كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 334
المشاهدات: 51941
تحميل: 5886


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 334 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51941 / تحميل: 5886
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

155 و من خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي اِنْحَسَرَتِ اَلْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ اَلْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اَللَّهُ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى اَلْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ اَلْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ اَلْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً خَلَقَ اَلْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لاَ مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لاَ مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ اِنْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ اَلْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ اَلْخَفَافِيشِ اَلَّتِي يَقْبِضُهَا اَلضِّيَاءُ اَلْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ يَبْسُطُهَا اَلظَّلاَمُ اَلْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ اَلشَّمْسِ اَلْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ اَلشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ اَلْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ اَلذَّهَابِ فِي بُلَجِ اِئْتِلاَقِهَا وَ هِيَ مُسْدَلَةُ اَلْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا وَ جَاعِلَةُ اَللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي اِلْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ وَ لاَ تَمْتَنِعُ مِنَ اَلْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ فَإِذَا أَلْقَتِ اَلشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى اَلضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا أَطْبَقَتِ اَلْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اِكْتَسَبَتْهُ مِنَ اَلْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا

١٨١

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اَللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً وَ اَلنَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ اَلْحَاجَةِ إِلَى اَلطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا اَلآْذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لاَ قَصَبٍ إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ اَلْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِئٌ إِلَيْهَا يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا اِرْتَفَعَتْ لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَسُبْحَانَ اَلْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ الخفاش واحد جمعه خفافيش و هو هذا الطائر الذي يطير ليلا و لا يطير نهارا و هو مأخوذ من الخفش و هو ضعف في البصر خلقة و الرجل أخفش و قد يكون علة و هو الذي يبصر بالليل لا بالنهار أو في يوم غيم لا في يوم صحو.و انحسرت الأوصاف كلت و أعيت و ردعت كفت و المساغ المسلك.قال أحق و أبين مما ترى العيون و ذلك لأن العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضرورية كانت أوثق من المحسوسات لأن الحس يغلط دائما فيرى الكبير صغيرا كالبعيد و الصغير كبيرا كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة و يرى الساكن متحركا كجرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا و يرى المتحرك ساكنا كالظل إلى غير ذلك من الأغاليط و القضايا العقلية الموثوق بها لأنها بديهية أو تكاد فالغلط غير داخل عليها قوله يقبضها الضياء أي يقبض أعينها.قوله و تتصل بعلانية برهان الشمس كلام جيد في مذاهب الاستعارة.

١٨٢

و سبحات إشراقها جلاله و بهاؤه و أكنها سترها و بلج ائتلافها جمع بلجة و هي أول الصبح و جاء بلجة أيضا بالفتح.و الحداق جمع حدقة العين و الإسداف مصدر أسدف الليل أظلم.و غسق الدجنة ظلام الليل فإذا ألقت الشمس قناعها أي سفرت عن وجهها و أشرقت.و الأوضاح جمع وضح و قد يراد به حلي يعمل من الدراهم الصحاح و قد يراد به الدراهم الصحاح نفسها و إن لم يكن حليا و الضباب جمع ضب و وجارها بيتها و شظايا الآذان أقطاع منها و القصب هاهنا الغضروف.و خلاصة الخطبة التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا و لا تبصر نهارا و كل الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا و النهار لها سكنا بعكس الحال فيما عداها ثم من أجنحتها التي تطير بها و هي لحم لا ريش عليه و لا غضروف و ليست رقيقة فتنشق و لا كثيفة فتثقلها عن الطيران ثم من ولدها إذا طارت احتملته و هو لاصق بها فإذا وقعت وقع ملتصقا بها هكذا إلى أن يشتد و يقوى على النهوض فيفارقها

فصل في ذكر بعض غرائب الطيور و ما فيها من عجائب

و اعلم أنه ع قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا و هو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد و قد يعرض مثل ذلك لبعض الناس و هو المرض المسمى روز كور أي أعمى النهار و يكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول فيعود الإبصار.

