الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96877 / تحميل: 7410
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الفصلُ الثاني

الفِكرُ الديني لدى الشيعة

٦١

١) معنى الفكر الديني.

٢) المصادر الرئيسيّة للفكر الديني في الإسلام.

٣) الطُرق التي يعرضها الإسلام للفكر الديني.

٤) الاختلاف بين هذه الطُرق الثلاثة.

٥) الطريق الأوّل: الظواهر الدينيّة، أقسام الظواهر الدينيّة، القرآن وأحاديث الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام).

٦) حديثُ الصحابة.

٧) بحثٌ آخر في الكتاب والسُنّة.

٨) ظاهرُ القرآن وباطنه.

٩) تأويلُ القرآن.

١٠) تتمّةُ البحث عن الحديث.

١١) الشيعةُ والعمل بالحديث.

١٢) التعلّمُ والتعليم العام في الإسلام.

١٣) الشيعةُ والعلوم النقليّة.

٦٢

١. معنى الفكر الديني

يُطلق هذا الاصطلاح على التحقيق والبحث في موضوعٍ من المواضيع الدينيّة، للحصول على نتيجة معيّنة.

كما أنّ المراد من الفكر الرياضي مثلاً: هو الفكر الذي يُعطي النتيجة لنظريّة رياضيّة معيّنة، أو يحلّ مسألة رياضيّة.

٢. المصادرُ الرئيسيّة للفكر الديني في الإسلام

من الطبيعي أنّ الفكر الديني كسائر الأفكار، يَعتمد على مصادر كي يستلهم منها موادّه وأُسسه، كما هو الحال في الفكر الرياضي لحلّ مسألة ما، فإنّه لابدّ من الاستعانة بمجموعة من النظريات والفرضيات، وبالنتيجة ينتهي إلى المعلومات الخاصّة به، والمصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام (من جهة ارتباطه بالوحي السماوي) هو: القرآن الكريم ، إذ إنّه المصدر الرئيسي للنبوّة الشاملة للنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما يحتويه من الدعوة إلى الإسلام، فالقرآن لا ينفي المصادر الأخرى للفكر الصحيح والحُجج الواضحة كما سنتعرّض لها.

٦٣

٣. الطُرق التي يعرضها الإسلام للفكر الديني

فالقرآنُ الكريم يضعُ ثلاثة طُرق أمامَ متّبعيه للوصول إلى المفاهيم الدينيّة والمعارف الإسلاميّة، ويوضِّح لهم أنّ الظواهر الدينيّة والحُجج العقليّة والإدراك المعنوي، لا يتأتّى إلاّ من الخلوص في العبادة.

إنّ الله سبحانه يخاطب الناس عامّة في القرآن، ويَعرض أموراً دون إقامة حجّة أو دليل، انطلاقاً من قدرة هيمنته كخالق، ويُطالب بقبول الأصول والأُسس الاعتقاديّة: كالتوحيد، والنبوّة، والمعاد، والأحكام العمليّة: كالصلاة، والصوم وغيرها، كما يأمر بالنهي والامتناع أحياناً، وإذا لم تكن الآيات لتعطي الحجيّة، لم يكن ليطالب الناس بقبولها واتّباعها، إذاً لابدّ من القول بأنّ هذه الآيات الواضحة الدلالة طريق لفهم المفاهيم الدينيّة والمعارف الإسلاميّة وإدراكها، ونسمّي هذا البيان اللفظي بالظواهر الدينيّة مثل: ( آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ، و ( أَقِيمُواْ الصَّلاةَ )

ونرى القرآن من جهةٍ أخرى في كثير من الآيات يدعو إلى الحُجيّة العقليّة، وذلك بدعوة الناس إلى التفكير والتدبّر في الآفاق والأنفس، وهو يسلك الاستدلال العقلي في بيان الحقائق.

وحقاً أنّ القرآن هو الوحيد من الكتب السماويّة الذي يُعرِّف للإنسان العلم والمعرفة بطريقة استدلاليّة، فالقرآن ببيانه هذا يَعتبر الحجّة العقليّة والاستدلال المنطقي من الأمور المُسلّمة، أي أنّه لا يطالِب بتقبّل المعارف الإسلاميّة دون نقاش،

٦٤

ثُمّ يَنتقل إلى الاحتجاج العقلي، ويستنتج منه المعارف الإسلاميّة، انطلاقاً من الاعتماد الكامل على واقعيّته إذ يقول: مَحِّصوا في الاحتجاج العقلي، واستنبطوا منه صحّة المعارف، ومن ثُمّ القبول والرضا.

وما يُسمع من كلامٍ عن الدعوة الإسلاميّة، يمكن التأمّل فيه والاستفسار عنه، والإصغاء إلى قول الخالق، وبالتالي فإنّ التصديق والإيمان يجب أن يُحصل عليه بدليل أو حجّة، وليس المراد الإيمان مسبقاً، ثُمّ إقامة الأدلّة وفقاً له، فالفكر الفلسفي طريق يدعمهُ القرآن الكريم ويُصادق عليه.

ومن جهةٍ أخرى، نرى القرآن الكريم وبأسلوبه الرائع، يوضِّح لنا أنّ جميع المعارف الحقيقيّة تنبع من التوحيد ومعرفة الله حقيقة، وما كمال معرفة الله جلّ وعلا، إلاّ لأولئك الذين جَعلهم الله من خير عباده، وخَصصهم لنفسه، وهم الذين قد قطعوا علائقهم وارتباطهم بهذا العالَم، ونَسوا كلّ شيء، وإثر الإخلاص والعبوديّة، وجّهوا قواهم إلى العالَم العُلوي، ونوّروا قلوبهم بنور الله سبحانه، ونظروا ببصيرتهم حقائق الأشياء، ومَلكوت السماوات والأرض؛ لأنّهم قد وصلوا إلى مرحلة اليقين، إثر إخلاصهم وعبوديّتهم، وعند حصولهم هذه المنزلة (اليقين)، انكشفَ لهم ملكوت السماوات والأرض، والحياة الخالدة في العالَم الخالد.

ويتّضح هذا الادّعاء مع الالتفات إلى الآيات الكريمة التالية:

قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (١) .

وقوله تعالى: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢).

ويقول تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

____________________

(١) سورة الأنبياء: الآية ٢٥، ويُفهم من الآية: أنّ العبادة في الدين فرعٌ للتوحيد، وعليه يُبنى.

(٢) سورة الصافات: الآية ١٥٩، إنّ الوصف فرع من المعرفة والإدراك، ويُفهم من الآية: أنّ المُخلصين فحسب، يعرفون الله حقّ معرفته، والله منزّه عن وصف الآخرين له.

٦٥

فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (١).

ويقول سبحانه: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(٢) .

وقوله: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٣).

وقوله: ( كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٤) .

وقوله تعالى أيضاً: ( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (٥) .

إذاً، إحدى طرق استيعاب المعارف الإلهيّة وإدراكها هي: تهذيب النفس، والإخلاص في العبوديّة.

٤. الاختلافُ بين هذه الطُرق الثلاثة

اتّضح ممّا سبق: أنّ القرآن الكريم يَعرض ثلاثة طُرق لفهم المعارف الدينيّة: الظواهر الدينيّة، والعقل، والإخلاص في العبوديّة، والذي مؤدّاه انكشاف الحقائق،

____________________

(١) سورة الكهف: الآية ١١، يُستنبط من الآية: أنّ الطريق للقاء الله هو التوحيد والعمل الصالح، ولا طريق سواه.

(٢) سورة الحجر: الآية ٩٩، ويُستفاد من الآية: أنّ عبادة الله تؤدّي إلى اليقين.

(٣) سورة الأنعام: الآية ٧٥، يُفهم من الآية: أنّ إحدى لوازم اليقين، مشاهدة مَلكوت السماوات والأرض.

٤) سورة المطفّفين: الآية ٢١، يُستفاد من الآيات: أنّ عاقبة (الأبرار) في كتابٍ يُدعى (علّيين) المرتفع جدّاً، ويُشاهده المقرّبون لله تعالى، عِلماً أنّ لفظ (يشهده) صريحٌ بأنّ المراد ليس الكتاب المخطوط، بل عالَم تقرّب وارتقاء.

(٥) سورة التكاثر: الآية ٥، يُستفاد من الآية: أنّ علم اليقين موروث لمشاهدة عاقبة حالة الأشقياء وهو الجحيم (جهنّم).

