كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٩

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 334
المشاهدات: 51943
تحميل: 5886


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 334 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51943 / تحميل: 5886
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

163 و من كلام له ع لبعض أصحابه

و قد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فقال ع : يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ اَلْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ اَلصِّهْرِ وَ حَقُّ اَلْمَسْأَلَةِ وَ قَدِ اِسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا اَلاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ نَحْنُ اَلْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ اَلْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ص نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ اَلْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ

وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ

وَ لَكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ اَلرَّوَاحِلِ

وَ هَلُمَّ اَلْخَطْبَ فِي اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي اَلدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَ لاَ غَرْوَ وَ اَللَّهِ فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ اَلْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ اَلْأَوَدَ حَاوَلَ اَلْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اَللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ اَلْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ )

٢٤١

الوضين بطان القتب و حزام السرج و يقال للرجل المضطرب في أموره إنه لقلق الوضين و ذلك أن الوضين إذا قلق اضطرب القتب أو الهودج أو السرج و من عليه.و يرسل في غير سدد أي يتكلم في غير قصد و في غير صواب و السدد و الاستداد الاستقامة و الصواب و السديد الذي يصيب السدد و كذلك المسد و استد الشي‏ء أي استقام.و ذمامة الصهر بالكسر أي حرمته هو الذمام قال ذو الرمة:

تكن عوجة يجزيكها الله عنده

بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب

و يروى ماتة الصهر أي حرمته و وسيلته مت إليه بكذا و إنما قال ع له و لك بعد ذمامة الصهر لأن زينب بنت جحش زوج رسول الله ص كانت أسدية و هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و أمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فهي بنت عمة رسول الله ص و المصاهرة المشار إليها هي هذه.و لم يفهم القطب الراوندي ذلك فقال في الشرح كان أمير المؤمنين ع قد تزوج في بني أسد و لم يصب فإن عليا ع لم يتزوج في بني أسد البتة و نحن نذكر أولاده أما الحسن و الحسين و زينب الكبرى و أم كلثوم الكبرى فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول الله ص و أما محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر من بني حنيفة و أما أبو بكر و عبد الله فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية

٢٤٢

من تميم و أما عمر و رقية فأمهما سبية من بني تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر و إمارة خالد بن الوليد بعين التمر و أما يحيى و عون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية و أما جعفر و العباس و عبد الله و عبد الرحمن فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بني كلاب و أما رملة و أم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي و أما أم كلثوم الصغرى و زينب الصغرى و جمانة و ميمونة و خديجة و فاطمة و أم الكرام و نفيسة و أم سلمة و أم أبيها و أمامة بنت علي ع فهن لأمهات أولاد شتى فهؤلاء أولاده و ليس فيهم أحد من أسدية و لا بلغنا أنه تزوج في بني أسد و لم يولد له و لكن الراوندي يقول ما يخطر له و لا يحقق.و أما حق المسألة فلأن للسائل على المسئول حقا حيث أهله لأن يستفيد منه.و الاستبداد بالشي‏ء التفرد به و النوط الالتصاق و كانت أثرة أي استئثارا بالأمر و استبدادا به قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة.و شحت بخلت و سخت جادت و يعني بالنفوس التي سخت نفسه و بالنفوس التي شحت أما على قولنا فإنه يعني نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر و أما على قول الإمامية فنفوس أهل السقيفة و ليس في الخبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم فالأولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف و ميله إلى عثمان.ثم قال إن الحكم هو الله و إن الوقت الذي يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة و روي يوم بالنصب على أنه ظرف و العامل فيه المعود على أن يكون مصدرا.و أما البيت فهو لإمرئ القيس بن حجر الكندي و روي أن أمير المؤمنين ع لم يستشهد إلا بصدره فقط و أتمه الرواة

٢٤٣

حديث عن إمرئ القيس

و كان من قصة هذا الشعر أن إمرأ القيس لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طيئ يقال له طريف بن مل‏ء فأجاره و أكرمه و أحسن إليه فمدحه و أقام عنده ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين أجأ و سلمى فخاف ألا يكون له منعة فتحول و نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني فأغارت بنو جديلة على إمرئ القيس و هو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله و كان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص فلما أتى إمرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره فقال له أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ففعل فركب خالد في إثر القوم حتى أدركهم فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري فقالوا ما هو لك بجار قال بلى و الله و هذه رواحله قالوا كذلك قال نعم فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن و ذهبوا بهن و بالإبل و قيل بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها فقال إمرؤ القيس:

دع عنك نهبا صيح في حجراته

و لكن حديثا ما حديث الرواحل

كان دثارا حلقت بلبونه

عقاب تنوفى لا عقاب القواعل

تلعب باعث بذمة خالد

و أودى دثار في الخطوب الأوائل

و أعجبني مشي الحزقة خالد

كمشي أتان حلئت بالمناهل

أبت أجأ أن تسلم العام جارها

فمن شاء فلينهض لها من مقاتل

تبيت لبوني بالقرية أمنا

و أسرحها غبا بأكناف حائل

٢٤٤

بنو ثعل جيرانها و حماتها

و تمنع من رماة سعد و نائل

تلاعب أولاد الوعول رباعها

دوين السماء في رءوس المجادل

مكللة حمراء ذات أسرة

لها حبك كأنها من وصائل

دثار اسم راع كان لإمرئ القيس و تنوفى و القواعل جبال و الحزقة القصير الضخم البطن و اللبون الإبل ذوات الألبان و القرية موضع معروف بين الجبلين و حائل اسم موضع أيضا و سعد و نائل حيان من طيئ و الرباع جمع ربع و هو ما نتج في الربيع و المجادل القصور و مكللة يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر و الأسرة الطريق و كذلك الحبك و الوصائل جمع وصيلة و هو ثوب أمغر الغزل فيه خطوط و النهب الغنيمة و الجمع النهاب و الانتهاب مصدر انتهبت المال إذا أبحته يأخذه من شاء و النهبى اسم ما أنهب و حجراته نواحيه الواحدة حجرة مثل جمرات و جمرة و صيح في حجراته صياح الغارة و الرواحل جمع راحلة و هي الناقة التي تصلح أن ترحل أي يشد الرحل على ظهرها و يقال للبعير راحلة و انتصب حديثا بإضمار فعل أي هات حديثا أو حدثني حديثا و يروى و لكن حديث أي و لكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ و ما هاهنا يحتمل أن تكون إبهامية و هي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما و شياعا كقولك أعطني كتابا ما تريد أي كتاب كان و يحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللَّهِ ) فأما حديث الثاني فقد ينصب و قد يرفع فمن نصب أبدله من حديث الأول و من رفع جاز أن يجعل ما موصولة بمعنى الذي و صلتها الجملة أي الذي هو حديث الرواحل ثم حذف صدر الجملة كما حذف في( تَماماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ ) و يجوز أن تجعل ما استفهامية بمعنى أي.

٢٤٥

ثم قال و هلم الخطب هذا يقوي رواية من روى عنه أنه ع لم يستشهد إلا بصدر البيت كأنه قال دع عنك ما مضى و هلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية فجعل هلم ما نحن فيه من أمر معاوية قائما مقام قول إمرئ القيس

و لكن حديثا ما حديث الرواحل

و هلم لفظ يستعمل لازما و متعديا فاللازم بمعنى تعال قال الخليل أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي اجمعها و اقرب منا و جاءت ها للتنبيه قبلها و حذفت الألف لكثرة الاستعمال و جعلت الكلمتان كلمة واحدة يستوي فيها الواحد و الاثنان و الجمع و المؤنث و المذكر في لغة أهل الحجاز قال سبحانه( وَ اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا ) و أهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما و للجمع هلموا و على ذلك و قد يوصل إذا كان لازما باللام فيقال هلم لك و هلم لكما كما قالوا هيت لك و إذا قيل لك هلم إلى كذا أي تعال إليه قلت لا أهلم مفتوحة الألف و الهاء مضمومة الميم فأما المتعدية فهي بمعنى هات تقول هلم كذا و كذا قال الله تعالى( هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ ) و تقول لمن قال لك ذلك لا أهلمه أي لا أعطيكه يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى.يقول ع و لكن هات ذكر الخطب فحذف المضاف و الخطب الحادث الجليل يعني الأحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرئاسة قائما عند كثير من الناس مقامه صالحا لأن يقع في مقابلته و أن يكون ندا له.ثم قال فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له فضحك ع