١٨٣

و أما طيرانها من غير ريش فإنه ليس بذلك الطيران الشديد و إنما هو نهوض و خفة أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة و التصاق الولد بها لأنها تضمه إليها بالطبع و ينضم إليها كذلك و تستعين على ضمه برجليها و بقصر المسافة و جملة الأمر أنه تعجب من عجيب و في الأحاديث العامية قيل للخفاش لما ذا لا جناح لك قال لأني تصوير مخلوق قيل فلما ذا لا تخرج نهارا قال حياء من الطيور يعنون أن المسيح ع صوره و أن إليه الإشارة بقوله تعالى( وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) .و في الطير عجائب و غرائب لا تهتدي العقول إليها و يقال إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان و هما النعام و الأفاعي.و تقول العرب إن الظليم يسمع بعينه و أنفه لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى و الكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل و لا يجمعها إلا أزواجا و العصافير آلفة للناس آنسة بهم لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان و متى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق و بسكناه تسكن و يذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها إلا ما أقام على بيضه و فراخه و قد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد و يرجع.و قال شيخنا أبو عثمان بلغني أنه درب فيرجع من ميل و ليس في الأرض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور و ليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه قيل لأجل السفاد الذي يستكثر منه و يتميز الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك

١٨٤

من الدجاجة لأن له لحية و لا شي‏ء أحنى على ولده منه و إذا عرض له شي‏ء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه و ليس لشي‏ء في مثل جسم العصفور من شدة وطئه إذا مشى أو على السطح ما للعصفور فإنك إذا كنت تحت السطح و وقع حسبت وقعته وقعة حجر و ذكور العصافير لا تعيش إلا سنة و كثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها و فراخها.و يقال إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوم واحد و تكرر ذلك ماتت و إذا هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيضه صفرة و إذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها فروج لأن غذاءه المح ما دام في البيضة و قد يكون للبيضة محان فتنفقص عن فروجين يخلقان من البياض و يغتذيان بالمحين لأن الفراريج تخلق من البياض و تغتذي بالصفرة و كل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا و إيثارا و لهذا قالوا أسمح من لاقطة يعنون الديكة إلا ديكة مرو بخراسان فإنها تطرد دجاجها عن الحب و تنزعه من أفواهها فتبتلعه.و الحمامة بلهاء و في أمثالهم أحمق من حمامة و هي مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها و فراخها.قال ابن الأعرابي قلت لشيخ من العرب من علمك هذا قال علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن.و الهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر و السمر فأما الأسود الشديد السواد فهو كالزنجي القليل المعرفة و الأبيض ضعيف القوة و إذا خرج الجوزل عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد التحامها ثم يعلمن أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب المختلط

١٨٥

بقواهما و قوى الطعم ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ فيأكلان من شورج أصول الحيطان و هو شي‏ء من الملح الخالص و التراب فيزقانه به فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذي قد غب في حواصلهما ثم بالذي هو أطرى فأطرى حتى يتعود فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج و يتشوف فتطلبه نفسه و يحرص عليه فإذا فطماه و بلغا منتهى حاجته إليهما نزع الله تلك الرحمة منهما و أقبل بهما على طلب نسل آخر.و يقال إن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها و يدنو منها حتى دلعت الحية لسانها و فتحت فاها تريده و تهم به فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت.و من دعاء الصالحين يا رزاق النعاب في عشه و ذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه فقص عنها بيض الألوان فينفر عنها و لا يزقها فتنفتح أفواهها فيأتيها ذباب يتساقط في أفواهها فيكون غذاءها إلى أن تسود فينقطع الذباب عنها و يعود الغراب إليها فيأنس بها و يغذيها.و الحبارى تدبق جناح الصقر بذرقها ثم يجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقة طاقة حتى يموت و لذلك يحاول الحبارى العلو عليه و يحاول هو العلو عليها و لا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها و يقال إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها و رأت صويحباتها تطير.

١٨٦

و كل الطير يتسافد بالأستاه إلا الحجل فإن الحجلة تكون في سفالة الريح و اليعقوب في علاوتها فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال بالريح.و الحبارى شديد الحمق يقال إنها أحمق الطير و هي أشد حياطة لبيضها و فراخها.و العقعق مع كونه أخبث الطير و أصدقها خبثا و أشدها حذرا ليس في الأرض طائر أشد تضييعا لبيضه و فراخه منه.و من الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب و منه ما يتعايش زوجا كالقطا.و الظليم يبتلع الحديد المحمى ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجاري و في ذلك أعجوبتان التغذي بما لا يغذى به و استمراؤه و هضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل.و كما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله سخر الصخر الأصم لأذناب الجراد إذا أراد أن يلقي بيضه غرس ذنبه في أشد الأرض صلابة فانصدع له و ذلك من فعل الطبيعة بتسخير الصانع القديم سبحانه كما أن عود الحلفاء الرخو الدقيق المنبت يلقى في نباته الآجر و الخزف الغليظ فيثقبه.و قد رأيت في مسناة سور بغداد في حجر صلد نبعة نبات قد شقت و خرجت من موضع لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا.و قد قيل إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير و الطست.و في الظليم شبه من البعير من جهة المنسم و الوظيف و العنق و الخزامة التي في أنفه