٦٦

والمشاهدة الباطنيّة لها، ولكن يجب أن نعلم أنّ هذه الطُرق الثلاثة، تتفاوت فيما بينها من جهاتٍ عدّة:

الأولى: إنّ الظواهر الدينيّة بيانات لفظيّة، تُستفاد من أبسط الألفاظ، وفي متناول أيدي الناس، وكلّ يستفيد (١) منها حسب قدرته وفهمه واستيعابه، على خلاف الطريقين الآخرَين، إذ يختصّان بجماعة خاصّة، ولم يكونا لعامّة الناس.

الثانية: إنّ طريق الظواهر الدينيّة لهوَ الطريق الموصِل إلى أصول المعارف الإسلاميّة وفروعها، ويمكن الحصول على المسائل الاعتقاديّة والأخلاقيّة، وكذا الكلّيات للمسائل العمليّة (فروع الدين)، ولكن جزئيات الأحكام ومصالحها الخاصّة بها لم تكن في متناوَل العقل، وخارجة عن نطاقها، وهكذا طريق تهذيب النفس؛ لأنّ نتيجتها انكشاف الحقائق، وهو عِلم لدُنّي (من قِبل الله تعالى)، ولا يسعنا أن نُحدِّد نتائجها والحقائق التي تنكشف عن هذه الموهبة الإلهيّة، وهؤلاء لمّا انفصلوا عن كلّ شيء ونسوه سوى الله تعالى، فإنّهم تحت رعاية الله بصورة مباشرة، وكلّ ما يريده (لا كلّ ما يريدونه) ينكشف لهم.

____________________

(١) ومن هنا يتّضح لنا قول النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رواية ينقلها العامّة والخاصّة: (إنّا مَعاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قَدَر عقولهم) البحار ج١: ٣٦.

٦٧

٥. الطريقُ الأوّل: الظواهر الدينيّة أقسامها

وكما سبقت الإشارة إليه: أنّ القرآن الكريم والذي يُعتبر مصدراً أساسيّاً للفكر الديني الإسلامي، قد أعطى للسامعين حُجيّة واعتبار ظواهر الألفاظ، وأنّ هذه الظواهر للآيات قد جَعلت أقوال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المرحلة الثانية بعد القرآن، وتُعتبر حجّة كالآيات القرآنيّة، ويؤيّده قوله تعالى:

( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) .

وقوله جلّ شأنه: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (٢) .

وقوله أيضاً: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

فإذا لم تكن أقوال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأفعاله وحتّى صَمته وإقراره، حجّة كالقرآن الكريم، لم نجد مفهوماً صحيحاً للآيات المذكورة، لذا فإنّ أقواله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجّة لازمة الإتّباع، للذين قد سَمعوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)،

____________________

(١) سورة النحل: الآية ٤٤.

(٢) سورة الجمعة: الآية ٢.

(٣) سورة الأحزاب: الآية ٢١.

٦٨

أو قد نُقل إليهم عن طريق رواة ثقات، وكذلك يُنقل عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن طُرق متواترة قطعيّة، أنّ أقوال أهل بيته كأقواله، وبموجب هذا الحديث والأحاديث النبويّة القطعيّة الأخرى، تصبح أقوال أهل البيت تالية لأقوال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وواجبة الاتّباع، وأنّ أهل البيت لهم المرجعيّة العلميّة في الإسلام، ولم يخطأوا في تبيان المعارف والأحكام الإسلاميّة، فأقوالهم حجّة يُعتمد عليها سواء كانت مشافهةً أو نقلاً.

يتّضح من هذا التفصيل: أنّ الظواهر الدينيّة والتي تُعتبر مصدراً في الفكر الإسلامي على قسمين: الكتاب، والسُنّة، والمراد بالكتاب: ظواهر الآيات القرآنيّة الكريمة، والمقصود بالسُنّة: الأحاديث المرويّة عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام).

٦. حديثُ الصحابة

أمّا الأحاديث التي تُنقل عن الصحابة، فإذا كانت متضمّنة أقوال الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أفعاله، ولم تُخالف أحاديث أهل البيت، تؤخَذ بنظر الاعتبار، وإذا كانت متضمّنة لرأي الصحابي فحسب، فليست لها حجيّة، ويُعتبر الصحابي كسائر المسلمين، عِلماً بأنّ الصحابة أنفسهم كانوا يَعتبرون الصحابي كبقيّة المسلمين، ويُعاملونه معاملتهم.

٦٩

٧. بحثٌ آخر في الكتاب والسُنّة

يُعتبر كتاب الله (القرآن الكريم) هو المصدر الأساسي للفكر الإسلامي، وهو الذي يُعطي الاعتبار والحُجيّة للمصادر الدينيّة الأخرى، لذا يجب أن يكون قابلاً للفهم لعامّة الناس.

وفضلاً عن هذا، فإنّ القرآن الكريم يُعلن أنّه نور موضِّح لكلّ شيء، وفي مقام التحدّي يُطالِب بتدبّر آياته، إذ ليس فيه أيّ اختلاف أو تناقض، وإذا كان باستطاعتهم معارضته والإتيان بمثله، لفَعلوا ذلك.

وواضحٌ أنّ القرآن لو لم يكن مفهوماً لدى العامّة، فإنّ مثل هذه الآيات لا اعتبار لها.

وليس هناك مجال للظن، أنّ هذا الموضوع (القرآن يفهمهُ عامّة الناس)، يتنافى مع الموضوع السابق (أنّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته هم مراجع علميّة للمعارف الإسلاميّة، والتي هي حقيقة يدلّ عليها القرآن الكريم).

إنّ بعضاً من المعارف الإسلاميّة، وهي الأحكام والقوانين التشريعيّة، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى الكلّيات منها، ويتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السُنّة (حديث أهل البيت (عليهم السلام)) مثل: أحكام الصلاة، والصوم، والمعاملات، وسائر العبادات.

والبعض الآخر: كالاعتقادات، والأخلاق، وإن كانت مضامينها وتفاصيلها يفهمها العامّة، لكن إدراك وفهم معانيها يستلزم اتّخاذ نهج أهل البيت، مع الاستعانة بالآيات، فإنّها تُفسِّر بعضها بعضاً، ولا يمكن الاستعانة برأي خاص، والذي أصبحَ من العادات والتقاليد، وباتت النفس تستأنس به.

٧٠

يقول الإمام علي (عليه السلام): (كتابُ الله تُبصرون به، وتَنطقون به، وتَسمعون به ويَنطق بعضهُ ببعضه، ويشهدُ بعضهُ على بعض) (١) .

يقول النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (القرآن يُصدِّق بعضه بعضاً) (٢) ، وكذا قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن فسّر القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعدهُ من النار) (٣) .

هناك أمثلة بسيطة لتفسير القرآن بعضهُ ببعض، وذلك في قوله تعالى في قصّة لوط: ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ) (٤) .

وفي آيةٍ أخرى جاءت كلمة (ساء) بكلمة (حجارة) كما في الآية الكريمة: ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) (٥) .

يتّضح من الآية الثانية: أنّ المراد من الآية الأولى ( فَسَاء مَطَرُ ) هو ( حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) ، والذي يُتابع أحاديث أهل البيت بدقّة وكذا الروايات المنقولة عن مفسّري الصحابة والتابعين، لا يتردّد بأنّ طريقة تفسير القرآن بالقرآن تنحصر في طريقة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

٨. ظاهرُ القرآن وباطنه

اتّضح أنّ القرآن الكريم بألفاظه وبيانه، يوضِّح الأغراض الدينيّة، ويُعطي الأحكام اللازمة للناس في الاعتقادات والعمل بها، ولكن لا تنحصر أغراض القرآن بهذه المرحلة،

____________________

(١) نهج البلاغة: خطبة رقم ١٣٣.

(٢) الدرّ المنثور ج٢: ٦.

(٣) تفسير الصافي: صفحة ٨، البحار ج١٩: ٢٨.

(٤) سورة الشعراء: الآية ١٧٣.

(٥) سورة الحجر: الآية ٧٤.

٧١

فإنّ في كُنه هذه الألفاظ وهذه الأغراض، تستقرّ مرحلة معنويّة، وأغراض أكثر عُمقاً، والذي يُدركه الخواص بقلوبهم الطاهرة المنزّهة.

