الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96865 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وأقرباء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعشيرته وصحابته إلاّ أن يروا أنفسهم قبال أمر واقع (١) ، وبعد أن فرغَ الإمام علي (عليه السلام)، ومَن معهُ من الصحابة: (كابن عبّاس، والزبير، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمّار) من دَفن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُعلِموا بالذي حدث، رَفعوا عَلم المعارضة، فانتقدوا القائمين بهذا الأمر، وأبدَوا اعتراضهم للخلافة الانتخابيّة بإقامتهم جَلَسات متعدّدة، والجواب الذي سمعوه هو: أنّ صَلاح المسلمين كان في الذي حَدث (٢).

فالانتقاد هذا والاعتراف، أدّى إلى انفصال الأقليّة عن الأكثريّة، واشتهرَ أصحاب الإمام علي (عليه السلام) باسم (شيعة علي)، فالقائمون بأمور الخلافة كانوا يَسعون - وفقاً للسياسة آنذاك - ألاّ يشتهر هؤلاء الأقليّة بهذا الاسم، وألاّ ينقسم المجتمع إلى أقليّة وأكثريّة، فكانوا يعتبرون الخلافة إجماعاً، ويُطلق على المُعارض لها متخلّفاً عن البيعة، ومتخلّفاً عن جماعة المسلمين، وأحياناً كان يوصف بصفات بذيئة أخرى (٣).

وفي الحقيقة أنّ الشيعة قد حُكمَ عليها بالتخلّف منذ الأيّام الأولى، ولم تستطع أن تكسب شيئاً منذ أن أبدَت معارضتها، والإمام علي (عليه السلام) لم يُعلنها ثورة وحرباً، رعايةً لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولفقدانه للأشياع بالقدر المطلوب، إلاّ أنّ هؤلاء المُعارضين لم يستسلموا للأكثريّة من حيث العقيدة، وكانوا يرونَ أنّ الخلافة والمرجعيّة العلميّة هي حقّ مطلق للإمام علي (عليه السلام) (٤)، فكان رجوعهم في القضايا العلميّة والمعنويّة إليه وحده، وكانوا يدعون إلى هذا الأمر (٥) .

____________________

(١) شرحُ ابن أبي الحديد ج١: ٥٨ و ١٢٣ - ١٣٥، تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠٢، تاريخ الطبري ج٢: ٤٤٥ - ٤٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠ - ١٠٦، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥٦ و ١٦٦.

مُروج الذهب ج٢: ٣٠٧ و ٣٥٢، ابن أبي الحديد ج١: ١٧ و ١٣٤.

(٣) قال عمر بن حريث لسعد بن زيد… قال: فخالفَ عليه أحد؟ قال: لا، إلاّ مرتد، أو مَن قد كاد أن يرتد، تاريخ الطبري ج٢: ٤٤٧.

(٤) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّي قد تركتُ فيكم الثَقَلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدَهما أكبر من الآخر: كتابُ الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يَردا عَليّ الحوض)، وقد روى هذا الحديث أكثر من ١٠٠ طريق، عن ٣٥ شخصاً من صحابة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يُراجع العَبَقات: مجلّد الثقلين، غايةُ المرام: صفحة ٢١١. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنا مدينةُ العلم وعليّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتها من بابها) البداية والنهاية ج٧: ٣٥٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠٥ - ١٥٠.

٢١

٣. موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة

كان الشيعة يعتقدون أنّ ما يهمّ المجتمع أوّلاً وقبلَ كلّ شيء هو: وضوح وتبيان التعاليم الإسلاميّة (١) ، ومن ثُمّ نَشرها في المجتمع، وبعبارةٍ أخرى: هي نظرة المجتمع إلى العالَم والإنسان نظرة واقعيّة، والوقوف على الواجبات والوظائف الإنسانيّة (بالشكل الذي يكون فيه الصلاح الواقعي) والقيام بها، وإن كانت مخالفة لأهوائهم وميولهم.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ قيام حكومة دينيّة ما هي إلاّ لتنفيذ الأحكام الإسلاميّة في المجتمع، والحفاظ عليه، بحيث لا يَعبد الناس إلاّ الله جلّ وعلا، وأن يَحظوا بحريّة تامّة وعدالة فرديّة واجتماعيّة، وهاتان المهمّتان يجب أن تُناط إلى شخص يتّسم بالعصمة والصيانة الإلهيّة، إذ من المحتمل أن يتعهّد هذه المسؤوليّة أُناس لم يَسلَموا من الانحراف الفكري والعقائدي، ولم يُنزّهوا من الخيانة،

____________________

(١) كتاب الله، والسُنّة النبويّة، وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، خيرُ دليلٍ على تحريضهم لاكتساب العلم، وقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خيرُ شاهد، إذ يقول: (طلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلم) البحار ج١: ٥٥.

٢٢

وتتحوّل العدالة التي تَمنح الحريّة الإسلاميّة إلى ملوكيّة موروثة مستبدّة، كملوكيّة كِسرى وقيصر، وتتعرّض التعاليم الإسلاميّة المنزّهة إلى تحريف، كتعاليم الأديان السماويّة الأخرى، ولا تكون بمأمن من العلماء الذين قد ركبوا أهواءهم، فالشخصُ الوحيد الذي قد نهجَ نهج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أعماله وأفعاله، وكان سديداً في سيرته، مُتّبعاً لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إتّباعاً كاملاً، هو الإمام علي (١) (عليه السلام).

وإذا كانت الأكثريّة تدّعي أنّ قريشاً تُعارض حكومة علي (عليه السلام) الحقّة وخلافته، كان لزاماً عليهم أن يوجّهوا المُخالفين التوجيه الحسن، وأن يُرشدوهم إلى طريق الحقّ والصواب، كما صَنعوا مع مُمتنعي الزكاة، فحاربوهم، ولم يتوانوا عن أخذ الزكاة منهم، لا أن يُدحضوا الحقّ خوفاً من مخالفة قريش.