٢٤٦

مما تحكم به الأوقات و يقتضيه تصرف الدهر و تقلبه و ذلك ضحك تعجب و اعتبار.ثم قال و لا غرو و الله أي و لا عجب و الله.ثم فسر ذلك فقال يا له خطبا يستفرغ العجب أي يستنفده و يفنيه يقول قد صار العجب لا عجب لأن هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب و هذا من باب الإغراق و المبالغة في المبالغة كما قال أبو الطيب:

أسفي على أسفي الذي دلهتني

عن علمه فبه علي خفاء

و شكيتي فقد السقام لأنه

قد كان لما كان لي أعضاء

و قال ابن هاني المغربي:

قد سرت في الميدان يوم طرادهم

فعجبت حتى كدت ألا أعجبا

و الأود العوج.ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه يعني ما تقدم من منابذة طلحة و الزبير و أصحابهما له و ما شفع ذلك من معاوية و عمرو و شيعتهما و فوار الينبوع ثقب البئر.قوله و جدحوا بيني و بينهم شربا أي خلطوه و مزجوه و أفسدوه.و الوبي‏ء ذو الوباء و المرض و هذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم و جعلوها مظنة الوباء و السقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد و يوبئ.

٢٤٧

ثم قال فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين و المجاهدين و حصل لي التمكن من الأمر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل كاللبن المحض الذي لا يخالطه شي‏ء من الماء و إن تكن الأخرى أي و إن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة و مت أو قتلت و الأمور على ما هي عليه من الفتنة و دولة الضلال فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و الآية من القرآن العزيز.و سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كانرحمه‌الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعني ع بقوله كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى فقال يوم السقيفة فقلت إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ص و دفع النص فقال و أنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول ص إلى إهمال أمر الإمامة و أن يترك الناس فوضى سدى مهملين و قد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا و هو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث.ثم قال ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم و أما اليهود و النصارى و الفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي أقام ملة و شرع شريعة فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب و غرائزهم و طلبها بالثارات و الذحول و لو بعد الأزمان المتطاولة و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر

٢٤٨

فلا يزال أهل ذلك المقتول و أقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به و إن لم يكونوا رهطه الأدنين و الإسلام لم يحل طبائعهم و لا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم و الغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب و على الخصوص قريشا و ساعده على سفك الدماء و إزهاق الأنفس و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده و عنده ابنته و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما و محبة لهما و يعدل عنه في الأمر بعده و لا ينص عليه و لا يستخلفه فيحقن دمه و دم بنيه و أهله باستخلافه أ لا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده بل يكون هو ع هو الذي قتله و أشاط بدمائهم لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم و إنما يكونون مضغة للأكل و فريسة للمفترس يتخطفهم الناس و تبلغ فيهم الأغراض فأما إذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم و حقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها و يرتدع الناس عنهم لأجلها و مثل هذا معلوم بالتجربة أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس و وترهم و أبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم و جعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم و لوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد و الترات من كل جهة يقتلونهم و يشردونهم كل مشرد و لو أنه عين ولدا من أولاده للملك و قام خواصه و خدمه و خوله بأمره بعده لحقنت دماء أهل

٢٤٩

بيته و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك و أبهة السلطنة و قوة الرئاسة و حرمة الإمارة.أ فترى ذهب عن رسول الله ص هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله و ذريته من بعده و أين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه.أ تقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس و أن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا يستطيع الامتناع و على رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه و يودون أن يشربوا دمه بأفواههم و يأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم و إخوانهم و آباءهم و أعمامهم و العهد لم يطل و القروح لم تتقرف و الجروح لم تندمل.فقلت له لقد أحسنت فيما قلت إلا أن لفظه ع يدل على أنه لم يكن نص عليه أ لا تراه يقول و نحن الأعلون نسبا و الأشدون بالرسول نوطا فجعل الاحتجاج بالنسب و شدة القرب فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك و أنا المنصوص علي المخطوب باسمي.فقالرحمه‌الله إنما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل أ لا ترى أنه سأله فقال كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فهو إنما سأل عن دفعهم عنه و هم أحق به من جهة اللحمة و العترة و لم يكن الأسدي يتصور النص و لا يعتقده و لا يخطر بباله لأنه لو كان هذا في نفسه لقال له لم دفعك الناس عن هذا المقام و قد نص عليك رسول الله ص و لم يقل له هذا و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة

٢٥٠

كيف دفعكم قومكم عن هذا و أنتم أحق به أي باعتبار الهاشمية و القربى فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه تمهيدا للجواب فقال إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ص من غيرنا لأنهم استأثروا علينا و لو قال له أنا المنصوص علي و المخطوب باسمي في حياة رسول الله ص لما كان قد أجابه لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا و لا هل نص رسول الله ص بالخلافة على أحد أم لا و إنما قال لم دفعكم قومكم عن الأمر و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم فأجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه أيضا فلو أخذ يصرح له بالنص و يعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه و اتهمه و لم يقبل قوله و لم ينجذب إلى تصديقه فكان أولى الأمور في حكم السياسة و تدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه و لا مطعن عليه فيه

٢٥١

164 و من خطبة له ع

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ اَلْعِبَادِ وَ سَاطِحِ اَلْمِهَادِ وَ مُسِيلِ اَلْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ اَلنِّجَادِ لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ اِبْتِدَاءٌ وَ لاَ لِأَزَلِيَّتِهِ اِنْقِضَاءٌ هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ اَلْبَاقِي بِلاَ أَجَلٍ خَرَّتْ لَهُ اَلْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ اَلشِّفَاهُ حَدَّ اَلْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا لاَ تُقَدِّرُهُ اَلْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ اَلْحَرَكَاتِ وَ لاَ بِالْجَوَارِحِ وَ اَلْأَدَوَاتِ لاَ يُقَالُ لَهُ مَتَى وَ لاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِ حَتَّى اَلظَّاهِرُ لاَ يُقَالُ مِمَّ وَ اَلْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ فِيمَ لاَ شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى لَمْ يَقْرُبْ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ وَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ وَ لاَ كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لاَ اِزْدِلاَفُ رَبْوَةٍ وَ لاَ اِنْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ وَ لاَ غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ اَلْقَمَرُ اَلْمُنِيرُ وَ تَعْقُبُهُ اَلشَّمْسُ ذَاتُ اَلنُّورِ فِي اَلْأُفُولِ وَ اَلْكُرُورِ وَ تَقْلِيبِ تَقَلُّبِ اَلْأَزْمِنَةِ وَ اَلدُّهُورِ مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ اَلْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ اَلْأَقْدَارِ وَ نِهَايَاتِ اَلْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ اَلْمَسَاكِنِ وَ تَمَكُّنِ اَلْأَمَاكِنِ فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ لَمْ يَخْلُقِ اَلْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ وَ لاَ مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ

٢٥٢

حَدَّهُ وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ لَيْسَ لِشَيْ‏ءٍ مِنْهُ اِمْتِنَاعٌ وَ لاَ لَهُ بِطَاعَةِ شَيْ‏ءٍ اِنْتِفَاعٌ عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ اَلْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ اَلْبَاقِينَ وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى المهاد هنا هو الأرض و أصله الفراش و ساطحه باسطه و منه تسطيح القبور خلاف تسنيمها و منه أيضا المسطح للموضع الذي يبسط فيه التمر ليجفف.و الوهاد جمع وهدة و هي المكان المطمئن و مسيلها مجرى السيل فيها و النجاد جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض و مخصبها مروضها و جاعلها ذوات خصب

مباحث كلامية

و اعلم أنه ع أورد في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد و كلها مبنية على ثلاثة أصول.الأصل الأول أنه تعالى واجب الوجود لذاته و يتفرع على هذا الأصل فروع أولها أنه ليس لأوليته ابتداء لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثا و لا شي‏ء من المحدث بواجب الوجود لأن معنى واجب الوجود أن ذاته لا تقبل العدم و يستحيل الجمع بين قولنا هذه الذات محدثة أي كانت معدومة من قبل و هي في حقيقتها لا تقبل العدم.