فالنبيّ العظيم، وهو المعلّم الإلهي للقرآن يقول: (ظاهرٌ أنيق وباطنٌ عميق) (١) ، ويقول أيضاً: (للقرآن بطنٌ وظهر ولبطنه بطن، إلى سبعة بطون) (٢) ، وقد وردَ الكثير عن باطن القرآن في أقوال أهل البيت (عليهم السلام) (٣) .

فالأصل في هذه الروايات، هو التشبيه الذي قد ذكرهُ الله تعالى في سورة الرعد الآية ١٧، يُشبّه فيه الإفاضات السماويّة بالمطر الذي يَهطل من السماء بقوله:

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) .

وتشير هذه الآية: إلى أنّ استيعاب الناس وقدرتهم على اكتساب المعارف السماويّة والتي تُنير النفوس، وتمنحها الحياة متفاوتة.

فهناك مَن لا يُعطي الأصالة لهذا العالَم - الذي سرعان ما يزول - إلاّ للمادّة والحياة الماديّة، ولا يرجو سوى ما تشتهيه نفسه من الحياة الماديّة، ولا يخشى إلاّ الحرمان منها، وهؤلاء على اختلافٍ في مراتبهم.

وغاية ما يمكن قبوله من المعارف السماويّة: هو الاعتقاد بمُجملٍ من المعتقدات، وأداء أحكام الإسلام العمليّة ظاهراً، ومن ثُمّ عبادة الله جلّ شأنه أملاً في الثواب وخوفاً من العقاب.

____________________

(١) تفسير الصافي: صفحة ٤.

(٢) سفينةُ البحار، تفسير الصافي: ص ١٥، الكافي، معاني الأخبار، وروايات أخرى.

(٣) البحار ج١: ١١٧.

٧٢

وهناك أُناس إثر صفاء فطرتهم لا يرونَ السعادة بالركون إلى لذائذ هذه الحياة بأيّامها القليلة الزائلة، وما الفائدة والضرر، والبهجة والبؤس في الحياة هذه إلاّ ظن مغرٍ، وما أولئك الذين كانوا بالأمس سُعداء، وأصبحوا اليوم قَصصاً تُروى، سوى دروس عِبَر لهم تُلقى في أذهانهم باستمرار وعلى الدوام.

وهؤلاء بالطبع يتّجهون بقلوبهم المنزّهة إلى العالَم الأبدي، وينظرون إلى هذا العالَم بما فيه من مظاهر مختلفة، بأنّها دلالات وإشارات لا غير، وليست فيها أيّة أصالة أو استقلال.

وعندما تُفتح لهم أبواب من المعرفة والإدراك المعنوي للآيات والظواهر الأرضيّة والسماويّة، وتَشرق في نفوسهم أنوار غير متناهية من عظمة وجلال الخالق سبحانه، وتَعجب نفوسهم وقلوبهم الطاهرة برموز الخليقة إعجاباً، فتعرج أرواحهم في الفضاء غير المتناهي للعالَم الأبدي، بدلاً من انغماسها في مصالحها الماديّة الخاصّة.

وعندما يستمعون عن طريق الوحي الإلهي، أنّ الله تعالى قد نهى عن عبادة الأوثان، وظاهر الآية مثلاً التعظيم أمام الأصنام، فإنّهم يُدركون أنّ العبادة تختصّ بالله سبحانه، وليس لأحدٍ سواه؛ لأنّ حقيقة العبادة هي العبوديّة المطلقة، وأكثر من هذا، فهم يُدركون على أنّ الخوف والرجاء لا يكون إلاّ من الله ولله وحده، ويجب ألاّ يستسلموا لأهواء النفس، ولا يجوز التوجّه إلاّ لله تعالى.

وعندما يُتلى عليهم حُكم وجوب الصلاة، وظاهر الحُكم إقامة العبادة الخاصّة، لكن بحسب الباطن يدركون أنّ هذه العبادة يجب أن تتحقّق بقلوبهم وبكلّ وجودهم، وأكثر من هذا يجب أن ينسوا أنفسهم، فهم لا شيء تجاه الخالق، ويتفانوا في عبادة الله وحده.

٧٣

وكما هو واضح، أنّ المعنى الباطني المستفاد من المثالين السابقين، لم يكن مدلولاً لفظيّاً للأمر أو النهي بذاته - للذي جَعَل مجال فكره متّسعاً - يُرجِّح النظر إلى العالَم والكون على النظر في نفسه، وما تنطوي عليه من أنانيّة وحُبّ للذات.

ومع هذا البيان، يتبيّن معنى ظاهر القرآن وباطنه، وكذلك يتّضح أنّ باطن القرآن لا يُلغي ولا يُبطل ظاهره، بل إنّه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة، وبما أنّ الإسلام دين عام شامل وأبدي، يهتمّ أوّلاً وقَبل كلّ شيء بإصلاح المجتمع البشري، ولا يتخلّى عن الأحكام الظاهريّة والتي مؤدّاها إصلاح المجتمع، وكذا لا يتخلّى عن الاعتقادات البسيطة والتي تُعتبر حارسة للأحكام المشار إليها.

وكيف يمكن لمجتمع أن ينال السعادة بالاقتناع أنّ الانسان يكفيه أن يكون منزّهاً، وليس هناك ثمّة اعتبار للعمل، ويعيش في حياة مُحاطة بعدم التنظيم والاستقرار؟

وكيف يمكن لفكرٍ سقيم وأقوال سقيمة أن تخلق قلوباً طاهرة زكيّة، أو أن يُظهر من قلبٍ زكي، أقوالاً سقيمة؟

ويقول تعالى في كتابه العزيز: ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .

ويقول أيضاً: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً... ) (١) .

ويُستفاد ممّا ذَكرنا: أنّ للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً، وباطنهُ أيضاً ذو مراتب مختلفة، والحديث هو المبيّن لمفاهيم القرآن الكريم.

____________________

(١) سورة الأعراف: الآية ٥٨.

٧٤

٩. تأويلُ القرآن

وممّا كان مشهوراً عند إخواننا أهل السُنّة في صدر الإسلام، هو إمكان الرجوع عن ظاهر القرآن الكريم إذا وجِدَ دليل، وأن تُحمل الآية على خلاف الظاهر، هذا ما يسمّى بـ (التأويل) ، فكلمةُ التأويل في القرآن الكريم، كانت تُفسّر بهذا المعنى.

وممّا يُشاهد في كُتب أهل السُنّة: أنّ المناظرات الدينيّة المختلفة، كانت تؤيَّد بإجماع علماء المذاهب، أو بدليلٍ آخر، فإذا ما خالفت ظاهر آية من الآيات القرآنيّة، كانوا يلجأون إلى تأويل الآية، حَملاً لخلاف ظاهرها، وأحياناً كان يلجأ كلّ من الطرفين المتخاصمين لقولين متضاربَين، إلى الآيات القرآنيّة والاحتجاج بها، وكلّ منهما كان يُؤوّل آية الطرف المتخاصم.

قلّما تسرّب هذا النوع من الاحتجاج إلى الشيعة، وقد ذُكر في بعض كُتبهم في علم الكلام…

وممّا يُستفاد من الآيات القرآنيّة وأحاديث أهل البيت بعد تدبّرها: أنّ القرآن الكريم مع صراحته ووضوح بيانه، لا يريد أن تكون الآيات مُبهمة وتبقى لغزاً دون حلٍ، وكلّ ما جاء إلى الناس من أحكام ومسائل، فهي بألفاظ تُناسب ذلك الموضوع.

وما يذكرهُ القرآن بكلمة (تأويل)، لم يكن مدلولاً للفظ، بل حقائق وواقعيّات أعلى شأناً من فهم عامّة الناس، وهي الأساس للمسائل الاعتقاديّة والأحكام العَمَليّة للقرآن.

نعم، إنّ لكلّ آيات القرآن تأويلاً، ولا يُدرَك تأويلهُ عن طريق التفكّر مباشرة، ولا يتّضح ذلك من ألفاظه، وينحصر فهمه وإدراكه للأنبياء والصالحين من عباد الله،

٧٥

الذين نزّهوا أنفسهم من كلّ رجسٍ، فإنّهم يستطيعون إدراكه عن طريق المشاهدة، نعم، إنّ تأويل القرآن سوف ينكشف يوم تقوم الساعة.

نحنُ نعلم جيّداً أنّ احتياج المجتمع المادّي، دَفعَ الإنسان إلى الكلام ووضْعِ الكلمات، وكذا كيفيّة الاستفادة من الألفاظ، فالإنسان في حياته الاجتماعيّة مُضطرّ أن يُبدي ما في ضميره من مفاهيم إلى أبناء نوعه، ويستمدّ العونَ في هذا عن طريق الصوت والأُذن، وقلّما استفاد من الإشارة أو حركة العين.