نعم، إنّ الدافع الذي دفعَ الشيعة للمعارضة أمامَ الخلافة الانتخابيّة هو: الخوف من عواقبه الوخيمة، ألا وهو فساد وسقم الطريقة التي ستتّخذها الحكومة الإسلاميّة، وما يلازمها من انهدام الأُسس العالية للدين، وقد أوضَحت الحوادث المتتالية صحّة هذه العقيدة بمرور الزمان والأيّام أكثر فأكثر، ممّا أدّى بالشيعة إلى أن تكون ثابتة في عقيدتها، مؤمنة بأهدافها، عِلماً بأنّها قد كانت أقلّيّة، إلاّ أنّ هذه الأقلّيّة قد ذابت في الأكثريّة ظاهراً، ولكنّها بَقيت تَستلهم التعاليم الإسلاميّة من أهل البيت باطناً، وكانت متفانية في نهجها وطريقها، وفي الوقت ذاته كانت تسعى في التقدّم والرُقيّ، والحفاظ على قدرة الإسلام وعظمته، فلم تُبدِ مخالفتها عَلَناً وجهاراً، وكانت الشيعة تذهب إلى الجهاد سيراً مع الأكثريّة، ولم يتدخّلوا في الأمور العامّة، والإمام علي (عليه السلام) كان يرشد الأكثريّة لمَا فيه نفع الإسلام (٢) ومصلحة المسلمين.

____________________

(١) البداية والنهاية ج٧: ٣٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: صفحة ١١١، و ١٢٦، و ١٢٩.

٢٣

٤. الطريقةُ السياسيّة للخلافة الانتخابيّة، ومُخالفتها للفكر الشيعي

كان الشيعة يعتقدون أنّ شريعة الإسلام السماويّة - التي قد تعيّنت مضامينها في كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ستبقى خالدة إلى يوم القيامة، دون أن يصيبها تغيير أو تحريف (١).

والحكومةُ الإسلاميّة لا يحقّ لها بأيّ عذرٍ أن تتهاون في إجراء الأحكام إجراءً كاملاً، فواجب الحكومة الإسلاميّة هو أن تتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقاً للمصلحة آنذاك، ما يجب اتّخاذه من قرارات، ولكنّ ما حدثَ من واقعة البيعة السياسيّة، وكذا حادث الدواة والقرطاس - والذي حدثَ في أُخريات أيّام مرض النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - لدليلٌ واضح على أنّ المدافعين عن الخلافة الانتخابيّة كانوا يعتقدون أنّ كتاب الله وحده يجب أن يُحفظ ويُحتفظ به كقانون، أمّا السُنّة وأقوال النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فليس لها ذلك الاعتبار، وهم على اعتقاد أنّ الحكومة الإسلاميّة تستطيع أن تضع السُنّة جانباً إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وهذه العقيدة تؤيّدها الكثير من الروايات التي نُقلت في خصوص الصحابة بعدئذٍ (الصحابةُ ذو اجتهاد، فإذا ما أصابوا في اجتهادهم، فإنّهم

____________________

١) قوله تعالى في كتابه العزيز: ( وَإنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) ، سورة حم السجدة: الآية ٤٢.

ويقول في سورة يوسف: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) أي أنّ الشريعة هي شريعة الله والتي تصل إلى الناس عن طريق النبوّة، إذ يقول: ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب: الآية ٤٠، وهو القائل أيضاً: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) سورة المائدة: الآية ٤٤.

٢٤

مأجورون، وإذا ما أخطأوا فهم معذورون)، وخيرُ دليل على ذلك: ما حدثَ لخالد بن الوليد، وهو أحد القوّاد للخليفة، إذ دخلَ ضيفاً على أحد مشاهير المسلمين (مالِك بن نويرة) ليلاً، وتربّص له فقتلهُ، ووضعَ رأسه في التنور وأحرقهُ، وفي الليلة ذاتها واقَعَ زوجة مالِك، وبعد هذه الجناية التي تَعرق لها الجباه، لم يُجرِ الخليفة الحدّ عليه، متذرِّعاً بعذرٍ ألا وهو: أنّ حكومته بحاجة إليه (١) .

وكذا الامتناع من إعطاء الخُمس لأهل البيت وأقرباء النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢) ، ومَنعُ كتابة أحاديث النبي الكريم منعاً باتاً، وإذا ما عُثرَ على حديث مكتوب عند شخص كان يُحرق (٣) ، وكانت هذه السُنّة قائمة طوال خلافة الخلفاء الراشدين، وحتّى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز (٤) الخليفة الأموي (٩٩ - ١٠٢).

وقد تجلّت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (١٣ - ٢٥) للهجرة، إذ ألغى بعض أحكام الشريعة مثل: حجّ التمتع، ونكاح المُتعة، وذِكر (حيّ على خير العمل) (٥) في الأذان، وجَعلَ الطلاق الثلاث نافذ الحُكم،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٠، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥٨.

(٢) الدرّ المنثور ج٣: ١٨٦، تاريخ اليعقوبي ج٣: ٤٨، وفضلاً عن هذا كلّه، فإنّ وجوب الخُمس صريح في القرآن الكريم: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) سورة الأنفال: الآية ٤١.

(٣) جَمعَ أبو بكر في زمن خلافته خمسمائة حديث، تقول عائشة: وجدتُ أبي مضطرباً ذات ليلة حتّى الصباح، فقال لي في الصباح: آتيني الأحاديث، فأحرَقَها جميعاً.

كنز العمّال ج٥: ٢٣٧، كُتب عمر إلى البلدان.

كنز العمّال ج٥: ٢٣٧، يقول محمّد بن أبي بكر: إنّ الأحاديث كثُرت على عهد عمر بن الخطّاب، فأنشدَ الناس أن يأتوه بها، فلمّا أتوهُ بها أمرَ بحرقها، طبقات ابن سعد ج٥: ١٤٠.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥١ وغيره.

(٥) شرّعَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجّة الوداع، فَعملَ الحجّ للحجّاج القادمين من مكانٍ بعيد وفقاً للآية: ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ) بشكل خاص، فمنعَ ذلك عمر في زمن خلافته، وكذلك المتعة كانت قائمة في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمنعها عمر في أيّام خلافته، وأمرَ بإقامة الحدّ على المخالفين.

وأمّا ذِكر (حيّ على خير العمل): فكان يُذكر في عهد الرسول العظيم في أذان الصلاة، ولكنّ عمر في خلافته قال: إنّ هذه العبارة تُقعد الناس عن الجهاد، فأبدَلها بأخرى، وكذا موضوع الطلاق فما كان على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ الطلاق إذا تعدّد في مجلس واحد، فليس له اعتبار، ويُعد طلاقاً واحداً، ولكنّ عمر أجازَ الطلاق الثلاث في مجلس واحد، فالمسائل هذه ونظائرها قد وردت في كتب الحديث، والفقه، والكلام، لدى الفريقين السُنّة والشيعة.

