الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96848 / تحميل: 7408
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وأقرباء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعشيرته وصحابته إلاّ أن يروا أنفسهم قبال أمر واقع (١) ، وبعد أن فرغَ الإمام علي (عليه السلام)، ومَن معهُ من الصحابة: (كابن عبّاس، والزبير، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمّار) من دَفن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُعلِموا بالذي حدث، رَفعوا عَلم المعارضة، فانتقدوا القائمين بهذا الأمر، وأبدَوا اعتراضهم للخلافة الانتخابيّة بإقامتهم جَلَسات متعدّدة، والجواب الذي سمعوه هو: أنّ صَلاح المسلمين كان في الذي حَدث (٢).

فالانتقاد هذا والاعتراف، أدّى إلى انفصال الأقليّة عن الأكثريّة، واشتهرَ أصحاب الإمام علي (عليه السلام) باسم (شيعة علي)، فالقائمون بأمور الخلافة كانوا يَسعون - وفقاً للسياسة آنذاك - ألاّ يشتهر هؤلاء الأقليّة بهذا الاسم، وألاّ ينقسم المجتمع إلى أقليّة وأكثريّة، فكانوا يعتبرون الخلافة إجماعاً، ويُطلق على المُعارض لها متخلّفاً عن البيعة، ومتخلّفاً عن جماعة المسلمين، وأحياناً كان يوصف بصفات بذيئة أخرى (٣).

وفي الحقيقة أنّ الشيعة قد حُكمَ عليها بالتخلّف منذ الأيّام الأولى، ولم تستطع أن تكسب شيئاً منذ أن أبدَت معارضتها، والإمام علي (عليه السلام) لم يُعلنها ثورة وحرباً، رعايةً لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولفقدانه للأشياع بالقدر المطلوب، إلاّ أنّ هؤلاء المُعارضين لم يستسلموا للأكثريّة من حيث العقيدة، وكانوا يرونَ أنّ الخلافة والمرجعيّة العلميّة هي حقّ مطلق للإمام علي (عليه السلام) (٤)، فكان رجوعهم في القضايا العلميّة والمعنويّة إليه وحده، وكانوا يدعون إلى هذا الأمر (٥) .

____________________

(١) شرحُ ابن أبي الحديد ج١: ٥٨ و ١٢٣ - ١٣٥، تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠٢، تاريخ الطبري ج٢: ٤٤٥ - ٤٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠ - ١٠٦، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥٦ و ١٦٦.

مُروج الذهب ج٢: ٣٠٧ و ٣٥٢، ابن أبي الحديد ج١: ١٧ و ١٣٤.

(٣) قال عمر بن حريث لسعد بن زيد… قال: فخالفَ عليه أحد؟ قال: لا، إلاّ مرتد، أو مَن قد كاد أن يرتد، تاريخ الطبري ج٢: ٤٤٧.

(٤) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّي قد تركتُ فيكم الثَقَلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدَهما أكبر من الآخر: كتابُ الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يَردا عَليّ الحوض)، وقد روى هذا الحديث أكثر من ١٠٠ طريق، عن ٣٥ شخصاً من صحابة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يُراجع العَبَقات: مجلّد الثقلين، غايةُ المرام: صفحة ٢١١. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنا مدينةُ العلم وعليّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتها من بابها) البداية والنهاية ج٧: ٣٥٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠٥ - ١٥٠.

٢١

٣. موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة

كان الشيعة يعتقدون أنّ ما يهمّ المجتمع أوّلاً وقبلَ كلّ شيء هو: وضوح وتبيان التعاليم الإسلاميّة (١) ، ومن ثُمّ نَشرها في المجتمع، وبعبارةٍ أخرى: هي نظرة المجتمع إلى العالَم والإنسان نظرة واقعيّة، والوقوف على الواجبات والوظائف الإنسانيّة (بالشكل الذي يكون فيه الصلاح الواقعي) والقيام بها، وإن كانت مخالفة لأهوائهم وميولهم.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ قيام حكومة دينيّة ما هي إلاّ لتنفيذ الأحكام الإسلاميّة في المجتمع، والحفاظ عليه، بحيث لا يَعبد الناس إلاّ الله جلّ وعلا، وأن يَحظوا بحريّة تامّة وعدالة فرديّة واجتماعيّة، وهاتان المهمّتان يجب أن تُناط إلى شخص يتّسم بالعصمة والصيانة الإلهيّة، إذ من المحتمل أن يتعهّد هذه المسؤوليّة أُناس لم يَسلَموا من الانحراف الفكري والعقائدي، ولم يُنزّهوا من الخيانة،

____________________

(١) كتاب الله، والسُنّة النبويّة، وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، خيرُ دليلٍ على تحريضهم لاكتساب العلم، وقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خيرُ شاهد، إذ يقول: (طلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلم) البحار ج١: ٥٥.

٢٢

وتتحوّل العدالة التي تَمنح الحريّة الإسلاميّة إلى ملوكيّة موروثة مستبدّة، كملوكيّة كِسرى وقيصر، وتتعرّض التعاليم الإسلاميّة المنزّهة إلى تحريف، كتعاليم الأديان السماويّة الأخرى، ولا تكون بمأمن من العلماء الذين قد ركبوا أهواءهم، فالشخصُ الوحيد الذي قد نهجَ نهج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أعماله وأفعاله، وكان سديداً في سيرته، مُتّبعاً لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إتّباعاً كاملاً، هو الإمام علي (١) (عليه السلام).

وإذا كانت الأكثريّة تدّعي أنّ قريشاً تُعارض حكومة علي (عليه السلام) الحقّة وخلافته، كان لزاماً عليهم أن يوجّهوا المُخالفين التوجيه الحسن، وأن يُرشدوهم إلى طريق الحقّ والصواب، كما صَنعوا مع مُمتنعي الزكاة، فحاربوهم، ولم يتوانوا عن أخذ الزكاة منهم، لا أن يُدحضوا الحقّ خوفاً من مخالفة قريش.