ومن هنا نجد أنّ التفاهم لا يحصل بين أفرادٍ صُم عُمي؛ لأنّ ما يقولهُ الأعمى لا يسمعهُ الأصمّ، وما يقوم به الأصمّ من الإشارات لا يراها الأعمى، فعلى هذا، فإنّ وضعَ الكلمات وتسمية الأشياء، ما هو إلاّ لرفع الاحتياجات الماديّة، وقد اصطُنعت الكلمات للأشياء والأوضاع والأحوال الماديّة التي تقع في متناول الحِسّ، أو على مَقربة من المحسوس، وكما نشاهد في موارد، إذا كان المخاطَب فاقداً لإحدى الحواس، وأردنا التكلّم معهُ عن طريق ذلك الحسّ المفقود، نلجأ إلى نوعٍ من التمثيل والتشبيه، فعلى سبيل المثال: إذا أردنا أن نصف لشخصٍ أعمى منذ الولادة النور والضياء، وإذا أردنا أن نصف لطفلٍ لم يبلغ سِنّ البلوغ لذّة العمل الجنسي، فإنّنا نقوم بنوع من المقارنة والتشبيه المناسب.

فعليه، إذا افترضنا أنّ هناك في الكون واقعيّات ليست بمادّة (وواقع الأمر هكذا)، فهناك من البشر في كلّ عصر، لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع، لهم القدرة على إدراكها ومشاهدتها، وهذه الأمور لا يمكن توضيحها للآخرين عن طريق البيان اللفظي والفكر الاعتيادي، ولا يَسعنا الإشارة إليه إلاّ بالتمثيل والتشبيه، فالله تعالى يقول في كتابه العزيز: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (١) ، أي لا يتوصّل إليه الفهم الاعتيادي، ولا يبلغهُ.

____________________

(١) سورة الزُخرف: الآية ٣، ٤.

٧٦

ويقول ايضاً: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) .

ويقول أيضاً ‎ في شأن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

وِفقاً لدلالات هذه الآيات، فإنّ القرآن الكريم يَصدر من ناحية تَعجز أفهام الناس من الوصول إليها، والتوغّل فيها، فلا يُدركها إلاّ مَن كان من المُخلَصين وعباده المقرّبين، وأوليائه الصالحين، فأهل بيت النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)خيرُ مصداقٍ لذلك.

ويقول عزّ مَن قائل: ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (٣) ، أي ترى الأشياء بالعَيان يوم القيامة.

ويقول أيضاً في آية أخرى: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) (٤) .

____________________

(١) سورة الواقعة: الآية ٧٧ - ٧٩.

(٢) سورة الأحزاب: الآية ٣٣.

(٣) سورة يونس: الآية ٣٩.

(٤) سورة الأعراف: الآية ٥٣.

٧٧

١٠. تتمّةُ البحث عن الحديث

إنّ اعتبار أصالة الحديث، والذي يؤيّده القرآن الكريم، تقرّه الشيعة وسائر المذاهب الإسلاميّة، ولكنّ أثر التفريط الذي حَصلَ من الولاة والحُكّام في صدر الإسلام في حفظه، والإفراط الذي حَدثَ من الصحابة والتابعين في نشر الأحاديث، كانت عاقبة الحديث مؤسفة مؤلِمة.

فمن جهةٍ، منعَ خلفاء الوقت من كتابة الحديث وتدوينه، إذ كانوا يُحرقون الأوراق التي دوِّنت فيها الأحاديث، ما وَسَعهم ذلك، وأحياناً كانوا يَمنعون من نقل الأحاديث، هذا ما أدّى إلى أنّ الكثير من الأحاديث أصابها التغيير والتحريف والنسيان، ونُقلت الأحاديث بمضامينها.

ومن جهةٍ أخرى، قامَ صحابة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - الذين حضروا مجلسه، واستمعوا إلى حديثه، وكانوا مورد احترام خلفاء الوقت وعامّة المسلمين - بنشر الأحاديث، حتّى آلَ الأمر إلى أن يصبح الحديث ذا أهميّة أكثر من القرآن، فأحياناً كان الحديث يَنسخ الآية (١) .

وكان يتّفق أنّ نَقَلة الأحاديث، يتحمّلون مصاعب الطريق والسفر لاستماع حديث واحد.

وقد تزيّ البعض من غير المسلمين بزيّ الإسلام، وتلبّس به، وذهبَ بعضٌ من أعداء الإسلام إلى وضع الأحاديث وتغييرها، حيث أسقطوا الحديث

____________________

(١) موضوع نَسخ القرآن بالحديث أحد مواضيع علم الأصول، ويؤيّده جَمع من علماء أهل السُنّة، ويتّضح من قضيّة (فدك) أنّ الخليفة الأوّل يؤيّد ذلك أيضاً.

٧٨

من الاعتبار، والوثوق به (١) .

ولهذا السبب، فكّر علماء الإسلام ومُفكروهم لوضع حلّ لهذه المُعضلة، فوضعوا عِلمَين: عِلمُ الرجال، وعِلم الدراية؛ ليميّزوا الحديث الصحيح من السقيم.

والشيعة فضلاً عن أنّهم يسعونَ لتنقيح سند الحديث، يرونَ وجوب مطابقة الحديث للقرآن الكريم في صحّة اعتباره.

وقد وردَ في أخبار كثيرة (٢) وبأسانيدٍ قطعيّة عن طريق الشيعة، عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أنّ الحديث الذي يُخالف القرآن لا اعتبارَ له، والحديث المُعتبر هو ما وافقَ القرآن، فوفقاً لهذه الأخبار الشيعيّة، لا يُعمل بالأحاديث التي تُخالف القرآن.

أمّا الأخبار التي (٣) لا يُعلم مدى مخالفتها أو موافقتها، فإنّها توضَع جانباً، دون ردٍّ أو قبول، وتُعتبر مسكوتاً عنها، ويُستدلّ على هذا الأمر بأحاديثٍ أخرى لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يخفى أنّ هناك فئة من الشيعة، مثلَ ما عند أهل السُنّة، يعملونَ بأيّ حديثٍ يقع في متناول أيديهم.

١١. الشيعةُ والعمل بالحديث

الأحاديثُ التي سُمعت من النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) دون واسطة، حُكمها حُكم القرآن الكريم.

____________________

(١) ما يؤيِّد هذا القول: مصنّفات كثيرة وضَعها العلماء في الأحاديث الموضوعة، وكذا في كُتب الرجال اشتهرَ جماعة من الرواة بأنّهم كذّابون وضّاعون.

(٢) البحار ج١: ١٣٩.

(٣) البحار ج١: ١٧١.

٧٩

أمّا الأحاديث التي وصلت إلينا بواسطة، فإنّ الشيعة تعمل بها كالآتي:

فيما يتعلّق بالمسائل الاعتقاديّة والذي يُصرِّح به القرآن، يستلزم العلم والقطع بالخبر المتواتر، أو الخبر الذي تتوفّر في صحّته الشواهد القطعيّة، فإنّه يُعمل به، وعدا هذين النوعين، والذي يسمّى الخبر الواحد، فلا اعتبارَ له.

ولكنّ في استنباط (١) الأحكام الشرعيّة، نظراً للأدلّة القائمة، فضلاً عن الخبر المتواتر والخبر القطعي، فإنّه يُعمل أيضاً بالخبر الواحد الذي يكون موثّقاً.

إذاً، فالخبرُ المتواتر والخبر القطعي مطلقاً عند الشيعة، يكون حجّة ولازم الإتّباع، أمّا الخبر غير القطعي (الخبر الواحد) فإنّه حُجّة بشرط أن يكون موثّقاً في نوعه، وينحصر ذلك في الأحكام الشرعيّة.

١٢. التعلّمُ والتعليم العام في الإسلام

تحصيلُ العلم إحدى الوظائف الدينيّة في الإسلام، وخيرُ دليلٍ على ذلك: قول النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (طَلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلم ومسلمة)، ووفقاً للأخبار التي تؤيَّد بالشواهد القطعيّة، أنّ المراد من العلم: هو معرفة أصول الدين الثلاثة: (التوحيد، والنبوّة، والمعاد) مع ما يلازمها، ومعرفة الأحكام والقوانين الإسلاميّة بصورة مفصّلة، كلّ حَسب احتياجه.