١٨٧

و شبه من الطائر من جهة الريش و الجناحين و الذنب و المنقار ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى البيض و ما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة.و يقال إن النعامة مع عظم عظامها و شدة عدوها لا مخ فيها و أشد ما يكون عدوها أن تستقبل الريح فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها تضع عنقها على ظهرها ثم تخرق الريح و من أعاجيبها أن الصيف إذا دخل و ابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفها في الحمرة فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسر و لذلك قيل للظليم خاضب و من العجب أنها لا تأنس بالطير و لا بالإبل مع مشاكلتها للنوعين و لا يكاد يرى بيضها مبددا البتة بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء حتى لو مددت عليه خيط المسطر لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض ثم تعطي لكل واحدة نصيبها من الحضن.و الذئب لا يعرض لبيض النعام ما دام الأبوان حاضرين فإنهما متى نقفاه ركبه الذكر فطحره و أدركته الأنثى فركضته ثم أسلمته إلى الذكر و ركبته عوضه فلا يزالان يفعلان به ذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا و النعام قد يتخذ في الدور و ضرره شديد لأن النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ فخطفته و أكلته و خرمت الأذن أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها

١٨٨

156 و من كلام له ع خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فَمَنِ اِسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَفْعَلْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ وَ أَمَّا فُلاَنَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ اَلنِّسَاءِ وَ ضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ اَلْقَيْنِ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا اَلْأَوْلَى وَ اَلْحِسَابُ عَلَى اَللَّهِ يعتقل نفسه على الله يحبسها على طاعته ثم ذكر أن السبيل التي حملهم عليها و هي سبيل الرشاد ذات مشقة شديدة و مذاقة مريرة لأن الباطل محبوب النفوس فإنه اللهو و اللذة و سقوط التكليف و أما الحق فمكروه النفس لأن التكليف صعب و ترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة.و الضغن الحقد و المرجل قدر كبيرة و القين الحداد أي كغليان قدر من حديد

١٨٩

فصل في ترجمة عائشة و ذكر طرف من أخبارها

و فلانة كناية عن أم المؤمنين عائشة أبوها أبو بكر و قد تقدم ذكر نسبه و أمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة تزوجها رسول الله ص قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة و هي بنت سبع سنين و بنى عليها بالمدينة و هي بنت تسع سنين و عشرة أشهر و كانت قبله تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له و كان رسول الله ص رأى في المنام عائشة في سرقة من حرير عند متوفى خديجة فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة و كان نكاحه إياها في شوال و بناؤه عليها في شوال أيضا فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها و أحبتها على أزواجهن في شوال و تقول هل كان في نسائه أحظى مني و قد نكحني و بنى علي في شوال ردا بذلك على من يزعم من النساء أن دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه.و توفي رسول الله ص عنها و هي بنت عشرين سنة و استأذنت رسول الله ص في الكنية فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها فكانت تكنى أم عبد الله و كانت فقيهة راوية للشعر ذات حظ من رسول الله ص و ميل ظاهر إليها و كانت لها عليه جرأة و إدلال لم يزل ينمي و يستشري حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان من الحديث

١٩٠

الذي أسره إلى الزوجة الأخرى و أدى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب و صغو القلب و أعقبتها تلك الجرأة و ذلك الانبساط و حدث منها في أيام الخلافة العلوية ما حدث و لقد عفا الله تعالى عنها و هي من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد و ما صح من أمر التوبة.و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في باب عائشة عن سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ص لنسائه أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلي كثير و تنجو بعد ما كادت.قال أبو عمر بن عبد البر و هذا الحديث من أعلام نبوته ص قال و عصام بن قدامة ثقة و سائر الإسناد فثقة رجاله أشهر من أن تذكر.و لم تحمل عائشة من رسول الله ص و لا ولد له ولد من مهيرة إلا من خديجة و من السراري من مارية.و قذفت عائشة في أيام رسول الله ص بصفوان بن المعطل السلمي و القصة مشهورة فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى و ينقل و جلد قاذفوها الحد و توفيت في سنة سبع و خمسين للهجرة و عمرها أربع و ستون سنة و دفنت بالبقيع