٢٥

وغيرها (١) .

وفي زمن خلافته، كان بيت المال يوزّع بين الناس مع تباين (٢) ، والذي أدّى إلى ظهور طبقات مختلفة بين المسلمين، تثير الدهشة والقلق، وكان من نتائجها وقوع حوادث دامية مُفزعة، وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتّع بسلطانٍ لا يختلف عن سلطنة كِسرى وقيصر، وقد أسماهُ الخليفة بكِسرى العرب، ولم يتعرّض له بقول، ولم يُردعه عن أعماله.

وبعد أن قُتل الخليفة الثاني على يد غلامٍ فارسي - ووفقاً لأكثريّة آراء الشورى البالغ عددهم ستّة أعضاء، والذي تمّ تشكيلهُ بأمرٍ من الخليفة - عُيّن الخليفة الثالث، فعيّن أقرباءه الأمويين ولاة وأُمراء، فجعلَ منهم الولاة في كلّ من: الحجاز، والعراق، ومصر، وسائر البلدان الإسلاميّة، فكانوا جائرين في حُكمهم، عُرِفوا بشقاوتهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم، نقضوا القوانين الإسلاميّة الجارية، فالشكاوى كانت تنهال على دار الخلافة، ولكنّ الخليفة الثالث كان متأثّراً لمَا تربطهم به من صلة القربى، وخاصّة مروان بن الحَكم (٣) ولم يهتمّ بشكاوى الناس، وكان أحياناً يُعاقب الشُكاة (٤) ، فثارَ الناس عليه سنة ٣٥ للهجرة، وبعد محاصرة منزله وصراع شديد، قتلوه.

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٣١، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٦٠.

(٢) أُسد الغابة ج٤: ٣٨٦، الإصابة: المجلّد الثالث.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٠، تاريخ الطبري ج٣: ٣٩٧، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٦٨.

(٤) ثارَ جماعة من أهل مصر على عثمان، فأحسّ بالخطر فندمَ، وطلبَ من عليّ بن أبي طالب العون والمساعدة، فقال علي لأهل مصر: (إنّ مُعارضتكم هذه لم تكن إلاّ لإحياء الحق)، وقد ندمَ عثمان وتابَ وهو القائل: إنّني تائب ممّا مضى، وسأُنجز لهم ما طلبوه خلال مدّة أقصاها ثلاثة أيّام، من عزل الولاة الجائرين، فكتب الإمام علي (عليه السلام) معاهدة من جانب عثمان، فعادَ الجمع إلى بلادهم.                                   

٢٦

كان الخليفة يؤيّد واليهُ على الشام تأييداً مطلقاً، وهو أحد أقاربه الأمويين (معاوية)، وكان يدعم موقفه بتأييده المستمرّ له، وفي الحقيقة كان ثقلُ الخلافة في الشام، ولم يكن مركز الخلافة (المدينة) إلاّ شكلاً ظاهراً (١) .

فخلافةُ الخليفة الأوّل قد استقرّت بانتخاب أكثريّة الصحابة، والخليفة الثاني عُيّن من قِبَل الخليفة الأوّل، والخليفة الثالث انتُخب من الأعضاء الستّة للشورى الذين عيّنهم الخليفة الثاني.

فكانت سياسة هؤلاء الثلاثة في الأمور وشؤون الناس، أن ينفِّذوا القوانين الإسلاميّة في المجتمع وفقاً للاجتهاد والمصلحة آنذاك، ووفقاً لمَا يرتأيه مقام الخلافة، فالقرآن يُقرأ دون تفسير أو تدبّر، وأقوال الرسول العظيم (الحديث) تُروى دون أن تُكتب على قرطاس، ولا تتجاوز حدّ الأُذن واللسان، فكانت الكتابة مختصّة بالقرآن الكريم، والحديث لا يُكتب على الإطلاق (٢) .

____________________

وفي أثناء الطريق شاهدوا غلام عثمان، وهو راكب جَمل عثمان متّجهاً إلى مصر فأساءوا الظنّ به، ففتّشوه، فوجدوا لديه رسالة من عثمان لواليه على مصر، وقد حُرِّرت فيها ما مضمونه: عند وصول عبد الرحمان بن عديس إليك - وهو أحد المُعارضين لعثمان - اجلِدهُ مئة جلدة، واحلُق شعر رأسه ولحيته، واحكُم عليه بالسجن لمدّة مديدة، واعمل مثل هذا مع كلّ من: عمرو بن حمق، وسودان بن حمران، وعروة بن نباع.

أُخذت الرسالة من الغلام، وعادوا إلى عثمان ساخطين، فقالوا له: أنت أبطنتَ لنا الخيانة، فعُرِضت عليه الرسالة، فأنكرَها عثمان، قالوا له: إنّ غلامك كان يحملها، أجابَ: قد قامَ بهذا العمل دون إذن مني، قالوا له: كان راكباً جَملك، قال عثمان: قد سرقَ جملي، قالوا له: الرسالة بخط كاتبك، أجاب: كُتِبت دون عِلمي، قالوا: فعلى أيّة حال، الخلافة لا تُليق بك، ويجب أن تستقيل من مقامك؛ لأنّ الأمر هذا لو كان على علمٍ منك، فإنّك خائن، وإن لم يكن على علمٍ منك، فلستَ جديراً بالخلافة، وبهذا يثبت عدم صلاحيّتك لهذه المهمّة، فإمّا أن تتخلّى عن الخلافة وتستقيل، وإمّا أن تَعزل الولاة الظالمين، فأجاب عثمان: لو أردتم أن أكون كما تريدون، إذاً فمَن الخليفة وصاحب الأمر؟! أنا أم أنتم؟! فَنهضوا من مجلسه ساخطين عليه.

جاءت هذه الواقعة في كتاب تاريخ الطبري: المجلّد الثالث في صفحة ٤٠٢، وحتّى ٤٠٩، ووردت ملخّصة هنا من قِبَل المؤلّف (كلمة المُترجم).

(١) تاريخ الطبري ج٣: ٣٧٧.

(٢) صحيح البخاري ج٦: ٩٨، تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٣.