٢٥٣

و ثانيها أنه ليس لأزليته انقضاء لأنه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه و المتوقف على غيره يكون ممكن الذات فلا يكون واجب الوجود.و قوله ع هو الأول لم يزل و الباقي بلا أجل تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد و يدخل فيه أيضا قوله لا يقال له متى و لا يضرب له أمد بحتى لأن متى للزمان و واجب الوجود يرتفع عن الزمان و حتى للغاية و واجب الوجود لا غاية له.و يدخل أيضا فيه قوله قبل كل غاية و مدة و كل إحصاء و عدة.و ثالثها أنه لا يشبه الأشياء البتة لأن ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد فلو أشبه الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما.و لو شابه غيره من المجردات مع أن كل مجرد غير ممكن لكان ممكنا و ليس واجب الوجود بممكن فيدخل في هذا المعنى قوله ع حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها إذ لا حد له فبطل أن يشبهه شي‏ء منها و دخل فيه قوله ع لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات و لا بالجوارح.و الأدوات جمع أداة و هي ما يعتمد به و دخل فيه قوله الظاهر فلا يقال مم أي لا يقال من أي شي‏ء ظهر و الباطن فلا يقال فيم أي لا يقال فيما ذا بطن و يدخل فيه قوله لا شبح فيتقصى و الشبح الشخص و يتقصى يطلب أقصاه.و يدخل فيه قوله و لا محجوب فيحوى و قوله لم يقرب من الأشياء بالتصاق و لم يبعد عنها بافتراق لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام و واجب الوجود لا يشبه الأجسام و لا يماثلها.و يدخل فيه قوله ع تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار أي مما ينسبه إليه المشبهة و المجسمة من صفات المقادير و ذوات المقادير.

٢٥٤

و نهايات الأقطار أي الجوانب.و تأثل المساكن مجد مؤثل أي أصيل و بيت مؤثل أي معمور و كأن أصل الكلمة أن تبنى الدار بالأثل و هو شجر معروف و تمكن الأماكن ثبوتها و استقرارها.و قوله فالحد لخلقه مضروب و إلى غيره منسوب و قوله و لا له بطاعة شي‏ء انتفاع لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة و النفرة كل هذا داخل تحت هذا الوجه.الأصل الثاني أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم و يدخل تحت هذا الأصل قوله ع لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة أن تسكن العين فلا تتحرك و لا كرور لفظة أي رجوعها.و لا ازدلاف ربوة صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرض و هي الموضع المرتفع و لا انبساط خطوة في ليل داج أي مظلم.و لا غسق ساج أي ساكن.ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير هذا من صفات الغسق و من تتمة نعته و معنى يتفيأ عليه يتقلب ذاهبا و جائيا في حالتي أخذه في الضوء إلى التبدر و أخذه في النقص إلى المحاق.و قوله و تعقبه أي و تتعقبه فحذف إحدى التاءين كما قال سبحانه( اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ) أي تتوفاهم و الهاء في و تعقبه ترجع إلى القمر أي و تسير الشمس عقبه في كروره و أفوله أي غيبوبته و في تقليب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل و إدبار نهار.

٢٥٥

فإن قلت إذا كان قوله يتفيأ عليه القمر المنير في موضع جر لأنه صفة غسق فكيف تتعقب الشمس و القمر مع وجود الغسق و هل يمكن اجتماع الشمس و الغسق قلت لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق.بل قد يصدق تعقبها له و يكون الغسق معدوما كأنه ع قال لا يخفى على الله حركة في نهار و لا ليل يتفيأ عليه القمر و تعقبه الشمس أي تظهر عقيبه فيزول الغسق بظهورها.و هذا التفسير الذي فسرناه يقتضي أن يكون حرف الجر و هو في التي في قوله في الكرور متعلقا بمحذوف و يكون موضعه نصبا على الحال أي و تعقبه كارا و آفلا و يدخل تحته أيضا قوله ع علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين و علمه بما في السماوات العلا كعلمه بما في الأرضين السفلى.الأصل الثالث أنه تعالى قادر لذاته فكان قادرا على كل الممكنات و يدخل تحته قوله لم يخلق الأشياء من أصول أزلية و لا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده و صور ما صور فأحسن صورته و الرد في هذا على أصحاب الهيولى و الطينة التي يزعمون قدمها.و يدخل تحته قوله ليس لشي‏ء امتناع لأنه متى أراد إيجاد شي‏ء أوجده و يدخل تحته قوله خرت له الجباه أي سجدت و وحدته الشفاه يعني الأفواه فعبر بالجزء عن الكل مجازا و ذلك لأن القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم كالحياة و القدرة و الشهوة.و اعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين ع عن العرب في زمانه قاطبة

