الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام18%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96778 / تحميل: 7406
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

٤. عالَمُ البرزخ

وممّا يُستفاد من القرآن الكريم والسُنّة: أنّ الإنسان يتمتّع بحياة مؤقّتة ومحدودة في الحدّ الفاصل بين الموت ويوم القيامة، والتي تُعتبر رابطة بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى (١) .

والإنسان بعد موته، يُحاسب محاسبة خاصّة من حيث الاعتقاد، والأعمال الحسنة والسيّئة التي كان عليها في الدنيا، وبعد هذه المحاسبة المختصرة، ووفقاً للنتيجة التي يحصل عليها، يُحكم عليه بحياة سعيدة أو شقيّة، ويكون عليها إلى يوم القيامة (٢) .

وحالة الإنسان في عالَم البرزخ تُشابه كثيراً حالة الشخص الذي يُراد التحقيق معه لمَا قام به من أعمال، فيُجلب إلى دائرة قضائيّة كي تتمّ مراحل الاستجواب والاستنطاق منه، لغرض تنظيم ملفٍ له، وبعدها يقضي فترة ينتظر خلالها وقت محاكمته.

روح الإنسان في عالَم البرزخ، تعيش بالشكل الذي كانت عليه في الدنيا، فإذا كانت من الصُلحاء، تتمتّع بالسعادة والنعمة وجِوار الصُلحاء والمقرّبين لله تعالى، وإذا ما كانت من الأشقياء، تقضيها في النقمة والعذاب، ومصاحبة الأشرار، وأهل الضلال.

فاللهُ جلّ شأنهُ يصف حالة بعض السُعداء بقوله:

____________________

(١) البحار: ج٢ باب عالَم البرزخ.

(٢) البحار: ج٢ باب عالَم البرزخ.

١٤١

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

وفي وصف حالة مجموعة أخرى، الذين كانوا يُنفقون أموالهم وثرواتهم في مشاريع غير مشروعة في الحياة الدنيا، يصفهم بقوله تعالى:

( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) .

٥. يومُ القيامة، المعاد

ينفرد القرآن الكريم بين الكتب السماويّة، بالتحدّث عن المعاد والحشر تفصيلاً، في حين أنّ (التوراة) لم تُشر إلى هذا اليوم وهذا الموقف، وكتاب (الإنجيل) يشير إشارة مختصرة، والقرآن يذكرهُ ويُذكّر به في مئات الموارد، وبأسماء شتّى، ويَشرح عاقبة العالَم والبشريّة التي تنتظرهم، فتارةً باختصار وأخرى بإسهاب.

ويُذكّر مراراً أنّ الاعتقاد بيوم الجزاء (يوم القيامة) يعادل الاعتقاد بالله تعالى، ويُعتبر أحد الأصول الثلاثة للإسلام، ومُنكره (مُنكر المعاد)، خارج عن شريعة الإسلام وما عاقبته إلاّ الهلاك والخسران.

____________________

(١) سورة آل عمران: الآية ١٦٩ - ١٧١.

(٢) سورة المؤمنون: الآية ٩٩ - ١٠٠.

١٤٢

وحقيقة الأمر هكذا، إذا لم تكن هناك محاسبة وجزاء وعقاب، فإنّ الدعوة الدينيّة بما تحتوي من أوامر الله ونواهيه، لم يكن لها أدنى فائدة أو أثر، وإنّ وجود النبوّة والإبلاغ وعدمه كان سواء، بل يُرجَّح عدمه على وجوده؛ لأنّ تقبّل الدين واتّباع موازين الشرع، لا يخلو من تكلّف وسلب الحريّة، وإذا كان اتّباع الدين لم يكن له أثر أو نتيجة، لن يتحمّل الناس هذا العبء وهذه المسؤوليّة، ولن يتخلّوا عن الحريّة الطبيعيّة.

ومن هنا يتّضح: أنّ أهميّة ذِكر يوم الحشر وتذكّرهُ يعادل أهميّة أصل الدعوة الدينيّة.

ويتّضح أيضاً: أنّ الاعتقاد بيوم الجزاء من أهمّ العوامل التي تجبر الإنسان على أن ينتهج الورع والتقوى، وأن يتجنّب الأخلاق الرذيلة، والمعاصي والذنوب، كما أنّ نسيانه أو عدم الاعتقاد به، سوف يكون أساساً وأصلاً لكلّ معصية أو ذنب، ويقول جلَّ مَن قائل:

( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (١) .

وممّا يُلاحظ في الآية، أنّ منشأ كلّ ضلال هو نسيان يوم الحساب.

والتدبّر في خِلقة الإنسان والعالَم، وكذا في الهدف من الشرائع السماويّة، يتّضح الغرض من اليوم الذي سَيُلاقيه الإنسان (يوم الجزاء).

ونحن عندما نتدبّر الأعمال والأفعال في الطبيعة، نرى أنّ كلّ عمل (والذي يحتوي على نوع من الحركة بالضرورة) لا يتمّ إلاّ عن غاية وهدف، ولم يكن العمل نفسه بالأصالة هو المقصود، بل إنّه مقدّمة لهدف وغاية فيكون مطلوباً لذلك الهدف أو لتلك الغاية، حتّى في الأعمال التي تُعتبر سطحيّة مثل: الأفعال الطبيعيّة، والأعمال الصبيانيّة ونظائرها، لو دقّقنا فيها لوجدنا فيها

____________________

(١) سورة ص: الآية ٢٦.

١٤٣

غايات وأغراضاً تُناسب نوع الفعل، كما في الأعمال الطبيعيّة التي تتّصف بالحركة غالباً، فإنّ الغاية التي تسعى إليها هذه الحركة تُعتبر الغاية والهدف لها، وأمّا في لعب الأطفال وما يتناسب مع نوع اللُعبة، فإنّ هناك غاية خياليّة وهميّة، والهدف من اللعب هو الوصول إليه.

وفي الحقيقة أنّ خِلقة الإنسان والعالَم من أعمال الله تعالى، وأنّه منزّه من أن يقوم بأعمال عبث، دون هدف أو غرض، فهو الذي يَخلق، ويَرزق ويُميت، وهكذا يَخلق ويُهلك، فهل يُتصوّر أن يكون خلقه هذا دون هدف معيّن وغرضٍ محكم يتابعه.

إذاً لابدّ لخلق الكون والإنسان، هدف وغاية ثابتة، وإنّ الفائدة منه لا تعود إلى الله الغنيّ المتعال، وكلّ ما فيه يعود للمخلوق، إذاً يجب الاعتراف بأنّ الكون بما فيه الإنسان يتّجه ويسير نحو خلقة معيّنة خاصّة، ووجود أكمل، لا يتّصفان بالفناء والزوال.

وإذا أمعَنا النظر في حالة الناس ووضعهم، ومدى تأثّرهم بالتربية الدينيّة، فإنّنا نرى أنّ الناس ينقسمون إلى قسمين، إثر الإرشادات الإلهيّة، والتربية الدينيّة، وهم: الأخيار والأشرار، ومع هذا الوصف، لم نجد أيّ امتياز أو فارق في هذه الحياة، بل على العكس، وغالباً ما تكون الموفقيّة للأشرار والظالمين، أمّا الأخيار فإنّهم على صلة بالفتن والمشاكل والحياة السيّئة والحرمان وتحمّل الظلم.

والحال هذه تقتضي العدالة الإلهيّة أن تكون هناك نشأة أخرى، حتّى يجد فيها كلّ من الفريقين المذكورين، جزاء أعمالهم، ويُحيون حياة تناسب حالهم، ويشير الله تعالى في كتابه العزيز إلى هاتين الحالتين بقوله:

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

____________________

(١) سورة الدخان: الآية ٣٨.

١٤٤

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (١) .

ويَذكر في آيةٍ أخرى، وقد جمعَ فيها الدليلين بقوله جلّ شأنه:

( أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (٢) .

٦. بيانٌ آخر

قد أشرنا في الفصل الثاني من الكتاب في مبحث الظاهر والباطن القرآني، أنّ المعارف الإسلاميّة في القرآن الكريم، مبيّنة من طُرق مختلفة، والطُرق المذكورة بشكلٍ تنقسم إلى قسمين: الظاهر، والباطن.

والمراد من طريق الظاهر : هو البيان الذي يتناسب ومستوى أفكار العامّة، على خلاف الطريق الباطن الذي يختصّ بالخاصّة منهم، ويُدرك مع روح الحياة المعنويّة.

والبيان الذي يؤخذ عن طريق الظاهر مؤدّاه: أنّ الله تعالى الحاكم المطلق لعالَم الخلقة، فكلّ ما في هذا الكون مُلكه، فهو الذي خَلَق الملائكة التي لا يُعلم إحصاؤها كي تكون مطيعة ومنفذّة لأوامره، يُرسلهم إلى حيث شاء من الكون، ولكلّ بقعة من عالَم الطبيعة وما يلازمها من نظام، ترتبط بمجموعة خاصّة من الملائكة موكّلين عليها.

____________________

(١) سورة ص: الآية ٢٧ - ٢٨.

(٢) سورة الجاثية: الآية ٢١ - ٢٢.

١٤٥

والنوع الإنساني من مخلوقاته وعباده الذين يجب عليهم اتّباع أوامره ونواهيه، والإطاعة له، وما الأنبياء إلاّ حَمَلة شرائعهِ وقوانينه، يبعثهم إلى الناس لبيان وإجراء تلك الشرائع والقوانين.

فالله جلّ ثناؤه، لمّا جَعلَ الثواب والأجر لمَن آمنَ وأطاع، جعلَ العقاب والعذاب لمَن كفرَ وعصى، وهو القائل: ( وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) ، ولمّا كان عادلاً فعدالتهُ تقتضي أن يفصل بين الفريقين في النشأة الأخرى، وهما: الأخيار والأشرار ، وأن يُمتّع الأخيار بالنعيم، وللأشرار الشقاء.

وقد وعدَ الله تعالى بمقتضى عدله، أن يَحشر الناس الذين مرّوا في الحياة الدنيا دون استثناء، ويُحاسبهم حساباً دقيقاً في معتقداتهم وأعمالهم، من صغيرةٍ أو كبيرة، ويقضي بينهم بالحقّ والعدل، وفي النهاية، سيوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، ويأخذ لكلّ مظلوم نصيبه ممّن ظلمهُ، ويُعطي أجر عَمل كلّ عامل، ويُصدر الحكم لفريق في الجنّة وفريق في السعير.

هذا هو البيان الظاهري للقرآن الكريم، وقد جاء مطابقاً لفكر الإنسان الاجتماعي، لتكون فائدته أعمّ، ونطاقه أشمل.

أمّا الذين تعمّقوا في الحقائق، ولهم القدرة على فهم المعنى الباطني للقرآن الكريم، فهم يُدركون الآيات القرآنيّة على مستوى أرفع من العامّة، والقرآن الكريم يُلوّح - خلال تعابيره البسيطة - أحياناً بالمعنى الباطني تلويحاً.