٢٧

وبعد معركة اليمامة - والتي انتهت في سنة ١٢ للهجرة، بمقتل جَمعٍ من الصحابة كانوا من حَفَظة القرآن - يقترح عمر بن الخطّاب على الخليفة الأوّل أن يُجمع القرآن في مصحف، ويُبيّن الهدف والغرض في اقتراحه بقوله: إذا ما حَدثت معركة أخرى، واشتركَ فيها بقيّة حَمَلة القرآن وحَفَظته، فسوف يذهب القرآن من بين أظهُرنا، إذاً يسلتزم جَمعُ آيات القرآن في مصحف، تُكتب آياته (١) ، فنفّذوا هذا الاقتراح بالنسبة للقرآن الكريم.

ومع أنّ الأحاديث النبويّة هي التالية للقرآن، وكانت تواجه نفس الخطر، ولم تكن بمأمنٍ من خطر نَقل الحديث معنى، دون الالتفات إلى النص، وكذا الزيادة والنقصان، والتحريف والنسيان، وما إلى ذلك من الأخطار التي كان يواجهه الحديث، فلم توجّه عناية أو رعاية لحفظه وصيانته، بل كان كتابة الحديث ممنوعة، وإذا ما حَصلوا على شيء منه فكان يُلقى في النار.

ولم تمضِ فترة من الزمن حتّى ظهرَ التضادّ في المسائل الإسلاميّة الضروريّة كالصلاة، ولم يَطرأ تقدّم في بقيّة الفروع العلميّة في هذه الفترة، في حين نرى القرآن الكريم يُشجِّع المشتغلين بالعلم، وأحاديث النبي الكريم تؤيّد ذلك، فلم يُرَ لتلك الآيات والأحاديث مصداقاً في الخارج، وانصرفَ أكثر الناس بالفتوحات المتعاقِبة، وأُعجبوا بالغنائم المتزايدة، والتي كانت تتدفّق إلى الجزيرة العربيّة من كلّ صوب وحَدب، ولم يكن هناك اهتمام بعلوم سُلالة الرسالة ومعدن الوحي، وفي مقدّمتهم عليّ (عليه السلام)، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد صرّح مُعلناً أنّ عليّاً أعرف الناس بالعلوم الإسلاميّة، والمفاهيم القرآنيّة، ولم يسمحوا له بالمشاركة في جَمع القرآن (وهم على علمٍ من أنّ عليّاً بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١١، الطبري ج٣: ١٢٩ - ١٣٢.

٢٨

كان جليس داره يَجمع القرآن)، ولم يُذكر اسمهُ في أنديتهم واجتماعاتهم (١) .

فإنّ هذه الأمور ونظائرها، أدّت بشيعة علي إلى أن يقفوا موقفاً أكثر وعياً وأرسخ عقيدة، وأشدّ نشاطاً، ولمّا كان علي (عليه السلام) بعيداً عن ذلك المقام - الذي يجعلهُ مُشرفاً على التربية العامّة للناس - انصرفَ إلى تربية الخاصّة من شيعته وأنصاره.

٥. انتهاءُ الخلافة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته

بدأت خلافة علي (عليه السلام) في أواخر سنة خمس وثلاثين للهجرة، واستمرّت حوالي أربع سنوات وتسعة أشهر، وكان في سيرته مُماثلاً لسيرة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢) ، وأعاد مُعظم المسائل التي وجِدت في زمن الخلفاء السابقين إلى حالتها الأولى، وعَزلَ الولاة غير الكفوئين (٣) ، وفي الحقيقة أحدثَ انتفاضة ثوريّة كانت تنطوي على مشاكل متعدّدة.

والإمام علي (عليه السلام) في الأيّام الأولى من خلافته وقفَ مخاطباً الناس قائلاً:

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٣، ابن أبي الحديد ج١: ٩.

وقد ورد في روايات كثيرة أنّه أرسلَ على علي (عليه السلام) بعد انعقاد البيعة لأبي بكر، وطلبَ منه البيعة، فأجابهُ بـ: (إنّني عاهدتُ نفسي ألاّ أخرُج من داري سوى وقت الصلاة، حتّى أُكمل جَمع القرآن)، ويُروى أيضاً: أنّ عليّاً بايعَ أبا بكر بعد ستّة أشهر، وهذا دليل على جَمعه للقرآن، ويُروى أيضاً: أنّ عليّاً بعد انتهائه من جَمع القرآن، حَملَ القرآن على ناقة وجاء به إلى الناس، ويروى أيضاً: أنّ معركة اليمامة كانت في السنة الثانية من خلافة أبي بكر، وبعد انتهاء المعركة جَمع القرآن، كلّ هذه تشير إليها كُتب التاريخ والحديث التي تعرّضت لموضوع جَمع القرآن.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٥، مُروج الذهب ج٢: ٣٦٤.

٢٩

(ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعثَ الله نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذي بعثهُ بالحقّ لتُبلبِلنّ بَلبلة، ولتُغربلنّ غَربلة، ولتُساطنّ سوط القدر، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا، وليَقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا (١) ).

استمرّ الإمام علي (عليه السلام) في حكومته الثوريّة، فُرفعت أعلام المعارضة من قِبَل المخالفين، كما هي طبيعة الحال لكلّ ثورة، إذ لابدّ من مُناوئين، يرونَ مصالحهم في خطر، فأحدَثوا حرباً داخليّة دامية، بحجّة الأخذ بثأر دم عثمان، والتي استمرّت طوال خلافة الإمام علي (عليه السلام) تقريباً.

ويعتقد الشيعة أنّ المسبّبين لهذه الحروب لم يريدوا سوى منافعهم الخاصّة، ولم يكن الثأر بدم عثمان إلاّ ذريعة يتمسّكون بها؛ ليُحرِّضوا عوام الناس للمعارضة والنهوض أمامَ إمام الأمّة وخليفتها، إذ إنّ هذه المعارضة لم تَحدث عن سوء تفاهم (٢) .

وما الأسبابُ والدوافع التي خَلقت معركة الجَمل إلاّ غائلة الاختلاف الطبقي، والتي وُجدت في زمن الخليفة الثاني إثرَ توزيع الأموال من بيت المال بطُرق متباينة،

____________________

(١) نهج البلاغة: خطبة رقم (١٥).