١٩١

في ملك معاوية و صلى عليها المسلمون ليلا و أمهم أبو هريرة و نزل في قبرها خمسة من أهلها عبد الله و عروة ابنا الزبير و القاسم و عبد الله ابنا محمد بن أبي بكر و عبد الرحمن بن أبي بكر و ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان من السنة المذكورة.فأما قوله فأدركها رأي النساء أي ضعف آرائهن و قد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة و جاء إنهن قليلات عقل و دين أو قال ضعيفات و لذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد و المرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيئة الظن فاسدة التدبير و الشجاعة فيهن مفقودة أو قليلة و كذلك السخاء و أما الضغن فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح و قد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعانيرحمه‌الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام و سألته عما عنده فيه فأجابني بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظهرحمه‌الله و بعضه بلفظي فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه قال أول بدء الضغن كان بينها و بين فاطمة ع و ذلك لأن رسول الله ص تزوجها عقيب موت خديجة فأقامها مقامها و فاطمة هي ابنة خديجة و من المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها و تزوج أبوها أخرى كان بين الابنة و بين المرأة كدر و شنئان و هذا لا بد منه لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب و البنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة كالضرة لأمها بل هي ضرة على الحقيقة و إن كانت الأم ميتة و لأنا لو قدرنا الأم حية لكانت العداوة مضطرمة متسعرة فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة و في المثل عداوة الحماة و الكنة و قال الراجز:

١٩٢

إن الحماة أولعت بالكنة

و أولعت كنتها بالظنة

ثم اتفق أن رسول الله ص مال إليها و أحبها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله و أكرم رسول الله ص فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه و أكثر من إكرام الرجال لبناتهم حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد فقال بمحضر الخاص و العام مرارا لا مرة واحدة و في مقامات مختلفة لا في مقام واحد إنها سيدة نساء العالمين و إنها عديلة مريم بنت عمران و إنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد و هذا من الأحاديث الصحيحة و ليس من الأخبار المستضعفة و إن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة و كم قال لا مرة يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها و إنها بضعة مني يريبني ما رابها فكان هذا و أمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم و التبجيل و النفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا.ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني عليا ع فإن النساء كثيرا ما يجعلن الأحقاد في قلوب الرجال لا سيما و هن محدثات الليل كما قيل في المثل و كانت تكثر الشكوى من عائشة و يغشاها نساء المدينة و جيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة و كما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عائشة تشكو إلى أبيها لعلمها أن بعلها لا يشكيها على ابنته فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما ثم تزايد تقريظ رسول الله ص

١٩٣

لعلي ع و تقريبه و اختصاصه فأحدث ذلك حسدا له و غبطة في نفس أبي بكر عنه و هو أبوها و في نفس طلحة و هو ابن عمها و هي تجلس إليهما و تسمع كلامهما و هما يجلسان إليها و يحادثانها فأعدى إليها منهما كما أعدتهما.قال و لست أبرئ عليا ع من مثل ذلك فإنه كان ينفس على أبي بكر سكون النبي ص إليه و ثناءه عليه و يحب أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون الناس أجمعين و من انحرف عن إنسان انحرف عن أهله و أولاده فتأكدت البغضة بين هذين الفريقين ثم كان من أمر القذف ما كان و لم يكن علي ع من القاذفين و لكنه كان من المشيرين على رسول الله ص بطلاقها تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة و المنافقين.قال له لما استشاره إن هي إلا شسع نعلك و قل له سل الخادم و خوفها و إن أقامت على الجحود فاضربها و بلغ عائشة هذا الكلام كله و سمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة و نقل النساء إليها كلاما كثيرا عن علي و فاطمة و أنهما قد أظهرا الشماتة جهارا و سرا بوقوع هذه الحادثة لها فتفاقم الأمر و غلظ.ثم إن رسول الله ص صالحها و رجع إليها و نزل القرآن ببراءتها فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر و يستظهر بعد أن غلب و يبرأ بعد أن اتهم من بسط اللسان و فلتات القول و بلغ ذلك كله عليا ع و فاطمة ع فاشتدت الحل و غلظت و طوى كل من الفريقين قلبه على الشنئان لصاحبه ثم كان بينها و بين علي ع في حياة رسول الله ص أحوال و أقوال كلها تقتضي تهييج ما في النفوس نحو قولها له و قد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد بينه