نعم، إنّ الدافع الذي دفعَ الشيعة للمعارضة أمامَ الخلافة الانتخابيّة هو: الخوف من عواقبه الوخيمة، ألا وهو فساد وسقم الطريقة التي ستتّخذها الحكومة الإسلاميّة، وما يلازمها من انهدام الأُسس العالية للدين، وقد أوضَحت الحوادث المتتالية صحّة هذه العقيدة بمرور الزمان والأيّام أكثر فأكثر، ممّا أدّى بالشيعة إلى أن تكون ثابتة في عقيدتها، مؤمنة بأهدافها، عِلماً بأنّها قد كانت أقلّيّة، إلاّ أنّ هذه الأقلّيّة قد ذابت في الأكثريّة ظاهراً، ولكنّها بَقيت تَستلهم التعاليم الإسلاميّة من أهل البيت باطناً، وكانت متفانية في نهجها وطريقها، وفي الوقت ذاته كانت تسعى في التقدّم والرُقيّ، والحفاظ على قدرة الإسلام وعظمته، فلم تُبدِ مخالفتها عَلَناً وجهاراً، وكانت الشيعة تذهب إلى الجهاد سيراً مع الأكثريّة، ولم يتدخّلوا في الأمور العامّة، والإمام علي (عليه السلام) كان يرشد الأكثريّة لمَا فيه نفع الإسلام (٢) ومصلحة المسلمين.

____________________

(١) البداية والنهاية ج٧: ٣٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: صفحة ١١١، و ١٢٦، و ١٢٩.

٢٣

٤. الطريقةُ السياسيّة للخلافة الانتخابيّة، ومُخالفتها للفكر الشيعي

كان الشيعة يعتقدون أنّ شريعة الإسلام السماويّة - التي قد تعيّنت مضامينها في كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ستبقى خالدة إلى يوم القيامة، دون أن يصيبها تغيير أو تحريف (١).

والحكومةُ الإسلاميّة لا يحقّ لها بأيّ عذرٍ أن تتهاون في إجراء الأحكام إجراءً كاملاً، فواجب الحكومة الإسلاميّة هو أن تتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقاً للمصلحة آنذاك، ما يجب اتّخاذه من قرارات، ولكنّ ما حدثَ من واقعة البيعة السياسيّة، وكذا حادث الدواة والقرطاس - والذي حدثَ في أُخريات أيّام مرض النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - لدليلٌ واضح على أنّ المدافعين عن الخلافة الانتخابيّة كانوا يعتقدون أنّ كتاب الله وحده يجب أن يُحفظ ويُحتفظ به كقانون، أمّا السُنّة وأقوال النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فليس لها ذلك الاعتبار، وهم على اعتقاد أنّ الحكومة الإسلاميّة تستطيع أن تضع السُنّة جانباً إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وهذه العقيدة تؤيّدها الكثير من الروايات التي نُقلت في خصوص الصحابة بعدئذٍ (الصحابةُ ذو اجتهاد، فإذا ما أصابوا في اجتهادهم، فإنّهم

____________________

١) قوله تعالى في كتابه العزيز: ( وَإنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) ، سورة حم السجدة: الآية ٤٢.

ويقول في سورة يوسف: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) أي أنّ الشريعة هي شريعة الله والتي تصل إلى الناس عن طريق النبوّة، إذ يقول: ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب: الآية ٤٠، وهو القائل أيضاً: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) سورة المائدة: الآية ٤٤.

٢٤

مأجورون، وإذا ما أخطأوا فهم معذورون)، وخيرُ دليل على ذلك: ما حدثَ لخالد بن الوليد، وهو أحد القوّاد للخليفة، إذ دخلَ ضيفاً على أحد مشاهير المسلمين (مالِك بن نويرة) ليلاً، وتربّص له فقتلهُ، ووضعَ رأسه في التنور وأحرقهُ، وفي الليلة ذاتها واقَعَ زوجة مالِك، وبعد هذه الجناية التي تَعرق لها الجباه، لم يُجرِ الخليفة الحدّ عليه، متذرِّعاً بعذرٍ ألا وهو: أنّ حكومته بحاجة إليه (١) .

وكذا الامتناع من إعطاء الخُمس لأهل البيت وأقرباء النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢) ، ومَنعُ كتابة أحاديث النبي الكريم منعاً باتاً، وإذا ما عُثرَ على حديث مكتوب عند شخص كان يُحرق (٣) ، وكانت هذه السُنّة قائمة طوال خلافة الخلفاء الراشدين، وحتّى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز (٤) الخليفة الأموي (٩٩ - ١٠٢).

وقد تجلّت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (١٣ - ٢٥) للهجرة، إذ ألغى بعض أحكام الشريعة مثل: حجّ التمتع، ونكاح المُتعة، وذِكر (حيّ على خير العمل) (٥) في الأذان، وجَعلَ الطلاق الثلاث نافذ الحُكم،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٠، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥٨.

(٢) الدرّ المنثور ج٣: ١٨٦، تاريخ اليعقوبي ج٣: ٤٨، وفضلاً عن هذا كلّه، فإنّ وجوب الخُمس صريح في القرآن الكريم: ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) سورة الأنفال: الآية ٤١.

(٣) جَمعَ أبو بكر في زمن خلافته خمسمائة حديث، تقول عائشة: وجدتُ أبي مضطرباً ذات ليلة حتّى الصباح، فقال لي في الصباح: آتيني الأحاديث، فأحرَقَها جميعاً.

كنز العمّال ج٥: ٢٣٧، كُتب عمر إلى البلدان.

كنز العمّال ج٥: ٢٣٧، يقول محمّد بن أبي بكر: إنّ الأحاديث كثُرت على عهد عمر بن الخطّاب، فأنشدَ الناس أن يأتوه بها، فلمّا أتوهُ بها أمرَ بحرقها، طبقات ابن سعد ج٥: ١٤٠.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج١: ١٥١ وغيره.

(٥) شرّعَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجّة الوداع، فَعملَ الحجّ للحجّاج القادمين من مكانٍ بعيد وفقاً للآية: ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ) بشكل خاص، فمنعَ ذلك عمر في زمن خلافته، وكذلك المتعة كانت قائمة في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمنعها عمر في أيّام خلافته، وأمرَ بإقامة الحدّ على المخالفين.

وأمّا ذِكر (حيّ على خير العمل): فكان يُذكر في عهد الرسول العظيم في أذان الصلاة، ولكنّ عمر في خلافته قال: إنّ هذه العبارة تُقعد الناس عن الجهاد، فأبدَلها بأخرى، وكذا موضوع الطلاق فما كان على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ الطلاق إذا تعدّد في مجلس واحد، فليس له اعتبار، ويُعد طلاقاً واحداً، ولكنّ عمر أجازَ الطلاق الثلاث في مجلس واحد، فالمسائل هذه ونظائرها قد وردت في كتب الحديث، والفقه، والكلام، لدى الفريقين السُنّة والشيعة.

