الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96875 / تحميل: 7410
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

واهتمّوا بأخذ الحديث والمعارف الإسلاميّة منه (١) .

وفي أواخر القرن الأوّل الهجري، قامَ جماعة من الأُمراء بإنشاء مدينة قُم في إيران (٢) ، وقد أسكنوا فيها الشيعة، ولكنّ الشيعة - حسب أوامر أئمّتهم - كانوا يعيشون دون تظاهر بعقيدتهم، التزاماً بمبدأ التقيّة، وطالما نهضَ رجال من السادة العَلَويين أثر كثرة الضغوط التي كانت تظهر من قِبَل الحكّام الجائرين، ولكنّ قيامهم هذا كان نتيجة الفشل والقتل، وقدّموا في سبيل عقيدتهم ونهضتهم هذه المزيد من النفوس، ولم تُبالِ الحكومة بإبادتهم والقضاء عليهم.

أخرجوا جثمان (زيد) زعيم الشيعة الزيديّة من قبره، وصلبوه لمدّة ثلاث سنين، ومن ثُمّ أحرَقوه، وذَرَوا رَماده في الهواء (٣) ، حتّى أنّ أكثريّة الشيعة تعتقد أنّ مقتل الإمام الرابع والخامس قد تمّ على أيدي بني أُميّة (٤) ، وذلك بدسّ السُمّ إليهما، وكذا وفاة الإمام الثاني والثالث كان على أيديهم.

إنّ الفجائع التي ارتكبها الأمويون كانت إلى حدٍ ممّا جَعَلت أكثريّة أهل السُنّة مع اعتقادها بالخلفاء عامّة، وإنّهم مفروضوا الطاعة، جَعَلتهم أن يقسِّموا الخلفاء إلى قسمين: الخلفاء الراشدين، وهم الخلفاء الأربعة الأوائل بعد وفاة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي)، والخلفاء غير الراشدين أوّلهم معاوية.

والأمويون طوال حكومتهم، وعلى أثر ظلمهم وجورهم، أثاروا سخطَ الأُمّة وغَضبها إلى أبعد الحدود، وبعد سقوط دولتهم ومقتل آخَر خليفة لهم، فرّ وَلَدا الخليفة مع جَمعٍ من العائلة الأمويّة من دار الخلافة ولم يجدوا في أيّ مكانٍ ملجأ يتّجهون إليه، فتاهوا في صحارى: النوبة، والحَبَشة، وبجاوة، وماتَ الكثير منهم أثرَ الظمأ والجوع، ثُمّ توجّهوا إلى جنوب اليمن فَمكثوا هناك زمناً، كانوا يحصلون على مالٍ من الناس عن طريق الاستجداء والصدقة والعطف عليهم، ومن ثُمّ انتقلوا إلى مكّة مرتَدين زيّ الحمّالين وانصهروا في ذلك المجتمع (٥) .

____________________

(١) يُراجع: مبحث معرفة الإمام في هذا الكتاب.

(٢) مُعجم البلدان كلمة (قُم).

(٣) مُروج الذهب ج٣: ٢١٧ - ٢١٩، اليعقوبي ج٣: ٦٦.

(٤) كتاب البحار: ج١٢ وسائر المصادر الشيعيّة.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج٣: ٨٤.

٤١

١٠. الشيعةُ في القرن الثاني للهجرة

ظهرت دعوة باسم أهل بيت النبوّة في خراسان يتزعّمها (أبو مسلم المروزي) ، وذلك في أواخر الثُلث الأوّل من القرن الثاني للهجرة، إثر النهضات والحروب الدامية التي ظهرت في جميع البلدان الإسلاميّة، كردّ فعلٍ للظلم والجور والمعاملة السيّئة التي كان يقوم بها بنو أُميّة.

وأبو مسلم هذا: قائدٌ فارسي، قام ضدّ الحكومة الأمويّة، وحازَ على تقدّم حتّى أطاحَ بالدولة الأمويّة (١) .

والنهضة أو الثورة هذه وإن كانت تَستلهم من الدعايات الشيعيّة، وكانت تتّصف أيضاً - إلى حدٍّ ما - بثار شهداء أهل البيت، وقامت بأخذ البيعة لرجلٍ لم يُعرَف من أهل البيت، مع هذا كلّه لم تكن بإيعاز من أئمّة الشيعة، لا بالشكل المباشر ولا بغير المباشر، والدليل على ذلك: هو أنّ أبا مسلم لمّا عَرضَ البيعة للخلافة على الإمام السادس في المدينة، كان ردّ الإمام عنيفاً، إذ أحرقَ الكتاب المرسَل إليه على السراج، وقال للرسول: (عَرِّف صاحبك بما رأيت) (٢) .

____________________

(١) اليعقوبي ج٣: ٧٩، أبي الفداء ج١: ٢٠٨، وكُتب التاريخ الأخرى.

(٢) اليعقوبي ج٣: ٨٦، مُروج الذهب ٣: ٢٦٨.

٤٢

وبالنتيجة: قبضَ بنو العبّاس على الخلافة باسم أهل البيت (١) ، وأبدَوا عنايتهم ورعايتهم للعلَويين في بداية أمرهم، فقضوا على الأمويين وأبادوهم إبادة كاملة، وذلك انتقاماً لشهداء العَلويين، ونبشوا قبور خلفاء بني أُميّة، وأخرَجوا منها الأجساد، وعَرضوها على النيران (٢) ، ولم تمضِ فترة حتّى اتّخذوا سيرة بني أُميّة نَهجاً لهم، ولم يتوانوا عن القيام بأيّة أعمال بشعة منافية للشريعة، فظلموا وجاروا على الناس.