فالقرآن الكريم مع تعبيراته المختلفة، يَذكر إجمالاً أنّ الطبيعة بجميع أجزائها، والإنسان أحدها، مع سيرها التكويني (والتي تسير نحو الكمال)، تصيرُ إلى الله تعالى، وسيأتي اليوم الذي تُنهى حركتها وسيرها، وتفقد إنيّتها واستقلالها كلّياً.

والإنسان وهو جزء من أجزاء هذا الكون، فإنّ طريق تكامله الخاصّ يتمّ عن طريق الشعور والعلم، يُسرع في طريقه إلى الله تعالى، واليوم الذي

١٤٦

يُختتم به هذا الانطلاق، سيُشاهِد عياناً حقانيّة الله الأحد، وسيرى أنّ القدرة والمُلك وكلّ صفة من صفات الكمال تنحصر في ذاته القدسيّة، ومن هذا الطريق ستنجلي له حقيقة الأشياء كلّها.

وهذا هو أوّل منزل وموقف من العالَم الأبدي، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا، بإيمانه وعمله الصالح، أوجدَ ارتباطاً واتّصالاً بالله تعالى واستأنس به، وبالمقرّبين من عباده، سيحظى بسعادة لا توصف، وسيكون في جوار الله سبحانه، ويكون قرين الصالحين في العالَم العُلوي، وإذا ما كان ممّن تربطهم علاقة وثيقة بهذه الدنيا الدنيئة، ولذائذها الزائلة، فقد قطعَ اتصاله بالعالَم العُلوي، ولم تقم بينه وبين خالقه رابطة أو اتصال ولا مع المقرّبين من عباده، فإنّه سيُحاط بعذابٍ دائم، وخزي أبدي.

صحيحٌ أنّ الأعمال الحسنة والسيّئة للإنسان في هذه الدنيا تزول وتذهب، لكنْ صور الأعمال هذه تستقرّ في باطنه، وأينما رحلَ فهي معه، وتكون مصدر حياته الآتية سواء في السعادة أو الشقاء.

وكُلّ ما ذُكر يمكن استنتاجه من الآيات التالية:

يقول جلّ مَن القائل: ( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) (١).

ويقول: ( أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) (٢) .

ويقول: ( وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) (٣) .

ويقول: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (٤) .

ويُخاطب الله سبحانه يوم القيامة بعض أفراد البشر، بقوله:

____________________

(١) سورة العلق: الآية ٨.

(٢) سورة الشورى: الآية ٥٣.

(٣) سورة الانفطار: الآية ١٩.

(٤) سورة الفجر: الآية ٢٧ - ٣٠.

١٤٧

( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (١) .

وفي تأويل القرآن الكريم، والحقائق التي تنبع منه الآيات، يقول جلّ اسمهُ:

( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) (٢) .

ويقول تعالى:

( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) (٣).

ويقول تعالى شأنه:

( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (٤).

ويقول تعالى ذكره:

( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ ) (٥) .

ويقول تعالى اسمه:

( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٦) .

ويقول سبحانه:

( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (٧).

____________________

(١) سورة ق: الآية ٢٢.

(٢) سورة الأعراف: الآية ٥٣.

(٣) سورة النور: الآية ٢٥.

(٤) سورة الانشقاق: الآية ٦.

(٥) سورة العنكبوت: الآية ٥.

(٦) سورة الكهف: الآية ١١٠.

(٧) سورة الفجر: الآية ٢٧ - ٣٠.

١٤٨

ويقول سبحانه وتعالى:

( فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى *وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (١) .

ويتعرّض القرآن الكريم عن كُنه جزاء الأعمال قائلاً:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

٧. استمرارُ الخلقة وتعاقبها

إنّ عالَم الخِلقة الذي نشاهده، ذو عمرٍ محدود، وسيأتي اليوم الذي يفنى ويزول فيه، كما يؤيِّد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله تعالى: ( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣).

وهل خُلقَ عالَم، وهل كان هناك إنسان، قبل ظهور عالَمنا هذا والبشر الذي يعيش فيه حاليّاً؟ وهل بعد زوال وفناء هذا العالَم بما فيه، والذي يخبر به القرآن الكريم، سينشأ عالَم آخر وسيُخلق بشر، فهذه أسئلة لا نجد جوابها في القرآن الكريم إلاّ تلويحاً، لكنْ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، تُجيب بإيجابٍ عن هذه الأسئلة (٤).

____________________

(١) سورة النازعات: الآية ٣٤ - ٤١.

(٢) سورة التحريم: الآية ٧.

(٣) سورة الأحقاف: الآية ٣.

(٤) البحار ج١٤: ٧٩.

١٤٩

معرفةُ الإمام

١. معنى الإمام.

٢. الإمامة وخلافة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في الحكومة الإسلاميّة.

٣. تأييدٌ للأقوال السابقة.

٤. الإمامةُ في العلوم التشريعيّة.

٥. الفرقُ بين النبيّ والإمام.

٦. الإمامةُ في باطن الأعمال.

٧. أئمّةُ الإسلام وقادته.

٨. موجزٌ عن حياة الأئمّة الاثني عشر.

٩. بحثٌ في ظهور المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من وجهة نظر العامّة.

١٠. بحثٌ في ظهور المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من وجهة نظر الخاصّة.

١. معنى الإمام

تُطلق كلمةُ الإمام أو القائد على شخصٍ يقود جماعة أو فئة، ويتحمّل عبء هذه المسؤوليّة، إمّا في المسائل الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الدينيّة، ويرتبط عملهُ بالمحيط الذي يعيش فيه، ومدى سعة المجال للعمل فيه أو ضيقه.

١٥٠

إنّ الشريعة الإسلاميّة المقدّسة - كما اتّضح في الفصول السابقة - تنظر إلى الحياة العامّة للبشر من كلّ جهة، فهي تُصدّر أوامرها لإرشاد الإنسان في الحياة المعنويّة، وكذا في الحياة الصوريّة من الناحية الفرديّة، وتتدخّل في إدارة شؤونه، كما تتدخّل في حياته الاجتماعيّة والقياديّة (الحكومة) أيضاً.

وعلى ما مرّ ذِكره، فإنّ الإمام أو القائد الديني في الإسلام، يمكن أن يكون مورد اهتمام من جهاتٍ ثلاث:

الأولى: من جهة الحكومة الإسلاميّة.

الثانية: من جهة بيان المعارف والأحكام الإسلاميّة ونشرها.

الثالثة: من جهة القيادة والإرشاد في الحياة المعنويّة.

تعتقدُ الشيعة بأنّ المجتمع الإسلامي يحتاج إلى الجهات الثلاث التي سَبق ذكرها، احتياجاً مُبرماً، والذي يتصدّى لقيادة الجهات الثلاثة - بما فيها قيادة المجتمع - يجب أن يُعيّن من قِبَل الله والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، عِلماً بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أيضاً يُعيّن الإمام بأمرٍ من الله تعالى.

٢. الإمامةُ وخلافة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في الحكومة الإسلاميّة

إنّ الإنسان بما يمتاز به من مواهب إلهيّة، يُدرك جيّداً ومن دون تردّد أنّ أيّ مجتمعٍ متآلف في أيّة بقعة، أو مملكة، أو مدينة، أو قرية، أو قبيلة، وحتّى في بيتٍ واحد يتألّف من عدّة أفراد، لن يستطيع أن يعيش ويستمرّ في حياته دون قائد أو ناظر عليه، فهو الذي يجعل الحياة نابضة، يُحرّك عجلات اقتصادها، يُحفّز كلّ فردٍ من أفراد المجتمع بانجاز وظيفته الاجتماعيّة، فالمجتمع الفاقد لقائد، لا يستطيع أن يستمرّ في حياته،

١٥١

وفي أقلّ فترةٍ ممكنة ينهار قوامه، ويسير نحو الهمجيّة والتحلّل الخُلقي.

فعلى هذا، فالشخص الذي يتولّى قيادة مجتمع (سواء أكان كبيراً أم صغيراً)، ويُعير اهتماماً لمنصبه ومقامه، يُبدي عنايته لبقاء ذلك المجتمع، نجدهُ يُعيّن خَلَفاً له فيما لو أراد أن يغيب عن محلّ عملهِ (سواء أكانت الغيبة مؤقّتة أم دائميّة)، ولن يتخلّى عن مقامه ما لم يُعيّن أحداً، ولن يترك بلاده أو بقعته دون ناظرٍ أو حارس عليها أو قائدٍ لها؛ لأنّه يعلم جيّداً أنّ غضّ النظر عن هذه المهمّة وعدم استخلاف أحد، يؤدّي بمجتمعه إلى الزوال والاضمحلال، كما لو أرادَ ربّ البيت أن يسافر عدّة أيّام أو أشهر، فإنّه يختار أحدهم (أو أحداً غيرهم) مكانه، ويَلقي إليه مقاليد الإدارة للبيت، وهكذا الرئيس لمؤسّسة، أو المدير لمدرسة، أو الصاحب لحانوت، وهو يُشرف على موظّفين أو صُنّاع يعملون تحت إمرته، فلو قدُِّر أن يترك محلّ عملهِ لساعات قليلة فإنّه يختار أحدهم ويُعيّنه مكانه، كي يتسنّى للآخرين الرجوع إليه في المشكلات أو المعضلات، وقِس على هذا…

الإسلامُ دينٌ قوامهُ الفطرة، وذلك بنصّ القرآن الحكيم والسُنّة النبويّة، وهو نظام اجتماعي، يُدركه كلّ مَن له إلمام بهذا الدين، ومَن ليس له صلة به، والعنايةُ الخاصّة التي قد بذلها الله جلّ وعَلا، ونبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله) لهذا الدين الجامع، لا ينكرها أحد، ولا يسعنا مقارنته مع أيّ شيء آخر.

فالنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان لا يترك المجتمع الذي دخلَ في الإسلام، أو المجتمع الذي قد سيطرَ عليه الإسلام، وكذا كلّ بلدةٍ أو قرية كانت تقع تحت إمرة المسلمين، دون أن يرسل إليها والياً أو عاملاً في وقت مُبكّر، كي يُدير شؤون تلك المجتمعات أو البقاع، وكان هذا دَأب النبي (صلّى الله عليه وآله) في الجهاد، فعندما كان يرسل كتيبة إلى مكانٍ ما، كان يُعيّن قائداً لها، وكان يُعيّن أكثر من قائد أحياناً، كما حدثَ ذلك في حرب (مؤتة) ، إذ عيّنَ (صلّى الله عليه وآله) أربعة، فإذا ما قُتل الأوّل، استخلفهُ الثاني من بعده،

١٥٢

وإذا ما قُتل الثاني، استخلفهُ الثالث… وهكذا.

وقد أبدى الإسلام عنايته بموضوع الخلافة والاستخلاف عناية تامّة، فلم يتغافل عن هذا الموضوع، ومتى ما أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يترك المدينة، كان يستخلف أحداً.

وفي الوقت الذي أراد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الهجرة من مكّة إلى المدينة، عيّن عليّاً خليفة له في مكّة، للقيام بالأعمال الخاصّة به لفترة قصيرة، كأداء الأمانات إلى أهلها، وقد أوصى (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) أن يقوم بأداء الديون وما يتعلّق بشؤونه الخاصّة، بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله).