(٢) بعد وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امتنعَ جمعٌ قليل من شيعة علي من البيعة، وكان في مقدّمتهم من الصحابة: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمّار، وفي أوائل خلافة علي (عليه السلام) امتنعَ من البيعة جماعة، مثل: سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحَكم، وعمرو بن العاص، وبُسر بن أرطاة، وسَمَرة بن جُندب، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم.

وعند دراسة حياة هذين الفريقين، والتأمّل في أعمالهم طوال حياتهم، وما احتفظ به التاريخ من قصص، يتّضح جليّاً كُنه شخصيّتهم وأهدافهم، فالفريق الأوّل كان من أصحاب النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المقرّبين، واشتهروا بزُهدهم وعبادتهم وتضحيتهم للإسلام، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ الله أمَرَني بحبّ أربعة وأخبرني أنّهُ يُحبّهم، قيل يا رسول الله، مَن هم؟ قال: منهم علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد).

سُنن ابن ماجة ج١: ٥٣.

عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما عُرِض على عمّار أمران إلاّ اختارَ الأرشد منهما) سُنن ابن ماجة ج١: ٥٢.

٣٠

وبعد خلافة علي (عليه السلام) كانت الأموال توزّع بين الناس بالسويّة (١) .

كما كان يفعله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته، والطريقة هذه أثارت غضب الزبير وطلحة فَمَردا على النفاق، فخرجا من المدينة إلى مكّة بحُجّة الحج، فاتّفقا مع أم المؤمنين (عائشة) - والتي كانت في مكّة، ولم يكن بينها وبين علي صفاء ومودّة - أن يطالبوا بدم عثمان، فأضرموا نار الحرب (٢) .

عِلماً بأنّ طلحة والزبير كانا في المدينة عندما حوصِرت دار الخليفة الثالث، فلم يدافعا عنه، ولم ينصراه (٣)، وبعد مقتله كانا من الأوائل الذين بايعوا عليّاً أصالة عن أنفسهم ونيابة عن المهاجرين (٤) .

وأمّا أُمّ المؤمنين (عائشة) فقد كانت ممّن حرّضوا الناس لقتل الخليفة الثالث (٥) ، وعندما سَمعت نبأ مقتله لأوّل مرّة قالت: بُعداً وسُحقاً، وفي الحقيقة أنّ المسبّبين الأصليين لمقتل الخليفة كانوا من الصحابة، وذلك بإرسال الرسائل إلى البلدان لغرض إثارة الناس على الخليفة.

وأمّا السبب الذي أحدَثَ حرب صفّين - والتي استمرّت سنة ونصف السنة - فهو طمع معاوية في الخلافة، فأجّج نارها متذرِّعاً بدم عثمان، فأُريقت الدماء، وقُتل ما يُقارب من مائة ألف، وكان موقف معاوية من هذه الحرب موقف المُهاجم، وليس موقف المُدافع؛ لأنّ الثأر يكون دفاعاً.

وكان شعار هذه الحرب: المطالبة بدم عثمان، عِلماً بأنّ الخليفة الثالث قد طلبَ المساعدة والعون من معاوية لردّ الهجوم، وتحرّك جيش معاوية من الشام متّجهاً إلى المدينة، ولكنّه تَباطأ في سَيره حتّى قُتل عثمان، وعندئذٍ

____________________

(١) مُروج الذهب ج٢: ٣٦٢، نهج البلاغة: خطبة رقم ١٢٢، اليعقوبي ٢: ١٦٠، ابن أبي الحديد ج١: ١٨٠.

(٢) اليعقوبي: ج٢، أبي الفداء ج١: ١٧٢، مرُوج الذهب ج٢: ٣٦٦.

(٣) اليعقوبي ج٢: ١٥٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٤، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٧١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٢.

٣١

رجعَ إلى الشام يُطالب بدم عثمان (١) .

وبعد أن استشهدَ الإمام علي (عليه السلام)، تناسى معاوية قَتَلة الخليفة ولم يُعاقبهم.

وبعد حرب (صفّين) اندلعت نار حرب (النهروان) فثارَ جمعٌ من الناس - وفيهم بعض الصحابة - بإيعاز من معاوية ممّن كان في حرب صفّين، فثاروا على علي (عليه السلام)، فرحلوا إلى البلدان الإسلاميّة، فقتلوا كلّ مَن كان يُدافع عن علي (عليه السلام) ففتكوا بالنساء الحوامل، ومثّلوا بهنّ وبأجنّتهنّ (٢) .

والإمام علي (عليه السلام) قد أخمدَ هذه الغائلة، ولكن بعد فترة استشهد في مسجد الكوفة أثناء الصلاة على يد الخوارج.

٦. ما حَصَلت عليه الشيعة طوال خلافة الإمام علي (عليه السلام) في خمس سنوات

الإمامُ عليّ (عليه السلام) طوال خلافته الأربع سنوات وتسعة أشهر، وإن لم يوفّق من إعادة الأوضاع المضطربة إلى حالتها الطبيعيّة، إلاّ أنّه قد وفِّق من ثلاث جهات أساسيّة:

١) استطاع أن يُظهر شخصيّة النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المضيئة بسيرته العادلة للناس، وخاصّة الشباب، فقد كان يواسي أفقر الناس في عيشه، أمامَ تلك العظمة التي كان يتّصف بها معاوية، إذ كان لا يقل عن كِسرى وقيصر،

____________________

(١) … فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجّه إليه في اثني عشر ألفاً، ثُمّ قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام، حتّى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحّة أمره، فأتى عثمان فسألهُ عن المدّة؟ فقال: قد قدمتُ لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم، قال: لا والله، ولكنّك أردتَ أن أُقتَل فتقول: أنا وليّ الثأر، ارجع فجئني بالناس، فرجعَ فلم يعُد إليه حتّى قُتل. تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٢، مُروج الذهب ج٣: ٢٥، الطبري: ص ٤٠٢.

(٢) مُروج الذهب ج٢: ٤١٥.

٣٢

فالإمام علي لم يُقدِّم أحداً من أصدقائه وأقربائه وعشيرته على الآخرين، ولم يُرجِّح الغني على الفقير، ولا القويّ على الضعيف.

٢) مع كثرة المشاكل المُنهِكة للقوى، فقد استطاع أن يضع في متناول أيدي المسلمين الذخائر القيّمة من المعارف الإلهيّة والعلوم الإسلاميّة الحقّة.

