الله تبكي ، أولم تنه عن البكاء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما نهيت عن النوح ، عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لايرحم ، ولولا أنّه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا ، لحزنّا عليك حزناً أشدّ من هذا ، وإنّا بك لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ، ولانقول

____________

1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف : 88.

2 ـ الظئر : زوج المرضعة. « لسان العرب 4 : 515 ».

3 ـ في « ح » : ويضمه الى صدره.

4 ـ في « ح » زيادة : تبكي.

5 ـ صحيح البخاري 2 : 105.

6 ـ سنن ابن ماجة 1 : 506 / 1589 ، ومنتخب كنز العمال 6 : 265.

٩٣

ما يسخط الرب عزّ وجلّ »(1) .

وعن أبي امامة قال : جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين توفي ابنه وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله ، تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلّهم أشب منه ، أدسّه في التراب ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فماذا ، إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا على إبراهيم لمحزونون ».

وعن محمود بن لبيد قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع ذلك فحمدالله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : « أمّا بعد ـ أيّها الناس ـ أنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ ، لا ينكسفان لموت أ حد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد » ودمعت عيناه ، فقالوا : يا رسول الله تبكي ، وأنت رسول الله؟ فقال : « إنّما أنا بشر ، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول مايسخط الرب ، والله ـ يا إبراهيم ـ إنّا بك لمحزونون »(2) .

وعن خالد بن معدان. قال لمّا مات إبراهيم بن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى ، فقيل : أتبكي يا رسول الله؟ فقال : « ريحانة وهبها الله لي ، وكنت أشمّها ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم مات إبراهيم : « ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنّما هو رحمة ، وما كان من حزن باللّسان وباليد فهو من الشيطان »(3) .

وروى الزبير بن بكار : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج بإبراهيم خرج يمشي ، ثمّ جلس على قبره ، ثم دلّي ، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع في القبر دمعت عيناه ، فلمّا رأى الصحابة ذلك بكوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فأقبل عليه أبوبكر فقال : يا رسول الله ، تبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ ».

__________________

1 ـ التعازي : 9 / 8 باختلاف يسير ، وروي باختلاف في ألفاظه في سنن الترمذي 2 : 237 / 1011 ، والجامع الكبير 1 : 290 ، وروي نحوه في منتخب كنز العمال 6 : 265 عن عبد بن حميد.

2 ـ روى نحوه الكليني في الكافي 3 : 208 / 7 عن علي بن عبدالله عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، ورواه باختلاف في ألفاظه عن المغيرة بن شعبة البخاري في صحيحه 2 : 42 و 48 ، ومسلم في صحيحه 2 : 628 و 630.

3 ـ الجامع الكبير 1 : 709 باختلاف يسير.

٩٤

وعن السائب بن يزيد ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه ، فقيل : يا رسول الله ، بكيت؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب ، وإنّ القلب يحزن ولا نعصي الله عزّوجلّ »(1) .

وروى مسلم في صحيحه : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله(2) .

وروي : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قبّل ما بين عينيه ، ثمّ بكى طويلأ ، فلمّا رفع السرير قال : « طوباك ـ يا عثمان ـ لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها »(3) .

واشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوده ، فلمّا دخل عليه وجده في غشيته ، فقال : « أو قد مات؟ » فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ، فقال : « ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم »(4) .

وروي : أنّ ابنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثت إليه : إنّ ابنتي مغلوبة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لله ما أخذ ، ولله ما أعطى » وجاءها في ناس من أصحابه ، فأخرجت إليه الصبيّة ، ونفسها يتقعقع(5) في صدرها ، فرقّ عليها ، وذرفت عيناه ، فنظر إليه أصحابه ، فقال : « ما لكم تنظرون إليّ؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء ، إنّما يرحم الله من عباده الرحماء »(6) .

وعن اسامة بن زيد قال : اتي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بامامة بنت زينب ، ونفسها يتقعقع في صدرها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لله ما أخذ ، ولله ما اعطى ، وكلّ إلى أجل مسمّى » وبكى ، فقال له سعد بن عبادة : تبكي ، وقد نهيت عن

__________________

1 ـ ورد الحديث في الجامع الكبير 1 : 207.

2 ـ صحيح مسلم 2 : 671 ، سنن النسائي 4 : 90 ، سنن أبي داود 3 : 218 / 3234.

3 ـ ورد الحديث في الجامع الكبير 1 : 568.

4 ـ صحيح البخاري 2 : 106 ، صحيح مسلم 2 : 636 / 924 باختلاف يسير.

5 ـ تقعقع : اضطرب وتحرك. « القاموس المحيط ـ قعقع ـ 3 : 72 ».

6 ـ صحيح البخاري 2 : 100 و 7 : 151و 8 : 166 و 9 : 141 و 164 ، صحيح مسلم 2 : 635 / 923 ، التعازي : 10 ، سنن ابن ماجة 1 : 506 / 1588 ، سنن أبي داود 3 : 193 / 3125 ، سنن النسائي 4 : 22 باختلاف في ألفاظه.

٩٥

البكاء! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء »(1) .

ولما اصيب جعفر بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماء رضي الله عنها ، فقال لها : « أخرجي إليّ ولد جعفر ، فخرجوا إليه : فضمّهم إليه وشمّهم ودمعت عيناه ، فقالت : يا رسول الله ، اصيب جعفر؟ قال : نعم ، اُصيب اليوم »(2) .