ووفقاً لهذه القاعدة، فإنّ الشيعة تدّعي أنّه لن يُتصوّر أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قُبيل وفاته، لم يوصِ لأحد يستخلفه في شؤون الأُمّة من بعده، أو أنّه لم يُعيّن شخصاً يقوم بإدارة المملكة الإسلاميّة.

وليس هناك من شكّ، والفطرة الإنسانيّة تقرّ بذلك: بأنّ نشوء مجتمع يرتبط بمجموعة من عادات وتقاليد مشتركة تقرّها أكثريّة ساحقة لذلك المجتمع، وكذا يرتبط بقاؤها ودوامها بحكومة عادلة تتبنّى إجراء تلك العادات والتقاليد إجراءً كاملاً، وهذا الأمر لا يخفى على الشخص اللبيب أو أن يتغافل عنه، في حين أنّه ليس هناك مجال للشك في الشريعة الإسلاميّة، بما فيها من دقّة ونظام، ولِمَا كان يُبديه النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله) من احترام وتقدير لتلك الشريعة، إذ كان يُضحّي بما في وسعه في سبيلها، أن يهمل الموضوع أو يتركه، عِلماً بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان نابغة زمانه، في قوّة تفكّره، وفراسته وتدبيره (فضلاً عن ملازمات الوحي والنبوّة وما تتبعها من تأييدات).

وكما نجد في الأخبار المتواترة عن طريق العامّة والخاصّة، في كُتب الأحاديث والروايات (باب الفتن وغيرها)، أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يُنبئ بالفتن والمِحن التي ستلاقيها الأُمّة الإسلاميّة بعده، وما يشوب الإسلام من فساد، كحكومة آل مروان وغيرهم، الذين غيّروا وحرّفوا الشريعة السمحاء، فكيف

١٥٣

مَن يهتمّ بأمورٍ تحدث بعد سنوات عديدة متأخّرة عن وفاته، وما تنطوي عليها من فِتن ومصائب، يتغافل عن موضوع يحدث بُعيد وفاته، وفي الأيّام الأُوَل بعد رحلته (صلّى الله عليه وآله)؟! ولا يُبدي عنايته لموضوعٍ خطير من جهة، وبسيط من جهةٍ أخرى، في حين كان يُبدي اهتمامه لأبسط الأمور الاعتياديّة: كالأكل، والشرب، والنوم وما شاكل، فنجدهُ يُصدر الأوامر اللازمة لهذه المسائل الطبيعيّة، فكيف لا يُبدي اهتماماً لمسائل أساسيّة هامّة أو أن يختار الصمت إزاءها، ولا يُعيّن أحداً مكانه؟

وعلى فرض المحال، لو كان تعيين القائد لمجتمع إسلامي في الشريعة الإسلاميّة، منوطاً بالمجتمع نفسه، لكانَ لزاماً على النبي (صلّى الله عليه وآله)، أن يُصرِّح في هذا الخصوص ويشير إليه إشارة وافية، ويُعطي الأُمّة الإرشادات اللازمة، كي تصبح واعية أمام موضوعَ يضمن لها تقدّمها وتكاملها، ويتوقّف عليه شعائر دينها.

في حين أنّنا لم نجد مثل هذا التصريح، ولو كان هناك نصٌّ صريح لمَا خالفهُ مَن جاء من بعده؛ وذلك ما حدثَ من الخليفة الأوّل، وانتقال الخلافة إلى الثاني بوصيّة منه، والرابع أوصى لابنه، أمّا الخليفة الثاني فقد دفعَ الثالث إلى منصّة الخلافة بحُجّة أنّه أحالَ الأمر من بعده إلى شورى تتضمّن ستّة أعضاء، وقد عيّن هؤلاء الأعضاء، وكذا كيفيّة انتخابهم.

أمّا معاوية، فقد استعمل الشدّة في صُلح الإمام الحسن (عليه السلام)، واستتبّ لهُ الأمر، وبعدها صارت الخلافة وراثيّة، وتغيّرت الشعائر الدينيّة من: جهادٍ، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن المنكر، وإقامة الحدود وغيرها، كلّ هذه قد زالت عن المجتمع الإسلامي، فأضحَت جهود الشارع هباءً (١) .

____________________

(١) فيما يتعلّق بموضوع الإمامة وخلافة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والحكومة الإسلاميّة، تراجَع المصادر التالية: تاريخ اليعقوبي ج٢: ٢٦ - ٦١، السيرة لابن هشام ج٢: ٢٢٣ - ٢٧١.

تاريخ أبي الفداء ج١: ١٢٦، غاية المرام: ص ٦٦٤ نقلاً عن مسند أحمد وغيرها.

١٥٤

أمّا الشيعة، فقد حَصلت على هذه النتيجة خلال البحث والدراسة في الدرك الفطري للإنسان، والسيرة المستمرّة للعقلاء، وبالتعمّق والفحص في الأُسس الأساسيّة للشريعة الإسلاميّة التي مرامها إحياء هذه الفطرة الإنسانيّة، وبالتأمّل في الحياة الاجتماعيّة التي كان ينهجها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) - وكذا بدراسته الحوادث المؤسفة التي حَدثت بعد وفاته، والتي عانَت الأُمّة الإسلاميّة منها عناءً بالغاً، ودراسة وضع الحكومات الإسلاميّة في القرن الأوّل، وما لازَمها من قصور عن أداء وظائفهم - تصل إلى هذه النتيجة.

إنّ هناك نصوصاً كافية قد صُرّحت من قِبَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في خصوص تعيين إمام وخليفة من بعده، وإنّ الآيات والأخبار المتواترة القطعيّة تشير إلى هذا المعنى: كآية الولاية، وحديث غدير خُم (١)، وحديث السفينة، وحديث الثقلين، وحديث الحقّ، وحديث المنزلة، وحديث دعوة العشيرة الأقرَبين وغيرها، ولكنّ المراد من الآيات والأحاديث الآنفة الذكر قد أُوِّلَ وحُرِّف لأسبابٍ ودواعٍ.

____________________

(١) ويُستدلّ بآياتٍ من الذكر الحكيم لإثبات خلافة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) منها الآية: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

اتّفق المفسّرون شيعةً وسُنّة، أنّ الآية المذكورة نَزَلت في شأن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وتؤيّد ذلك المزيد من الروايات عن طريق العامّة والخاصّة.

وممّا يُنقل عن أبي ذر الغفاري أنّه قال: (صلّيتُ مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً من الأيّام صلاة الظهر، فسألَ سائل في المسجد فلم يُعطه أحد، فرفعَ السائل يده إلى السماء وقال: اللهمّ اشهد أنّي سألتُ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم يُعطني أحد شيئاً، وكان عليّ راكعاً وأومى إليه بخُنصره اليمنى، وكان يتختّم فيها، فأقبلَ السائل حتّى أخذَ الخاتم من خُنصره، وذلك بعين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فلمّا فرغَ من صلاته، رفعَ رأسه إلى السماء وقال:

(اللهمّ سألك موسى فقال: ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، فأنزلتَ عليه قرآناً ناطقاً: ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ) .

اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللهمّ واشرَح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً، أشدُد به ظهري).

قال أبو ذر: فو الله ما استتمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الكلمة، حتّى نزلَ عليه جبرئيل (عليه السلام) من عند الله تعالى، فقال: (يا محمّد، اقرأ، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): وما أقرأ؟ قال جبرئيل (عليه السلام): اقرأ: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ). =

١٥٥

____________________

= ومن الآيات التي يُستدلّ بها على خلافة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هي الآية: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) .

والآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) الآية ٦ من سورة المائدة.

فظاهرُ الآية يدلّ على أنّ الكفّار كانوا يأملون في انتهاء الدعوة الإسلاميّة وزوال معالِمها، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد أبدلَ أُمنيّاتهم إلى يأس بالآية المذكورة، لقد أكملَ دينهُ وقوّم بنيانه، وربّما لم يكن الأمر هذا من الأحكام الجزئيّة في الإسلام، بل أمرٌ ينطوي على أهميّة خاصّة يعتمد عليه بقاء الإسلام واستمراره.

لعلّ ظاهر الآية هذه يرتبط بالآية الأخيرة من السورة ذاتها: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) الآية ٧٢ من سورة المائدة.

تدلّ هذه الآية: على أنّ هناك أمراً خطيراً، أُنذرَ به الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لابدّ من تحقّقه، فإذا ما أهملَ فيه، فإنّ رسالة الإسلام وأهدافه ستتعرّض للخطر، والأمر بما ينطوي عليه من أهميّة خاصّة، فإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يخشى المعارضة من قِبَل المخالفين، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لبيانه وإظهاره، لذا كان يؤجّل إعلان الأمر للأُمّة الإسلاميّة، حتّى نزلَ الوحي من السماء، يَطلب فيها ربّ العالمين من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) أن يُبادر في إعلانه دون تأمّل وتهاون، وألاّ يخشى أحداً سوى الله جلّ وعَلا.

فالموضوع هذا لم يكن من نسخ الأحكام؛ لأنّ عدم تبليغ الأحكام الإسلاميّة أو إعلان ثلّة منه، لا يَعني تزلزل الكيان الإسلامي بأسره، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان يخشى من تبيان الأحكام الإسلاميّة للأُمّة الإسلاميّة.

فهذه الشواهد والقرائن، تؤيِّد الأخبار أنّ الآيات التي ذُكرت، قد نَزلت في غدير خُم في شأن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأيّده الكثير من المفسّرين من إخواننا أهل السُنّة.

وممّا يُروى عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعا الناس إلى علي (عليه السلام) في غدير خُم، فأخذَ بضبعيه فَرَفعهما، حتّى نظرَ الناس إلى بياض إبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثُمّ لم يفترقوا حتّى نَزَلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، والولاية لعلي من بعدي، ثُمّ قال: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مَن نصرهُ، واخذُل مَن خَذلهُ) غاية المرام: البحراني صفحة ٣٣٦.

وقد ذُكرت ستّة أحاديث عن طُرق العامّة، وخمسة عشر حديثاً عن طُرق الخاصّة في شأن نزول الآية المذكورة. =

١٥٦

____________________

= وصَفوةُ القول: إنّ أعداء الإسلام - الذين طالما حاولوا الإطاحة بالإسلام وقِيمه، وتناولوا شتّى الوسائل لهذا الغرض - باءت محاولاتهم هذه بالفشل، وقد خيّمَ اليأس عليهم، فأصبحوا متربّصين للأمر، وبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يُعتبر حافظاً للإسلام وحارساً له، وبوفاته يتزلزل قوام الإسلام، وتنهدم أركانه، إلاّ أنّ هذه الأُمنيات فُنِّدت في يوم غدير خُم، إذ أعلنَ نبيّ الإسلام أنّ عليّاً خليفتهُ ووصيّهُ الذي سيستخلفهُ للحفاظ على كيان الإسلام فعرّفهُ للأُمّة، وبعد عليّ أُنيطت هذه المسؤوليّة الخطيرة لآل علي. ولمزيدٍ من الاطّلاع يُراجع: تفسير الميزان، الجزء الخامس صفحة ١٧٧ - ٢١٤، والجزء السادس صفحة ٥٠ - ٦٤، من مصنّفات مؤلِّف هذا الكتاب.