وأمّا ما يقوله المخالفون لعلي (عليه السلام): إنّه كان رجلاً شجاعاً، ليس له علم بالسياسة، إذ كان يستطيع في بداية خلافته أن يُرضي مخالفيه مؤقّتاً عن طريق المُداهنة، وبعد أن يستتبّ له الأمر كان باستطاعته أن يحاربهم ويقضي عليهم.

ولكنّ هؤلاء قد غفلوا عن ملاحظة هامّة وهي: أنّ خلافة علي كانت نهضة ثوريّة، وجدير بالنهضات الثوريّة، أن تكون بعيدة كلّ البُعد عن المُداهنة والرياء، وقد حدثَ مثيله في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوائل بعثته، فطلبَ الكفّار والمشركون منه الصلح عدّة مرّات وطلبوا منه ألاّ يتعرّض لآلهتهم، وهم مُلزمون بعدم التعرّض لدعوته أيضاً، ولكنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رفضَ هذا الاقتراح، في حين أنّه كان يستطيع أن يقيم معهم الصلح، ويُحكِم موقفهُ، ثُمّ ينهض بوجه أعدائه، وفي الحقيقة أنّ الدعوة الإسلاميّة لن تسمح بإضاعة حقٍ لإقامة حق آخر، أو أن تُزيل باطلاً بباطل آخر، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الخصوص (١) .

عِلماً بأنّ أعداء علي (عليه السلام) ومخالفيه، لم يرتدعوا عن القيام بأيّ جُرم وجناية، ونقضٍ للقوانين الإسلاميّة الصريحة (دون استثناء) بُغية الوصول إلى أهدافهم، فكانوا يبرِّرون مواقفهم وأعمالهم بأنّهم من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن مُجتهدي الأمّة، ولكنّ الإمام علي (عليه السلام) كان ملتزماً بالأحكام الإسلاميّة.

ويُروى عن عليّ (عليه السلام) ما يُقارب من إحدى عشر ألف كلمة قصيرة في

____________________

(١) شأن نزول الآية: ( وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) سورة ص: الآية ٥، والآية: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) سورة الإسراء: الآية ٧٣، والآية: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) سورة القلم: الآية ٩، ويراجَع المباحث الروائيّة في التفاسير.

٣٣

المسائل العقليّة والاجتماعيّة والدينيّة (١) ، وخُطبه وكلماته البليغة (٢) مَليئة بالمعارف الإسلاميّة (٣) ، وهو الذي أسّس قواعد اللغة العربيّة، ووضعَ الأُسس والمقوّمات للأدب العربي، وهو أوّل مَن تبّحرَ في الفلسفة الإلهيّة (٤) ، وتكلّم وفقاً لطريقة الاستدلال الحُر والبرهان المنطقي، وتعرّض لمسائل فلسفيّة لم يتعرّض لها فلاسفة العالَم حتّى ذلك الوقت، فاهتمّ بهذا الشأن اهتماماً بالغاً، وحتّى في أحرج ساعات الحرب (٥) .

٣) هذّب وربّى العديد من رجال الدين وعلماء الإسلام (٦)، وكان من بينهم جمعٌ من الزُهّاد وأهل المعرفة مثل: أويس القَرَني، وكُميل بن زياد، وميثم التمّار، ورشيد الهَجَري، ويُعتبر هؤلاء من المنابع الأصيلة للعرفان من بين العرفاء الإسلاميّين، ويُعتبر البعض الآخر منهم المصادر الرئيسيّة والأوّليّة لعلم الفقه، والكلام، والتفسير، وقراءه القرآن وغيرها.

____________________

(١) كتاب الغُرر والدُرر للآمدي، وكُتب الحديث.

(٢) مٍُروج الذهب ج٢: ٤٣١، ابن أبي الحديد ج١: ١٨١.

(٣) الأشباه والنظائر للسيوطي في النحو: ج٢، ابن أبي الحديد ج١: ٦.

(٤) يُراجع نهج البلاغة.

(٥) يُروى أنّ إعرابيّاً قامَ يوم الجَمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد، فَحَمل الناس عليه وقالوا: يا إعرابي، أمَا ترى ما في أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (دعوه، فإنّ الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال: يا إعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجل، ووجهان يَثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه:

فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثانيَ له لا يدخل في باب الأعداد، أمّا ترى أنّه كفرَ مَن قال إنّه ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس، فهذا ما لا يجوز؛ لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يَثبتان فيه: فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شَبه كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّ وجل أحَدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود، ولا عقل، ولا وَهم كذلك ربّنا عزّ وجل).

بحار الأنوار ٢: ٦٥ (كمباني).

(٦) ابن أبي الحديد ج١: ٦ - ٩.

٣٤

٧. انتقالُ الخلافة إلى معاوية وتحوّلها إلى ملوكيّة موروثة

بعد استشهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، تصدّى لمنصب الإمامة الحسن بن علي (عليه السلام)؛ وذلك وفقاً لوصيّة الإمام علي (عليه السلام) ومبايعة الناس له، ويُعتبر الإمام الثاني للشيعة الاثنى عشريّة، ولكنّ معاوية لم يستقرّ ويهدأ لهذا الأمر، فجّهز جيشهُ واتّجه به إلى العراق مقرّ الخلافة، مُعلناً الحرب مع الحسن بن علي (عليه السلام).

أفسَدَ معاوية رأي أصحاب الحسن (عليه السلام) بمختلف الطُرق والدسائس، ومَنحَ الأموال الطائلة لهم، وأجبرَ الإمام الحسن (عليه السلام) على الصُلح معه، وأن تصير الخلافة إليه، على شرط أن تكون للحسن (عليه السلام) بعد وفاة معاوية، وألاّ يتعرّض إلى شيعته، فصارت الخلافة لمعاوية وفقاً لشروط (١) .

استولى معاوية على الخلافة سنة ٤٠ للهجرة، فاتّجه إلى العراق، فخطبَ فيهم قائلاً: (يا أهل الكوفة، أترونَني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج! وقد علمتُ أنّكم تُصلّون وتُزكّون وتحجّون، ولكنّي قاتلتُكم لأتأمّرُ عليكم وقد آتاني الله ذلك، وأنتم كارهون) (٢) .