٢٥٦

و استحق به التقدم و الفضل عليهم أجمعين و ذلك لأن الخاصة التي يتميز بها الإنسان عن البهائم هي العقل و العلم أ لا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية و الدموية و القوة و القدرة و الحركة الكائنة على سبيل الإرادة و الاختيار فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة أي العاقلة العالمة فكلما كان الإنسان أكثر حظا منها كانت إنسانيته أتم و معلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن و هو أشرف العلوم لأن معلومه أشرف المعلومات و لم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد و لا كانت أذهانهم تصل إلى هذا و لا يفهمونه بهذا الفن فهو منفرد فيه و بغيره من الفنون و هي العلوم الشرعية مشارك لهم و راجح عليهم فكان أكمل منهم لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة الإنسانية و هذا هو معنى الأفضلية : مِنْهَا أَيُّهَا اَلْمَخْلُوقُ اَلسَّوِيُّ وَ اَلْمَنْشَأُ اَلْمَرْعِيُّ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ اَلْأَسْتَارِ.بُدِئْتَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ وَ وُضِعْتَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لاَ تُحِيرُ دُعَاءً وَ لاَ تَسْمَعُ نِدَاءً ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا وَ لَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ اَلْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ اَلْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي اَلْهَيْئَةِ وَ اَلْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ اَلْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ

٢٥٧

السوي المستوي الخلقة غير ناقص قال سبحانه( فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) و المنشأ مفعول من أنشأ أي خلق و أوجد و المرعي المحوط المحفوظ.و ظلمات الأرحام و مضاعفات الأستار مستقر النطف و الرحم موضوعة فيما بين المثانة و المعى المستقيم و هي مربوطة برباطات على هيئة السلسلة و جسمها عصبي ليمكن امتدادها و اتساعها وقت الحاجة إلى ذلك عند الولادة و تنضم و تتقنص إذا استغني عن ذلك و لها بطنان ينتهيان إلى فم واحد و زائدتان يسميان قريني الرحم و خلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة و هما أصغر من بيضتي الرجل و أشد تفرطحا و منهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم و للرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة و تلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل فإذا امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم كان العلوق ثم ينمي و يزيد من دم الطمث و يتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه حتى يتم و يكمل فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية طلبا للغذاء فتهتك أربطة الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة و تكون منها الولادة.قوله بدئت من سلالة من طين أي كان ابتداء خلقك من سلالة و هي خلاصة الطين لأنها سلت من بين الكدر و فعالة بناء للقلة كالقلامة و القمامة.و قال الحسن هي ما بين ظهراني الطين.ثم قال و وضعت في قرار مكين الكلام الأول لآدم الذي هو أصل البشر و الثاني لذريته و القرار المكين الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها لأنها لو كانت متحركة لتعذر العلوق.

٢٥٨

ثم قال إلى قدر معلوم و أجل مقسوم إلى متعلقة بمحذوف كأنه قال منتهيا إلى قدر معلوم أي مقدرا طوله و شكله إلى أجل مقسوم مدة حياته.ثم قال تمور في بطن أمك أي تتحرك لا تحير أي لا ترجع جوابا أحار يحير.إلى دار لم تشهدها يعني الدنيا و يقال أشبه شي‏ء بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت انتقال الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا فلو كان الجنين يعقل و يتصور كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التي هو فيها و لا يشعر بما وراءها و لا يحس بنفسه إلا و قد حصل في دار لم يعرفها و لا تخطر بباله فبقي هو كالحائر المبهوت و هكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت.و لقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا و صروفها بقوله:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

و إلا فما يبكيه منها و إنها

لأوسع مما كان فيه و أرغد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه

بما سوف يلقى من أذاها يهدد

قال فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك اجترار امتصاص اللبن من الثدي و ذلك بالإلهام الإلهي.قال و عرفك عند الحاجة أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع فالتقمتها بفمك.

٢٥٩

ثم قال هيهات أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفة المخلوق قال الشاعر:

رأيت الورى يدعون الهدى

و كم يدعي الحق خلق كثير

و ما في البرايا امرؤ عنده

من العلم بالحق إلا اليسير

خفي فما ناله ناظر

و ما إن أشار إليه مشير

و لا شي‏ء أظهر من ذاته

و كيف يرى الشمس أعمى ضرير

٢٦٠