الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96801 / تحميل: 7407
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

معرفةُ الله:

١. النظرُ إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيّات، ضرورةُ وجود الله تعالى

إنّ أوّل خطوة يخطوها الإدراك والشعور لدى الإنسان واللذان وجِدا منذ وجوده، تُبيّن له حقيقة وجود الخالق والمخلوق؛ لأنّ أولئك الذين يشكّون في وجودهم وفي كلّ شيء، ويَعتبرون العالَم ظنّاً وخيالاً، فإنّنا نعلم أنّ الإنسان منذ وجوده يلازمه الإدراك والشعور، يرى نفسه والعالَم أجمع، أي أنّه لا يشكّ (بوجوده ولا يشكّ بأشياء أُخر غيره) وما زال الإنسان إنساناً، فإنّ هذا الإدراك والشعور يكمن فيه، وليس هناك مجال للشك والتردّد.

هذه الواقعيّة والوجود الذي يُثبته الإنسان أمامَ السوفسطائيين والمشكّكين، أمرٌ ثابت لا يعتريه البطلان، وفي الحقيقة أنّ كلام السوفسطائيين والمشكّكين بنفي واقعيّة قائمة في حدّ ذاتها، كلامٌ باطل لا يُبنى على الصحّة إطلاقاً، لذا فإنّ العالَم والكون ينطوي على واقعيّة ثابتة.

١٠١

ولكنّ كلّ من هذه الظواهر التي تنطوي على واقعيّة، والتي نشاهدها عياناً، تفقدُ واقعيّتها وتصير إلى الفناء، سواء في القريب أو البعيد من أدوار حياتها.

ومن هنا يتّضح: أنّ العالَم المشهود وأجزاءه، لم تكن عين الواقعيّة (والتي لا يمكن إنكارها)، بل تعتمد وتستند إلى واقعيّة ثابتة، وبتلك الواقعيّة تتّصف بالواقعيّة، وتتّصف بالوجود، وما دامت مرتبطة ومتصلة بها، فهي موجودة باقية، وما إن انقَطَعت عنها زالَت وفَنت (١)، ونحنُ نسمّي هذه الواقعيّة الثابتة التي لا يعتريها البطلان بـ (واجب الوجود) ، أو الله سبحانه.

٢. نظرةٌ أخرى عن طريق ارتباط الإنسان بالعالَم

إنّ الأسلوب الذي اتُبِع في الفصل السابق لإثبات وجود الله تعالى، أسلوبٌ بسيط ساذج، وواضح أنّ الإنسان مع فطرته التي أودَعها الله إيّاه، ينتهجها وليس هناك أيّ رادع أو مانع، ولكنّ معظم الناس مع ارتباطهم المستمرّ بالماديّات، وتفانيهم في اللذائذ المحسوسة، يصعُب عليهم الرجوع إلى الفطرة، وهي الفطرة الإلهيّة البيّنة.

فعلى هذا، فإنّ الإسلام بشرائعه المنزّهة، يعلن أنّ شريعته عامّة، والكلّ سواسية أمام الدين ومقاصده، فهو يُثبت وجود الله تعالى مع هؤلاء الناس عن

____________________

(١) وفي كتابه العزيز إشارة إلى هذا البرهان بقوله تعالى: ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) سورة إبراهيم: الآية ١٠.

١٠٢

طريق وأسلوب آخر، وهو الفطرة الواضحة، والتي غَفل عنها البشر، فيُخاطب البشر بها، ويُعرّف الله جلّ شأنه عن طريقها.

فالقرآنُ الكريم، يتّخذ طُرقاً شتّى لأجل معرفة الله تعالى للبشر كافّة، فهو يُلفت الأنظار، ويوجّه الأفكار غالباً إلى خِلقة العالَم، والنظام والتنسيق القائم فيه، ويدعو إلى ملاحظة ودراسة الآفاق والأنفس؛ ذلك بأنّ الإنسان في حياته المحدودة، لا يتخلّف ولا يخرج عن الطبيعة والنظام الحاكم فيها مهما سَلك من سُبلٍ واستغرقَ من حالات، ولن يغضّ النظر عن المَشاهد الخلاّبة، سواء في الأرض أو في السماء، بما أوتيَ من شعورٍ وإدراك.

إنّ عالَم الوجود (١) بما يتّصف من سعة، فإنّ كلّ جزء منه، بل وجميع أجزائه، معرّضة للتغيير والتبديل المستمرّين، وتظهر في كلّ لحظة بشكلٍ جديد غير سابقتها.

ووفقاً للقوانين التي لا تَقبل الاستثناء، يتحقّق ما يجب تحقّقه، والكونُ بما فيه من أبعد مجرّة إلى أصغر ذرّة، والتي تؤلِّف العالَم أجمع، ينطوي على نظامٍ واضح بيّن، تجري وفقاً لقوانين مدهشة ومُحيّرة للعقول، وتُسيّر عملها من أدنى حالة إلى أكملها، كي توصلها إلى الهدف الأسمَى وهو الكمال.