حديثُ الغدير: عند عودة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من حَجّة الوداع، مكثَ في مكانٍ يُدعى (غدير خُم) ، فأمرَ أن يُجمع المسلمون العائدون من الحجّ، فاجتمعوا فخطبَ فيهم، ونَصّبَ عليّاً قائداً للأُمّة الإسلاميّة من بعده، فأعطاهُ الولاية، وجَعلهُ خليفة للمسلمين من بعده.

عن البرّاء قال: كنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حَجّة الوداع، فلمّا أتينا على غدير خُم، كَشحَ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت شجرتين ونوديَ في الناس: الصلاة جامعة، ودعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً، وأخذَ بيده فأقامهُ عن يمينه، فقال: (ألستُ أولى بكلّ امرئٍ من نفسه، قالوا: بلى، قال: فإنّ هذا مولى مَن أنا مولاهُ، اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه)، فلقيهُ عُمر بن الخطّاب فقال: (هنيئاً لك، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة).

البداية والنهاية ج٥: ٢٠٨، و ج٧: ٣٤٦، ذخائر العقبى للطبري، طبع القاهرة ١٣٥٦ صفحة ٦٧، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ ج٢: ٢٣، وقد جاء هذا الحديث في كلّ من: الخصائص للنسائي، طبع النجف ١٣٦٩ صفحة ٣١، وغايةُ المرام للبحراني: صفحة ٧٩، عن ٨٩ طريقاً من العامّة، و٤٣ طريقاً من الخاصّة.

حديثُ السفينة: عن ابن عبّاس (رضي الله عنهما) قال، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مَثلُ أهل بيتي كسفينة نوح، مَن رَكبها نجا، ومَن تعلّقَ بها فازَ، ومَن تَخلّف عنها غَرق)، ذخائر العقبى: صفحة ٢٠، الصواعق المُحرقة لابن حجر: طبع القاهرة، صفحة ٨٤ و ١٥٠، تاريخ الخلفاء للسيوطي: صفحة ٣٠٧، كتاب نور الأبصار للشبلنجي: طبع مصر، صفحة ١١٤، غاية المرام للبحراني: صفحة ٢٣٧، وقد جاء الحديث المذكور في هذه الكُتب بأحد عشر طريقاً من العامّة، وسبعة طُرق من الخاصّة.

حديثُ الثَقَلين: عن زيد بن أرقم قال، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كأنّي قد دُعيتُ فأجَبتُ، إنّي قد تركتُ فيكم الثَقلين: كتابُ الله، وعِترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تُخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يَفترقا حتّى يَردا عليّ الحوض). البداية والنهاية ج٥: ٢٠٩، ذخائر العقبى: صفحة ١٦، الفصول المهمّة: صفحة ٢٢، الخصائص: صفحة ٣٠، الصواعق المحرقة: صفحة ١٤٧، وقد نُقل هذا الحديث في غاية المرام عن العامّة والخاصّة، ٣٩ طريقاً عن العامّة، و٨٢ طريقاً عن الخاصّة.

=

١٥٧

٣. تأييدٌ للأقوال السابقة

كانت أُخريات أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والتي قد مرضَ فيها، وهناك جمعٌ من الصحابة قد حضروا عنده، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

(هَلمّوا أكتُب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدهُ أبداً).

____________________

= وحديث الثقلين هذا، يُعتبر من الأحاديث القطعيّة، ورويَ بأسانيد كثيرة وبعبارات مختلفة وأنّه متّفق على صحّته، سُنّة وشيعة، ويستفاد من الحديث المذكور ونظائره، أمورٌ منها:

١) لو بقيَ القرآن بين الناس حتّى قيام الساعة، فالعترةُ باقية أيضاً، أي لا يخلو زمنٍ من وجود إمام وقائد حقيقي للأُمّة.

٢) لقد قدّمَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن طريق هاتين الأمانتين، كلّ ما يحتاج إليه المسلمون من الناحية العلميّة والدينيّة، وعرّف أهل بيته مرجعاً علميّاً ودينيّاً للأُمّة الإسلاميّة، وأيّد أقوالهم وأعمالهم تأييداً مطلقاً.

٣) لا يفترق القرآن عن أهل البيت، ولا يحقّ لمسلم أن يبتعد عنهم، تاركاً نهجهم وإرشادهم.

٤) لو أطاع الناس أهل البيت وتمسّكوا بأقوالهم، لن يضلّوا، وسوف يكون الحقّ حليفاً لهم.

٥) كلّ ما يحتاج إليه الناس من علوم ومسائل دينيّة، فهي موجودة لدى أهل البيت، وكلّ مَن يُتابع طريقهم، لن يضلّ ولن يَهلك، وينال السعادة الحقيقيّة، أي أنّ أهل البيت مصونون من الاشتباه والخطأ، وبهذه القرينة: يتّضح أنّ المراد من أهل البيت والعترة، ليس كلّ أقرباء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأولاده، بل المراد عدّة معدودة منهم، وهم الذين قد نالوا المقام الأسمى من العلوم الدينيّة، ولم يعترهم الخطأ والنسيان، كي تتوفّر لديهم صلاحيّة القيادة للأُمّة، وهم: عليّ بن أبي طالب، والأحد عشر من وِلده، فإنّ مقام الإمامة لهم الواحد بعد الآخر، كما تشير الروايات إلى هذا المعنى.

١٥٨

قال بعضهم: إنّ رسول الله قد غَلبهُ الوَجع وعندكم القرآن، حَسبُنا كتاب الله، فاختلفَ الحضور بالبيت واختصموا، فمنهم مَن يقول: قَرّبوا يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم مَن يقول غير ذلك، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (قُوموا) (١) .

معَ ما تقدّم من البحث، ومع الالتفات إلى أنّ الذين مانعوا من تدوين كلمة الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، هم أنفسهم قد حَظوا في اليوم التالي بالخلافة الانتخابيّة، وكان الانتخاب دون علم عليّ (عليه السلام) وأصحابه، فجعلوهم أمام أمرٍ واقع، وهل هناك شكّ في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يريد تعيين علي، ليجعله خليفة له من بعده؟

وما كان الهدف من المعارَضة إلاّ جَعل المحيط مضطرباً، يقضي بانصراف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن الأمر، ولم يكن الغرض اتّصاف النبيّ بالهَذَيان، وغَلَبة المرض عليه، وذلك لأسبابٍ:

أوّلاً: فضلاً من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) طوال فترة مرضه، لم يُسمع منه كلام لا يُليق بمقامه، ولم ينقل أحد هذا المعنى، فإنّه لا يحقّ لمسلم - وفقاً للموازين الدينيّة - أن ينسب إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الهَذَيان والكلام العبث، عِلماً بأنّه (صلّى الله عليه وآله) مصونٌ ومعصوم من قِبَل الله تعالى.

ثانياً: لو كان المراد من الكلام المعنى الحقيقي له، فلا حاجة إلى ذِكر العبارة التي تلتها (كفانا كتاب الله)، إذ لو كان المراد نسبة الهذَيان إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لكفى ذِكر مرضهِ، لا أن يؤيَّد القرآن، ويُنفى قول الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهذا الأمر لا يخفى على رجلٍ صحابي: من أنّ القرآن الكريم قد فرضَ على الأُمّة الإسلاميّة اتّباع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وأنّهُ مفروض الطاعة، وكلامه عِدلٌ للقرآن، والناس ليس لهم أيّ اجتهادٍ أو اختيار أمام حُكم الله ورسوله.

____________________

(١) البداية والنهاية ج٥: ٢٢٧، شرحُ ابن أبي الحديد ج١: ١٣٣، الكامل في التاريخ ج٢: ٢١٧، تاريخ الرُسل والمُلوك للطبري ج٢: ٤٣٦.

١٥٩

ثالثاً: إنّ ما حَدثَ في مرض الرسول (صلّى الله عليه وآله)، قد حدَث أيضاً في مرض الخليفة الأوّل، عندما كان يوصي إلى الخليفة الثاني من بعده، وعثمان حاضر يُحرِّر ما يُملي عليه الخليفة الأوّل، إذ أُغميَ على الخليفة، والخليفة الثاني لم يَعترض عليه كما اعترضَ على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) (١) .

وفضلاً عن هذا كلّه، فإنّ الخليفة الثاني قد اعترفَ في حديثٍ له لابن عبّاس قائلاً (٢) : إنّني أدركتُ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يريد أن يوصي لعلي، إلاّ أنّ مصلحة المسلمين كانت تستدعي ذلك، ويقول أيضاً: إنّ الخلافة كانت لعلي (٣) ، فإذا ما كانت الخلافة صائرة إليه، لفُرض على الناس اتّباع الحقّ، ولم تَرضخ قريش لهذا الأمر، فرأيتُ من المصلحة ألاّ ينالها، ونحّيتهُ عنها.

عِلماً بأنّ الموازين الدينيّة تُصرِّح أنّ المتخلِّف عن الحقّ يجب أن يعود إليه، لا أن يترك الحقّ لصالح المُتخلِّف.

وممّا تتناقلهُ كُتب التاريخ: أنّ الخليفة الأوّل أمرَ بمحاربة القبائل المسلمة التي امتنعت من إعطاء الزكاة، قال: (والله، لو مَنعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لأُقاتلنّهم على منعهِ) (٤) .

والمراد من هذا القول: هو أنّ إقامة الحقّ وإحيائه واجب مهما بلغَ الثمن، وبديهي أنّ موضوع الخلافة حقّ أيضاً إلاّ أنّه أغلى من العِقال وأثمن.

٤. الإمامةُ في العلوم التشريعيّة

أشرنا في الفصول المتقدّمة، في معرفة النبيّ (الرسول) وقلنا: وفقاً للقانون الثابت والضروري للهداية العامّة، أنّ أيّ نوعٍ من أنواع الكائنات يسير نحو الكمال والسعادة المناسبة له، وذلك عن طريق الفطرة والتكوين.

____________________

(١) الكامل لابن الأثير ج٢: ٢٩٢.

(٢) شرحُ ابن أبي الحديد ج٢: ١٣٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٣٧.

(٤) البداية والنهاية ج٦: ٣١١.

١٦٠

والإنسان أيضاً أحد أنواع هذه الكائنات لا يُستثنى من القانون العام، و يجب أن يُرشَد إلى طريق خاصّ في حياته، تَضمن له سعادته في الدنيا والآخرة، وذلك عن طريق الغريزة المتّصفة بالنظرة الواقعيّة للحياة، والتأمّل في حياته الاجتماعيّة، وبعبارةٍ أخرى: يجب أن يُدرِك مجموعة من معتقدات ووظائف عمليّة، كي يجعلها أساساً له في حياته ليصل بها إلى السعادة والكمال المنشود، وقلنا: إنّ المنهاج للحياة - وهو ما يسمّى بالدين - لا يتأتّى عن طريق العقل، بل هو طريق آخر يُدعى الوحي والنبوّة، والتي تظهر في بعضٍ من أولياء الله الصالحين وهم: الأنبياء، ورُسل السماء .