وواضحٌ أنّ تحصيل العلم في أصول الدين، وإن كان مع دليلٍ مُجمل، فهو ميسور للجميع، ولكنّ تحصيل العلم مع تفاصيل الأحكام والقوانين الدينيّة، لا يتحقّق إلاّ من الاستفادة والاستنباط الفنّي من المصادر الأصليّة،

____________________

(١) مبحثُ حجيّة الخبر الواحد في علم الأصول.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

من نتائج التطبيق:

إيجابيّات

استنساخ أعداد كبيرة من العباقرة والموهوبين وراثيّاً.

سلبيات:

١ - فتح باب الإنجاب بلا زواج.

٢ - ليست المواهب ولا الفضائل نتيجة الوراثة فحسب.

٣ - احتمال الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثيّاً، فالمعروف أنّ التغاير والتشاكل في الوراثة من أسباب حماية الجنس البشري وارتقائه(١) .

ويقول طبيب آخر في هذا الموضوع:

أمّا موضوع التكاثر اللاّتزاوجي الذي أُطلق عليه( الاستنساخ ) فأُحب أنْ أضع فيه بعض النقاط على الحروف، فطريقة الاستنساخ ليست وسيلة تكاثر، أعني ليس أنّ شخصاً أنتج شخصاً آخر بوسيلة لا تزاوجيّة، أي بغير تزاوج، ولكنّ المهمّ هنا أنّ هذا الوليد تكون فيه جميع الخصائص الوراثيّة لهذا الكائن، وهذا لا يحدث إطلاقاً في أيّ تكاثر بطريقة التزاوج ؛ لأنّ كلّ مولود نصفه من الأُمّ ونصفه من الأب، أمّا هذا المولود فكلّه من الأب، أو كلّه من الأُمّ، إذا حصل يجب أن يكون كلّه من الأب ؛ لأجل أن يرث جميع الخصائص الممتازة.

___________________

(١) ص١٣١ وص١٣٢، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٢١

هذا الخيال صار حقيقةً مؤكّدةً، وأنتج ٢٠ ضفدعةً واحدة في عمليّة واحدة، فكلّها معبَّر عنها بأنّها توائم الأب ؛ لأنّها نسخة طبق الأصل من هذا الأب ولكنّها أصغر منه سنّاً ؛ لأنّها اُنتجت بعد عشرين سنة أو أربعين سنة، ولكنّها صورة دقيقة للغاية، كأنّها التوأم المتشابه(١) .

وعرّف الاستنساخ أو النسخ طبيب ثالث بقوله: إنّه يريد به المختصّون محاولة تقديم كائن، أو خليّة، أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير طريق التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي(٢) .

أقول في المقام مطالب:

١ - إذا حصل العلم من مذاق الشرع(٣) بعدم رضاه بتحقّق إنسان من رجل وامرأة بهذا النحو(٤) لا نكاح بينهما حتّى إذا لم يستلزم الزنا وحراماً آخر فيقيّد جواز العمليّة من الوجهة الدينيّة بأخذ الخليّتين المذكورتين من الزوجين فإنّها إنجاب بلا جماع لا بلا طرفين كما لا يخفى، وإلاّ فلا.

٢ - الظاهر جواز العمليّة المذكورة خارج الرحم لأصالة البراءة، نعم في صحّة نسبه إلى رجل أُخذت الخليّة من جسده، وإلى امرأة صاحبة البويضة غير واضح ؛ فإنّه لم يخلق من مائه:( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) (٥) ، وأمّا صاحبة البويضة فإنّها غير حامل وغير والدة ،

___________________

(١) ص١٧٥ نفس المصدر.

(٢) ص١٥٥ نفس المصدر.

(٣) هذا ما يُسمّى بالدليل اللُبّي في مقابل الدليل اللّفظي، والدليل اللّفظي غير متوفّر بنظري في المقام.

(٤) أي من منيّ امرأة وخليّة جسديّة من رجل.

(٥) الطارق آية ٦.

١٢٢

( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) ، فلاحظ.

وعلى كلٍّ، لا مانع من فرض إنسان أُمّ له شرعاً ( أو لا والد له ) فلا تحرم العمليّة المذكورة مادامت إرادة هذا المولود حرّةً، واختياره غير مسلوب فلاحظ، ومادامت الصفات المورثة ممّا لم تكن مبغوضة للشرع.

٣ - إذا ثبت في علم الطب - ولمّا يثبت لعدم وقوع الفرض حتّى تناله التجربة - أنّ الكوارث المرضيّة الجامعة في هؤلاء المتشابهين وراثياً ذات مخاطر فتحرم العمليّة لأجلها، فكما يحرم الإضرار بالغير الموجود يحرم التوسط في إيجاد موجود محفوف بالضرر والنقص.

٤ - لا سلبيّات للعمليّة سوى احتمال تلك الكوارث، تعتمد عليها في منع العمليّة شرعاً، وما قيل، من سلبيات أُخر، ضعيف أيضاً(٢) .

٥ - إذا حملته صاحبة البويضة وولدته فإنّها أُمّه جزماً، وإنْ شككنا أو نفينا نسبه عن الرجل، فإنّ مريم أمّ عيسىعليها‌السلام بلا شكّ، ولا والد لهعليه‌السلام .

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

(٢) الإنجاب في ضوء الإسلام ص١٥٦.

١٢٣

المسألة الخامسة عشرة

المستقبل البيوتكنولوجي للإنسان ومعطيات النظام الاجتماعي

توصّل علماء الطبّ والبيولوجيا والكيمياء إلى اكتشاف بعض خبايا ميكانيكيّة الخليّة الحيّة، وصاغوا بعض القوانين العلميّة التي تحكم الشِّفْرة الوراثيّة للخليّة، ثمّ شرعوا بعد ذلك، في هندسة المستقبل الوراثيّة للأنواع الحيّة، إمّا عن طريق تجزئة الخلايا( الهندسة الوراثيّة ) وإمّا عن طريق اتّحاد الخلايا( الهندسة المشيجيّة ) .

واستعمل العلماء هذه الطرق، في التحكّم في التكوين الخلقي للخليّة، وفي تطويرها، فهناك ما يُسمّى بالتكاثر بالخلايا الجسديّة، حيث يراود العلماء الأمل، في تحويل الخليّة الجسديّة إلى خليّة جنينيّة يمكن لها أن تتكاثر، مثلها في ذلك مثل أصلها وهو البويضة الملقّحة، وذلك بعد تخليصها من القفل الكيميائي الذي يمنعها من محاكاة أصلها.

ومن بين الاستخدامات المتصوَّرة لتكنيك التكاثر بالخلايا الجسديّة بعث الذات البيولوجية للإنسان، وقوام هذا الاستخدام، هو نسخ نسخة طبق الأصل من الإنسان الذي أُخذت من جسده الخليّة الجسديّة. ويقال: إنّه من الممكن تحقيق نفس الغرض حتّى إذا أُخذت الخليّة من جثّة الإنسان، مادام أنّ هذه الخليّة ذاتها لم تمت. وبذلك يمكن ضمان بقاء العباقرة على قيد الحياة لتستفيد البشريّة من علمهم.

ولا بأس من أن أذكر تطبيقاً آخر للإمكانيّات البيولوجية الحديثة التي

١٢٤

ترتّب عليها كسر الحدود الفاصلة بين الأنواع المختلفة للكائنات.

فمما تفتّقت عنه قريحة العلماء: فكرة خلط خلايا بشريّة بخلايا نباتيّة أو حيوانيّة، لنصل بذلك إلى الإنسان الخضري ( الكلورفيلي ) أو الإنسان المجتر. ويستهدف العلماء من أبحاثهم هذه إنتاج سلالة بشريّة جديدة، يدخل في تكوينها بعض الصفات النباتيّة أو الحيوانيّة المرغوبة، كجعل الإنسان ذاتي التغذية، يعتمد على ذاته في غذائه كالنبات ( التمثيل الضوئي ).

ويفكّر العلماء - أيضاً - في إنتاج طراز جديد من الجنس البشري، عن طريق استخدام طريقة التكاثر الجسدي في تنمية الخلايا المختلطة، وبعد التأكّد من نجاح إنتاج هذا الطراز الجديد، فيمكن تعميمه بالطريق الطبيعي أي التكاثر الجنسي.