وفوق الأنظمة الخاصّة، توجد أنظمة أعم، وهي النظام العام للكون، الذي يربط أجزاءه العديدة التي لا تُحصى بعضها ببعض، ويوفِّق بين الأنظمة الجزئيّة، ويَربطها بعضها بالبعض الآخر، فهي في سيرها المستمرّ لن تتّصف بالاستثناء أو الاختلال.

____________________

(١) يقول جلّ ثناؤهُ: ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) سورة الجاثية: الآية (٣ - ٦).

١٠٣

فنظامُ الخِلقة مثلاً إذا أسكنَتْ الإنسان على الأرض، جَعَلت خلقتهُ تتناسب مع المحيط الذي يعيش فيه، وجَعلت المحيط بشكلٍ يتناسب وذلك المخلوق، كالمربّية العطوف التي تُربّي النُشّأ بكلّ عطفٍ وحنان، فالعالَم بما فيه من: شمسٍ، وقمر، ونجوم، وماء، وتراب، وليل، ونهار، والفصول السنويّة، والسحاب، والرياح، والأمطار، والكنوز التي تحت الأرض وفوقها، وبالتالي كلّ ما تَملك من قوّة، سُخِّرت لراحة الإنسان وسعادته، وإنّنا نلاحظ هذا الارتباط والتعاون في كلّ مظهرٍ من مظاهر الطبيعة، ومن كلّ ما يجاورنا من قريبٍ أو بعيد، وحتّى في البيت الذي نعيش فيه.

ومثل هذا الاتصال والارتباط، قائمٌ في جميع أجزاء الأجهزة الداخليّة لكلّ مظهرٍ من مظاهر هذا العالَم، فالطبيعة لمّا مَنَحت الإنسان الخير مثلاً، مَنحتهُ الأرجل للحصول عليه، واليد لتناوله، والفم لأكله، والأسنان لمضغه، ورَبطتهُ بسلسلة من الوسائل المرتبطة بعضها بالبعض الآخر كالسلاسل، والتي ترتبط بالهدف الغائي وهو البقاء والكمال لهذا المخلوق.

ولم يشكّ أحد من علماء العالَم أنّ الارتباطات اللامتناهيّة، والتي حَصَل عليها إثر الدراسات العلميّة لآلاف السنين، ما هي إلاّ طليعة وبداية مختصرة لأسرار الخِلقة، والتي تتبعها دراسات لا نهاية لها، وكلّ كشفٍ جديد بمثابة إنذار للبشريّة عن مجهولات لا حصر لها، وهل يمكن القول بأنّ هذا الكون الرَحب - مع استقلال أجزائه - يمتاز بوحدة واتصال ومع ما فيه من إتقان مدهش، يدلّ على علم وقدرة غير متناهية، وهل يمكن القول بأنّه وجِد دون خالق، ولم يكن هناك سبب أو هدف من إيجاده؟‍‍!

وهل يمكن التصديق بأنّ كلّ هذه الأنظمة سواء الجزئيّة منها أو الكليّة، وكذا النظام العام القائم في الكون - مع ما يتّصف به من ارتباط مُحكم - غير متناهٍ، والذي يسير وِفقَ نظام دقيقٍ خاص، ولا يقبل التغيير والاستثناء، كلّ هذا قد جاء دون حساب، وإنّما مجرّد المصادفة هي التي لعبت دورها في خَلقه وإيجاده؟ أم

١٠٤

أنّ كُلاًّ من هذه الظواهر والأجواء سواءً الصغيرة منها أو الكبيرة في العالَم، قد اتّخذت لها نهجاً قبل حدوثها وخلقتها، وبعد أن وجِدت سَلَكت ذلك السبيل والنهج؟

أم أنّ هذا الكون مع وحدتهِ الكاملة الشاملة، والاتّصال والارتباط القائم بينها، فهو ككلّ لا يعدو مجموعة متكاملة واحدة، قد أُنشئِت وخُلقت نتيجة لعوامل متعدّدة مختلفة، ويسير وفقاً لقوانين متباينة؟

من الطبيعي أنّ الشخص الذي يُرجع كلّ ظاهرة لمسبّب وكلّ معلول لعلّة - ويتّفق أحياناً أن يبحث عن مسبّب مجهول أيّاماً عديدة، ليصل في النهاية إلى العلّة، ويُتابع التقدّم العلمي - عند مشاهدة عدّة أحجار بصورة منتظمة منسّقة، ينسبها إلى علم وقدرة قامت بصنعها، وبذلك ينفي المصادفة مطلقاً، ويحكم بوجود تخطيط هادف، لم يكن ليحكم على وجود العالَم دون مسبّب، ولا يدّعي أنّ المصادفة هي التي أوجَدت هذا النظام والتنسيق.

لذا فإنّ الكون، بما فيه من أنظمة مهيمنة، مخلوقة خالق عظيم، هو الذي أوجَدها بعلمه وقدرته غير المتناهية، ويسيّرها إلى غاية، وما العوامل البسيطة التي تُنشئ الحوادث البسيطة في العالَم، إلاّ منتهية إليه، فهي تحت قدرته وهيمنته وتسخيره، وكلّ ما في الكون محتاج إليه، وهو غير محتاج لأحدٍ أو لشيء، ولم يكن معلولاً لعلّة، ولا مسبِّباً لسبب.