فالأنبياءُ قد أُنيطت بهم مسؤوليّة هداية الناس عن طريق الوحي من الله تعالى، فإذا ما التزموا بتلك الأوامر والنواهي، ضَمنوا السعادة لهم.

يتّضح أنّ هذا الدليل، فضلاً عن أنّه يُثبت ولزوم مثل هذا الإدراك بين أبناء البشر، يُثبت أيضاً لزوم وضرورة وجود أفراد حَفَظة على هذا البرنامج، وإيصاله إلى الناس إذا اقتضت الضرورة ذلك.

وكذا يستلزم وجود أشخاص قد أدركوا الواجبات الإنسانيّة، وذلك عن طريق الوحي، وهم بدورهم ينهضون بتعليم المجتمع، كما يجب أن تبقى هذه الواجبات السماويّة مادام الإنسان حيّاً، وتُعرض عليه عند الضرورة.

فالذي يتحمّل عِبء هذه المسؤوليّة يُعتبر حامياً للدين الإلهي، ويُعيّن من قِبَل الله تعالى، وهو مَن يُسمّى بـ (الإمام) ، كما يُدعى حامل الوحي الإلهي والشرائع السماويّة بـ (النبي) ، وهو من قِبَل الله تعالى أيضاً.

يَتّفق أن تكون النبوّة والإمامة في شخصٍ واحد، وقد لا يتحقّق ذلك، فكما أنّ الدليل المتقدِّم يُثبت عصمة الأنبياء، يُثبت عصمة الأئمّة أيضاً.

إذ تقتضي رحمة الله وعطفه، أن يضع الدين الحقيقي غير المحرّف في متناول أيدي البشر دوماً، ولا يتحقّق هذا الأمر دون أن تكون هناك عصمة.

١٦١

5. الفرقُ بين النبيّ والإمام

إنّ تسلّم الأحكام والشرائع السماويّة، والتي تتمّ بواسطة الأنبياء، إنّما يُثبت لنا موضوع (الوحي)، وهذا ما مرّ علينا في الفصل المتقدّم، وليس فيه ما يؤيّد استمراريّتهُ وبقاءه على خلاف الحافظ والحامي الذي يُعتبر أمراً مستمرّاً، ومن هنا نصل إلى نتيجة أنّ ليس هناك ضرورة أن يكون نبيّ بين الناس بصورة مستمرّة، لكن يستلزم أن يكون إمام بينهم، ويستحيل على مجتمع بشري أن يخلو من وجود إمام سواء عرفوه أم لم يعرفوه، وقد أشار الحكيم في كتابه: ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ) (1).

فكما أشرنا، يتّفق أن تجتمع النبوّة والإمامة في شخصٍ واحد، فيمتاز بالمقامين: النبوّة، والإمامة (تَسلُّم الشريعة والاحتفاظ بها والسعي في نشرها) وقد لا تجتمع في واحد، وهناك أدوار من الزمن خَلت من وجود الأنبياء، إلاّ أنّ هناك إمام حقّ في كلّ عصر، ومن البديهي أنّ عدد الأنبياء محدود، ولم يظهروا في جميع الأدوار التي مرّت بها البشريّة.

يُشير الحكيم في كتابه المُبين إلى بعض الأنبياء الذين امتازوا بصفة الإمامة أيضاً، كما في إبراهيم (عليه السلام) إذ يقول: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2).

وكذا قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (3) .

____________________

(1) سورة الأنعام: الآية 89.

(2) سورة البقرة: الآية 124.

(3) سورة الأنبياء: الآية 73.

١٦٢

6. الإمامةُ في باطن الأعمال

كما أنّ الإمام قائد وزعيم للأُمّة بالنسبة للظاهر من الأعمال، فهو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الأعمال أيضاً، فهو المُسيّر والقائد للإنسانيّة من الناحية المعنويّة نحو خالق الكون وموجِده.

لكي تتّضح هذه الحقيقة لابدّ من مراعاة المقدّمتين التاليتين:

أوّلاً: ليس هناك من شكّ أو تردّد في أنّ الإسلام وسائر الأديان السماويّة، تُصرِّح بأنّ الطريق الوحيد لسعادة الإنسان أو شقائه هو: ما يقوم به من أعمال حَسنة أو سيّئة، فالدين يُرشده، كما أنّ فطرتهُ وهي الفطرة الإلهيّة تهديه إلى إدراك الحَسن والقبيح.

فالله سبحانه يُبيّن هذه الأعمال عن طريق الوحي والنبوّة، ووفقاً لسعة فكرنا نحن البشر، وبلُغة نفهمها ونَعيها، بصورة الأمر والنهي والتحسين والتقبيح في قبال الطاعة أو التمرّد والعصيان، يُبشّر الصالحين والمطيعين بحياة سعيدة خالدة، وقد احتوت على كلّ ما تصبو إليه البشريّة من حيث الكمال والسعادة، ويُنذر المسيئين والظالمين بحياة شقيّة خالدة، وقد انطوت على البؤس والحرمان.

وليس هناك أدنى شكّ من أنّ الله تعالى يفوق تصوّرنا وما يجول في أذهاننا، ولكنّه لم يتّصف بصفة البشر من حيث التفكير.

١٦٣

وليس لهذه الاتّفاقيّة أن يكون هناك سيّد ومَسود، وقائد ومَقود، وأمر ونهي، وثواب وعقاب، واقع خارجي سوى في حياتنا الاجتماعيّة، أمّا الجهاز الإلهي فهو الجهاز الكوني الذي يربط حياة كلّ مخلوقٍ وكائن بالله الخالق ربطاً وثيقاً.

وممّا يستفاد من القرآن الكريم (1) ، وأقوال النبي العظيم (صلّى الله عليه وآله)، الدين يشتمل على حقائق ومعارف تفوق فهمنا وإدراكنا الاعتيادي، وأنّ الله جلّ شأنه قد أنزَلها إلينا بتعبيرٍ بسيط يلائم تفكيرنا، كي يتسنّى لنا فهمها وإدراكها.

يُستنتج ممّا تقدّم: أنّ هناك ارتباطاً بين الأعمال الحَسنة والسيّئة من جهة، والحياة الأخرى بما تمتاز به من خصائص وصفات من جهةٍ أخرى، ارتباطاً واقعيّاً، تكشف عن سعادة أو شقاء.

وبعبارةٍ أوضح: إنّ كلّ عملٍ من الأعمال الحسنة والسيّئة تُولِّد في الإنسان واقعيّة، والحياة الأخرويّة ترتبط بهذه الواقعيّة ارتباطاً وثيقاً.

إنّ الإنسان في حياته يشبه الطفل، سواء شَعرَ بهذا الأمر أو لم يشعر، حيث تُلازمه شؤون تربويّة، فهو يُدرك ما يُملي عليه مربّيه بألفاظ الأمر والنهي، لكنّه كلّما تقدّم في العمر استطاع أن يُدرك ما قالهُ مربّيه، فينال بذلك الحياة السعيدة، وما ذلك إلاّ بما اتّصف به من مَلَكات، وإذا ما رفضَ وعصى معلِّمه الذي كان يسعى له بالصلاح، نجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.

فالإنسانُ يشبه المريض الذي دأبَ على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء، أو رياضة خاصّة، فهو لم يُبالِ إلاّ بما أملاهُ عليه طبيبه، فعندئذٍ يجد الراحة والصحّة ويحسّ بتحسّن صحّته.

____________________

(1) ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) سورة الزُخرف: الآية 4.

١٦٤

وصفوةُ القول: إنّ الإنسان يتّصف بحياة باطنيّة غير الحياة الظاهريّة التي يعيشها، والتي تنبع من أعماله، وترتبط حياته الأخرويّة بهذه الأعمال والأفعال التي يمارسها في حياته هنا.

إنّ القرآن الكريم يُثبت هذا البيان العقلي، ويُثبت في الكثير من آياته (1) ، بأنّ هناك حياة أسمى وروحاً أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين، ويؤكِّد على أنّ نتائج الأعمال الباطنيّة تُلازم الإنسان دوماً، والنبيّ العظيم قد أشار إلى هذا المعنى أيضاً في الكثير من أقواله (2) .

____________________

(1) مثل هذه الآية: ( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) سورة ق: الآية 21.

والآية: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) سورة النحل: الآية 97.

( اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) سورة الأنفال: الآية 34.

وفي سورة آل عمران الآية 30: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ) .

والآية: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) سورة يس: الآية 12.

(2) على سبيل المثال: يقول تعالى في حديث المعراج لنبيّه (صلّى الله عليه وآله): (فمَن عملَ برضائي أمنَحهُ ثلاث خِصال: أُعرِّفهُ شكراً لا يُخالطه الجهل، وذِكراً لا يُخالطه النسيان، ومحبّةً لا يُؤثِر على محبّتي محبّة المخلوقين، فإذا أحبّني، أحبَبتهُ، وأفتحُ عين قلبه إلى جلالي، ولا أُخفي عليه خاصّة خَلقي، وأُناجيه في ظُلم الليل ونور النهار حتّى ينقطع حديثهُ مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأُسمعهُ كلامي وكلام ملائكتي، وأُعرِّفهُ السرّ الذي سترتهُ عن خَلقي، وأُلبِسهُ الحياء حتّى يستحي منه الخلق، ويمشي على الأرض مغفوراً لهُ، وأجعلُ قلبهُ واعياً وبصيراً، ولا أُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار، وأُعرِّفهُ ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة)، بحار الأنوار ج17: 9.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (استقبلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنتَ يا حارثة بن مالك؟ فقال: يا رسول الله، مؤمن حقّاً. فقال لهُ رسول الله: لكلّ شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول الله، عَزَفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ هواجري، فكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضِعَ الحساب، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورونَ في الجنّة، وكأنّي أسمعُ عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله: عبدٌ نوّر الله قلبه) الوافي: الجزء الثالث، صفحة 33.

١٦٥

ثانياً: كثيراً ما يحدُث أن يَرشد شخصٌ أحداً بعملٍ حَسن دون أن يلتزم هو بذلك العمل، في حين أنّ الأنبياء والأئمّة الأطهار ترتبط هدايتهم للبشر بالله جلّ وعَلا، ويستحيل أن يُشاهَد عندهم هذه الحالة، وهو عدم الالتزام بالقول أو العمل به، فهم العاملون بمبادئ الدين الذي هم قادتهُ وأئمّته، وإنّهم متّصفون بروح معنويّة سامية، يُرشدون بها الناس، ويهدونهم إلى الطريق القويم.

فلو أراد الله سبحانه أن يَجعل هداية أُمّة على يد فردٍ من أفرادها، أن يُربّي ذلك الفرد تربية صالحة تؤهّله للقيادة والإمامة، ولن تجد لسُنّة الله تبديلاً.

ممّا تقدّم نستطيع أن نحصل على النتائج التالية:

1) إنّ النبيّ أو الإمام لكلّ أُمّة، يمتاز بسموّ روحي وحياة معنويّة رفيعة، وهو يروم هداية الناس إلى هذه الحياة.