سُجن (أبو حنيفة) : وهو أحد رؤساء المذاهب الأربعة في زمن المنصور (٣) ، ولاقى أنواع التعذيب، وضُرب (أبو حنبل) - أحد رؤساء المذاهب الأربعة - بالسياط (٤) ، وقُضيَ على الإمام السادس للشيعة الإماميّة بالسمّ (٥) ، بعد الأذى والتعذيب، وكان يُقدّم العلويون جماعات لضرب أعناقهم، أو أن يُدفنوا وهم أحياء، أو أن يوضَعوا أحياء في الجدران، وأُسس الأبنية الحكوميّة.

وأمّا (هارون الرشيد) الخليفة العبّاسي: فقد توسّعت في زمنه الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وكان ينظر أحياناً إلى الشمس مُخاطباً إيّاها بقوله: أشرِقي في أيّ مكانٍ شئتِ، فإنّكِ لم تُشرقي خارج مِلكي.

فمن جهةٍ، كان جيش الخليفة يُحارب ويتقدّم في أقصى الشرق والغرب في العالَم.

من جهةٍ أخرى، يُشاهَد على جسر بغداد - والذي لا يبعد عن قَصره سوى خطوات - الجُباة يأخذون من المارّة حقّ العبور دون علم الخليفة وإذنه،

____________________

(١) اليعقوبي ج٣: ٨٦، مُروج الذهب ج٣: ٢٧٠.

(٢) اليعقوبي ج٣: ٩١ - ٩٦، أبي الفداء ج١: ٢١٢.

(٣) تاريخ أبي الفداء ج٢: ٦.

(٤) اليعقوبي ج٣: ١٩٨، أبي الفداء ج٢: ٣٣.

(٥) كتاب البحار: ج٢١٢، حياة الإمام الصادق (عليه السلام).

٤٣

ويُذكر أنّ الخليفة نفسه، أرادَ عبور الجسر ذات يوم فطولِبَ بحقّ العبور (١) .

وممّا يُذكر عن (الأمين ) الخليفة العبّاسي، أنّه وهبَ إلى مطرب ثلاثة ملايين درهم فضّة إزاء ما غَنّاهُ لبيتينِ غَزل، فرَمى المطرب نفسه على قَدَمي الخليفة قائلاً: تمنحني هذه الأموال الطائلة يا أمير المؤمنين؟ فأجابهُ الخليفة: ليس الأمر بمهم نستعيضها من ناحية من نواحي البلاد (٢) .

كانت الأموال الطائلة تتدفّق إلى بيت مال المسلمين من جميع الأقطار الإسلاميّة، وتُصرَف للهو الخليفة ولعبه، كانت تُعد الجواري والفَتيات الحسناوات والغِلمان في بلاط الخلفاء بالآلاف.

لم يتغيّر وضع الشيعة بعد انقراض حكومة بني أُميّة، ومجيء دولة بني العبّاس، سوى تغيير اسم للأعداء الظَلَمة والجائرين.

١١. الشيعةُ في القرن الثالث للهجرة

استطاع الشيعة أن يتنفّسوا الصعداء في أوائل القرن الثالث الهجري، والسبب في ذلك يعود إلى:

أوّلاً: ترجمةُ الكثير من الكتب الفلسفيّة والعلميّة من اليونانيّة والسريانيّة وغيرهما إلى العربيّة، فتسابقَ الناس على تحصيل العلوم العقليّة والاستدلاليّة، عِلماً بأنّ المأمون الخليفة العبّاسي (١٩٥ - ٢١٨) المعتزلي، كان يرغب في الاستدلال العقلي في المذاهب ويُبدي اهتمامهُ له، وكانت النتيجة أن ينتشر البحث الاستدلالي في الأديان، وتُعطى الحريّة الكاملة لأصحاب

____________________

(١) قصّة جسر بغداد.

(٢) كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: (قصّة الأمين).

٤٤

المذاهب، فانتهزَ علماء الشيعة ومتكلّموهم هذه الحريّة الفكريّة، فلم يتوانوا في النشاط العلمي، ونشرِ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) (١) .

ثانياً: مَنحُ المأمون الإمام الثامن ولاية عهده بمقتضى سياسته، فأصبحَ الشيعة ومحبّو أهل البيت بعيدين عن التعرّض إلى حدٍّ ما من قِبَل الولاة وأصحاب المناصِب، وأصبحوا يتمتّعون بشيءٍ من الحريّة، إلاّ أنّ الفترة هذه لم تدُم كثيراً، وتعرّض الشيعة للملاحقة الشديدة، والقتل والتشريد، وعادت السُنّة التي كانت سائدة، وخاصّة في زمن المتوكّل العبّاسي (٢٣٢ - ٢٤٧) للهجرة، إذ كان يُعادي عليّاً وشيعته عداءً خاصّاً، وهو الذي أمرَ بهدم مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ثالث أئمّة الشيعة في كربلاء (٢) .

١٢. الشيعةُ في القرن الرابع للهجرة

ظهرت عوامل في القرن الرابع الهجري ساعدت على انتشار مذهب التشيّع وتقويته، منها: ضُعف الخلافة العباسيّة، وظهور ملوك آل بويه.