١٩٤

و بينها و هما متلاصقان أ ما وجدت مقعدا لكذا لا تكني عنه إلا فخذي و نحو ما روي أنه سايره يوما و أطال مناجاته فجاءت و هي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما و قالت فيم أنتما فقد أطلتما فيقال إن رسول الله ص غضب ذلك اليوم و ما روي من حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها و نحو ذلك مما يكون بين الأهل و بين المرأة و أحمائها.ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين و بنات و لم تلد هي ولدا و أن رسول الله ص كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه و يسمي الواحد منهما ابني و يقول دعوا لي ابني و لا تزرموا على ابني و ما فعل ابني فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ثم رأت البعل يتمنى بني ابنته من غيرها و يحنو عليهم حنو الوالد المشفق هل تكون محبة لأولئك البنين و لأمهم و لأبيهم أم مبغضة و هل تود دوام ذلك و استمراره أم زواله و انقضاءه.ثم اتفق أن رسول الله ص سد باب أبيها إلى المسجد و فتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ثم عزله عنها بصهره فقدح ذلك أيضا في نفسها و ولد لرسول الله ص إبراهيم من مارية فأظهر علي ع بذلك سرورا كثيرا و كان يتعصب لمارية و يقوم بأمرها عند رسول الله ص ميلا على غيرها و جرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة فبرأها علي ع منها و كشف بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده و كان ذلك كشفا محسا بالبصر لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة و كل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه و يؤكد ما في نفسها منه ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة و إن أظهرت كآبة

١٩٥

و وجم علي ع من ذلك و كذلك فاطمة و كانا يؤثران و يريدان أن تتميز مارية عليها بالولد فلم يقدر لهما و لا لمارية ذلك و بقيت الأمور على ما هي عليه و في النفوس ما فيها حتى مرض رسول الله ص المرض الذي توفي فيه و كانت فاطمة ع و علي ع يريدان أن يمرضاه في بيتهما و كذلك كان أزواجه كلهن فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه و كره أن يزاحم فاطمة و بعلها في بيتهما فلا يكون عنده من الانبساط لوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه و علم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة و نوم و يقظة و انكشاف و خروج حدث فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره و بنته فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما و كل أحد يحب أن يخلو بنفسه و يحتشم الصهر و البنت و لم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها فتمرض في بيتها فغبطت على ذلك و لم يمرض رسول الله ص منذ قدم المدينة مثل هذا المرض و إنما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثم يبرأ فتطاول هذا المرض و كان علي ع لا يشك أن الأمر له و أنه لا ينازعه فيه أحد من الناس و لهذا قال له عمه و قد مات رسول الله ص امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عم رسول الله ص فلا يختلف عليك اثنان قال يا عم و هل يطمع فيها طامع غيري قال ستعلم قال فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج و أحب أن أصحر به فسكت عنه فلما ثقل رسول الله ص في مرضه أنفذ جيش أسامة و جعل فيه أبا بكر و غيره من أعلام

١٩٦

المهاجرين و الأنصار فكان علي ع حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول الله ص حدث أوثق و تغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية فيأخذه صفوا عفوا و تتم له البيعة فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه و إعلامه بأن رسول الله ص يموت ما كان و من حديث الصلاة بالناس ما عرف فنسب علي ع عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس لأن رسول الله كما روي قال ليصل بهم أحدهم و لم يعين و كانت صلاة الصبح فخرج رسول الله ص و هو في آخر رمق يتهادى بين علي و الفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ثم دخل فمات ارتفاع الضحى فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه و قال أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة و لم يحملوا خروج رسول الله ص إلى الصلاة لصرفه عنها بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي ع على أنها ابتدأت منها.و كان علي ع يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا و يقول إنه لم يقل ص إنكن لصويحبات يوسف إلا إنكارا لهذه الحال و غضبا منها لأنها و حفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما و أنه استدركها بخروجه و صرفه عن المحراب فلم يجد ذلك و لا أثر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر و يمهد له قاعدة الأمر و تقرر حاله في نفوس الناس و من اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين و الأنصار و لما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي و الأمر السمائي الذي جمع عليه القلوب و الأهواء فكانت هذه الحال عند علي أعظم من كل عظيم و هي الطامة الكبرى