2) بما أنّهم قادة وأئمّة لجميع أفراد ذلك المجتمع، فهم أفضل من سواهم.

3) إنّ الذي يَصبح قائداً للأُمّة بأمرٍ من الله تعالى، فهو قائد للحياة الظاهريّة والحياة المعنويّة معاً، وما يتعلّق بهما من أعمال تسير مع سيره ونهجه (1) .

____________________

(1) ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) سورة الأنبياء: الآية 73.

( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) سورة السجدة: الآية 24.

ويُستفاد من الآيات المتقدّمة وما شابهها: أنّ الإمام - فضلاً عن الإرشاد والهداية الظاهريّة - يختصّ بنوعٍ من الهداية المعنويّة، ويُعتبر من سِنخ عالَم الأمر والتجرّد، فهو بواسطة الحقيقة والنور الباطني الذي يتّصف به، يستطيع أن يؤثِّر في القلوب المهيّأة، وأن يتصرّف بها كيفما شاء، ويُسيّرها نحو مراتب الكمال والغاية المتوخّاة، فتأمّل.

١٦٦

7. أئمّةُ الإسلام وقادتهُ

وممّا تقدّم يُستنتج: أنّ بعد وفاة الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، ما زال ولا يزال إمام مُعيّن من قِبَل الله تعالى في الأُمّة الإسلاميّة.

وهناك مزيدٌ من الأحاديث النبويّة (1) في وصف الأئمّة وعددهم، وأنّهم من قريش ومن أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّ منهم الإمام المهدي وهو آخرهم.

وهناك نصوص صريحة (2) أيضاً من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) في إمامة علي (عليه السلام)، وأنّه الإمام الأوّل، وهكذا روايات وأحاديث أخرى عنه (صلّى الله عليه وآله) وعن

____________________

(1) على سبيل المثال: عن جابر بن سَمَرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، قال: فكبّرَ الناس وضجّوا، ثُمّ قال كلمة خفيّة، قلتُ لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال، قال: كلّهم من قريش…) صحيح أبي داود ج2: 207، مسند أحمد ج5: 92 وأحاديث أخرى بهذا المضمون.

عن سلمان الفارسي قال: دخلتُ على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فإذا الحسين على فخذيه، وهو يُقبِّل عينهُ ويقبِّل فاه ويقول: (أنت سيّد ابن سيّد، وأنتَ إمام ابن إمام، وأنت حُجّة ابن حُجّة، وأنت أبو حُجج تسعة، تاسعهم قائمهم) ينابيع المودّة: الطبعة السابعة، صفحة 308.

(2) يُراجع: كتاب الغدير: تأليف العلاّمة الأميني، وكتاب غايةُ المرام: تأليف السيّد هاشم البحراني، وكتاب الهداة: تأليف محمّد بن حسن الحرّ العاملي، وكتاب ذخائر العقبى: تأليف مُحبّ الدين أحمد بن عبد الله الطبري، وكتاب المناقب للخوارزمي، وكتاب تذكرة الخواص لابن الجوزي، وكتاب ينابيع المودّة لسليمان بن إبراهيم الحنفي، وكتاب الفصول المهمّة لابن الصبّاغ، وكتاب دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري، وكتاب النصّ والاجتهاد لشرف الدين الموسوي، وكتاب أصول الكافي، الجزء الأوّل لمؤلّفه محمد بن يعقوب الكليني، وكتاب الإرشاد للشيخ المفيد.

١٦٧

الإمام علي (عليه السلام) بشأن الإمام الثاني، وهكذا كلّ إمام يُنبئ بالإمام الذي يليه ويأتي بعده.

وبمقتضى هذه النصوص، فإنّ أئمّة الإسلام اثنا عشر بالترتيب التالي:

1 - عليُّ بن أبي طالب.

2 - الحسنُ بن علي.

3 - الحسينُ بن علي.

4 - عليُّ بن الحسين.

5 - محمّد بن علي.

6 - جعفرُ بن محمّد.

7 - موسى بن جعفر.

8 - عليُّ بن موسى.

9 - محمّد بن علي.

10 - عليُّ بن محمّد.

11 - الحسنُ بن علي.

12 - المهديُّ (عليهم السلام أجمعين).

8. موجزٌ عن حياة الأئمّة الاثني عشر:

الإمامُ الأوّل

أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأبو طالب: شيخ بني هاشم وعمّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد ربّى محمّداً في حِجره، وبعد أن بُعث بالرسالة، كان مُدافعاً عنه، يصونهُ من شرّ المشركين وخاصّة قريش.

١٦٨

ولِدَ عليٌّ - على أشهر الروايات - قبل البعثة النبويّة بعشر سنوات، وعندما أصاب مكّة وأطرافها الجَدب، كان عمرهُ آنذاك ست سنوات، فاقترحَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ينتقل من بيت أبيه (أبي طالب) إلى بيت ابن عمّه الرسول العظيم، ليُصبح في كَنَف مُرسل السماء وتحت رعايته (1) .

نالَ محمّد بعد سنواتٍ عدّة مقامَ النبوّة، وقد أوحيَ إليه لأوّل مرّة وهو في غار (حِرَاء) فرجعَ إلى بيته، وأخبرَ عليّاً بما جرى عليه، فآمنَ عليٌ به (2) .

وقد دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشيرته الأقربين إلى دينه الجديد، قائلاً: (مَن يؤازرني على هذا الأمر، يكن وصيّي، ووزيري، ووارثي، وخليفتي من بعدي).

فلم يستجب أحد لهذه الدعوة إلاّ علي، حيث قامَ وقال: (أنا يا رسول الله)، فَقبلَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إيمانه، وأقرّ بما وعدهُ إيّاه (3)، فهو أوّل مَن أسلمَ وقَبِل الإسلام من الرجال وآمنَ به، وهو لم يَعبد إلاّ الله سبحانه.

كان عليٌّ يُرافق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دوماً، إلى أن هاجرَ من مكّة إلى المدينة، وفي ليلة الهجرة، عندما حوصرَ بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكانوا قد جهّزوا الحَملة للهجوم على بيت النبوّة والرسالة، وقَتل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في فراشه، استقرّ عليٌّ في فراش الرسول، وخرجَ الرسول مهاجراً إلى يثرب (4) ، فردّ عليّ الأمانات إلى أهلها حسبَ ما أوصى به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتوجّه إلى يثرب مع أُمّه، وزوجَتي الرسول مع ابنته (5) .

كان عليُّ بن أبي طالب مُلازماً للرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يُفارقه، وزوّجهُ

____________________

(1) الفصول المهمّة: الطبعة الثانية، صفحة 14، المناقب للخوارزمي: صفحة 17.

(2) ذخائر العقبى: طبعة القاهرة سنة 1356، صفحة 58، المناقب للخوارزمي: طبعة النجف سنة 1385، صفحة 16 - 22، ينابيع المودّة: الطبعة السابعة.

(3) الإرشاد للشيخ المفيد: طبع طهران 1377، صفحة 4، ينابيع المودّة: ص122.

(4) الفصول المهمّة: صفحة 28 - 30، تذكرة الخواص: طبع النجف 1383، صفحة 34، ينابيع المودّة: ص 105، المناقب للخوارزمي: ص 73 - 74.

(5) الفصول المهمّة: صفحة 34.

١٦٩

النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابنته فاطمة سلام الله عليها.

لمّا أقامَ النبيّ عَقد الأخوّة وأنشأها بين أصحابه، جَعل عليّاً أخاً له (1) .

كان عليٌّ (عليه السلام) يحضر جميع غَزوات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عدا غزوة تبوك، إذ استخلفهُ الرسول في المدينة (2) ، فلم يتراجع في جميع تلك الغزوات من مواجهة الخصم، ولم يُخالف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أمر، وقد قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقّه (عليه السلام): (عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ) (3) .

كان عمرهُ الشريف يوم توفيَ الرسول العظيم ثلاثاً وثلاثين سنة، فنُحّي عن منصب الخلافة، عِلماً بأنّه كان مناراً لجميع المُثل الإنسانيّة، يمتاز على أقرانه وصحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد تمسّك المخالفون بأعذارٍ منها: أنّه شاب لا تجربة له في الحياة، وأنّه قد قَتلَ صناديد العرب عند محاربة الكفّار وهو في ركاب الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فاستطاعوا بهذه الحُجج الواهية أن يجعلوه بمنأى وبمعزلٍ عن الخلافة، وقيادة شؤون المسلمين العامّة، فانعزلَ عن المجتمع، وأصبحَ جليس داره، وشرعَ بتربية الخاصّة من أصحابه، وبعد مُضي خمس وعشرين سنة، وهي الفترة التي حَكمَ فيها الخلفاء الثلاثة بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبعد مقتل الخليفة الثالث، اتّجهت الأُمّة الإسلاميّة إلى عليّ (عليه السلام) وبايعوه بالخلافة.

كان عليٌّ (عليه السلام) طوال حكومته - والتي لم تدُم أكثر من أربع سنوات وتسعة أشهر - يسير على نهج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واتّصفت خلافته بلونٍ من الثوريّة، إذ قام

____________________

(1) الفصول المهمّة: صفحة 20، تذكرة الخواص: صفحة 20 - 24، ينابيع المودّة: ص 63 - 65.

(2) تذكرة الخواص: صفحة 18، الفصول المهمّة: صفحة 21، المناقب للخوارزمي: صفحة 74.

(3) مناقب آل أبي طالب: تأليف محمّد بن علي بن شهرآشوب، طبع قم، ج3: 62، 218.

غايةُ المرام: صفحة 539، ينابيع المودّة: صفحة 104.

١٧٠

بإصلاحاتٍ أدّت بالإضرار إلى بعض المُنتفعين، فنجد أعلامَ المعارَضة ترتفع، وسيوف المعارِضين تُشهر، يتقدّمهم: طلحة، والزبير، ومعاوية، وعائشة، فجعلوا مقتل عثمان ذريعة لنواياهم السيّئة، فقاموا بأعمال مُضلِّلة.

والإمام عليّ (عليه السلام) استعدّ للحرب للقضاء على هذه الفتنة، وقد جَهّزت أُمّ المؤمنين جيشاً، وكان طلحة والزبير خيرَ مَن يُعينها وينهض معها بالأمر، وقعَ القتال بين الطرفين على مقربة من البصرة، اشتهرت الواقعة بـ (حرب الجَمل) .

وقامَ الإمام أيضاً بحرب مع معاوية في الحدود العراقيّة الشاميّة، عُرفت بـ (حرب صفّين) ، واستغرَقت سنة ونصف السنة، وقامَ بحربٍ مع الخوارج في النهروان، اشتهرت بـ (حرب النهروان) .

ويمكن القول: بأنّ معظم تلك الفترة التي حَكمَ فيها الإمام علي (عليه السلام) قد صُرفت لرفع الاختلافات الداخليّة، وبعدها أُصيبَ بضربةٍ على يد أحد الخوارج في مسجد الكوفة، وذلك صبيحة يوم التاسع عشر من رمضان المبارك لسنة 40 للهجرة، واستشهدَ يوم الواحد والعشرين من الشهر نفسه (1) .