كان لملوك آل بويه (وهم شيعة) التأثير البالغ في مركز الخلافة ببغداد، وكذا في الخليفة (٣) ، وهذه القدرة جَعلت الشيعة أن تقف أمامَ المخالفين، والذين طالما حاربوا الشيعة لمَا كان لهم من قدرة خلال خلافتهم، وتمكّن الشيعة أن ينشروا عقايدها بكلّ حريّة.

والمؤرّخون متّفقون على أنّ الجزيرة العربيّة أو معظمها، كانت تعتنق مذهب الشيعة، سوى المُدن الكبيرة منها،

____________________

(١) انظر كُتب التاريخ.

(٢) تاريخ أبي الفداء، وكُتب التاريخ الأخرى.

(٣) يُراجع كُتب التاريخ.

٤٥

عِلماً بأنّ بعض المُدن مثل: هجر، وعمّان، وصعدة، كانت شيعية، ومدينةُ البصرة كانت تُعتبر مركزاً لأهل السُنّة، وكانت في صراع ديني مع الكوفة مركز التشيّع وكان يسكن فيها بعض الشيعة، وكذا في كلّ من مدينة: طرابلس، ونابلس، وطبريّة، وحَلَب، وهرات، كان فيها من الشيعة، وكذلك في مدينة الأهواز وسواحل الخليج الفارسي من إيران (١) .

وفي أوائل هذا القرن، استولى ناصر الأطروش على شمال إيران بعد كفاحٍ دام سنوات، فاستقرّ في ناحية طبرستان وأسّس دولته، واستمرّت لأولاده من بعده، وكان الحسن بن زيد العَلوي قد حَكَم هذه المنطقة قَبل الأطروش (٢) .

وفي هذا القرن استولى الفاطميون وهم من الفرقة الإسماعيليّة على مصر، وأسّسوا حكومتهم واستمرّت أكثر من قرنين (٢٩٦ - ٥٢٧).

وكان يظهر صراع بين الشيعة والسُنّة أحياناً في مُدن كبيرة: كبغداد، والبصرة، ونيسابور، وكانت الغَلَبة في بعضها للشيعة.

١٣. الشيعةُ في القرن الخامس وحتّى القرن التاسع الهجري

توسّعت الشيعة خلال القرن الخامس حتّى أواخر القرن التاسع، بتلك النسبة التي كانت عليها في القرن الرابع، وظهرَ مُلوك اعتنقوا مذهب التشيّع، فصاروا يدعونَ له.

رَسخت الدعوة الإسماعيليّة في (قِلاع اَلَموت) ، واستقلّت في دعوتها قرناً ونصف قرن وسط إيران (٣) ، وحَكَم السادة المرعشيّون سنين متمادية في مازندران (٤) .

____________________

(١) الحضارة الإسلاميّة ج١: ٩٧.

(٢) مُروج الذهب ج٤: ٣٧٣، المِلل والنِحل ج١: ٢٥٤.

(٣) يُراجع كتاب: الكامل، وروضة الصفا، وحبيب السِيَر.

(٤) الكامل وأبي الفداء: ج٣.

٤٦

اختار الملك خدابنده، وهو أحد ملوك المغول مذهب الشيعة، وخَلَفهُ في الحُكم ملوك من هذه الطائفة لأعوام متعاقِبة، وساهموا في نشر وترويج هذه العقيدة، وكذا سلاطين (آق قوينلو) ، و (قره قوينلو) ، إذ كانت مدينة تبريز (١) مركز حكومتهم، وكانت تنبسط سيطرتهم حتّى فارس وكرمان، وحَكمت الدولة الفاطميّة في مصر لسنوات متعاقِبة.

من الطبيعي أنّ القدرة الدينيّة لأهل السُنّة مع الملوك كانت متغيّرة متفاوتة، وبعد سقوط الدولة الفاطميّة ومجيء دولة الأيّوبيين تغيّرت الظروف، وفقدَ الشيعة في مصر والشام الحريّة الفكريّة على الإطلاق، وقُتل الكثير من الشيعة (٢) منهم: الشهيد الأوّل (محمّد بن محمّد المَلَكي) أحد نوابغ الفقه الشيعي سنة ٧٨٦ للهجرة في دمشق بتهمة التشيّع (٣) ، وقُتل أيضاً الشيخ (شهاب الدين السهروردي) في حَلَب بتهمة الفلسفة (٤) .

فالشيعة خلال هذه القرون الخمسة، كانوا في ازدياد من حيث النفوس والعدد، وكانت الزيادة تابعة لموافقة ومخالفة السلاطين من حيث القدرة والحريّة الفكريّة، ولم يُعلن في هذه الفترة في أيّة دولة إسلاميّة مذهب التشيّع، مذهباً رسميّاً لها.

____________________

(١) تاريخ حبيب السِيَر.

(٢) تاريخ حبيب السِيَر، وأبي الفداء وغيرهما.

(٣) روضات الجنّات، ورياض العلماء نقلاً عن ريحانة الأدب ج٢: ٣٦٥.

(٤) الروضات، وكتاب المجالس، ووفيات الأعيان.