ولم يقف التلاعب بالحياة على المستوى العضوي، بل إنّ الفكر العلمي الحديث يتّجه إلى ابتداع طرق التحكّم في إرادة الإنسان بأجهزة الكترونية، وهذا هو الإنسان الالكتروني، الذي يمكنه إشباع رغباته وحاجاته عن طريق أزرار مركّبة على جسده.

ورغم ما يُقال عن تكنولوجيا التكاثر من أنّها ما زالت في طور الخيال، وأنّها لا تعدو أن تكون حاليّاً مجرّد أضغاث أحلام، إلاّ أنّ استخدامها الناجح على مستوى الحيوان والنبات، شجّع العلماء على التفكير في تطبيق قوانينها العلميّة على الجنس البشري، وما زراعة الأجنّة، أو طفل الأُنبوب، إلاّ تجسيد حيّ لطموح الإنسان في التحكّم في خلقته وصفاته، ولعلّ جهود العلماء في هذا المضمار، تجسّد رغبة الإنسان في التوصّل إلى إكسير الحياة ؛ ليكرّس بذلك خلوده وانتصاره على الموت، الذي هو مع ذلك سنّة الله في خلقه، ونذكر هنا أنّ أحد المليونيرات الأجانب طلب إنتاج نسخة من ذاته

١٢٥

وأبدى استعداده لتمويل أبحاث التكاثر الجسدي. ومثل هذا التفكير يحمل في طيّاته معاني كثيرة يفهمها كلّ لبيب(١) .

وقال بعضٌ آخر من الأطبّاء: موضوع الهندسة الوراثيّة في غاية الأهمّيّة، لسبب أنْ تقرّر أنّ كلّ القرارات الإلهيّة الموجودة داخل الخليّة يبدأ البحث فيها بمنتهى الدقّة، وهي تمثّل ٣٠٠ مليون جزئيّة. العالم بدأ في دراستها علميّاً واعتمد لها ١٥ مليار دولار، فتولّت ثلاث دول هذه العمليّة: أمريكا واليابان وألمانيا الغربيّة.

ومن المنتظر أنْ يتمّ الكشف عن هذه الجينوم، أو هذه الوثيقة بعد ١٥ عاماً...(٢) .

وقيل: إنّ بداية الإنسان ما هو إلاّ خليّة واحدة فيها نواة، إذا درسنا هذه النواة نجد أنّ فيها الحقيبة الوراثية، عبارة عن ٤٦ صبغ موجودين بين ٢٣ من الأب و٢٣ من الأُمّ، هذه الصبغيّات تحمل مورِّثات، هذه المورِّثات سواءٌ كانت تتحكّم في الصفات الطبيعيّة، أم الصفات المرضيّة، عددها كبير جدّاً يُقدّر بحوالي ٢ مليون مورِّث لغاية الآن، نحن الآن لم نعرف تقريباً أكثر من (٤٣٤٠) مورِّث بعضها يقيني وبعضها ليس بيقيني... ربّما يكون الأب سليماً من مرض، ثمّ يُبتلى ابنه به لوجود الصفات الوراثيّة في نواة الخليّة، انتهى كلامه بتغيير(٣) .

أقول : هذا البحث - من ناحيةٍ علميّةٍ - طويل عريض عميق جداً، ويُقال: إنّ العلم قادر على إيجاد لونٍ خاصٍّ لشعر المولود، وكيفيّة وجهه إلى

___________________

(١) الإنجاب في ضوء الإسلام ص ١٣٨ وما بعدها.

(٢) ص ٦٣٦ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

(٣) ص ٤٩١ وص ٤٩٢ نفس المصدر، ولم أفهم وجه التفاوت بين الرقمين ( ٣٠٠ مليون ) و ( حوالي مليونين ).

١٢٦

غير ذلك من الإنجازات المحيِّرة للعقول العامّيّة، وتحقيق هذه المسائل وأحكامها الفقهيّة ربّما يحتاج إلى تأليفٍ مستقلٍّ، وكلّ ميسّر لما خلق لأجله.

وحيث لا سبيل لي إلى جزئيّات هذه المسألة وإلى عشرين أعشارها ؛ نقتصر على ذكر بعض الأحكام الشرعيّة، حسب ما أدّى إليه نظري، والله العاصم والهادي:

التغيير في جنين الإنسان أو نطفته ربّما يكون على نحو نعلم بعدم رضا هذا الإنسان بعد ولادته وإدراكه وبلوغه بل يتنفّر منه ويتأذّى، بل يكون له ضرريّاً، وهذا غير مباح حتّى إذا طلبه الزوجان، إذ لا ولاية لهما على أولادهما بهذه السعة والإطلاق، وقد لا نعلم بذلك أو نعلم رضاه به، وهو على أقسام:

القسم الأوّل: إن التغيير قد ينجرّ إلى ما يستلزم إفراطه في الشهوة الجنسيّة، أكثر ممّا هو عليه الآن، أو تمايله الشديد في القتل والتعدّي.

وبالجملة: يصل الإنسان بوسيلة العمليّة الطبّيّة والبيولوجية والكيمياوية إلى حدٍّ تقوى غرائزه الحيوانيّة، بحيث تضعف به قواه العقلانية، ويختلّ به النظام الاجتماعي، والسلوك الأخلاقي، والاقتضاء الروحاني، وهذا حرام غير جائز بلا شبهة، ومخالف لهدف خِلقة الإنسان، وقد لا يستلزم ذلك بل إلى حدٍّ ما من الشرور، وفي جوازه نظر وبحث.

القسم الثاني: قد ينجرّ إلى ما يرغِّبه في الطاعات والخيرات، بحيث يسلب إرادته للشرور والمعاصي، والظاهر عدم جوازه ؛ لأنّ الطاعة المقبولة المطلوبة من الإنسان ما صدر عنه باختياره:( وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاکُمْ

١٢٧

أَجْمَعِينَ‌ ) (١) .

ومنه يظهر حرمة ما يرغبه في المعاصي بحيث يسلب عنه إرادة الصالحات، بطريق أولى.

القسم الثالث: وقد يرغِّبه الى الأفعال الصالحة والأخلاق الحميدة من غير سلب اختياره، وعندي أنّه جائزٌ بل حسن، يظهر وجهه ممّا ورد في حق الأُمّ المرضِعة وغير ذلك.

القسم الرابع: وقد ينجرّ إلى سلب إرادة الإنسان وجعله تابعاً في أفعاله - سواء كانت مباحة أو غير مباحة - إلى إرادة الغير، صالحاً كان أو شريراً، فهذا - أيضاً - غير جائز، فإنّه مضادٌّ لغرض الخِلقة، فإنّ الله سبحانه خلق الإنسان للتكامل الحاصل من العبوديّة، وإطاعة الربّ في جميع شئون الحياة، وهذا التكامل لا يحصل إلاّ بكونه مريداً مختاراً لا مجبوراً مضطرّاً.

القسم الخامس: وقد ينجرّ إلى تغييرات جسمانيّة بداع التجمّل والتحسّن، وهذا لا بأس به في حدّ نفسه، حتّى إذا سبّب طول قامته أو قصرها أو هزاله أو سمنه، فضلاً عن بياض وجهه، وشباهة عينه بعين الظبي، واصفرار لون شعره ونحو ذلك.

وقد تقدّم حكم بعض مانقلناه في أوّل الكلام هنا في المسائل المتقدّمة، والله الموفِّق.

___________________

(١) النحل آية ٩.

١٢٨

المسألة السادسة عشرة

التحكّم في معطيات الوراثة

عرّفت الوراثة بانتقال الصفات من الأُصول إلى الفروع، أو من السَّلف إلى الخَلَف، وهي تشمل إلى جانب الخصائص، الأمراض القابلة للتوريث(١) .

قيل: إنّ الصور المطروحة على بساط البحث لا تعدو ثلاثة أنواع، هي:

١ - النسخ ( الاستنساخ )، وهو الحصول على نسخ من الكائن دون التزاوج.

٢ - المزج بين صفات وخصائص معيّنة في المخلوق بالتصرّف في مورِّثاته.

٣ - استصفاء جنس معيّن باستبقاء عنصره في الطّور الأوّل للجنين(٢) .

أقول : أمّا الأوّل، فقد مرّ توضيحه وحكمه.

وأمّا الثاني، فقد سمّاه بعض الأطبّاء بالاستبدال، وهو كما عرّفه المختصّون: التمويل على ما للحامض النووي ( النوويك ) من خصائص ولاسيّما خاصّة الالتحام عند قصّه بحيث يمكن التحكّم في إبدال المورِّثات من خلال عمليّات معقّدة يعود تحقّق نتائجها إلى تلك الخصائص في الحامض المذكور.