١٠٥

وحدانيّةُ الله تعالى

كلّ واقعيّة من واقعيّات العالَم، تُعتبر واقعيّة محدودة، أي أنّها تتمتّع بالوجود على وجود فرض (فرضُ وجود السبب والشرط) ، وتُعتبر أيضاً وفقاً لفرض وتقدير (فرضُ عدم السبب والشرط) عدماً، ولحقيقة وجودها حدٌّ محدود، إذ لا توجد خارج ذلك الحدّ، فالله جلّ شأنه هو المنزّه عن الحدّ والمحدوديّة؛ لأنّ واقعيّته مطلقة، فهو موجود بأيّ تقدير، ولم يكن محتاجاً لأيّ سببٍ وشرط ولا مرتبطاً بأيّة علّة.

ولا يسعنا أن نفترض عدداً لأمر غير محدود وغير متناهٍ، فإذا ما افتُرض ثانٍ، فإنّه غير الأوّل، وفي النتيجة: الاثنان محدودان متناهيان، وسيضع كلّ منهما حدّاً فاصلاً للآخر، فلو افترضنا على سبيل المثال حجماً غير محدود وغير متناه، لا يسعنا افتراض حجم آخر إزاءه، ولو قُدِّر أن افترَضنا هذا، فإنّ الثاني هو الأوّل، فعلى هذا، فإنّ الله تعالى أحد لا شريك له (١).

____________________

(١) يُروى أنّ إعرابيّاً قامَ يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد، فَحملَ الناس عليه وقالوا: أمَا ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (دعوهُ، فإنّ الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال:

يا إعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثانيَ له يدخل في باب الأعداد، أمَا ترى أنّه كفرَ مَن قال إنّه ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس فهذا ما لا يجوز؛ لأنّه تشبيه، وجَلّ ربّنا تعالى عن ذلك، وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شَبه، كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجودٍ، ولا عقل، ولا وَهمٍ، كذلك ربّنا عزّ وجل) بحارُ الأنوار ج٢: ٦٥.

ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (معرفتهُ (الله) عينُ ذاته)، أي أنّ إثبات وجود الله تعالى، وهو وجود غير متناهٍ وغير محدود، كافٍ في إثبات وحدانيّته؛ لأنّ الثاني لا يُتصوّر لغير المتناهي.

١٠٦

٣. الذاتُ والصفات

لو نظرنا إلى الإنسان مثلاً من زاوية العقل، سنرى له ذاتاً، وهذه الذات هي عين إنسانيّته الخاصّة به، ويمتاز بصفات أيضاً، وهذه الصفات التي تُعرّف كُنه ذاته، فمثلاً أنّه ابن لفلان، عالِمٌ قادر، طويل، جميل، أو صفات أخرى مغايرة.

فبعضُ هذه الصفات كالأولى، لا تنفصل عن الذات، وبعضها الآخر كالعلم مثلاً، يمكن أن تنفصل عن الذات أو تتغيّر، وعلى أيّة حال، فإنّ كُلاً من هذه الصفات، ليست بالذات، كما أنّ كلّ واحدة منها غير الأخرى.

وهذا الموضوع (الذات مغايرة للصفات، والصفات تختلف فيما بينها)، خيرُ دليلٍ على أنّ الذات التي تتّصف بصفة، والصفة التي تُعيّن وتُعرّف الذات، كلاهما محدودتان ومتناهيتان؛ لأنّ الذات إذا كانت غير محدودة وغير متناهية، لكانت تشمل الصفات، وكذا الصفات كانت كلّ واحدة منها تشتمل على الأخرى، فتصبح في النتيجة كلّها شيئاً واحداً، فمثلاً لو كانت الذات الإنسانيّة هذه تنحصر في القدرة، وكانت القدرة والعلم وكذا طول القامة والجمال كلّ واحدة منها عين الأخرى،

١٠٧

لكانت كلّ هذه المفاهيم لا تَعدو المفهوم الواحد.

يتّضح ممّا سبق: لا يمكن إثبات صفة (بالمعنى السابق) لذات الله عزّ وجل؛ لأنّ الصفة لا تتحقّق من غير تحديدٍ لها، وذاته المقدّسة منزّهة من أي تحديد (حتّى من هذا التنزيه الذي يُعتبر في الحقيقة إثبات صفة له).

٤. معاني صفات الله تعالى

نعلمُ أنّ في العالَم كثيراً من الكمالات التي تظهر بشكل صفات، فهذه الصفات المثبتة متى ما ظهرت في شيء، تسعى في تكامل المتَّصف، وتمنحهُ قيمة أكثر، كما يتّضح ذلك من مقارنة جسم حيّ كالإنسان مع جسمٍ غير حيّ كالحجر.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الكمالات قد مَنحها الله تعالى، وإذا ما كان هو مفتقداً لها لمَا مَنحها (فاقدُ الشيء لا يُعطيه) وجَعلها تتدرج في طريق الكمال، فعلى هذه يجب أن يقال - وفقاً لحكم العقل السليم -: إنّ الخالق يتّصف بالعلم والقدرة وكلّ كمال واقعي.