٢٥

وغيرها (١) .

وفي زمن خلافته، كان بيت المال يوزّع بين الناس مع تباين (٢) ، والذي أدّى إلى ظهور طبقات مختلفة بين المسلمين، تثير الدهشة والقلق، وكان من نتائجها وقوع حوادث دامية مُفزعة، وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتّع بسلطانٍ لا يختلف عن سلطنة كِسرى وقيصر، وقد أسماهُ الخليفة بكِسرى العرب، ولم يتعرّض له بقول، ولم يُردعه عن أعماله.

وبعد أن قُتل الخليفة الثاني على يد غلامٍ فارسي - ووفقاً لأكثريّة آراء الشورى البالغ عددهم ستّة أعضاء، والذي تمّ تشكيلهُ بأمرٍ من الخليفة - عُيّن الخليفة الثالث، فعيّن أقرباءه الأمويين ولاة وأُمراء، فجعلَ منهم الولاة في كلّ من: الحجاز، والعراق، ومصر، وسائر البلدان الإسلاميّة، فكانوا جائرين في حُكمهم، عُرِفوا بشقاوتهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم، نقضوا القوانين الإسلاميّة الجارية، فالشكاوى كانت تنهال على دار الخلافة، ولكنّ الخليفة الثالث كان متأثّراً لمَا تربطهم به من صلة القربى، وخاصّة مروان بن الحَكم (٣) ولم يهتمّ بشكاوى الناس، وكان أحياناً يُعاقب الشُكاة (٤) ، فثارَ الناس عليه سنة ٣٥ للهجرة، وبعد محاصرة منزله وصراع شديد، قتلوه.

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٣١، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٦٠.

(٢) أُسد الغابة ج٤: ٣٨٦، الإصابة: المجلّد الثالث.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٠، تاريخ الطبري ج٣: ٣٩٧، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٦٨.

(٤) ثارَ جماعة من أهل مصر على عثمان، فأحسّ بالخطر فندمَ، وطلبَ من عليّ بن أبي طالب العون والمساعدة، فقال علي لأهل مصر: (إنّ مُعارضتكم هذه لم تكن إلاّ لإحياء الحق)، وقد ندمَ عثمان وتابَ وهو القائل: إنّني تائب ممّا مضى، وسأُنجز لهم ما طلبوه خلال مدّة أقصاها ثلاثة أيّام، من عزل الولاة الجائرين، فكتب الإمام علي (عليه السلام) معاهدة من جانب عثمان، فعادَ الجمع إلى بلادهم.                                   

٢٦

كان الخليفة يؤيّد واليهُ على الشام تأييداً مطلقاً، وهو أحد أقاربه الأمويين (معاوية)، وكان يدعم موقفه بتأييده المستمرّ له، وفي الحقيقة كان ثقلُ الخلافة في الشام، ولم يكن مركز الخلافة (المدينة) إلاّ شكلاً ظاهراً (١) .

فخلافةُ الخليفة الأوّل قد استقرّت بانتخاب أكثريّة الصحابة، والخليفة الثاني عُيّن من قِبَل الخليفة الأوّل، والخليفة الثالث انتُخب من الأعضاء الستّة للشورى الذين عيّنهم الخليفة الثاني.

فكانت سياسة هؤلاء الثلاثة في الأمور وشؤون الناس، أن ينفِّذوا القوانين الإسلاميّة في المجتمع وفقاً للاجتهاد والمصلحة آنذاك، ووفقاً لمَا يرتأيه مقام الخلافة، فالقرآن يُقرأ دون تفسير أو تدبّر، وأقوال الرسول العظيم (الحديث) تُروى دون أن تُكتب على قرطاس، ولا تتجاوز حدّ الأُذن واللسان، فكانت الكتابة مختصّة بالقرآن الكريم، والحديث لا يُكتب على الإطلاق (٢) .

____________________

وفي أثناء الطريق شاهدوا غلام عثمان، وهو راكب جَمل عثمان متّجهاً إلى مصر فأساءوا الظنّ به، ففتّشوه، فوجدوا لديه رسالة من عثمان لواليه على مصر، وقد حُرِّرت فيها ما مضمونه: عند وصول عبد الرحمان بن عديس إليك - وهو أحد المُعارضين لعثمان - اجلِدهُ مئة جلدة، واحلُق شعر رأسه ولحيته، واحكُم عليه بالسجن لمدّة مديدة، واعمل مثل هذا مع كلّ من: عمرو بن حمق، وسودان بن حمران، وعروة بن نباع.

أُخذت الرسالة من الغلام، وعادوا إلى عثمان ساخطين، فقالوا له: أنت أبطنتَ لنا الخيانة، فعُرِضت عليه الرسالة، فأنكرَها عثمان، قالوا له: إنّ غلامك كان يحملها، أجابَ: قد قامَ بهذا العمل دون إذن مني، قالوا له: كان راكباً جَملك، قال عثمان: قد سرقَ جملي، قالوا له: الرسالة بخط كاتبك، أجاب: كُتِبت دون عِلمي، قالوا: فعلى أيّة حال، الخلافة لا تُليق بك، ويجب أن تستقيل من مقامك؛ لأنّ الأمر هذا لو كان على علمٍ منك، فإنّك خائن، وإن لم يكن على علمٍ منك، فلستَ جديراً بالخلافة، وبهذا يثبت عدم صلاحيّتك لهذه المهمّة، فإمّا أن تتخلّى عن الخلافة وتستقيل، وإمّا أن تَعزل الولاة الظالمين، فأجاب عثمان: لو أردتم أن أكون كما تريدون، إذاً فمَن الخليفة وصاحب الأمر؟! أنا أم أنتم؟! فَنهضوا من مجلسه ساخطين عليه.

جاءت هذه الواقعة في كتاب تاريخ الطبري: المجلّد الثالث في صفحة ٤٠٢، وحتّى ٤٠٩، ووردت ملخّصة هنا من قِبَل المؤلّف (كلمة المُترجم).

(١) تاريخ الطبري ج٣: ٣٧٧.

(٢) صحيح البخاري ج٦: ٩٨، تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٣.