والتأريخ يشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن تنقصهُ صفة من الكمالات الإنسانيّة، ويؤيِّد هذا الإدّعاء كلّ عدوّ وصديق، فكان مَثلاً رائعاً في الفضائل والمُثل الإسلاميّة، ونموذجاً حيّاً كاملاً لتربية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ الكتب التي تناولت هذه الشخصيّة الفذّة، سواء لدى الشيعة أو السُنّة وغيرهم من المحقّقين، لم تتناول أيّة شخصيّة أخرى بهذا القدر في الحياة البشريّة.

كان عليّ (عليه السلام) أعلمُ الصحابة، بل أعلم المسلمين، وهو أوّل مَن فتحَ باب الاستدلال الحرّ في المسائل العلميّة، واستعانَ بالبحوث الفلسفيّة في المعارف الإلهيّة،

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب ج3: 312، الفصول المهمّة: ص 113، تذكرة الخواص: ص 172 - 183.

١٧١

وتكلّم عن باطن القرآن، ووضعَ قواعد اللغة العربيّة حفاظاً على ألفاظ القرآن الحكيم، وكان أفصحُ العرب بياناً، وأبلَغهم خطاباً (كما أشرنا في الفصل الأوّل من الكتاب)، وكان يُضرب به المَثل في شجاعته، ولم يَدع للقلق أو الخوف طريقاً إلى قلبه، في كلّ الغزوات والحروب التي مارسها واشترك فيها.

والتاريخ الإسلامي لا يزال يَحمل في طيّاته خبر الصحابة والمقاتلين في الغزوات، وقد انتابَهم الفزع والخوف، وقد تكرّرت هذه الحالة في أكثر من واقعة، كحرب: (حُنين) ، و (خيبر) ، و (الخندق) ، إذ انهزمَ الجيش أمام الأعداء، ولكنّ الإمام كان يتصدّى لحَملات العدو، ولم يَسلم كلّ مَن نازلَ الإمام من أبطال العرب ومحاربيهم، فكان على العاجز عطوفاً، يترك قتلهُ، ولم يُعقِّب على الفارّ من ساحة الحرب، ولم يُغافل العدو ساعة الهجوم عليه، ولم يقطع الماء على الأعداء.

وممّا اتّفقت عليه كُتب التأريخ: أنّه (عليه السلام) في معركة خيبر، تناولَ حلقة الباب، واقتلعَ الباب وهزّه هزّة، ثُمّ رَمى به جانباً (1) .

وممّا يُنقل أيضاً: يوم فتح مكّة، عندما أمرَ الرسول العظيم تحطيم الأصنام، كان هناك صنم يُدعى (هُبل) أكبر الأصنام وزناً، وأشدّها ضخامة، كان قد وضِع فوق الكعبة، صعدَ عليٌّ على أكتاف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمرٍ منه، ورمى بهُبل إلى الأرض (2) .

لم يكن له نِدٌّ في تقواه وعبادته، وكان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَردّ على الذين يحاولون النيل منه بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تسبّوا عليّاً؛ فإنّه ممسوس في ذات الله) (3) .

وذات يوم، رأى الصحابي الجليل أبو الدرداء عليّاً (عليه السلام) في إحدى ضَيعات المدينة،

____________________

(1) تذكرة الخواص: صفحة 27.

(2) تذكرة الخواص: 27، المناقب للخوارزمي: 71.

(3) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج3: 221.

١٧٢

فظنّ أنّه ميّت لمّا رأى من عدم الحركة وسكون الجسم، فرجعَ مُسرعاً إلى دار فاطمة، أنبأها بالحَدث، وعزّاها بوفاة زوجها، فأجابتهُ فاطمة (عليها السلام) أنّه لم يمُت، بل إنّه مُغشى عليه من شدّة خوفه من الله سبحانه في عبادته وطاعته، وما أكثر ما كانت تنتابهُ هذه الحالة.

وما أكثر القصص والروايات التي تشير إلى رأفته وعطفه بالفقراء والمساكين والمستضعفين، فكان يُنفق ممّا يَحصِل على المحتاجين في سبيل الله تعالى، وهو يعيش عيشة خشنة.

كان يرغب في الزراعة، وغالباً ما كان يهتمّ بحفر الآبار، وعمران الأراضي الموات بتشجيرها، وكان يجعلها وقفاً للفقراء والبائسين.

فكانت تُطلق على هذه الموقوفات (صَدقاتُ عليّ) وكانت لها عوائد جمّة، وكانت تُقدّر هذه الموقوفات بـ(أربعة وعشرين رطلاً ذهباً) في السنوات الأخيرة من عهده (عليه السلام ) (1) .

الإمامُ الثاني

الإمام الحسن المجتبى وأخوه الحسين (عليهما السلام)، وَلَدا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، من فاطمة الزهراء سلام الله عليها، بنت الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله).

وقد قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مراراً: (الحسنُ والحسين وَلَداي)، واحتراماً لهذا القول كان علي (عليه السلام) يقول لوِلده: (أنتم أولادي، والحسنُ والحسين وَلَدا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) (2) .

ولِدَ الحسن (عليه السلام) في المدينة السنة الثالثة من الهجرة، عاصرَ جدّهُ الرسول (صلّى الله عليه وآله)

____________________

(1) نهج البلاغة: الجزء الثالث، الكتاب 24.

(2) مناقب ابن شهر آشوب ج4: 21ـ 25، ذخائر العقبى: صفحة 67، 121.

١٧٣

مدّة تزيد على سبع سنوات، كان يتمتّع برعاية جدّه وعطوفته، وقد توفيت أُمّه فاطمة سيّدة النساء بعد وفاة جدّه، بثلاثة أو ستّة أشهر، فتعهّد والدهُ بتربيته.

وبعد استشهاد أبيه علي (عليه السلام)، نالَ مقام الإمامة الشامخ، وما ذلك إلاّ بأمرٍ من الله العليّ العليم، وعملاً بوصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)، فاحتلّ مقام الخلافة ظاهراً، وعملَ في إدارة المسلمين طوال ستّة أشهر.

جهّزَ معاوية الجيش لمحاربة الحسن، بعد أن قضى فترةً في الحرب مع أبيه الإمام علي (عليه السلام)، وكان من ألدّ أعداء آل علي بعد استشهاد الإمام علي (فحاربَ بحُجّة الثأر بدم عثمان ابتداءً، وبعد ذلك صرّح بالخلافة)، وجّه الجيش إلى الكوفة، حيث مقرّ الخلافة للإمام الحسن (عليه السلام)، واستطاعَ أن يكسب قُوّاد الإمام بالتطميع بالمال، أو الوعد بالمقام والجاه، فأغوَى بهذا عدداً من رؤساء وقوّاد الجيش، تاركينَ خَلفهم إمامهم، مُتّجهين نحو معاوية وثرواته.

وفي نهاية الأمر أُجبرَ الإمام الحسن (عليه السلام) على الصُلح (1) ، وأحالَ الخلافة الظاهريّة - بالشروط التي اشترطها - إلى معاوية، منها: أن تكون الخلافة للحسن بعد وفاة معاوية، وأن يُصان شيعته وعشيرته من أيّ تعرّضٍ أو اعتداء.

وبهذا استطاع معاوية أن يأخذ بزمام الأمور، ثُمّ دَخلَ العراق، وأعلنَ إلغاءه لشروط الصُلح التي أبرَمها بالأمس مع الإمام الحسن، وذلك في اجتماعٍ عام للمسلمين، وأباحَ أقسى أنواع الاضطهاد والشدّة لأهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والشيعة خاصّة.

عاشَ الإمام الحسن طوال مدّة إمامته (عشر سنوات)، حياةً مِلؤها الشدّة والاختناق،

____________________

(1) إرشاد المفيد: 172، مناقب ابن شهرآشوب ج4: 133، الإمامة والسياسة: تأليف عبد الله بن مسلم بن قتيبة ج1: 163، الفصول المهمّة: 145، تذكرة الخواص: 197.

١٧٤

ولم يكن بمأمنٍ حتّى في بيته مع عائلته وأهل بيته، فاستشهدَ على يد زوجته إذ دسّت إليه السمّ بإيعازٍ من معاوية، وذلك سنة 50 للهجرة النبويّة.

كان الحسن مثالاً فذّاً لجدّه (صلّى الله عليه وآله)، ونموذجاً كاملاً للخُلق الأبيّة لأبيه، فكان وأخوهُ الحسين مُلازمين للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وكان يَحملهما على كتفه أحياناً.

وممّا يُروى عن العامّة والخاصّة: أنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: (الحسنُ والحسين إمامان قاما أو قعدا) (إشارة إلى تصدّي الخلافة أو التخلّي عنها)، والروايات عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) متوافرة بإمامة الحسن بعد أبيه (عليهما السلام).

الإمامُ الثالث

الإمامُ الحُسين (سيّد الشهداء): ثاني وِلد علي (عليه السلام)، من فاطمة بنت النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله).

ولِدَ في السنة الرابعة الهجريّة، وبعد استشهاد أخيه الحسن المجتبى، وصَلت إليه الإمامة بأمرٍ من الله جلّ شأنهُ، ووفقاً للوصيّة (1) .

تُعتبر مدّة إمامة الإمام الحسين (عليه السلام) عشر سنوات، عاشها مُضطهداً، سوى الستّة أشهر الأخيرة من عهد معاوية، فأعطت الشعائر الدينيّة محلّها إلى ما كانت تتمنّاه الحكومات من ظلمٍ وجورٍ وفسقٍ وفجور، خلافاً لمَا يريدهُ الله ورسوله، ومعاوية قد استخدمَ شتّى الطُرق والوسائل لتصفية أهل البيت، وكان يستعين بأعوانٍ وأنصار له في تحقّق هذا الأمر، فحاولَ طمس اسم علي وآل علي، ومهّدَ السُبل لخلافة ابنه يزيد، فهيّأ المقدّمات اللازمة التي لابدّ من اتّخاذها لتحكيم الموقف، وإن كانت هناك فئة معارِضة لمَا شاهدوهُ من فجور يزيد وفسقه،

____________________

(1) إرشاد المفيد: 179، إثبات الهداة ج5: 168 - 212، إثبات الوصيّة للمسعودي: طبعة طهران 1320، صفحة 125.

١٧٥

إلاّ أنّهم لم يَسلموا من غضب معاوية وسخطه، فوجّه إليهم ضَرَبات قاصِمة.

فالحسين عاصرَ هذه الظروف الحالكة، وتحمّلَ كلّ أذىً من قِبَل معاوية وأتباعه، حتّى جاء منتصف سنة ستّين للهجرة، التي مات فيها معاوية مُخلِّفاً ابنه يزيد (1) .