وفضلاً عن هذا، فإنّ آثار العلم والقدرة وبالتالي آثار الحياة، واضحة في نظام الخِلقة.

وبما أنّ ذات الله غير محدودة وغير متناهية، فالكمالات هذه إن اعتُبرت صفات له، فإنّها في الحقيقة عين ذاته،

١٠٨

وكذا كلّ واحدة منها هي عين الأخرى (١)، وأمّا الاختلاف الذي يُشاهَد بين الذات والصفات، وبين الصفات نفسها، فتنحصر في المفهوم، وفي الحقيقة ليس هناك سوى مبدأ واحد غير قابل للانقسام.

فالإسلام يُلزم مُتّبعيه كي لا يقعوا في مثل هذا الاشتباه (المحدوديّة بالتوصيف، أو نفي أصل الكمال)، يَضعهم بين النفي والإثبات (٢) ، ويأمرهُ بهذا الاعتقاد: أنّ الله عالم لا كعلم غيره، وله القدرة، وليس كقدرة الآخرين، فهو يَسمع لا بأُذن، ويرى لا بعين، وهكذا…

٥. مزيدٌ من التوضيح في معاني الصفات

الصفاتُ نوعان: صفاتُ كمال، وصفات نقص.

فالصفاتُ الكماليّة - كما أشرنا إليها - معانٍ إثباتيّة، تَمنح المتّصف بها قيمة وجوديّة أكثر، وآثاراً وجوديّة أوسع، ويتّضح ذلك من مقارنة موجود حيّ عالِم قادر، مع موجودٍ آخر غير حيّ، غير عالِم وغير قادر.

وأمّا صفاتُ النقص: فهي صفات تغايرها.

عندما نُمعن النظر في صفات النقص، نجدها بحسب المعنى منفيّة، تفتقر إلى الكمال،

____________________

(١) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (لم يزل اللهُ جلّ وعزّ ربّنا والعلم ذاتهُ ولا معلوم، والسَمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مُبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور) البحار ج٢: ١٥٢.

(٢) عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): (إنّ الله نورٌ لا ظلمة فيه، وعلمٌ لا جهلَ فيه، وحياة لا موت فيه)البحار ج٢: ١٢٩.

وقد سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) عن التوحيد؟ فقال: (... إنّ للناس في التوحيد ثلاثة مراتب: إثبات بتشبيه، ومذهب النفي، ومذهب إثبات بلا تشبيه، فمذهبُ الإثبات بتشبيه لا يجوز، ومذهب النفي لا يجوز، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه) البحار ج٢: ٩٤.

١٠٩

وإلى نوع من قيَم الوجود، مثل: الجهل، والعجز، والقُبح، والسُقم وأمثالها.

وحَسب ما تقدّم: أنّ نفي صفات النقص تعني صفات الكمال، كما أنّ نفي الجهل يعني العلم، ونفي العجز يعني القدرة، ومن هنا نجد القرآن الكريم يُثبت كلّ صفة كماليّة لله تعالى بشكلٍ مباشر، وينفي كلّ صفة نقص عنه، كما في قوله تعالى: ( وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) ، ( هُوَ الْحَيُّ ) ، ( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) ، ( وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ ) .

وممّا تجدرُ ملاحظتهُ: أنّ الله تعالى واقعيّة مطلقة، ليس له حدّ ونهاية، فعلى هذا (١) فإنّ أيّة صفة كماليّة تُطلق عليه، لا تعني المحدوديّة، فإنّه ليس بمادّة وجسم، ولا يُحدّد بزمانٍ أو مكان، ومُنزّه من كلّ صفة حاليّة حادثة، وكلّ صفةٍ تَثبت له حقيقة، فهي بعيدة عن المحدوديّة وهو القائل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٢).

٦. صفاتُ الفعل

فالصفاتُ (فضلاً عمّا سَبق) تنقسم انقساماً آخر وهي: صفاتُ الذات، وصفات الفعل.

فالصفةُ أحياناً تكون قائمة بالموصوف مثل: الحياة، والعلم، والقدرة، فتتحقّق هذه في الإنسان الحيّ القادر، ونستطيع أن نفترض إنساناً متّصفاً بهذه الصفات، فلو لم نفترض غيره،

____________________

(١) يقول الإمام السادس: (لا يوصَف الله تعالى بزمان، أو مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون، بل هو خالق الزمان، والمكان، والحركة، والسكون، والانتقال) البحار ج٢: ٩٦.

(٢) سورة الشورى: الآية ١١.

١١٠

نرى تارةً أنّه لا يتحقّق بالموصوف فحسب، فإذا أراد الموصوف أن يتّصف بصفةٍ لابدّ من تحقّق شيء آخر مثل: الكتابة، الخطابة، الطلب، ونظائرها؛ لأنّ الإنسان إنّما يستطيع الكتابة عندما يتوفّر لديه القلم والدواة والورق مثلاً، ويستطيع أن يكون خطيباً عند تحقّق مُستمع، ويستطيع أن يكون طالباً عندما يتوفّر المطلوب، ولا يكفي أن نفترض للإنسان تَحقُّق هذه الصفات.