___________________

(١) ص ١٤٩ الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص ١٥١ نفس المصدر.

١٢٩

فإن اتّجه هذا التصرّف إلى العلاج من علّة، سواءٌ كانت مرضاً وراثيّاً قائماً بالجسم، أم انحرافاً في الطبيعة الأصليّة، أم تقاصراً عن القدر المألوف فيها ؛ فإنّه ممّا يندرج في التصرّفات المشروعة شرعاً، وإمّا إن اتّجه إلى سلب الإرادة حتّى في جانب الخير، أو إلى الانحراف بالسجايا إلى الميول الشرّيرة، فلا يجوز، كما لا يجوز كلّ ما يُؤثر على الفطرة الأصليّة، سواء كان بأسباب مادّيّة منضبطة: كالإسكار والتخدير، والإكراه الملجئ أو بأسباب أُخرى خاصّة، كالذي يتعاطاه السحرة النافثون في العُقَد، أو الحسدة هواة الإصابة بالعين، أو المرجفون، وما إلى ذلك من المؤثِّرات المعنويّة، أو النفسيّة السلبيّة أو المفسدة.

فلا يقلّ عن هذه التصرّفات في الخطورة، ما يصل إليه الإنسان من نتائج بالوسائل المادّيّة المختبريّة والإجراءات الطبيّة، فكلّ مِن هذا وذاك استجابة لأمر الشيطان، ومطاوعة لنزغاته بالقيام بالتصرّف المُعْتَبر سبباً تنشأ عنه مسبِّبات منسجمة مع ذلك التغيير، فإنّ الله ربط الأسباب بالمسبِّبات، والحكم كما يتعلّق بالمباشر، يتعلّق بالتسبّب إذا ما توفّرت صلته السببيّة كما ذكره بعضهم(١) ولا يخلو عن متانةٍ وصحّةٍ.

وأمّا الثالث، وهو التحكّم في جنس الجنين بعد تشخيصه(٢) فهو - أيضاً - في حدّ نفسه جائز، وقد مرّ تفصيله.

___________________

(١) ص١٥٨ نفس المصدر.

(٢) وفسّر الاستصفاء بعضهم بالاصطفاء لأحد الجنسين على الآخر.

١٣٠

المسألة السابعة عشرة

حكم البييضات الفائضة

تبقى من البييضات المخصبة في أُنبوبة المختبر، إذ يمكن تلقيح عشرين بويضة ولا يحتاج إلاّ إلى اثنين أو ثلاثة، فما هو حكم البقيّة الفائضة ؟

الأسئلة الشرعيّة المتعلِّقة بالمقام أُمور:

١ - هل يجوز إهدارها والإزهاق بها أو يحرم ؟

٢ - هل تجب الديّة بإهدارها ؟

٣ - هل يُعزل لها من الإرث سهمها ؟

٤ - ما هو الحكم بالنسبة إلى عدّة صاحبتها ؟

٥ - هل يُعطّل الحدّ الشرعي بالنسبة إلى صاحبتها ؟

٦ - مَن يملك التصرّف فيها ؟

٧ - هل يجوز نقلها في رحم صاحبتها بعد وفاة زوجها، أو بعد طلاقها ؟

وإليك أجوبة هذه الأسئلة مستعيناً بالله تعالى:

أمّا السؤال الأوّل فجوابه: أنّه لا مصرف للبييضات الفائضة إلاّ رحم صاحبتها أيّام حياة زوجها، فإن أمكن وجب إبقائها على الأحوط، حتّى تُنقل إليها، وإن لم يمكن - ولو بانصراف صاحبتها عنها - فلا بُدّ من إتلافها ؛ حذراً من استعمالها على نحو الحرام شرعاً.

نعم، إذا كانت البييضات في الأُنبوبة في مسير حياتها الإنسانيّة، وأمكن ذلك طبّيّاً، ولم يستلزم المؤنات الكثيرة ؛ فالأحوط لزوماً إبقاءها، بل إذا تعلّق

١٣١

بها الروح وجب حفظها، مهما أمكن ؛ فإنّها نفسٌ محترمةٌ يحرم إتلافها، بلا فرق بين كونها في رحم، أو في أُنبوبة، أو في محلٍّ آخر.

وجواب السؤال الثاني: أنّه إذا وجب إهدارها لا ديّة لها، وإذا تعلّق بها الروح، وأمكن حفظها، وجبت الديّة جزماً على مَن أتلفها، وإذا لم تتعلّق بها الروح، وكان في مسيرها إلى الحياة الإنسانيّة فالأحوط لزوماً وجوب الديّة بالشرطين المذكورين، ( أيّ إمكان حياتها إلى ولادتها في الأُنبوبة طبّاً، ووجود مَن يقوم بمؤنتها ).

وعلى كلٍّ، الأحوط للطبيب أنْ لا يخصب البيضات أكثر من حاجة صاحبتها.

وجواب الثالث: أنّها إذا تعلّق بها الروح، وخرجت من الأُنبوبة إنسانا حيّاً يرث أباه، وقد مرّ الإشكال في نسبه إلى صاحبة البويضة، فإنّ الحكم بأُمومتها مع قوله تعالى:( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (١) مشكل، وإذا علموا بعدم خروجها حيّةً فلا يعزل له سهم، وأمّا إذا شكّ فالأحوط عزل السهم له، وكذا إذا علم بخروجه حيّاً من الأُنبوبة.

ويمكن أن يُقال بعدم وجوب عزل سهمٍ له، لأنّ موضوعه الحمل، ولا يصدق على ما في الأُنبوبة حمل بوجه، فإذا خرج حيّاً وقد قسّم الورثة الإرث بينهم، عليهم أن يردّ كلُّ واحدٍ من سهمهم ما يبلغ حقّ الحيّ المذكور.

وأمّا جواب الرابع: فهو منفيٌّ جزماً، فإنّ وجود البييضة في الأُنبوبة لا تجعلها حاملاً، وهذا واضح.

___________________

(١) المجادلة آية ٢.

١٣٢

وجواب الخامس: أنّه لا يُعطّل الحدّ عليها، نعم إذا فرضنا الجنين في معرض الخروج عن الأُنبوبة حيّاً، ولا توجد له حاضنة ومربّية سواها، ففي جريان الحدّ عليها تردّد، وتحقيقه في محلّه.

وجواب السادس: أنْ حق الأولويّة لصاحب الحيوان المنوي وصاحبة البويضة، وإذا مات أحدهما سقط حقّ الاستفادة عن البويضة المخصَّبة نهائيّاً كما ظهر ممّا سبق.

وأمّا جواب الأخير فقد اتّضح ممّا سبق، وأنّ النقل المذكور غير جائز.

بقي في المسألة أُمورٌ ينبغي ذكرها:

١ - إذا أُخصبت البييضة بحيوانٍ منويٍّ من غير الزوج، ثمّ تزوّج بصاحبتها، فهل يجوز نقلها إلى رحمها بعد الزواج ؟ فيه وجهان: أقربهما الجواز لعدم المانع، وهذا غير مَن حملت من أجنبي ثمّ زُوّجته، فإنّ الولد ولد زنا، ولا يرث من الرجل، ولا يخرج الولد بالعقد اللاحق عمّا انعقد عليه من الزنا بلا شبهة. نعم هو ولده لغةً وطبّاً، ولكنّه ليس بولده بحيث يرث منه ويورِث، كما مرّ.

٢ - إنّ زراعة خلايا بشريّة جنينيّة من خلال ثقب صغير بالجمجمة بمقدار ستّة مليمترات مكعّبة، بالأُسلوب الجراحي المجسّم، قد تمّت في تشيكوسلوفاكيا في أغسطس ١٩٨٩(١) ، فإذا أمكنت زراعة البييضات الفائضة في ذلك فلا بأس به شرعاً، كما أنّ زراعة خلايا بشريّة من جنينٍ ساقطٍ - أيضاً - لا مانع منه، لكنّ جواز الأوّل في فرض كون البييضات الفائضة

___________________

(١) ص٦٥ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٣٣

من صاحبة الجنين لا غير، كما عرفت سابقاً، نعم الخلايا غير المنويّة من أحد لا بأس بزراعتها في بدن جنينٍ آخر.

٣ - قيل: يمكن الاحتفاظ باللقيحة الى خمسين سنة، يعني حتّى إلى ما بعد المعدّل الأقصى لعمر الأبوين، إذ المعتاد أنْ لا يباشر الأطبّاء عملية التلقيح المُجرى إلاّ ما بعد الثلاثين سنة من عمر الأبوين(١) .