٤٧

١٤. الشيعةُ في القرن العاشر والحادي عشر للهجرة

نهضَ شاب في سنة ٩٠٦ للهجرة، وهو في الثالثة عشرة من عمره - من عائلة شيخ (صَفي الدين الأَردبيلي) المتوفّى سنة ٧٣٥ هجري، وكان أحد مشايخ الطريقة في الشيعة - مع ثلاثمائة من الدراويش الذين كانوا من مُريدي آبائه، وذلك لإيجاد دولة شيعيّة مستقلّة مقتدرة، فسارَ من مدينة أردبيل وشَرع بفتح البقاع وإزالة نظام ملوك الطوائف من إيران، وبعد حروبٍ دامية مع الملوك المحليّين - وخاصّة مع ملوك (آل عثمان) الذين كانوا ينوبون عن الإمبراطوريّة العثمانيّة - استطاع أن يَجعل من إيران دولة موحّدة بعد أن كانت ممزّقة، يَحكم كلّ بقعة منها فئة خاصّة، وجَعل المذهب الشيعي مذهباً رسميّاً لها (١) .

وبعد وفاة الملك (إسماعيل الصَفوي) ، أعقَبهُ ملوك آخرون من السُلالة ذاتها، حتّى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وكلّ من هؤلاء الملوك كان يؤيّد المذهب الشيعي، ففي زمن (شاه عبّاس الكبير) - والذي يُعتبر ذروة القدرة لهذه السُلالة - استطاع أن يوسِّع بُقعتهم، فازدادت نفوسهم فَبلغت ضُعف (٢) ما عليه الآن في إيران (سنة ١٣٨٤ هجري)، والفرقة الشيعيّة في القرنين ونصف القرن الأخير تقريباً، بَقيت على حالتها في سائر البقاع الإسلاميّة مع بقاء الازدياد الطبيعي لها.

____________________

(١) روضة الصفا، وحبيب السِيَر وغيرهما.

(٢) روضة الصفا، وحبيب السِيَر.

٤٨

١٥. الشيعةُ في القرن الثاني عشر وحتّى القرن الرابع عشر للهجرة

إنّ التقدّم في المذهب الشيعي خلال القرون الثلاثة الأخيرة كان بشكله الطبيعي كما في السابق، والوقت الحاضر الذي هو أواخر القرن الرابع عشر الهجري، يُعتبر التشيّع مَذهباً رسميّاً في إيران، ومُعظم شعوب اليمن والعراق من الشيعة، وتتواجد الشيعة في كلّ الدول الإسلاميّة في العالَم، قلّت أم كثُرت، ويُعد الشيعة في مختلف الأقطار في العالَم بما يقارب المائة مليون.

٤٩

ب - انشعابُ الشيعة

ا) انشعابُ بعض الفِرق وانقراضها.

٢) الزيديّة.

٣) الإسماعيليّة وانشعاباتها.

٤) النزاريّة، والمُستعلية، والدروزيّة، والمُقنّعة.

٥) الشيعة الاثنا عشريّة، واختلافها مع الزيديّة والإسماعيليّة.

٦) موجز عنٌ تاريخ الشيعة الاثني عشريّة.

١. انشعابُ بعض الفِرَق وانقراضها

يشتمل كلّ مذهب على مسائل وأمور تُعتبر الأُسس الأوّليّة لذلك المذهب، وهناك مسائل ثانويّة، واختلافُ أهل المذاهب في كيفيّة المسائل الأصليّة والرئيسيّة ونوعيّتها مع الاحتفاظ بالأصول المشتركة بينها، يسمّى انشعاباً .

توجد الانشعابات في جميع الأديان، وخاصّة في الأديان السماويّة: اليهوديّة، والمسيحيّة، والمجوسيّة، والإسلام، ويظهر الانشعاب في مذاهبها أيضاً، والمذهب الشيعي لم يطرأ عليه، ولم يظهر فيه أيّ انشعاب في زمن أئمّته الثلاثة: (الإمام علي، والحسن، والحسين عليهم السلام) ، ولكن بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، اعترفَ أكثريّة الشيعة بإمامة علي بن الحسين (عليه السلام) السجّاد، وذهبَ الأقلّيّة منهم والذين عُرفوا بالكيسانيّة ، إلى الاعتقاد بإمامة محمّد بن

٥٠

الحنفيّة إماماً رابعاً لهم، وهو المهدي الموعود عندهم، ويعتقدون أنّه قد غابَ في جبل رضوى وسيظهر يوماً.

وبعد وفاة الإمام السجّاد (عليه السلام) اعتقدَ أكثريّة الشيعة بإمامة ابنه محمّد الباقر (عليه السلام)، وذهبَ الأقلّيّة منهم إلى التمسّك بمذهب زيد الشهيد، وهو الولد الآخر للإمام السجّاد (عليه السلام)، واشتهروا بالزيديّة .

وبعد وفاة محمّد الباقر (عليه السلام) آمنَ شيعته بولَده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وبعد وفاته ذهبَ الأكثريّة إلى أنّ الإمام السابع هو ولَده الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، واعتقدَ فريق أنّ إسماعيل ابن الإمام الأكبر هو الإمام السابع، والذي وافاه الأجل في زمن أبيه الصادق، وانفصلَ هؤلاء عن الأكثريّة الشيعيّة، وعُرفوا بالإسماعيليّة، وذهبَ البعض إلى إمامة عبد الله الأفطح ابنه الآخر، وذهبَ الآخرون إلى إمامة محمّد وتوقّف بعض في إمامته، واعتبروه آخر الأئمّة.

وبعد استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ذهبَ الأكثريّة إلى إمامة ابنه الرضا (عليه السلام)، إماماً ثامناً، وتوقّف جماعة في إمامة الإمام السابع، واشتهروا بالواقفيّة .