من هنا يتّضح: أنّ الصفات الحقيقيّة لله تعالى (كما سبقت الإشارة إليه عين الذات)، هي من النوع الأوّل، وأمّا النوع الثاني، والذي يستلزم تحقّقه لشيء آخر، فإنّ كلّ شيء غير مخلوق له، ويأتي بعده في مرحلة الوجود، وكلّ صفةٍ يوجدها مع وجوده، لا يمكن أن تُعتبر صفة لذاته أو عين ذاته تعالى.

فالصفاتُ التي يتّصف بها تعالى عن تحقّق الخِلقة هي: الخالقيّة، الربّانيّة، والمُحيي، والمُميت، والرزّاق، وأمثالها، لم تكن عين ذاته، بل زائدة على الذات وصفات للفعل.

والمقصود من صفات الفعل : هو أن تُتخذ معنى الصفة من الفعل لا من الذات، مثل: الخالقيّة، أي يتّصف بهذه الصفة بعد تحقّق الخلقة للمخلوقات، فهو قائم منذ قيامها (أي موجود منذ وجودها)، ولا علاقة لها بذاته تعالى، كي تتغيّر من حالٍ إلى حال عند تحقّق الصفة.

تَعتبر الشيعة صِفَتي الإرادة والكلام، والذي يُفهم من معنى اللفظ (الإرادة بمعنى الطلب، والكلام بمعنى الكشف اللفظي عن المعنى) من صفات الفعل (١) ، والغالبيّة من أهل السُنّة يعتبرونها بمعنى العلم، وصفات لذاته تعالى.

____________________

(١) قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لم يزل الله جلّ اسمه عالِماً بذاته ولا معلول، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلتُ: جُعلتُ فداك، فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلام مُحدَث كان الله عزّ وجل وليس بمتكلّم، ثُمّ أحدثَ الكلام) البحار ج٢: ١٤٧.

قال الرضا (عليه السلام): (الإرادة من المخلوق، الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله عزّ وجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يَروي، ولا يهمّ، ولا يتفكّر) البحار ج٢: ١٤٤.

١١١

٧. القضاءُ والقدر

إنّ قانون العليّة في الكون سارٍ ومهيمن، بحيث لا يقبل الاستثناء، ووفقاً لهذا القانون كلّ مظهر من مظاهر هذا العالَم، يرتبط بعِلل عند وجودها (الأسباب والشروط اللازمة للتحقّق)، ومع توفّر كلّ تلك الشروط (والتي تُدعى العلّة التامّة) يتحتّم وجود تلك الظاهرة (المعلول المفروض)، ولو فرضنا عدم تحقّق تلك الأسباب كلّها أو بعضها، فإنّه يستحيل تحقّق وجود تلك الظاهرة.

مع الإمعان في هذه النظريّة، يتّضح لنا موضوعان:

الأوّل: لو قُدِّر أن نقارن بين ظاهرة (المعلول) مع العلّة التامّة بأجمعها، وكذلك مع الأجزاء لتلك العلّة التامّة، تكون النسبة بينها وبين العلّة التامة نسبة الضرورة (الجبر)، ولكانت النسبة بينها وبين كلّ من أجزاء العلّة التامّة (والتي تُعتبر علّة ناقصة) نسبة الإمكان؛ لأنّ جزء العلّة بالنسبة إلى المعلول يُعطي إمكان التحقّق والوجود، ولا يُعطي ضرورة الوجود.

على هذا، فالكون وجزء من أجزائه يستلزم علّة تامّة في تحقّق وجوده، والضرورة مهيمنة عليها بأسرها، وقد نُظّم هيكلها من مجموعة حوادث ضروريّة وقطعيّة، فمع الوصف هذا، فإنّ صفة الإمكان في أجزائها (الظواهر التي ترتبط مع غير العلّة التامّة لها) محفوظة.

١١٢

فالقرآن الكريم في بيانه يُسمّي هذا الحُكم الضروري بالقضاء الإلهي؛ لأنّ الضرورة هذه تنبع من وجود الخالق، ولهذا يكون حكماً وقضاءً عادلاً حتميّاً غير قابل للتخلّف، إذ لا يقبل الاستثناء أو التبعيض.

ويقول جلّ شأنه: ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (١) .

ويقول: ( وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢) .

ويقول: ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (٣) .