٢٧

وبعد معركة اليمامة - والتي انتهت في سنة ١٢ للهجرة، بمقتل جَمعٍ من الصحابة كانوا من حَفَظة القرآن - يقترح عمر بن الخطّاب على الخليفة الأوّل أن يُجمع القرآن في مصحف، ويُبيّن الهدف والغرض في اقتراحه بقوله: إذا ما حَدثت معركة أخرى، واشتركَ فيها بقيّة حَمَلة القرآن وحَفَظته، فسوف يذهب القرآن من بين أظهُرنا، إذاً يسلتزم جَمعُ آيات القرآن في مصحف، تُكتب آياته (١) ، فنفّذوا هذا الاقتراح بالنسبة للقرآن الكريم.

ومع أنّ الأحاديث النبويّة هي التالية للقرآن، وكانت تواجه نفس الخطر، ولم تكن بمأمنٍ من خطر نَقل الحديث معنى، دون الالتفات إلى النص، وكذا الزيادة والنقصان، والتحريف والنسيان، وما إلى ذلك من الأخطار التي كان يواجهه الحديث، فلم توجّه عناية أو رعاية لحفظه وصيانته، بل كان كتابة الحديث ممنوعة، وإذا ما حَصلوا على شيء منه فكان يُلقى في النار.

ولم تمضِ فترة من الزمن حتّى ظهرَ التضادّ في المسائل الإسلاميّة الضروريّة كالصلاة، ولم يَطرأ تقدّم في بقيّة الفروع العلميّة في هذه الفترة، في حين نرى القرآن الكريم يُشجِّع المشتغلين بالعلم، وأحاديث النبي الكريم تؤيّد ذلك، فلم يُرَ لتلك الآيات والأحاديث مصداقاً في الخارج، وانصرفَ أكثر الناس بالفتوحات المتعاقِبة، وأُعجبوا بالغنائم المتزايدة، والتي كانت تتدفّق إلى الجزيرة العربيّة من كلّ صوب وحَدب، ولم يكن هناك اهتمام بعلوم سُلالة الرسالة ومعدن الوحي، وفي مقدّمتهم عليّ (عليه السلام)، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد صرّح مُعلناً أنّ عليّاً أعرف الناس بالعلوم الإسلاميّة، والمفاهيم القرآنيّة، ولم يسمحوا له بالمشاركة في جَمع القرآن (وهم على علمٍ من أنّ عليّاً بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١١، الطبري ج٣: ١٢٩ - ١٣٢.

٢٨

كان جليس داره يَجمع القرآن)، ولم يُذكر اسمهُ في أنديتهم واجتماعاتهم (١) .

فإنّ هذه الأمور ونظائرها، أدّت بشيعة علي إلى أن يقفوا موقفاً أكثر وعياً وأرسخ عقيدة، وأشدّ نشاطاً، ولمّا كان علي (عليه السلام) بعيداً عن ذلك المقام - الذي يجعلهُ مُشرفاً على التربية العامّة للناس - انصرفَ إلى تربية الخاصّة من شيعته وأنصاره.

٥. انتهاءُ الخلافة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته

بدأت خلافة علي (عليه السلام) في أواخر سنة خمس وثلاثين للهجرة، واستمرّت حوالي أربع سنوات وتسعة أشهر، وكان في سيرته مُماثلاً لسيرة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢) ، وأعاد مُعظم المسائل التي وجِدت في زمن الخلفاء السابقين إلى حالتها الأولى، وعَزلَ الولاة غير الكفوئين (٣) ، وفي الحقيقة أحدثَ انتفاضة ثوريّة كانت تنطوي على مشاكل متعدّدة.

والإمام علي (عليه السلام) في الأيّام الأولى من خلافته وقفَ مخاطباً الناس قائلاً:

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١١٣، ابن أبي الحديد ج١: ٩.

وقد ورد في روايات كثيرة أنّه أرسلَ على علي (عليه السلام) بعد انعقاد البيعة لأبي بكر، وطلبَ منه البيعة، فأجابهُ بـ: (إنّني عاهدتُ نفسي ألاّ أخرُج من داري سوى وقت الصلاة، حتّى أُكمل جَمع القرآن)، ويُروى أيضاً: أنّ عليّاً بايعَ أبا بكر بعد ستّة أشهر، وهذا دليل على جَمعه للقرآن، ويُروى أيضاً: أنّ عليّاً بعد انتهائه من جَمع القرآن، حَملَ القرآن على ناقة وجاء به إلى الناس، ويروى أيضاً: أنّ معركة اليمامة كانت في السنة الثانية من خلافة أبي بكر، وبعد انتهاء المعركة جَمع القرآن، كلّ هذه تشير إليها كُتب التاريخ والحديث التي تعرّضت لموضوع جَمع القرآن.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٥، مُروج الذهب ج٢: ٣٦٤.

٢٩

(ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعثَ الله نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذي بعثهُ بالحقّ لتُبلبِلنّ بَلبلة، ولتُغربلنّ غَربلة، ولتُساطنّ سوط القدر، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا، وليَقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا (١) ).

استمرّ الإمام علي (عليه السلام) في حكومته الثوريّة، فُرفعت أعلام المعارضة من قِبَل المخالفين، كما هي طبيعة الحال لكلّ ثورة، إذ لابدّ من مُناوئين، يرونَ مصالحهم في خطر، فأحدَثوا حرباً داخليّة دامية، بحجّة الأخذ بثأر دم عثمان، والتي استمرّت طوال خلافة الإمام علي (عليه السلام) تقريباً.

ويعتقد الشيعة أنّ المسبّبين لهذه الحروب لم يريدوا سوى منافعهم الخاصّة، ولم يكن الثأر بدم عثمان إلاّ ذريعة يتمسّكون بها؛ ليُحرِّضوا عوام الناس للمعارضة والنهوض أمامَ إمام الأمّة وخليفتها، إذ إنّ هذه المعارضة لم تَحدث عن سوء تفاهم (٢) .

وما الأسبابُ والدوافع التي خَلقت معركة الجَمل إلاّ غائلة الاختلاف الطبقي، والتي وُجدت في زمن الخليفة الثاني إثرَ توزيع الأموال من بيت المال بطُرق متباينة،

____________________

(١) نهج البلاغة: خطبة رقم (١٥).