ولم يظهر انشعاب بعد الإمام الثامن وحتّى الإمام الثاني عشر، وهو عند الأكثريّة المهدي الموعود، وإذا ما كانت هناك حوادث أو وقائع، فإنّها لم تكن سوى أيّام معدودة ولم يَحدث انشعاب، وعلى فرض حدوث انشعاب لم يدُم كثيراً، وانتهى إلى الانصهار، كما حدثَ بعد وفاة الإمام العاشر، إذ ادّعى ولَده جعفر الإمامة وتَبعهُ جَمعٌ، إلاّ أنّهم تفرّقوا وتشتّتوا بعد فترة قصيرة، ولم يُتابع جعفر دعوته هذه، وهناك اختلاف في الآراء بين رجال الشيعة في المسائل العلميّة والكلاميّة والفقهيّة، إذ لا يمكن اعتبارها انشعاباً في المذهب.

انقرَضت الفِرَق المذكورة التي انشعبت وظهرت أمام الأكثريّة الشيعيّة في زمن قصير، عدا الفِرقة (الزيديّة) و (الإسماعيليّة) اللتان استقامتا، ولا يزال مُعتنقو هذين المذهبين يعيشون في مناطق مختلفة من العالَم: كاليمن، والهند، ولبنان، ومناطق أخرى، فعلى هذا نكتفي بذكر هاتين الطائفتين مع الأكثريّة الشيعيّة وهم الاثنا عشريّة.

٥١

٢. الزيديّة

تُعتبر (الزيديّة) من تابعي زيد الشهيد ابن الإمام السجّاد (عليه السلام).

ثارَ زيد سنة ١٢١ للهجرة بوجه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وبايعهُ جماعة، وقُتل في حربٍ وقعت في مدينة الكوفة، بينه وبين مؤيّدي الخليفة.

يُعدّ زيد لدى أصحابه الإمام الخامس من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، واستخلفهُ بعده ابنه (يحيى بن زيد) الذي ثارَ على الخليفة الأموي (الوليد بن يزيد)، وجاء بعده (محمد بن عبد الله) و(إبراهيم بن عبد الله)، اللذان قاما وثارا على الخليفة العبّاسي (المنصور الدوانيقي) وقُتلا، فهؤلاء هم من أئمّة الزيديّة.

ومنذ ذلك الوقت كانت أمور (الزيديّة) غير منتظمة، حتّى ظهور (ناصر الأطروش) وهو من نَسل أخي زيد في خراسان، وعلى أثر المطاردات التي قامت بها الدولة آنذاك، اضطرّ أن يفرّ إلى مازندران، ولم يكن أهالي هذه المنطقة قد اعتنقوا الإسلام، وبعد دعوةٍ دامت ثلاث عشرة سنة، استطاع أن يُدخل جَمعاً كثيراً في الإسلام، فاعتنقوا مذهب (الزيديّة)، واستطاع بعدها وبمساعدة هؤلاء أن يسيطر على ناحية طبرستان وصارَ فيهم إماماً وقائداً، واستخلفهُ من بعده أولاده يَسوسون الناس في تلك الديار.

وتعتقد (الزيديّة) أنّ كلّ: فاطمي، عالم، زاهد، شجاع، سخي، يثور لإحقاق الحق، يستطيع أن يكون إماماً.

٥٢

كانت الزيديّة في الابتداء مثل: زيد، تَعتبر الخليفتين الأوّلَين (أبا بكر وعمر) من الأئمّة، ولكن بعدها أسقطَ جماعة منهم اسم هذين الخليفتين من أسماء أئمّتهم، وابتدأوا بالإمام علي (عليه السلام).

وحسب ما يقال إنّ الزيديّة تتّبع المعتزلة في الإسلام، وتوافِق فقه أبي حنيفة في الفروع، وهناك اختلاف يسير بينهم في بعض المسائل.

٣. الإسماعيليّةُ وانشعاباتها

الباطنيّة: كان للإمام السادس للشيعة ولد يُدعى (إسماعيل) وهو أكبر وِلده، توفيَ في زمن أبيه، وشهدَ الأب وفاة ابنه، وطلبَ الشهادة من حاكم المدينة أيضاً على وفاة وَلَده، إلاّ أنّ هناك فريقاً يعتقد بعدم وفاة إسماعيل، وأنّه اختار الغيبة، وسوف يظهر ثانية وهو المهدي الموعود.

ويتّضح أنّ إشهاد الإمام السادس على وفاة وَلَده كان على علمٍ وعَمد؛ وذلك خوفاً من المنصور الخليفة العبّاسي، واعتقدَ جماعة أنّ الإمامة الحقّة هي لإسماعيل، ومع موته انتقلت إلى محمّد، واعتقدَ الآخرون أنّ إسماعيل وإن أدركهُ الموت في زمن أبيه، إلاّ أنّه إمام، ومحمّد بن إسماعيل ومَن جاء بعده من هذه السُلالة أئمّة أيضاً.

انقرضَ الفريقان الأوّلان بعد زمنٍ وجيز، وبقيت الفرقة الثالثة حتّى وقتنا الحاضر، وقد انشعبت انشعابات عدّة.

لدى (الإسماعيليّة) فلسفة تشبه فلسفة عَبَدَة النجوم، وفيها شيء من التصوّف الهندي، ويذهبون إلى أنّ المعارف والأحكام الإسلاميّة، لها ظاهر وباطن، فلكلّ ظاهر باطن ولكلّ تنزيل تأويل، وتعتقد أنّ الأرض لا تخلو من

٥٣

حجّة، وحُجّة الله على نوعين: ناطق، وصامت ، فالناطق: هو النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والصامت: هو الوليّ أو الإمام، وهو وصيّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى أيّة حال، فإنّ الحُجّة هي المظهر الكامل للربوبيّة.