الثاني: إنّ كُلاً من أجزاء العلّة، لها مقدارها الخاص بها تمنحها إلى المعلول، وتَحقّق المعلول وظهوره يُطابق مجموع المقادير التي تُعيّنها العلّة التامّة، فمثلاً: العِلل التي تُحقّق التنفّس للإنسان لا تُحقّق التنفّس المطلق، بل يتنفّس الإنسان مقداراً معيّناً من الهواء المجاور لفمه وأنفه وفي زمانٍ ومكان معيّنين، ووفقَ طريقة معيّنة، ويتمّ ذلك عن طريق مجرى التنفّس، حيث يصل الهواء إلى الرئتين، وهكذا الرؤية والإبصار، فإنّ العِلل الموجودة لها في الإنسان (والذي هو جزء منها)، لم تُحقّق إبصاراً من دون قيد أو شرط، بل يُحقّق إبصاراً مُعيّناً من كلّ جهة، بواسطة الوسائل اللازمة له، وهذه الحقيقة سارية في كلّ ظواهر الطبيعة، والحوادث التي تتّفق فيها لا تتخلّف.

والقرآن الكريم يُسمّي هذه الحقيقة بـ (القدر) ويَنسبها إلى خالق الكون ومصدر الوجود، بقوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٤) .

ويقول: ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (٥) .

وكما أنّ كلّ ظاهرة وحادثة في نَظم الخلقة تُعتبر ضروريّة الوجود وفقاً للقضاء الإلهي، ويتحتّم وجوده، فكذلك وفقاً للقدر فإنّ كلّ ظاهرة أو حادثة عند تحقّقها لا تتخلّف عن المقدار المُعيّن لها من قِبَل الله تعالى.

____________________

(١) سورة الأعراف: الآية ٥٤.

(٢) سورة البقرة: الآية ١١٧.

(٣) سورة الرعد: الآية ٤١.

(٤) سورة القمر: الآية ٤٩.

(٥) قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنّ الله إذا أرادَ شيئاً قدّره، وإذا قضاهُ أمضاه) البحار ج٣: ٣٥.

١١٣

٨. الإنسانُ والاختيار

كلّ ما يقوم به الإنسان من فعل، يُعتبر ظاهرة من ظواهر عالَم الخِلقة، ويرتبط تحقّقه كسائر الظواهر بالعلّة ارتباطاً كاملاً، وبما أنّ الإنسان هو جزء من عالَم الخلقة، ويرتبط مع سائر الأجزاء الأخرى من العالَم، فإنّها بدورها تؤثر في أفعال الإنسان.

وعلى سبيل المثال: فإنّ قطعة الخبز التي يريد الإنسان تناولها، يستلزم الوسائل: كاليد، والفم، والعلم، والقدرة، والإرادة، ويستلزم أيضاً وجود الخبز في الخارج، وفي متناوَل يده، وعدم المانع والحاجز، وشروط أخرى، من زمانٍ أو مكانٍ، ومع فقدان إحداها يتعذّر تحقّق الفعل، ومع تحقّق كلّ تلك العوامل (تحقّق العلّة التامّة)، فإنّ تحقّق الفعل ضروري.

وكما أشرنا آنفاً: فإنّ ضرورة الفعل بالنسبة إلى مجموع أجزاء العلّة التامّة تُعتبر نسبة إمكان، ولا يتنافى مع نسبة الفعل إلى الإنسان الذي هو أحد أجزاء العلّة التامّة.

إنّ الإنسان له اختيار الفعل، وضرورة نسبة الفعل إلى مجموع أجزاء العلّة، لا يستلزم الضرورة بالنسبة إلى فعل بعض من أجزائها وهو الإنسان.

والإدراك البسيط للإنسان يؤيِّد هذا القول، فإنّنا نراهُ يُميّز - بحُكم الفطرة الإلهيّة المودَعة لديه - بين الأكل والشرب، والذهاب والإياب، وبين الصحّة والسُقم، والكبير والصغير، والقسم الأوّل الذي يرتبط بإرادة الإنسان ارتباطاً مباشراً، يُعتبر من إرادة الشخص، فيُحاسب في مواضع الأمر،

١١٤

والنهي، والمدح، والذم، خلافاً للقسم الثاني، الذي يترتّب فيه تكليفٌ على الإنسان.

كان في صدر الإسلام بين أهل السُنّة، مذهبان معروفان بالنسبة إلى أفعال الإنسان، ففريقٌ كان يرى أنّ أفعال الإنسان متعلّقة بإرادة الله تعالى لا تخلّفَ فيها، فكان يدّعي أنّ الإنسان مجبور في أفعاله، ولا أثرَ لمَا يمتاز به من اختيار وإرادة، والفريق الآخر، كان يدّعي أنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله، وليس له ارتباط بإرادة الله سبحانه، ويعتبرونه خارجاً عن حُكم القَدر.

وممّا يُروى عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهو مطابق مع ظاهر تعاليم القرآن: أنّ الإنسان مختار في أفعاله، ليس بمستقلّ، إذ إنّ الله تعالى قد أراد الفعل عن طريق الاختيار، وهذا ما عبّرنا عنه سابقاً، أنّ الله سبحانه أرادَ الفعل عن طريق مجموع أجزاء العلّة التامّة، والتي إحداها إرادة الإنسان وأصبحت ضرورة، وفي النتيجة: إنّ مثل هذا الفعل الذي يرتبط بإرادة الله تعالى ضروري، والإنسان أيضاً مختار فيه، أي أنّ الفعل يُعتبر ضروريّاً بالنسبة إلى مجموع أجزاء علّته، ولكنّه اختيار وممكن بالنسبة إلى أحد أجزائه وهو الإنسان.