(٢) بعد وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امتنعَ جمعٌ قليل من شيعة علي من البيعة، وكان في مقدّمتهم من الصحابة: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمّار، وفي أوائل خلافة علي (عليه السلام) امتنعَ من البيعة جماعة، مثل: سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحَكم، وعمرو بن العاص، وبُسر بن أرطاة، وسَمَرة بن جُندب، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم.

وعند دراسة حياة هذين الفريقين، والتأمّل في أعمالهم طوال حياتهم، وما احتفظ به التاريخ من قصص، يتّضح جليّاً كُنه شخصيّتهم وأهدافهم، فالفريق الأوّل كان من أصحاب النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المقرّبين، واشتهروا بزُهدهم وعبادتهم وتضحيتهم للإسلام، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ الله أمَرَني بحبّ أربعة وأخبرني أنّهُ يُحبّهم، قيل يا رسول الله، مَن هم؟ قال: منهم علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد).

سُنن ابن ماجة ج١: ٥٣.

عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما عُرِض على عمّار أمران إلاّ اختارَ الأرشد منهما) سُنن ابن ماجة ج١: ٥٢.

٣٠

وبعد خلافة علي (عليه السلام) كانت الأموال توزّع بين الناس بالسويّة (١) .

كما كان يفعله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته، والطريقة هذه أثارت غضب الزبير وطلحة فَمَردا على النفاق، فخرجا من المدينة إلى مكّة بحُجّة الحج، فاتّفقا مع أم المؤمنين (عائشة) - والتي كانت في مكّة، ولم يكن بينها وبين علي صفاء ومودّة - أن يطالبوا بدم عثمان، فأضرموا نار الحرب (٢) .

عِلماً بأنّ طلحة والزبير كانا في المدينة عندما حوصِرت دار الخليفة الثالث، فلم يدافعا عنه، ولم ينصراه (٣)، وبعد مقتله كانا من الأوائل الذين بايعوا عليّاً أصالة عن أنفسهم ونيابة عن المهاجرين (٤) .

وأمّا أُمّ المؤمنين (عائشة) فقد كانت ممّن حرّضوا الناس لقتل الخليفة الثالث (٥) ، وعندما سَمعت نبأ مقتله لأوّل مرّة قالت: بُعداً وسُحقاً، وفي الحقيقة أنّ المسبّبين الأصليين لمقتل الخليفة كانوا من الصحابة، وذلك بإرسال الرسائل إلى البلدان لغرض إثارة الناس على الخليفة.

وأمّا السبب الذي أحدَثَ حرب صفّين - والتي استمرّت سنة ونصف السنة - فهو طمع معاوية في الخلافة، فأجّج نارها متذرِّعاً بدم عثمان، فأُريقت الدماء، وقُتل ما يُقارب من مائة ألف، وكان موقف معاوية من هذه الحرب موقف المُهاجم، وليس موقف المُدافع؛ لأنّ الثأر يكون دفاعاً.

وكان شعار هذه الحرب: المطالبة بدم عثمان، عِلماً بأنّ الخليفة الثالث قد طلبَ المساعدة والعون من معاوية لردّ الهجوم، وتحرّك جيش معاوية من الشام متّجهاً إلى المدينة، ولكنّه تَباطأ في سَيره حتّى قُتل عثمان، وعندئذٍ

____________________

(١) مُروج الذهب ج٢: ٣٦٢، نهج البلاغة: خطبة رقم ١٢٢، اليعقوبي ٢: ١٦٠، ابن أبي الحديد ج١: ١٨٠.

(٢) اليعقوبي: ج٢، أبي الفداء ج١: ١٧٢، مرُوج الذهب ج٢: ٣٦٦.

(٣) اليعقوبي ج٢: ١٥٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٤، تاريخ أبي الفداء ج١: ١٧١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٢.

٣١

رجعَ إلى الشام يُطالب بدم عثمان (١) .

وبعد أن استشهدَ الإمام علي (عليه السلام)، تناسى معاوية قَتَلة الخليفة ولم يُعاقبهم.

وبعد حرب (صفّين) اندلعت نار حرب (النهروان) فثارَ جمعٌ من الناس - وفيهم بعض الصحابة - بإيعاز من معاوية ممّن كان في حرب صفّين، فثاروا على علي (عليه السلام)، فرحلوا إلى البلدان الإسلاميّة، فقتلوا كلّ مَن كان يُدافع عن علي (عليه السلام) ففتكوا بالنساء الحوامل، ومثّلوا بهنّ وبأجنّتهنّ (٢) .

والإمام علي (عليه السلام) قد أخمدَ هذه الغائلة، ولكن بعد فترة استشهد في مسجد الكوفة أثناء الصلاة على يد الخوارج.

٦. ما حَصَلت عليه الشيعة طوال خلافة الإمام علي (عليه السلام) في خمس سنوات

الإمامُ عليّ (عليه السلام) طوال خلافته الأربع سنوات وتسعة أشهر، وإن لم يوفّق من إعادة الأوضاع المضطربة إلى حالتها الطبيعيّة، إلاّ أنّه قد وفِّق من ثلاث جهات أساسيّة:

١) استطاع أن يُظهر شخصيّة النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المضيئة بسيرته العادلة للناس، وخاصّة الشباب، فقد كان يواسي أفقر الناس في عيشه، أمامَ تلك العظمة التي كان يتّصف بها معاوية، إذ كان لا يقل عن كِسرى وقيصر،

____________________

(١) … فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجّه إليه في اثني عشر ألفاً، ثُمّ قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام، حتّى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحّة أمره، فأتى عثمان فسألهُ عن المدّة؟ فقال: قد قدمتُ لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم، قال: لا والله، ولكنّك أردتَ أن أُقتَل فتقول: أنا وليّ الثأر، ارجع فجئني بالناس، فرجعَ فلم يعُد إليه حتّى قُتل. تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٥٢، مُروج الذهب ج٣: ٢٥، الطبري: ص ٤٠٢.

(٢) مُروج الذهب ج٢: ٤١٥.

٣٢

فالإمام علي لم يُقدِّم أحداً من أصدقائه وأقربائه وعشيرته على الآخرين، ولم يُرجِّح الغني على الفقير، ولا القويّ على الضعيف.

٢) مع كثرة المشاكل المُنهِكة للقوى، فقد استطاع أن يضع في متناول أيدي المسلمين الذخائر القيّمة من المعارف الإلهيّة والعلوم الإسلاميّة الحقّة.