أساس الحجّة عندهم يدور دائماً على العدد (٧)، بهذا الترتيب: أنّ كلّ نبي عندما يُبعث يختصّ بالنبوّة (الشريعة) والولاية، ويأتي بعده سبعة أوصياء، لكلّ منهم الوصاية، ويُعتبر جميعهم في نفس المنزلة والشأن، سوى الوصي السابع الذي يختصّ بالنبوّة أيضاً، ويتّصف بثلاثة مناصب: النبوّة، والوصاية، والولاية، وبعده سبعة أوصياء، وللسابع منهم ثلاثة مناصب، وهكذا.

فهم يقولون: إنّ آدم (عليه السلام) بُعث بالنبوّة والولاية، وكان له سبعة أوصياء، وسابعهم نوح النبي، وكان يختصّ بالنبوّة والوصاية والولاية، والنبي إبراهيم هو الوصي السابع لنوح، والنبي موسى سابع الأوصياء لإبراهيم، والنبي عيسى سابع الأوصياء لموسى، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سابع الأوصياء لعيسى، ومحمّد بن إسماعيل الوصي السابع لمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بهذا الترتيب:

محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلي، والحسين، وعلي بن الحسين، والسجّاد، ومحمّد الباقر، وجعفر الصادق، وإسماعيل، ومحمّد بن إسماعيل (الإمام الثاني الحسن بن علي، لا يعدّونه من الأئمّة)، وبعد محمّد بن إسماعيل سبعة من نَسله وولده، أسماؤهم مخفيّة مستورة، وبعدهم سبعة من مُلوك الفاطميين لمصر، أوّلهم عبيد الله المهدي مؤسِّس حكومة الفاطميين بمصر.

تعتقد الإسماعيليّة: بأنّ هناك اثنى عشر نقيباً موجودين دائماً على الأرض، فضلاً عن وجود حُجّة الله، فهم حواريو الحجّة وخاصّته، ولكنّ لبعضٍ منهم وهم (الدروزيّة) الباطنيّة، تَعتبر وتَعدّ ستة من الأئمّة نُقباء، والستّة الآخرين من غيرهم.

ظهرَ شخص مجهول الهويّة سنة ٢٧٨ هجري في مدينة الكوفة (قَبل ظهور عبيد الله المهدي بسنوات)، وكان خوزستاني الأصل، وكان يقضي نهاره صائماً، وليلهُ قائماً عابداً،

٥٤

ويسدّ رَمقه من كسبه وعمله، كان يدعو لمذهب (الإسماعيليّة)، فاستطاع أن يكسب جماعة، ليكونوا له أنصاراً وأعواناً، فانتَخبَ منهم اثني عشر شخصاً على أنّهم النُقباء، ثُمّ خرجَ من الكوفة متّجهاً إلى الشام، وما عُرفَ عنه شيء.

استخلفَ هذا الرجل المجهول في العراق، رجلاً كان يُدعى أحمد ويُعرف بـ (القرمط) ، فبثّ تعاليم الباطنيّة، وكما يشير المؤرِّخون بأنّه ابتدعَ صلاة جديدة، بدلاً من الصلوات الخَمس في الإسلام، وألغى غُسل الجنابة، وأباحَ شُرب الخمر، وظهرَ في نفس العصر، زُعماء آخرون يدعونَ إلى الباطنيّة جَلبوا جماعة من الناس حولهم.

فكان هؤلاء يتعرّضون لأنفس وأموال مَن لا يَعتنق مذهب الباطنيّة، واستمرّوا في حركتهم هذه في: العراق، والبحرين، واليمن، والشام، قَتلوا الأبرياء، ونهبوا الأموال، وسلبوا قوافل الحَجيج، سفكوا دماء الآلاف منهم، ونهبوا أمتعتهم وراحلتهم.

استولى (أبو طاهر القرمطي) أحد زعماء الباطنيّة على البصرة سنة ٣٢١ هجري، فَقتلَ الناس، ونهبَ الأموال، ثُمّ اتّجه إلى مكّة مع جَمعٍ من الباطنيّة سنة ٣١٧ هجري، وبعد صراعٍ مع أفراد الشرطة دخلَ مكّة، فقتل أهلها والحِجّاج الواردين إليها، فسالت الدماء في بيت الله الحرام والكعبة، وقسّم ستار الكعبة بين أنصاره، وقلعَ باب الكعبة، واقتلع الحجر الأسود من مكانه، ونقلهُ إلى اليمن وبقيَ هناك عند القرامطة مدّة اثنين وعشرين عاماً.

على أثر هذه الأعمال، أبدى عامّة المسلمين تذمرّهم وتنفرّهم من الباطنيّة، واعتبروهم خارجين عن دين الإسلام، حتّى (عبيد الله المهدي) أحد ملوك الفاطميين - الذي كان قد ظهرَ في أفريقيا، وادّعى لنفسه المهدويّة، وأنّه المهدي الموعود، وإمام الإسماعيليّة - قد تبرّى أيضاً من القرامطة آنذاك.

وحسب ما يقرّه المؤرِّخون أنّ المعيار الديني للباطنيّة هو: تأويل الأحكام الظاهرة للإسلام إلى مراحل باطنيّة صوفيّة، ويعتبرون ظاهر الشريعة خاصّاً للأمّيين من الناس، الذين لم يتدرّجوا طريق الكمال، ومع هذا كلّه، فقد كانت تصدر قوانين وأحكام معيّنة من أئمّتهم وزعمائهم بين حينٍ وآخر.