والإمام السادس (عليه السلام) يقول: (لا جبرَ ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين) (١) .

____________________

(١) عن أبي جعفر أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّ الله عزّ وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثُمّ يُعذِّبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون) بحار الأنوار ج٣: ١٥.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (اللهُ أكرم من أن يُكلِّف الناس ما لا يُطيقون، واللهُ أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد) البحار ج٣: ١٥.

١١٥

معرفةُ النبي

١. نحو الهدف، الهداية العامّة.

٢. الهداية الخاصّة.

٣. العقلُ والقانون.

٤. الشعور المرموز، أو ما يسمّى بـ(الوحي).

٥. الأنبياء وعصمة النبوّة.

٦. الأنبياء والشرائع السماويّة.

٧. الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوّة.

٨. عدد الأنبياء.

٩. الأنبياء أولو العزم، حَمَلة الشرائع السماويّة.

١٠. نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

١١. النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن.

١. نحو الهدف، الهداية العامّة

تبدأ حبّة الحنطة بالنموّ عند توفّر العوامل المساعدة لها، بعد أن توضَع في التربة، وبمرور الزمن تتحوّل من حالةٍ إلى أخرى، وفي كلّ لحظة تتّخذ حالة وشكلاً غير ما كانت عليها قَبل لحَظات، وتسلك طريقاً وفقاً لنظامٍ خاص،

١١٦

حتّى تزداد نموّاً، فتَصبح سنبلة، وإذا ما سَقطت حبّة قَمح على الأرض، سَلكت الطريق ذاته، حتّى تصل النهاية وهكذا، وإذا ما سَقطت بذرة فاكهة على الأرض، تبتدئ بالحركة والنموّ فيخترق الغشاء نتوءٌ أخضر، ويسلك طريقاً خاصّاً منتظماً، حتّى يزداد في نموّه ويَصبح شجرة مثمرة.

وإذا ما استقرّت نطفة حيوان في بيضة، أو في رَحم أُم، تشرع بالنموّ والتكامل، وتسلك سلوكاً تختصّ به تلك النطفة لذلك الحيوان، حتّى تصل إلى فردٍ كامل من ذلك النوع.

إنّ هذا السلوك الخاصّ والمنتظم يُشاهد في كلّ من أنواع الكائنات الحيّة في العالَم، ويُعتبر من مميّزاتها وفطرتها الخاصّة، ولن تجد في الحياة نقيضاً لهذه السُنّة، أي يستحيل أن تتبدّل حبّة قمح إلى حيوان، ولا نطفة حيوان إلى شجرة، وإذا ما حَدث تغيير في تكوين حيوان أو نبات، بأن ينقصها عضو أو جزءٌ، فإنّ السبب في ذلك يعود إلى مرضٍ أو ما شابه.

إنّ النظام القائم والمستمرّ في الكون، وخِلقة الأجسام المتنوّعة، واختصاص كلّ نوع منها في سلوك خاصّ، نحو التطوّر والتكامل، يحتاج إلى نظام خاصّ به، لا ينكرهُ أيّ محقِّق متتبّع، ومن هذه النظريّة البيّنة نستنتج موضوعين:

١) إنّ في جميع المراحل التي يطويها نوع من أنواع الكائنات الحيّة في العالَم، اتصالاً وارتباطاً قائماً بينها، وكأنّ هناك قوّة تُسيّرها هذا المسير الخاصّ في كلّ مراحلها التطوّريّة.

٢) إنّ هذا الاتصال والارتباط المُتتالي يهدف في مرحلته الأخيرة إلى تكوين بَني نوعه، فكما أنّ البذرة عندما توضَع في التربة تهدف في طريقها منذ مراحلها الأولى إلى أن تنشأ شجرة، وكذلك النطفة في رحم الأُم تهدف في مراحلها الأوّليّة إلى أن تكون حيواناً متكاملاً، وللوصول إلى التكامل، نراها تسلك نهجاً خاصّاً في حياتها.

١١٧

والقرآن العظيم في تعليماته يؤيِّد هذه الحركة وهذا الاندفاع، كما أنّ أنواع الكائنات الحيّة في العالَم تهتدي بهدى الله تعالى في طريق تكاملها وكمالها، ويَستدلّ بآيات من الذِكر الحكيم في هذا الشأن، كما في قوله تعالى:

( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (١) .

وفي سورة الأعلى، الآية ٣٢ يقول جلّ ذِكره:

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) .

وكذا يُشير إلى النتائج التي ذُكرت آنفاً في سورة البقرة، الآية ١٤٨، يقول جلّ شأنه: ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) .

ويقول جلّ مَن قائل في سورة الدخان، الآية ٣٩: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) .

٢. الهدايةُ الخاصّة

بديهيٌ أنّ النوع الإنساني لا يُستثنى عن هذه الهداية التكوينيّة التي تُهيمن على جميع الكائنات في العالَم، إنّها تسيطر على الإنسان أيضاً، وبما أنّ كلّ كائن يستمرّ في طريقه نحو التكامل بما لديه من قدرة وقابليّة، فكذلك الإنسان يُساق نحو الكمال الواقعي بواسطة الهداية التكوينيّة.