١٩٧

و المصيبة العظمى و لم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها و لا علق الأمر الواقع إلا بها فدعا عليها في خلواته و بين خواصه و تظلم إلى الله منها و جرى له في تخلفه عن البيعة ما هو مشهور حتى بايع و كان يبلغه و فاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله ص إلى أن توفيت فاطمة و هما صابران على مضض و رمض و استظهرت بولاية أبيها و استطالت و عظم شأنها و انخذل علي و فاطمة و قهرا و أخذت فدك و خرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي‏ء و في ذلك تبلغها النساء و الداخلات و الخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها و يبلغن عائشة عنها و عن بعلها مثل ذلك إلا أنه شتان ما بين الحالين و بعد ما بين الفريقين هذه غالبة و هذه مغلوبة و هذه آمرة و هذه مأمورة و ظهر التشفي و الشماتة و لا شي‏ء أعظم مرارة و مشقة من شماتة العدو.فقلت لهرحمه‌الله أ فتقول أنت إن عائشة عينت أباها للصلاة و رسول الله ص لم يعينه فقال أما أنا فلا أقول ذلك و لكن عليا كان يقوله و تكليفي غير تكليفه كان حاضرا و لكم أكن حاضرا فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي و هي تتضمن تعيين النبي ص لأبي بكر في الصلاة و هو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حضرها.قال ثم ماتت فاطمة فجاء نساء رسول الله ص كلهن إلى بني هاشم في العزاء إلا عائشة فإنها لم تأت و أظهرت مرضا و نقل إلى علي ع عنها كلام يدل على السرور.ثم بايع علي أباها فسرت بذلك و أظهرت من الاستبشار بتمام البيعة و استقرار

١٩٨

الخلافة و بطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا و استمرت الأمور على هذا مدة خلافة أبيها و خلافة عمر و عثمان و القلوب تغلي و الأحقاد تذيب الحجارة و كلما طال الزمان على علي تضاعفت همومه و باح بما في نفسه إلى أن قتل عثمان و قد كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا فقالت أبعده الله لما سمعت قتله و أملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الإمرة تيمية كما كانت أولا فعدل الناس عنه إلى علي بن أبي طالب فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما و ثار ما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل و ما بعده.هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوبرحمه‌الله و لم يكن يتشيع و كان شديدا في الاعتزال إلا أنه في التفضيل كان بغداديا.فأما قوله ع و لو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إلي لم تفعل فإنما يعني به عمر يقول لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه و الوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه و نسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه و دعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام تثير فتنة و تنقض البيعة لم تفعل و هذا حق لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على علي ع و لا الحال الحال.فأما قوله و لها بعد حرمتها الأولى و الحساب على الله فإنه يعني بذلك حرمتها بنكاح رسول الله ص لها و حبه إياها و حسابها على الله لأنه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة و لا يضيق عن رحمته ذنب.

١٩٩

فإن قلت هذا الكلام يدل على توقفه ع في أمرها و أنتم تقولون إنها من أهل الجنة فكيف تجمعون بين مذهبكم و هذا الكلام.قلت يجوز أن يكون قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها فإن أصحابنا يقولون إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين و ندمت و قالت لوددت أن لي من رسول الله ص عشرة بنين كلهم ماتوا و لم يكن يوم الجمل و إنها كانت بعد قتله تثني عليه و تنشر مناقبه مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها و أنها استغفرت الله و ندمت و لكن لم يبلغ أمير المؤمنين ع حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر و يثبت الحجة و الذي شاع عنها من أمر الندم و التوبة شياعا مستفيضا إنما كان بعد قتله ع إلى أن ماتت و هي على ذلك و التائب مغفور له و يجب قبول التوبة عندنا في العدل و قد أكدوا وقوع التوبة منها ما

روي في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله ص في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا و مثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها و لو لم ينقل فكيف و النقل لها يكاد أن يبلغ حد التواتر : مِنْهُ سَبِيلٌ أَبْلَجُ اَلْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ اَلسِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلصَّالِحَاتِ وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ اَلْعِلْمُ وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ اَلْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ اَلدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ اَلآْخِرَةُ وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ اَلْجَنَّةُ وَ تُبَرَّزُ اَلْجَحِيمُ

٢٠٠