وأمّا ما يقوله المخالفون لعلي (عليه السلام): إنّه كان رجلاً شجاعاً، ليس له علم بالسياسة، إذ كان يستطيع في بداية خلافته أن يُرضي مخالفيه مؤقّتاً عن طريق المُداهنة، وبعد أن يستتبّ له الأمر كان باستطاعته أن يحاربهم ويقضي عليهم.

ولكنّ هؤلاء قد غفلوا عن ملاحظة هامّة وهي: أنّ خلافة علي كانت نهضة ثوريّة، وجدير بالنهضات الثوريّة، أن تكون بعيدة كلّ البُعد عن المُداهنة والرياء، وقد حدثَ مثيله في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوائل بعثته، فطلبَ الكفّار والمشركون منه الصلح عدّة مرّات وطلبوا منه ألاّ يتعرّض لآلهتهم، وهم مُلزمون بعدم التعرّض لدعوته أيضاً، ولكنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رفضَ هذا الاقتراح، في حين أنّه كان يستطيع أن يقيم معهم الصلح، ويُحكِم موقفهُ، ثُمّ ينهض بوجه أعدائه، وفي الحقيقة أنّ الدعوة الإسلاميّة لن تسمح بإضاعة حقٍ لإقامة حق آخر، أو أن تُزيل باطلاً بباطل آخر، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الخصوص (١) .

عِلماً بأنّ أعداء علي (عليه السلام) ومخالفيه، لم يرتدعوا عن القيام بأيّ جُرم وجناية، ونقضٍ للقوانين الإسلاميّة الصريحة (دون استثناء) بُغية الوصول إلى أهدافهم، فكانوا يبرِّرون مواقفهم وأعمالهم بأنّهم من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن مُجتهدي الأمّة، ولكنّ الإمام علي (عليه السلام) كان ملتزماً بالأحكام الإسلاميّة.

ويُروى عن عليّ (عليه السلام) ما يُقارب من إحدى عشر ألف كلمة قصيرة في

____________________

(١) شأن نزول الآية: ( وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) سورة ص: الآية ٥، والآية: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) سورة الإسراء: الآية ٧٣، والآية: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) سورة القلم: الآية ٩، ويراجَع المباحث الروائيّة في التفاسير.

٣٣

المسائل العقليّة والاجتماعيّة والدينيّة (١) ، وخُطبه وكلماته البليغة (٢) مَليئة بالمعارف الإسلاميّة (٣) ، وهو الذي أسّس قواعد اللغة العربيّة، ووضعَ الأُسس والمقوّمات للأدب العربي، وهو أوّل مَن تبّحرَ في الفلسفة الإلهيّة (٤) ، وتكلّم وفقاً لطريقة الاستدلال الحُر والبرهان المنطقي، وتعرّض لمسائل فلسفيّة لم يتعرّض لها فلاسفة العالَم حتّى ذلك الوقت، فاهتمّ بهذا الشأن اهتماماً بالغاً، وحتّى في أحرج ساعات الحرب (٥) .

٣) هذّب وربّى العديد من رجال الدين وعلماء الإسلام (٦)، وكان من بينهم جمعٌ من الزُهّاد وأهل المعرفة مثل: أويس القَرَني، وكُميل بن زياد، وميثم التمّار، ورشيد الهَجَري، ويُعتبر هؤلاء من المنابع الأصيلة للعرفان من بين العرفاء الإسلاميّين، ويُعتبر البعض الآخر منهم المصادر الرئيسيّة والأوّليّة لعلم الفقه، والكلام، والتفسير، وقراءه القرآن وغيرها.

____________________

(١) كتاب الغُرر والدُرر للآمدي، وكُتب الحديث.

(٢) مٍُروج الذهب ج٢: ٤٣١، ابن أبي الحديد ج١: ١٨١.

(٣) الأشباه والنظائر للسيوطي في النحو: ج٢، ابن أبي الحديد ج١: ٦.

(٤) يُراجع نهج البلاغة.

(٥) يُروى أنّ إعرابيّاً قامَ يوم الجَمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد، فَحَمل الناس عليه وقالوا: يا إعرابي، أمَا ترى ما في أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (دعوه، فإنّ الذي يريده الإعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال: يا إعرابي، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجل، ووجهان يَثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه:

فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا لا يجوز؛ لأنّ ما لا ثانيَ له لا يدخل في باب الأعداد، أمّا ترى أنّه كفرَ مَن قال إنّه ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس، فهذا ما لا يجوز؛ لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يَثبتان فيه: فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شَبه كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّ وجل أحَدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود، ولا عقل، ولا وَهم كذلك ربّنا عزّ وجل).

بحار الأنوار ٢: ٦٥ (كمباني).

(٦) ابن أبي الحديد ج١: ٦ - ٩.

٣٤

٧. انتقالُ الخلافة إلى معاوية وتحوّلها إلى ملوكيّة موروثة

بعد استشهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، تصدّى لمنصب الإمامة الحسن بن علي (عليه السلام)؛ وذلك وفقاً لوصيّة الإمام علي (عليه السلام) ومبايعة الناس له، ويُعتبر الإمام الثاني للشيعة الاثنى عشريّة، ولكنّ معاوية لم يستقرّ ويهدأ لهذا الأمر، فجّهز جيشهُ واتّجه به إلى العراق مقرّ الخلافة، مُعلناً الحرب مع الحسن بن علي (عليه السلام).

أفسَدَ معاوية رأي أصحاب الحسن (عليه السلام) بمختلف الطُرق والدسائس، ومَنحَ الأموال الطائلة لهم، وأجبرَ الإمام الحسن (عليه السلام) على الصُلح معه، وأن تصير الخلافة إليه، على شرط أن تكون للحسن (عليه السلام) بعد وفاة معاوية، وألاّ يتعرّض إلى شيعته، فصارت الخلافة لمعاوية وفقاً لشروط (١) .

استولى معاوية على الخلافة سنة ٤٠ للهجرة، فاتّجه إلى العراق، فخطبَ فيهم قائلاً: (يا أهل الكوفة، أترونَني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج! وقد علمتُ أنّكم تُصلّون وتُزكّون وتحجّون، ولكنّي قاتلتُكم لأتأمّرُ عليكم وقد آتاني الله ذلك، وأنتم كارهون) (٢) .