وقال أيضاً: (ألا إنّ كلّ دمٍ أُصيبَ في هذه مطلول، وكلّ شرطٍ شَرَطتهُ فتحتُ قدمّي هاتين) (٣) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٩٠ وسائر كُتب التاريخ.

(٢) ابن أبي الحديد ج٤: ١٦٠، الطبري ج٤: ١٢٤، ابن الأثير ج٣: ٢٠٣.

(٣) المصادر السابقة.

٣٥

ومعاوية بكلماته هذه يشير إلى أنّه يريد أن يفصل السياسة عن الدين، فهو لا يريد إلزام أحد بأحكام الدين، وإنّما كان اهتمامه بالحكومة فحسب واستحكام مقوّماتها، وبديهي أنّ مثل هذه الحكومة ملوكيّة وليست خلافة واستخلافاً لمنصب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد حضرَ البعض مجلسه فسلّموا عليه بسلام الملوك (١) ، وكان يُعبِّر في بعض مجالسه الخاصّة عن حكومته بالملوكيّة (٢) ، عِلماً بأنّه كان يُعرِّف نفسه خليفة في خُطبه، والملوكيّة التي تُقام على القوّة تتبعها الوراثة، وفي النتيجة كان الأمر كما أراد ونوى، فاستخلفَ ابنه يزيد، وجعلهُ خليفة له من بعده، وكان شابّاً لا يتّصف بشخصيّة دينيّة، إذ قام بأعمال وجرائم يندى لها الجبين (٣) .

فمعاوية مع بيانه السالف، كان يعني أنّه لم يَرغب في أن يصل الحسن (عليه السلام) إلى الخلافة بعده، أي أنّه كان يفكر في موضوع الخلافة بشيء آخر، وهو دسّ السُم إلى الحسن (عليه السلام) (٤) ، فهو بهذا الأمر قد مهّد السبيل إلى ابنه يزيد، ومع إلغائه معاهدة الصلح كان يهدف إلى اضطهاد الشيعة، ولن يسمح لهم بالحياة المطمئنة، أو أن يستمرّوا كما في السابق في نشاطهم الديني، ووفِّقَ في هذا المضمار أيضاً (٥) .

وصرّح معاوية في خصوص مناقب أهل البيت، بأنّ كلّ ناقلٍ لحديث في هذا الشأن، لم يكن بمأمنٍ في حياته، وماله، وعرضه (٦) ، وأمرَ أن تُعطى الهدايا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٩٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ٢٠١.

(٣) كان يزيد صاحب طرَب، وجوارٍ، وكِلاب، وقرود، ومنادمة على الشراب، وكان له قرد يكنّى بأبي قيس يُحضره مجلس منادمته ويطرَح له متّكأ، فجاء في بعض الأيّام مسابقاً فتناول القصبة ودخلَ الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر … مُروج الذهب ج٣: ٦٧.

(٤) مُروج الذهب ج٣: ٥، أبي الفداء ج١: ١٨٣.

(٥) النصائح الكافية: ص ٧٢ نقلاً عن كتاب الأحداث.

(٦) روى أبو الحسن المدائني في كتاب الأحداث قال: كتبَ معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة جاء فيها: إنّه برئتُ الذمّة ممّن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته، كتاب النصائح الكافية، تأليف محمّد بن عقيل، طبع النجف سنة ١٣٨٦ هجري، ص ٧٧، وأيضاً النصائح الكافية: ص ١٩٤.

٣٦

والجوائز لكل مَن يأتي بحديثٍ في مناقب سائر الصحابة والخلفاء، وكانت النتيجة أن توضَع أخبار كثيرة في مناقب الصحابة (١) ، وأمرَ أن يُسبّ الإمام علي (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلاميّة من على المنابر (وهذا الأمر كان سارياً حتّى زمن عُمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي سنة ٩٩ - ١١٠ هجري).

فَقتلَ جماعة من خاصّة شيعة علي (عليه السلام) بمساعدة عمّاله، وكان بعضهم من الصحابة، ورُفعت رؤوسهم على الرِماح، تُنقل من بلدٍ لآخر، وكلّف عامّة الشيعة بسبّ علي (عليه السلام) والتبرّي منه، فكان القتلُ حليف مَن خالفَ وأَبى (٢) .

٨. الأيّامُ العصيبة التي مرّت بالشيعة

من أَشدّ الأيّام التي مرّت بها الشيعة قساوة، هو زمن حكومة معاوية بن أبي سفيان، والتي استمرّت زَهاء عشرين عاماً، ولم تكن الشيعة بمأمن، وكان أغلب رجال الشيعة يُشار إليهم بالبنان، ولم تكن لدى الحسن والحسين (عليهما السلام) - اللذَين عاصرا معاوية - أدنى وسائل تُمكّنهم من القيام، والقضاء على الأوضاع المؤلمة.

والإمام الحسين (عليه السلام) عندما نهض في الأشهر الأولى من حكومة يزيد، استُشهدَ ومَن كان معه من أولاد وأصحاب، عِلماً بأنّه لم يَجرأ على القيام طوال السنوات العشر التي عاشها في زمن معاوية.

____________________

(١) النصائح الكافية: ص ٧٢ - ٧٣.

(٢) النصائح الكافية: صفحة ٥٨، ٦٤، ٧٧، ٧٨.

٣٧

فبعض إخواننا أهل السُنّة يذهبون إلى التوجيه والتأويل في سَفك الدماء هذه، وما شابهها من أعمال إجراميّة كان يقوم بها بعض الصحابة، وخاصّة معاوية، مبرّرين أعمالهم ومواقفهم هذه، بأنّهم من صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووفقاً للأحاديث المرويّة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنّ الصحابة مجتهدون معذورون، وأنّ الله جلّ وعَلا راضٍ عنهم، لكنّ الشيعة ترفض هذا بأدلّة:

أوّلاً: يستحيلُ على قائدٍ كالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي نهضَ لإحياء الحقّ والحريّة والعدالة الاجتماعيّة - واتّبعه جَمع من الناس، فَضحّوا بما لديهم - في سبيل تحقّق هذا الهدف المنشود، وعند تحقّقه يترك العنان لهم، ويمنحهم الحريّة المطلقة أمام الأحكام المقدّسة، كي يقوموا بأيّ عمل شاؤوا، وهذا يعني أن ينهار البناء الشامخ بتلك الأيدي التي ساهمت في إقامته وتشييده.