كانت البيعة سُنّة عربيّة تجري في أمور هامّة كالملوكيّة والإمارة وما شابه، فيتقدّم السادة وكبار القوم بمدّ يد البيعة والطاعة للمَلِك أو الأمير، وكان يُعتَبر التخلّف عن البيعة عاراً، وتخلّفاً عن معاهدة رسميّة، والبيعة كانت معتبرة في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وسيرتهُ تؤيِّد ذلك، هذا إذا كانت تتّصف بصفة الاختيار دون الإجبار والإكراه.

لقد أخذَ معاوية البيعة من شرفاء القوم ورؤسائهم، إلاّ أنّه لم يتعرّض للحسين (عليه السلام)، ولم يُحمِّله بيعة يزيد، وقد أوصى يزيد بعدم التعرّض للحسين بن علي، إذا امتنعَ من البيعة له، فكان معاوية أكثر حنكاً في الأمور، وكان يرى العَقَبات التي تترتّب على هذا الأمر.

ولكنّ يزيد لمّا كان يتّصف بالأنانيّة، نسيَ وصيّة أبيه، فأمرَ والي المدينة - بعد وفاة أبيه معاوية - أن يأخذ البيعة من الحسين، أو يُرسل برأسه إليه (2) .

وبعد أن أُبلِغ والي المدينة بأمر يزيد، ونَقلهِ إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، طلبَ الحسين (عليه السلام) مُهلة لدراسة الموضوع، فخرجَ من المدينة في تلك الليلة، مُتّجهاً إلى مكّة، والتجأ بالكعبة التي هي مأمن المسلمين.

هذا ما حدثَ أواخر شهر رجب وأوائل شهر شعبان من سنة ستّين للهجرة، والحُسين قد قضى ما يقارب الأربعة أشهر في مكّة في حالة اللجوء، انتشرَ النبأ هذا شيئاً فشيئاً،

____________________

(1) إرشاد المفيد: 182، تاريخ اليعقوبي ج2: 226 - 228، الفصول المهمّة: 163.

(2) مناقب ابن شهرآشوب: ج 88، إرشاد المفيد: صفحة 182، الإمامة والسياسة ج1: 203، تاريخ اليعقوبي ج2: 229، الفصول المهمّة: 163، تذكرة الخواص: صفحة 235.

١٧٦

حتّى عمّ جميع البلدان الإسلاميّة، فأيّد الحُسينَ جمعٌ من الأُمّة الإسلاميّة، لِمَا شاهدوهُ من ظلمٍ وتعسّفٍ في زمن معاوية وابنه يزيد.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فقد انهالت الرسائل الواردة من العراق، وخاصّة الكوفة على الحسين بن علي، تطلب منه أن يتّجه إلى العراق، ليصبح قائداً لهم، وتتمّ على يده إزالة معالم الظلم والجور، ومن الطبيعي أن يشعر يزيد بخطورة الموقف.

مكثَ الحسين في مكّة حتّى موسم الحجّ، فكانت تفِد جماعات من المسلمين لأداء الفريضة.

عَلِم الحسين بأنّ هناك من أعوان يزيد وعُملائه قد وصلوا مكّة وهم يرتدون رداء الإحرام، وقد أخفوا تحته السلاح، لقتلهِ حين قيامه بأداء فريضة الحج ّ (1) .

قرّر الحسين مغادرة مكّة متّجهاً إلى العراق، فوقفَ خطيباً (2) بين جمعٍ غَفير من المسلمين، فأوجزَ في خُطبته وأعلَمهم بسفرهِ إلى العراق، وأشار باستشهاده في هذا الطريق، وطلبَ العون منهم في سبيل أهدافه المقدّسة، وألاّ يتَوانوا عن نصرته ونصرة الإسلام، دين الله الحنيف.

وغَداة ذاك اليوم، سلكَ طريق العراق مع أهله وعياله، ونفر من شيعته وأصحابه.

لقد صمّم الحسين على عدم البيعة ليزيد، وهو على علمٍ بأنّ الطريق هذا سينتهي به إلى الاستشهاد، وكان يعلم أنّ الجيش الأموي يتّصف بالعدّة والعدد، وأنّه مؤيّد من قِبَل عامّة الناس وخاصّة أهل العراق.

جاءت إليه جماعة ممّن لهم صلة به، فذكروا لهُ خطورة الموقف والسفر الذي هو عازمٌ عليه،

____________________

(1) إرشاد المفيد: 201.

(2) مناقب ابن شهرآشوب ج4: 89.

١٧٧

والنهضة التي هو قائدها، فأجابهم الحسين (عليه السلام): (إنّني لن أُبايع يزيداً، ولا أقرّ بحكومة جائرة، وإنّي على علمٍ بأنّهم يريدون قتلي أينما أقمتُ، وما تَركي لهذه البقعة المكرّمة إلاّ حُرمة لهذا المكان المقدّس (بيت الله الحرام)، وألاّ تُهلك حُرَمُ الله تعالى، بإهراق دمي) (1) .

سارَ الحسين إلى العراق، وفي طريقه وصَلهُ نبأ مقتل رسوله ومبعوثه إلى الكوفة، مع أحدٍ من شيعته، على يد والي يزيد، وقد أمرَ الوالي بعد قتلهم، أن تُربط أرجلهم بالحبال، ويُدار بها شوارع الكوفة وأزقّتها (2) .

فكانت الكوفة وضواحيها تحت مراقبة شديدة من قِبَل الأعداء، تنتظر قدوم الحسين، والأمارت دالّة على قتله لا محالة، وهنا أعلنَ الحسين مُصرِّحاً بنبأ قتله دون تردّد، واستمرّ في سيره (3) .

حوصرَ الحسين (عليه السلام) ومَن معه من قِبَل الجيش الأموي، على مسافة سبعين كيلومتراً من مدينة الكوفة، في منطقة تسمّى (كربلاء) ، فكانت تضيق دائرة الحصار على هؤلاء، ويزداد الجيش الأموي عدداً وعُدّةً، وآلَ الأمر إلى أن يستقرّ الإمام مع القلّة من أصحابه في محاصرة من قِبَلِ ثلاثين ألفاً من الأعداء (4) .

حاولَ الإمام في هذه الأيّام أن يُحكّم موقفه، فأخرجَ من جُنده مَن أُخرج، وأمرَ بأن يجتمع الأصحاب، فاجتمعوا، فقال الإمام (عليه السلام) في خطابٍ بهم: (إنّ القوم لم يريدوا إلاّ قتلي، وأنا رافعٌ بيعتي عنكم، فمَن أراد منكم الفرار، فليتّخذ الليل له ستراً، وينجو بنفسه من الفاجعة الموحِشة التي تتربّص بنا).

____________________

(1) إرشاد المفيد: 201، الفصول المهمّة: 168.

(2) إرشاد المفيد: 204، الفصول المهمّة: 170، مقاتل الطالبيين: الطبعة الثانية، ص 73.

(3) إرشاد المفيد: 205، الفصول المهمّة: 171، مقاتل الطالبيين: ص73.

(4) مناقب ابن شهرآشوب ج4: 98.

١٧٨

فأمرَ بإطفاء الضياء، وتفرّق جمعٌ كثير ممّن كان معهُ، الذين لم تكن أهدافهم سوى المادّة والقضايا الماديّة، ولم يبقَ معه إلاّ رائدو الحقّ ومُتّبعو الحقيقة، وهُم ما يقارب من أربعين شخصاً، وعدد من بني هاشم، وللمرّة الثانية، جَمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه، فخطبَ فيهم قائلاً:

(اللهمّ إنّي أحمِدكَ على أن كرّمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجَعلتَ لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، فاجعلنا من الشاكرين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أوفَى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لا أظُنّ يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منّي زِمام، هذا الليل قد غَشيَكم فاتّخذوه جَمَلاً).

فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنو أخيه، وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك، لنبقى بعدك!؟

قال بعضهم: ما نفعل ذلك، ولكن نُفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتّى نَرِد موردك، فقبّح الله العيشَ بعدك.

فقام مسلم بن عوسجة خطيباً قال: أنحنُ نُخلّي عنك وبما نعتذرُ إلى الله في أداء حقّك، أمَا والله، حتّى أطعن في صدورهم برُمحي وأضربهم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به، لقَذَفتهم بالحجارة، والله، لا نُخلّيك حتّى يَعلم الله أنّا قد حَفظنا غيبة رسولهُ فيك، أمَا والله، لو قد عَلمتُ أنّي أُقتَل ثُم أُحيى ثُمّ أُحرَق ثُمّ أُحيى، ثُمّ أُذرى، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرّة، ما فارَقتُك حتّى ألقى حِمامي (الموت) دونك، وكيف لا أفعلُ ذلك، وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً (1) .

وصلَ الإنذار إلى الإمام في عصر يوم التاسع من محرّم (إمّا البيعة أو القتال) من جانب العدو،

____________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب ج4: 99، إرشاد المفيد: ص 214.

١٧٩

فطلبَ الإمام المُهلة لتلك الليلة لغرض العبادة، وقرّر القتال ليوم غد (1) .

وفي اليوم العاشر من المحرّم سنة 61 هجري قمري، استعدّ الإمام مع جَمعه القليل (لا يتجاوز عددهم تسعين شخصاً، أربعون ممّن جاءوا معه، ونيّف وثلاثون التحقوا بالإمام في ليلة الحرب ونهارها من جيش الأعداء، والبقيّة كانوا من الهاشميين، بما فيه وِلده وإخوته وأبناء إخوته وأبناء أخواته وأبناء عمومته) في معسكرٍ واحد أمام العدد الغفير من جيش الأعداء، فاشتعلت نار الحرب.

حاربَ هؤلاء من الصباح الباكر حتّى الظهيرة، واستشهدَ الإمام مع سائر الفتية الهاشميين، فلم يبقَ منهم أحد (وكان بين القتلى طفلان للإمام الحسن، وطفل ورضيع للإمام الحسين).

أغارَ الجيش بعد انتهاء الحرب على حَرَم الإمام، وأشعَلوا النيران في مخيّماتهم، وحزّوا رؤوس الشهداء وسَلَبوا ما على أبدانهم من رداء وملابس، وتركوا الأجساد عارية على الأرض، دون أن يواروهم في التراب، ثُمّ ساروا بأهل بيت الإمام (حَرَمه) زوجاته وبناته - اللواتي لم يكن لهم مأوى - مع رؤوس الشهداء إلى جانب الكوفة (ولم يكن في الأسرى من الرجال سوى القليل، منهم: ابن الإمام وهو السجّاد، شابٌ في سِنّ الثانية والعشرين، وقد اشتدّ عليه المرض، ووَلَدهُ في سنّ الرابعة (محمّد بن علي) الإمام الخامس، وكان باقياً أيضاً الحسن المثنّى ابن الإمام الثاني، والذي كان صِهراً للإمام الحسين (عليه السلام)، وكان قد أُصيبَ بجُراح كثيفة في جسمه، وكان طريحاً بين القتلى، وقد عثروا عليه وهو في آخر رمقٍ من حياته، ولم يُقتل بسبب تشفّع أحد الأمراء، وكان من جملة الأسرى الذين جاؤا بهم إلى الكوفة)، ونقلوهم من الكوفة إلى دمشق،

____________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب ج4: 98، إرشاد المفيد: ص214.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206