وقال أيضاً: (ألا إنّ كلّ دمٍ أُصيبَ في هذه مطلول، وكلّ شرطٍ شَرَطتهُ فتحتُ قدمّي هاتين) (٣) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٩٠ وسائر كُتب التاريخ.

(٢) ابن أبي الحديد ج٤: ١٦٠، الطبري ج٤: ١٢٤، ابن الأثير ج٣: ٢٠٣.

(٣) المصادر السابقة.

٣٥

ومعاوية بكلماته هذه يشير إلى أنّه يريد أن يفصل السياسة عن الدين، فهو لا يريد إلزام أحد بأحكام الدين، وإنّما كان اهتمامه بالحكومة فحسب واستحكام مقوّماتها، وبديهي أنّ مثل هذه الحكومة ملوكيّة وليست خلافة واستخلافاً لمنصب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد حضرَ البعض مجلسه فسلّموا عليه بسلام الملوك (١) ، وكان يُعبِّر في بعض مجالسه الخاصّة عن حكومته بالملوكيّة (٢) ، عِلماً بأنّه كان يُعرِّف نفسه خليفة في خُطبه، والملوكيّة التي تُقام على القوّة تتبعها الوراثة، وفي النتيجة كان الأمر كما أراد ونوى، فاستخلفَ ابنه يزيد، وجعلهُ خليفة له من بعده، وكان شابّاً لا يتّصف بشخصيّة دينيّة، إذ قام بأعمال وجرائم يندى لها الجبين (٣) .

فمعاوية مع بيانه السالف، كان يعني أنّه لم يَرغب في أن يصل الحسن (عليه السلام) إلى الخلافة بعده، أي أنّه كان يفكر في موضوع الخلافة بشيء آخر، وهو دسّ السُم إلى الحسن (عليه السلام) (٤) ، فهو بهذا الأمر قد مهّد السبيل إلى ابنه يزيد، ومع إلغائه معاهدة الصلح كان يهدف إلى اضطهاد الشيعة، ولن يسمح لهم بالحياة المطمئنة، أو أن يستمرّوا كما في السابق في نشاطهم الديني، ووفِّقَ في هذا المضمار أيضاً (٥) .

وصرّح معاوية في خصوص مناقب أهل البيت، بأنّ كلّ ناقلٍ لحديث في هذا الشأن، لم يكن بمأمنٍ في حياته، وماله، وعرضه (٦) ، وأمرَ أن تُعطى الهدايا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٩٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج٢: ٢٠١.

(٣) كان يزيد صاحب طرَب، وجوارٍ، وكِلاب، وقرود، ومنادمة على الشراب، وكان له قرد يكنّى بأبي قيس يُحضره مجلس منادمته ويطرَح له متّكأ، فجاء في بعض الأيّام مسابقاً فتناول القصبة ودخلَ الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر … مُروج الذهب ج٣: ٦٧.

(٤) مُروج الذهب ج٣: ٥، أبي الفداء ج١: ١٨٣.

(٥) النصائح الكافية: ص ٧٢ نقلاً عن كتاب الأحداث.

(٦) روى أبو الحسن المدائني في كتاب الأحداث قال: كتبَ معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة جاء فيها: إنّه برئتُ الذمّة ممّن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته، كتاب النصائح الكافية، تأليف محمّد بن عقيل، طبع النجف سنة ١٣٨٦ هجري، ص ٧٧، وأيضاً النصائح الكافية: ص ١٩٤.

٣٦

والجوائز لكل مَن يأتي بحديثٍ في مناقب سائر الصحابة والخلفاء، وكانت النتيجة أن توضَع أخبار كثيرة في مناقب الصحابة (١) ، وأمرَ أن يُسبّ الإمام علي (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلاميّة من على المنابر (وهذا الأمر كان سارياً حتّى زمن عُمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي سنة ٩٩ - ١١٠ هجري).

فَقتلَ جماعة من خاصّة شيعة علي (عليه السلام) بمساعدة عمّاله، وكان بعضهم من الصحابة، ورُفعت رؤوسهم على الرِماح، تُنقل من بلدٍ لآخر، وكلّف عامّة الشيعة بسبّ علي (عليه السلام) والتبرّي منه، فكان القتلُ حليف مَن خالفَ وأَبى (٢) .

٨. الأيّامُ العصيبة التي مرّت بالشيعة

من أَشدّ الأيّام التي مرّت بها الشيعة قساوة، هو زمن حكومة معاوية بن أبي سفيان، والتي استمرّت زَهاء عشرين عاماً، ولم تكن الشيعة بمأمن، وكان أغلب رجال الشيعة يُشار إليهم بالبنان، ولم تكن لدى الحسن والحسين (عليهما السلام) - اللذَين عاصرا معاوية - أدنى وسائل تُمكّنهم من القيام، والقضاء على الأوضاع المؤلمة.

والإمام الحسين (عليه السلام) عندما نهض في الأشهر الأولى من حكومة يزيد، استُشهدَ ومَن كان معه من أولاد وأصحاب، عِلماً بأنّه لم يَجرأ على القيام طوال السنوات العشر التي عاشها في زمن معاوية.

____________________

(١) النصائح الكافية: ص ٧٢ - ٧٣.

(٢) النصائح الكافية: صفحة ٥٨، ٦٤، ٧٧، ٧٨.

٣٧

فبعض إخواننا أهل السُنّة يذهبون إلى التوجيه والتأويل في سَفك الدماء هذه، وما شابهها من أعمال إجراميّة كان يقوم بها بعض الصحابة، وخاصّة معاوية، مبرّرين أعمالهم ومواقفهم هذه، بأنّهم من صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووفقاً للأحاديث المرويّة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنّ الصحابة مجتهدون معذورون، وأنّ الله جلّ وعَلا راضٍ عنهم، لكنّ الشيعة ترفض هذا بأدلّة:

أوّلاً: يستحيلُ على قائدٍ كالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي نهضَ لإحياء الحقّ والحريّة والعدالة الاجتماعيّة - واتّبعه جَمع من الناس، فَضحّوا بما لديهم - في سبيل تحقّق هذا الهدف المنشود، وعند تحقّقه يترك العنان لهم، ويمنحهم الحريّة المطلقة أمام الأحكام المقدّسة، كي يقوموا بأيّ عمل شاؤوا، وهذا يعني أن ينهار البناء الشامخ بتلك الأيدي التي ساهمت في إقامته وتشييده.