ثانياً: إنّ الروايات التي تُقدِّس الصحابة وتُنزّههم - وتُصحِّح أعمالهم غير المشروعة وتوجّهها، وتَعتبرهم من الذين قد كفّرَ الله عنهم سيّئاتهم، وإنّهم مصونون وما إلى ذلك - قد وُضِعت من قِبَل هؤلاء الصحابة أنفسهم، والتاريخ يشهد أنّ الصحابة لم يكن أحدهم ليحترم الآخر، ولم يغضّ النظر عن أعماله القبيحة، وإنّما كان يُشهّر به ويُعرِّفه للملأ، فقد قام بعضهم بالقتل الجماعي واللعن والسب وفضح الآخرين، ولم تكن هناك أيّة مسامحة أو إغماض فيما بينهم.

ووفقاً لمَا ذكرنا، فإنّ الصحابة يشهدون أنّ هذه الروايات غير صحيحة، وإذا ما تحقّقت صحّتها، فإنّ المراد منها معنىً آخر، غير التنزيه والتقديس القانوني للصحابة.

ولو قُدِّر أنّ الله سبحانه وتعالى قد مَدحهم ورفع شأنهم في بعض آياته (١) ، فإنّ هذا يدلّ على ما قدّموه من خَدمات في سابق حياتهم، وتنفيذاً لأوامر الله تعالى، فطبيعي أن يتحقّق رضى الله تعالى، ولم يكن المراد من أنّهم يستطيعون أن يقوموا بكلّ ما تراودهم نفوسهم في المستقبل، وإن كان خلافاً لأحكام الله تعالى.

____________________

(١) سورة التوبة: الآية ١٠٠.

٣٨

٩. استقرارُ ملوكيّة بني أميّة

توفي معاوية سنة ٦٠ للهجرة، واستولى على عرش الخلافة ابنه يزيد وفقاً للبيعة التي أخذها أبوه من الناس، وأصبحَ زعيماً لحكومة إسلاميّة.

والتأريخ يشهد بأنّ يزيد لم يكن ليتّصف بأيّة شخصيّة إسلاميّة، فقد كان شابّاً لا يُبالي بأحكام الإسلام حتّى في زمن أبيه، كان فاسقاً فاجراً، لا يتناهى عن شرب الخمر، مُتّبعاً لأهوائه وشهواته، قامَ بأعمال إجراميّة طوال السنوات الثلاث التي حَكم فيها، لم يسبق لها مثيل منذ ظهور الإسلام، مع ما انطوت عليه من أحداث وفتن.

ففي السنة الأولى: قَتلَ الحسين بن علي (عليه السلام) سبط النبي المرسل (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومَن كان معه من أولاده وأقربائه وأصحابه، قتلة مُفجعة، وطافَ بالنساء والأطفال لأهل بيت العصمة والطهارة مع رؤوس الشهداء في البلدان (١) .

وفي السنة الثانية: أمرَ جيشهُ بالإبادة الجماعيّة للناس في مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأباحَ دماءهم وأموالهم وأعراضهم لثلاثة أيّام (٢) .

وفي السنة الثالثة: أمرَ بهدم الكعبة المقدّسة وأحرَقها (٣) ، وبعد وفاة يزيد،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ٢١٦، أبي الفداء ج١: ١٩٠، مُروج الذهب ج٣: ٦٤، وكُتب التاريخ الأخرى.

(٢) اليعقوبي ج٢: ٢٤٣، أبي الفداء ج١: ١٩٢، مُروج الذهب ج٣: ٧٨.

(٣) اليعقوبي ج٢: ٢٢٤، أبي الفداء ج١: ١٩٢، مُروج الذهب ج٣: ٨١.

٣٩

تسلّط على رقاب الناس آلُ مروان من بني أُميّة، هذا ما تتناقلهُ كُتب التأريخ، وكانت لحكومة هذه الزمرة والتي شملت أحد عشر شخصاً، واستمرّت مدّة سبعين عاماً، أيّام عصيبة على الإسلام والمسلمين، فلم تكن سوى إمبراطوريّة عربيّة مستبدّة في مجتمع إسلامي، وكانت تُدعى بالخلافة الإسلاميّة، حتّى آلَ الأمر بالخليفة آنذاك - خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُعتبر المُدافع الوحيد عن الدين - أن يقرِّر بناء غرفة على الكعبة، كي يتسنّى له الجلوس فيها للنُزهة وفي أيّام الحجّ خاصّة (١) .

والخليفة آنذاك قد رمى القرآن بالسهام، وقال في شِعرٍ له مُخاطباً القرآن: في اليوم الذي تَحضر فيه أمامَ الربّ، أنبِئهُ أنّ الخليفة مزّقكَ تمزيقاً (٢).

من الطبيعي أنّ الشيعة كانوا يختلفون اختلافاً أساسيّاً مع أكثريّة أهل السُنّة حول مسألتين: الخلافة الإسلاميّة، والمرجعيّة الدينيّة، كانت تعاني أيّاماً قاسية في هذه المرحلة المظلمة، ولكنّ الظلم والجور من قِبَل حُكّام الوقت، والمظلوميّة والتقوى والورع الذي كان يتّصف به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كانت تجعلهم أكثر رسوخاً في عقائدهم، وخاصّة بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) الإمام الثالث للشيعة، ممّا ساعد في انتشار الفكر الشيعي في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة مثل: العراق، واليمن، وإيران.

وممّا يشهد على صحّة هذا الادّعاء: ما حدثَ في زمن الإمام الخامس للشيعة، والقرن الأوّل الهجري لم يكتمل بعد، ولم تمضِ على مقتل الحسين فترة لا تزيد على الأربعين سنة، ولاضطراب الأوضاع وظهور الاختلال في حكومة بني أُميّة، اتّجه الشيعة من جميع الأقطار الإسلاميّة إلى الإمام الخامس

____________________

(١) الوليد بن يزيد: اليعقوبي ج٣: ٧٣.

(٢) الوليد بن يزيد: مُروج الذهب ج٣: ٢٢٨.

أتوعِدُ كــلّ جبّارٍ عنيـد  فهـا أنا ذاك جبّار عَنيد

إذا ما جئتَ ربّك يوم حشرٍ  فقُل يا ربِّ مزّقني الوليد

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206