٥٥

٤. النزاريّة، والمُستعلية، والدروزيّة، والمُقنّعة

ظهرَ (عبيد الله المهدي) سنة ٢٩٦ للهجرة في أفريقيا، وادّعى الإمامة على طريقة الإسماعيليّة، وأسّس الدولة الفاطميّة، واختارَ خلفاؤه مصر دار خلافتهم، فَحكمَ سبعة منهم على التوالي حكومة وإمامة طبق مذهب (الإسماعيليّة) ، دون أن يحدث انشعاب أو انقسام.

وبعد الخليفة السابع وهو (المستنصر بالله، سعد بن علي)، تنازعَ ولداه (نزار) و (المستعلي) على الخلافة والإمامة، وبعد صراع وحروب دامية، كانت الغَلبة للمستعلي، فألقى القبض على أخيه نزار، وسَجَنه وبقيَ في السجن حتّى توفيَ فيه.

وعلى أثر هذه المنازعة، انقسمَ أتباع الفاطميين إلى قسمين: نزاريّة، ومُستعلية .

النزاريّة: هم من أتباع الحسن بن الصبّاح، وكان من المقرّبين للمستنصر، وبعد المستنصر أُخرِج من مصر بأمرٍ من المستعلي؛ لدفاعه وحمايته عن نزار، فجاء إلى إيران وبعد فترة ظهر في قلعة الموت من نواحي قزوين، فاستولى على هذه القلعة وقلاع أخرى مجاورة، فصار سلطاناً عليها، ودعا إلى نزار في البداية.

وبعد وفاة (حسن) سنة ٥١٨ هجري، جاء (بزرك أميد رودباري) ، وبعده ابنه (كيّا محمد) حَكَما على طريقة (الحسن الصبّاح)، وجاء بعده ابنه (علي) رابع ملوك قلعة الموت، فغيّر طريقة الحسن الصبّاح وكانت نزاريّة، وانتمى إلى الباطنيّة.

٥٦

فتح هولاكو خان بعد حَملته على إيران قلاع الإسماعيليّة وقَتلَ جميع الإسماعيليين، وهدّم قلاعهم.

وبعد سنة ١٢٥٥ هجري، ثارَ آقا خان المحلاّتي - وكان من النزاريّة - على محمّد شاه القاجار، وفشلَ في نهضته التي قام بها في مدينة كرمان وهربَ إلى بمبئي، فنشرَ الدعوة الباطنيّة النزاريّة بإمامته وزعامته هناك، ولا تزال دعوتهم باقية حتّى الآن، وتُدعى النزاريّة الآن بالـ (آقا خانيّة) .

المُستعلية: استقرّت الإمامة لأتباع المُستعلي الفاطمي في خلفاء الفاطميين بمصر، حتّى انقرضت سنة ٥٥٧ هجري، وظهرت بعد فترة فرقة (البُهْرَة) في الهند على الطريقة نفسها، ولا تزال موجودة.

الدروزيّة: الطائفة الدروزيّة التي تقطن الآن في جبال (دروز) في الشام، كانت في بداية الأمر تابعة للخلفاء الفاطميين، حتّى أيّام الخليفة السادس الفاطمي، دَعت إلى (نشتجين الدروزي) والتحقت بالباطنيّة.

تقف الدروزيّة عند الخليفة (الحاكم بالله) ويعتقد آخرون أنّه قُتل، إلاّ أنّها تدّعي أنّه غابَ عن الأنظار، وعرجَ إلى السماء، وسوف يعود مرّة ثانية بين الناس.

المُقَنَّعة: كانت من أتباع (عطاء المروي) المعروف بالمُقنّع في بادئ الأمر، وحسب ما يذكره المؤرِّخون أنّه كان من أتباع أبي مسلم الخراساني، وبعد وفاة أبي مسلم، ادّعى أنّ روح أبي مسلم قد حلّت فيه، وادّعى النبوّة بعد ذلك، وبعدها ادّعى الإلوهيّة، وحوصِر سنة ١٦٢ في قلعة كيش من بلاد ما وراء النهر، وعندما تيقّن بمحاصرتهِ وقَتلهِ، أشعلَ ناراً، ودَخل فيها مع عدّة من أصحابه واحترق، اختار أصحاب عطاء بعد زمنٍ مذهب الإسماعيليّة والتَحقوا بالفرقة الباطنيّة.

٥٧

٥. الشيعةُ الاثنا عشريّة، واختلافها مع الزيديّة والإسماعيليّة

إنّ الأقلّيّة الشيعيّة التي مرّ ذكرها تنشعب عن الأكثريّة الشيعيّة الإماميّة، وتسمّى بالاثني عشريّة أيضاً، وكما ذكرنا آنفاً كان بداية نشوئهم هو: الاعتراض والانتقاد لمسألتين أساسيّتين من المسائل الإسلاميّة، عِلماً بأنّهم لم يُعارضوا القوانين التي كانت وفقاً لتعاليم الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المسلمين، والمسألتان هما: (الحكومة الإسلاميّة، والمرجعيّة العلميّة) ، وتعتقد الشيعة بأنّ تلك المسألتين من حقّ أهل البيت خاصّة.