ثانياً: إنّ الروايات التي تُقدِّس الصحابة وتُنزّههم - وتُصحِّح أعمالهم غير المشروعة وتوجّهها، وتَعتبرهم من الذين قد كفّرَ الله عنهم سيّئاتهم، وإنّهم مصونون وما إلى ذلك - قد وُضِعت من قِبَل هؤلاء الصحابة أنفسهم، والتاريخ يشهد أنّ الصحابة لم يكن أحدهم ليحترم الآخر، ولم يغضّ النظر عن أعماله القبيحة، وإنّما كان يُشهّر به ويُعرِّفه للملأ، فقد قام بعضهم بالقتل الجماعي واللعن والسب وفضح الآخرين، ولم تكن هناك أيّة مسامحة أو إغماض فيما بينهم.

ووفقاً لمَا ذكرنا، فإنّ الصحابة يشهدون أنّ هذه الروايات غير صحيحة، وإذا ما تحقّقت صحّتها، فإنّ المراد منها معنىً آخر، غير التنزيه والتقديس القانوني للصحابة.

ولو قُدِّر أنّ الله سبحانه وتعالى قد مَدحهم ورفع شأنهم في بعض آياته (١) ، فإنّ هذا يدلّ على ما قدّموه من خَدمات في سابق حياتهم، وتنفيذاً لأوامر الله تعالى، فطبيعي أن يتحقّق رضى الله تعالى، ولم يكن المراد من أنّهم يستطيعون أن يقوموا بكلّ ما تراودهم نفوسهم في المستقبل، وإن كان خلافاً لأحكام الله تعالى.

____________________

(١) سورة التوبة: الآية ١٠٠.

٣٨

٩. استقرارُ ملوكيّة بني أميّة

توفي معاوية سنة ٦٠ للهجرة، واستولى على عرش الخلافة ابنه يزيد وفقاً للبيعة التي أخذها أبوه من الناس، وأصبحَ زعيماً لحكومة إسلاميّة.

والتأريخ يشهد بأنّ يزيد لم يكن ليتّصف بأيّة شخصيّة إسلاميّة، فقد كان شابّاً لا يُبالي بأحكام الإسلام حتّى في زمن أبيه، كان فاسقاً فاجراً، لا يتناهى عن شرب الخمر، مُتّبعاً لأهوائه وشهواته، قامَ بأعمال إجراميّة طوال السنوات الثلاث التي حَكم فيها، لم يسبق لها مثيل منذ ظهور الإسلام، مع ما انطوت عليه من أحداث وفتن.

ففي السنة الأولى: قَتلَ الحسين بن علي (عليه السلام) سبط النبي المرسل (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومَن كان معه من أولاده وأقربائه وأصحابه، قتلة مُفجعة، وطافَ بالنساء والأطفال لأهل بيت العصمة والطهارة مع رؤوس الشهداء في البلدان (١) .

وفي السنة الثانية: أمرَ جيشهُ بالإبادة الجماعيّة للناس في مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأباحَ دماءهم وأموالهم وأعراضهم لثلاثة أيّام (٢) .

وفي السنة الثالثة: أمرَ بهدم الكعبة المقدّسة وأحرَقها (٣) ، وبعد وفاة يزيد،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج٢: ٢١٦، أبي الفداء ج١: ١٩٠، مُروج الذهب ج٣: ٦٤، وكُتب التاريخ الأخرى.

(٢) اليعقوبي ج٢: ٢٤٣، أبي الفداء ج١: ١٩٢، مُروج الذهب ج٣: ٧٨.

(٣) اليعقوبي ج٢: ٢٢٤، أبي الفداء ج١: ١٩٢، مُروج الذهب ج٣: ٨١.

٣٩

تسلّط على رقاب الناس آلُ مروان من بني أُميّة، هذا ما تتناقلهُ كُتب التأريخ، وكانت لحكومة هذه الزمرة والتي شملت أحد عشر شخصاً، واستمرّت مدّة سبعين عاماً، أيّام عصيبة على الإسلام والمسلمين، فلم تكن سوى إمبراطوريّة عربيّة مستبدّة في مجتمع إسلامي، وكانت تُدعى بالخلافة الإسلاميّة، حتّى آلَ الأمر بالخليفة آنذاك - خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُعتبر المُدافع الوحيد عن الدين - أن يقرِّر بناء غرفة على الكعبة، كي يتسنّى له الجلوس فيها للنُزهة وفي أيّام الحجّ خاصّة (١) .

والخليفة آنذاك قد رمى القرآن بالسهام، وقال في شِعرٍ له مُخاطباً القرآن: في اليوم الذي تَحضر فيه أمامَ الربّ، أنبِئهُ أنّ الخليفة مزّقكَ تمزيقاً (٢).

من الطبيعي أنّ الشيعة كانوا يختلفون اختلافاً أساسيّاً مع أكثريّة أهل السُنّة حول مسألتين: الخلافة الإسلاميّة، والمرجعيّة الدينيّة، كانت تعاني أيّاماً قاسية في هذه المرحلة المظلمة، ولكنّ الظلم والجور من قِبَل حُكّام الوقت، والمظلوميّة والتقوى والورع الذي كان يتّصف به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كانت تجعلهم أكثر رسوخاً في عقائدهم، وخاصّة بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) الإمام الثالث للشيعة، ممّا ساعد في انتشار الفكر الشيعي في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة مثل: العراق، واليمن، وإيران.

وممّا يشهد على صحّة هذا الادّعاء: ما حدثَ في زمن الإمام الخامس للشيعة، والقرن الأوّل الهجري لم يكتمل بعد، ولم تمضِ على مقتل الحسين فترة لا تزيد على الأربعين سنة، ولاضطراب الأوضاع وظهور الاختلال في حكومة بني أُميّة، اتّجه الشيعة من جميع الأقطار الإسلاميّة إلى الإمام الخامس

____________________

(١) الوليد بن يزيد: اليعقوبي ج٣: ٧٣.

(٢) الوليد بن يزيد: مُروج الذهب ج٣: ٢٢٨.

أتوعِدُ كــلّ جبّارٍ عنيـد  فهـا أنا ذاك جبّار عَنيد

إذا ما جئتَ ربّك يوم حشرٍ  فقُل يا ربِّ مزّقني الوليد

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206