قال عبدالله بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول الله على اُمي ، فنعى إليها أبي ، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان(3) الدموع حتى تقطر لحيته ، ثم قال : « اللّهم إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب ، فأخلفه في ذريته بأحسن ماخلفت أحداً من عبادك في ذريته » ثمّ إنّهعليه‌السلام قال : « يا أسماء ، ألا اُبشرك؟ » قالت : بلى بأبي أنت وأمي ، فقال : « إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين ، يطيربهما في الجنة ».

وعن أبي عبداللهعليه‌السلام ، عن أبيه ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه لمّا جاءته وفاة جعفر بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه وزيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدّاً ، وقال : « كانا يحدّثاني ويؤنساني ، فجاء الموت فذهب بهما »(4) .

وعن خالد بن سلمة قال : لمّا جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزل زيد ، فخرجت إليه بنية لزيد ، فلمّا رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمشت في وجهها ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال(5) : هاه هاه(6) ، فقيل : يا رسول الله ، ما هذا؟ قال : « شوق الحبيب إلى حبيبه »(7) .

ولمّا مات سعد بن معاذرضي‌الله‌عنه بكى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

1 ـ مسند أحمد 5 : 204 و 207 باختلاف يسير.

2 ـ المغازي للواقدي 2 : 766 باختلاف يسير.

3 ـ تهراقان : تجريان. « لسان العرب 10 : 367 ».

4 ـ الفقيه 1 : 113 / 527 باختلاف يسير.

5 ـ كذا ، ولعل المناسب : حتى قال.

6 ـ هاه هاه : حكاية صوت البكاء.

7 ـ مكارم الأخلاق : 22.

٩٦

كثيراً.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاُمّ سعد بن معاذ يوماً : « ألا يرقأ(1) دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك اهتز له العرش ».

قيل : وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته (2) .

وعن البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ بصر بجماعة ، فقال : « على ما اجتمع هؤلاء؟ » فقيل : على قبر يحفرونه ، قال : فبدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثمّ أقبل علينا فقال : « إخواني ، لمثل هذا فأعدّوا »(3) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العبرة لا يملكها أحد ، صبابة المرء على أخيه »(4) .

ولما انصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أٌحد راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش ، فنعى لها الناس أخاها عبدالله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها خالها حمزة ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لزوج المرأة منها لمكان » لما رأى صبرها عن أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها(5) .

ثمّ مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دار من دور الأنصار من بني عبدالأشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى ، ثم قال : « لكن حمزة لا بواكي له » فلمّا رجع سعد بن معاذ وأٌسيد بن حضير(6) إلى دار بني عبدالأشهل ، أمرانساءهم أن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا سمع

__________________

1 ـ يرقأ الدمع : يجف وينقطع. « لسان العرب 1 : 88 ».

2 ـ مسند أحمد 6 : 456 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 206 ، الجامع الكبير 1 : 360.

3 ـ مسند أحمد 4 : 294 ، وروي نحوه في سنن ابن ماجة 2 : 1403 / 4195.

4 ـ الجامع الصغير 2 : 113 / 5135 ، وروي باختلاف يسير في الدرالمنثور 1 : 158.

5 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3 : 104.

6 ـ في « ح » : أسيد بن حصين ، وفي « ش » : أسيد بن خضير ، والصواب ماأثبتناه ، وهو اُسيد بن حُضير ، أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة توفي سنة 20 للهجرة ودفن بالبقيع ، راجع « اُسد الغابة : 1 : 92 ، تهذيب التهذيب 1 : 347 ».

٩٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهنّ على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ارجعن ـ يرحمكن الله ـ قد واسيتنّ بأنفسكن ».

وروى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى الصادقعليه‌السلام : « إنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته »(1) .

__________________

1 ـ التهذيب 1 : 465 / 1524.

٩٨

فصل

عن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب »(1) .

وعن أبي اُمامة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لعن الله الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور »(2) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة(3) .

وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كبر مقتاً عندالله الأكل من غير جوع ، والنوم من غير سهر ، والضحك من غير عجب ، والرنّة عند المصيبة ، والمزمار عند النعمة(4) .

وعن يحيى بن خالد : أنّ رجلأ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : مايحبط الأجر عند المصيبة؟ قال : « تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، من رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط »(5) .

وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت : لمّا مات أبو سلمةرضي‌الله‌عنه قلت : غريب وفي أرض (غربة ، لأبكينّه)(6) بكاءً يتحدّث عنه ، فكنت قد تهيّأت للبكاء ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني ، فاستقبلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : « أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه » فكففت عن البكاء(7) .

وعن الباقرعليه‌السلام : « أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمدالله ـ جلّ ذكره ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ ، ومن لم يفعل ذلك

__________________

1 ـ مسند احمد 1 : 386 ، صحيح البخاري 2 : 104 ، صحيح مسلم 1 : 99 / 165 ، سنن ابن ماجة 1 : 504 / 1584 ، سنن النسائي 4 : 20 و21 ، والبحار 82 : 93 / 45.

2 ـ الجامع الصغير 2 : 405 / 7252 ، سنن ابن ماجة 1 : 505 / 1585 ، والبحار 83 : 93.

3 ـ سنن ابن ماجة 1 : 504 / 1583.

4 ـ الجامع الصغير 2 : 268 / 6216.

5 ـ البحار 82 : 93.

6 ـ في « ح » : غريبة لأبكين عليه.

7 ـ صحيح مسلم 2 : 635 / 922.

٩٩

جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله عزوجل أجره(1) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره »(2) .

__________________

1 ـ الكافي 3 : 222 / 1.

2 ـ الكافي 3 : 224 / 4 باختلاف يسير.

١٠٠