قد يشترك الإنسان في كثيرٍ من صفاته ومميّزاته مع سائر أنواع الكائنات الحيّة من حيوان أو نبات، لكنّه يتميّز بخصائص خاصّة به تَجعلهُ يمتاز عن غيره، ألا وهو العقل.

____________________

(١) سورة طه: الآية ٥٠.

١١٨

فالعقلُ يدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر، وأن ينتفع من كلّ وسيلةٍ ممكنة، لتُحقّق أهدافه وأغراضه، فهو يَعرج إلى السماء حيناً، فيسير في الفضاء اللامتناهي، ويغوص في أعماق البحار أحياناً، فهو يدأب في استثمار أنواع الحيوان والنبات والجماد على ظهر البسيطة، وقد يتجاوز هذا الحدّ بأن يتّجه إلى استثمار بَني نوعه.

والإنسانُ حَسب طبعه الأوّلي، يرى حرّيته المطلقة في سعادته وكماله، وبما أنّ وجوده وجود اجتماعي، ومتطّلباته في الحياة متعدّدة، والتي لا ينالها لوحده وبنفسه فَحسب، بل بالتعاون مع أبناء نوعه وهم يتّصفون بالغرائز ذاتها، بما فيها حُبّ الذات والحرّية، إذ تفرض عليه طبيعة المجتمع أن يُضحّي بقسط من حرّيته في هذا السبيل قبال المنافع التي يحصل عليها من الآخرين، فهو يُقدِّم خدمة وينتفع بما يُقدِّمه الآخرون من خَدمات، أي أنّه يتقبّل الحياة الاجتماعيّة التي تتّصف بالتعاون، بإكراهٍ وفرض.

وهذه الحقيقة تظهر جَلية لدى الأطفال والفتيان، إذ إنّهم في البداية يُحقّقون ما تصبو إليه نفوسهم بالفرض تارةً والبكاء تارةً أخرى، فهم يرفضون كلّ قانون أو عادة أو ما شاكل ذلك، ولكن على مرّ الزمان، وحَسَب تطوّرهم الفكري يُدركون أنّ الحياة لا تتلائم مع الفرض والطغيان، فيمارسون ما يمارسهُ الفرد في المجتمع بشكلٍ تدريجي، حتّى يصلوا إلى ما يصل إليه الفرد في مجتمعه، من إتّباع العادات والسُنن والقانون، بالتالي يُصبحون وهو يألفون المجتمع.

والإنسانُ بعد تقبّلهِ الحياة الاجتماعيّة التي قوامها التعاون، يرى ضرورة القانون الحاكم على الحياة، وهو الذي يُعيّن واجبات كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، ويضع الجزاء لكلّ مَن يُخالف القانون، فإذا عمّ القانون وسادَ المجتمع، عندئذٍ ينال كلّ من أفراد المجتمع السعادة المطلوبة، التي طالما تمنّاها.

١١٩

هذا القانون: هو القانون العَمَلي الذي ما برحَ البشر منذ نشأته وإلى يومنا هذا يرجوهُ ويرغب في الوصول إليه، وطالما كان يستهلّ به أهدافه وأغراضه، ويسعى في تحقّقه، ومن الطبيعي إذا كان الأمر يستحيل تحقّقه على البشريّة، ولم يكن مفروضاً عليها، لمَا كانت تهدف إليه دوماً (١) .

والله جلّ شأنه يُشير إلى حقيقة المجتمع البشري بقوله: ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ) (٢) .

وقد أشار الذكر الحكيم إلى حُبّ النفس والأنانيّة بقوله تعالى: ( إِنَّ الإِنْسَان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) (٣) .

٣. العقلُ والقانون

لو تأمّلنا جيّداً، لرأينا أنّ القانون الذي ما برحَ البشر ينتظره، والناس مع ما لديهم من إدراك فطري إلهي، ويُدركون لزوم إجرائه كي يضمن لهم سعادتهم، هو القانون الذي يستطيع أن يُسيّر البشريّة إلى السعادة دون انحيازٍ أو تبعيض،

____________________

(١) ترغب البشريّة عادةً وحتّى الشعوب البدائيّة حَسَب طبعها، في أن يعيش الجميع في جوّ مِلؤهُ الصُلح والراحة والاطمئنان.

ومن الوِجهة الفلسفيّة، فإنّ الطلب والميل والرغبة ما هي إلاّ أوصاف وارتباطات قائمة على طرفين: كالطالب والمطلوب، والمُحبّ والمحبوب، و… وواضحٌ إن لم يكن هناك محبوب، فالكلام عن المُحبّ عَبث.

وصَفوة القول: إنّ الأمور هذه ترجع إلى إدراك نقصٍ في الوجود الإنساني، فإذا تعذّر الكمال، لم يكن هناك معنىً للنقص.

(٢) سورة الزخرف: الآية ٣٢.

(٣) سورة المعارج: الآية ٢١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206