تؤمن الشيعة الاثنا عشريّة أنّ الخلافة الإسلاميّة - بما فيها من ولاية باطنيّة وقيادة معنويّة وهما جزءان لا ينفكّان عنها - من حقّ علي وأولاده (عليهم السلام)، وبموجب تصريح النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أنّهم اثنا عشر إماماً، وتؤمن أيضاً أنّ التعاليم الظاهريّة للقرآن والتي تُعتبر من أحكام الشريعة، تشتمل على الحياة المعنويّة الكاملة ولها أصالتها واعتبارها، ولا يعتريها أيّ نسخ حتّى قيام الساعة، ويجب أن تؤخذ هذه الأحكام والقوانين عن طريق أهل البيت لا غير، ومن هنا يتّضح:

أنّ الاختلاف الأصلي بين الشيعة الإماميّة والشيعة الزيديّة هو: أنّ الشيعة الزيديّة غالباً لا تَحصر الإمامة في أهل البيت، ولا تَقتصر في عدد الأئمّة على الاثني عشر، ولا تتّبع فقه أهل البيت، على خلاف الشيعة الإماميّة.

والفارقُ الأساسي بين الشيعة الإماميّة والشيعة الإسماعيليّة هو: أنّ الإسماعيليّة تعتقد بأنّ الإمامة تدور على (سبع) ولم تُختم النبوّة في محمّد

٥٨

(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا تمتنع من تغيير أو تبديل أحكام الشريعة، وحتّى ارتفاع أصل التكليف، خاصّة على قول الباطنيّة، على خلاف مذهب الشيعة الإماميّة الذي يعتقد بخاتميّة النبوّة في محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّه خاتم الأنبياء وله اثنا عشر وصيّاً، وتَعتبر ظاهر الشريعة غير قابل للنسخ، ويُثبتون للقرآن ظاهراً وباطناً.

أمّا طائفتا: الشيخيّة، والكريمخانيّة ، واللتان ظهرتا في القرنين الأخيرين بين الشيعة الإماميّة، فلم نعدّهما انشعاباً؛ لأنّ اختلافهما معاً يدور حول توجيه وتفسير بعض المسائل النظريّة، وليس في إثبات أو نفي أصل المسائل.

وكذا فرقة (علي اللهيّة) بالنسبة للشيعة الإماميّة، ويسمّون بـ(الغُلاة) أيضاً، فهم مثل الباطنيّة للشيعة الإسماعيليّة، يعتقدون بالباطن فقط، وبما أنّهم يفتقرون إلى منطق دقيق، فلم نعدّهم في حساب الشيعة.

٦. موجزٌ عن تاريخ الشيعة الاثني عشريّة

كما أشرنا في الفصول المتقدّمة: أنّ أكثريّة الشيعة هم الاثنا عشريّة، وهم أصحاب علي وأنصاره، الذين رَفعوا راية المعارَضة والانتقاد في موضوع الخلافة والمرجعيّة العلميّة بعد وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ وذلك لإحياء حقوق أهل البيت، وبهذا انفصلوا عن أكثريّة الناس.

كانت الشيعة مضطهدة في زمن الخلفاء الراشدين (سنة ١١ - ٣٥ هجري)، ولم تكن لهم صيانة أو حماية لأنفسهم وأموالهم طوال حكومة بني أُميّة وخلافتهم (٤٠ - ١٣٢ هجري)، وكلّما ازدادَ عليهم الضغط والاضطهاد، كانوا أشدّ عَزماً في إرادتهم، وأكثر رسوخاً في عقيدتهم، وكانوا يستفيدون من مظلوميّتهم في سبيل عقيدتهم وتقدّمها ونشرها.

٥٩

ففي الفترة ما بين الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، حيث تسلّم خلفاء بني العبّاس الحُكم، كانت فترة ضُعف وانهيار، استطاع الشيعة أن يتنفّسوا الصعداء، وذلك في أواسط القرن الثاني للهجرة، ولكن سرعان ما عاد التضييق والاضطهاد عليهم، وازدادَ شيئاً فشيئاً حتّى أواخر القرن الثالث الهجري.

وفي أوائل القرن الرابع الهجري، استعادَ الشيعة قدرتهم بمجيء سلاطين آل بويه، وكانوا من الشيعة، وحَصلت على حريّة فكريّة، وشَرعت بنضالها، واستمرّت حتّى نهاية القرن الخامس الهجري.

وفي أوائل القرن السادس الهجري، الذي يقترن مع حَملة المغول، وعلى أثر المشاكل العامّة، وكذا استمرار الحروب الصليبيّة، فالحكومات الإسلاميّة رفعت الاضطهاد والضغوط عن الشيعة، وخاصّة بعد اعتناق بعض سلاطين المغول في إيران دين الإسلام، وساهمت حكومة سلاطين مرعش في مازندران في قدرة الشيعة وتوسّعها، ممّا جَعلَ الشيعة يتمتّعون بكثرة عددهم في كلّ بُقعة من بِقاع الممالك الإسلاميّة وخاصّةً في إيران، حيث كان الملايين من الشيعة، واستمرّت الحالة هذه حتّى أواخر القرن التاسع الهجري.

وفي بداية القرن العاشر الهجري، إثرَ ظهور الدولة الصفويّة في إيران المتّسعة الأرجاء آنذاك، اعتُرِف رسميّاً بمذهب الشيعة، ولا يزال حتّى الآن أواخر القرن الرابع عشر الهجري يُعتبر مذهباً رسميّاً للبلاد، وفضلاً عن هذا كلّه، فإنّ عشرات الملايين من الشيعة تعيش حالياً في جميع بقاع العالَم.

٦٠

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206