٤ - قيل: إنّه يمكن استخراج خمسين بويضة من امرأةٍ واحدةٍ، وإنّ أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه ١٢٠٨ جنيناً فائضاً، أُودعت الثلاّجات وجمدت من ٤٣٢ امرأة أُجريت لهنّ عمليّة طفل الأُنبوب(٢) .

أقول : للحكومة منع إنشاء الأجنّة الفائضة عن مقدار الحاجة بتاتاً ؛ سدّاً لذرائع الفساد والحرام، لأجل حصول الثروة - كما منعت ألمانيا الغربية على ما نُقل - بل الأحسن منع استخراج البييضات الفائضة عن حاجة الزوجين مطلقاً.

___________________

(١) ص١١١ وص١١٢ نفس المصدر.

(٢) ص١٧٤ نفس المصدر.

١٣٤

المسألة الثامنة عشرة

في دفع الموت في الجملة

من الممكن قدرة الطبّ - في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ - على حفظ الصحّة العامّة للبدن وحفظ خلاياه عن الفتور والفساد، فلا يُستبدل الشباب بالهرم والشيخوخة، فيدفع الموت ويطيل عمر الإنسان، بل تأثير الطبّ في دفع الأمراض المُهْلِكة، وتكثير النسل الإنساني، وطول العمر في الجملة، واقعٌ بالفعل ومن زمنٍ ولا مجال لإنكاره.

وقد يُتوهم حرمة دفع الموت شرعاً لجريان سنّة الله، على أنّ كلّ نفس ذائقة الموت، قال الله سبحانه وتعالى:

( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ... ) (١) ، وقال تعالى:( وَ اللَّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاکُمْ ) (٢) ، وقال سبحانه:( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيکُمْ ) (٣) .

أقول : إنْ أراد هذا القائل أنّ الله تعالى أراد موت كلِّ إنسانٍ حين أجله، استناداً إلى هذه الآيات وأمثالها، فلا يجوز دفعه ؛ لأنّه تعجيز له تعالى ! فهو هذيان، والقائل به جاهل بالله وقدرته، وربّما لا يكون مؤمناً، قال الله تعالى:

( وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ کُنْ فَيَکُونُ‌ ) (٤) ، وقال تعالى:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) ، وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي

___________________

(١) النساء آية ٧٨.

(٢) النحل آية ٧٠.

(٣) الجمعة آية ٨.

(٤) البقرة آية ١١٧.

١٣٥

السموات ولا في الأرض ) (١) وقال تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (٢) .

وبالجملة: بطلان هذا التخيّل على ضوء العقل والدين غير خفي، وقد ثبت في محلّه أنّ الكائنات تفتقر إليه تعالى في وجودها وصفاتها وأفعالها، حدوثاً وبقاءً.

على أنّ تأثير الأسباب في المسبَّبات، ووصول الإنسان الساعي إلى الأسباب - أيضاً - من سنّة الله ومشيئته، وقال سبحانه:( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ ) (٣) ، وقال سبحانه:

( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ ) (٤) .

وهل علم الإنسان وقدرته إلاّ قطرة مفاضة من علمه وقدرته اللذين لا يت-ناهيان.

ولبّ الكلام: أنّ البحث في إرادته التشريعيّة التي هي بمعنى طلبه تعالى شيئاً أو تركاً من المكلَّف، من طريق إرادته واختياره، فقد يمتثله المكلَّف وقد يعصيه. لا في إرادته التكوينيّة التي يستحيل تخلّف المراد عنها، بناءً على وحدة واجب الوجود واستحالة الشرك. وهذا، فليكن ببال القرّاء في جميع مطالب هذا الكتاب وغيره.

وإن أراد القائل المذكور أنّ دفع الموت حرام على المكلَّفين، فهذا شيءٌ ممكنٌ عقلاً، لكنّه باطلٌ ؛ لعدم دليل في الكتاب والسنّة يدلّ على

___________________

(١) فاطر آية ٤٤.

(٢) الأنفال آية ٥٩.

(٣) البقرة آية ٢٥٥.

(٤) الرحمن آية ٣٣.

١٣٦

حرمته، بل لا شكّ في جواز المواظبة على أساس التوصيات الطبّيّة على صحّة البدن، وطول العمر، ولزوم العلاج على المريض بكلّ الوسائل الممكنة، كما سبق.

وإنْ أراد أنّ الله سبحانه وتعالى أخبر بانّ كلّ إنسانٍ يموت، وهذا يكشف عن عدم إمكان دفع الموت، فكلّ محاولةٍ له تصبح فاشلةً لا محالة، فتحرم لكونها عبثاً وإسرافاً للمال، فممنوع أيضاً ؛ لأنّ الطبّ لا يدّعي - ولا يصحّ له أن يدّعي - دفع الموت عن الإنسان بنحوٍ مطلق، وأنّه لا يموت أصلاً، ضرورة أنّ للموت أسباباً، غير صحّة البدن ونشاط الخلايا، كالغرق والحرق والقتل وافتراس مفترس وغير ذلك، والله سبحانه قادر على إماتة الإنسان بكلّ هذه الأسباب.

والطبُ إنّما يدّعي دفع الموت عن طريقٍ واحدٍ وسببٍ فاردٍ، فلا تناقض بين الأخبار عن موت كلّ أحدٍ، وقدرة الطبّ على دفع الموت عن بعض الأفراد، وهي من قدرة الله وتقديره.

وفي الدِّين ما يؤيّد إمكان الطبّ على دفع الموت وتطويل العمر: بحفظ الخلايا، ودفع الأمراض، من بقاء عيسى بن مريمعليه‌السلام على أظهر الأقوال، بل وببقاء الخضرعليه‌السلام كما اشتهر، وببقاء وليّ العصر، وناموس الدهر، المهدي الموعود المنتظر - عجّل الله تعالى فرجه - على عقيدتنا الشيعيّة الإماميّة.

فإن قيل: إنّ القرآن يقول بأنّ لكلّ أُمّةٍ أجلٌ لا يستقدمون منه ساعة ولا يستأخرون(١) ، فأيّ أثر للطّب ؟

يُقال له: لا شكّ في صدق القرآن في

___________________

(١) الأعراف آية ٣٤، ويونس آية ٤٩.

١٣٧

إخباره، لكن من أين علمت أنّ أجل مَن ينتفع بالطبّ، ويستفيد من العلم الحديث ثمانون سنةً فقط لا ألف ومئة وثمانون سنة، أو أنّه مليون سنة.

والواقع أنّ كثيراً من مدّعي العلم، الذين ليسوا من الراسخين في المعارف الإسلاميّة، وجميع الملحدين المادّيّين، يتخيّلون إرادة الله تعالى وأفعاله في عرض الأسباب الطبيعيّة، فتحيّروا ضلالةً وجهالةً، بل ألحد المادّيّون بأنّ الأسباب المادّيّة تُغني عن الخالق المدبِّر المريد، ولو علموا أنّ إرادة الله وأفعاله في طول الأسباب المادّيّة، وأنّ الموجودات محتاجة إلى إفاضته تعالى في جميع شؤنها حدوثاً وبقاءً ؛ لم يضلّوا ولن يلحدوا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أنّ هدانا الله.

نعم أجل كلّ إنسانٍ يُحدّد في ضمن الأسباب المادّيّة لا خارجها، وفهم ذلك ينفعك في مقامات كثيرة بإذن الله المنّان دائم الفضل.

وفي الأخير تخيّل متخيّل: أنّ دفع الموت يهدم تشريع الميراث الذي اهتمّ به الشارع، وهو خبط عشواء، فإنّ أحكام الإرث تترتّب على الموت وإنّما اهتمّ بها الشارع في فرض الموت، فإذا زال الموضوع أو تأخّر زالت الأحكام أو تأخّرت بتبعه، كما أنّ الأحكام المتعلّقة بالسفر والمسافر، من قصر الصلاة وإفطار صوم رمضان تزول بزواله.

وبالجملة: الأحكام لا توجب حفظ الموضوع بل تترتّب إذا تحقّق، وليكن هذا واضحاً.

ولنا أنْ نقول على سبيل النقض والجدل: إنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واجب ومن أهمّ الواجبات، فيجب حفظ الحياة، وإطالة العمر، لحفظ الإيمان بالله تعالى وتحصيل مرضاته !

١٣٨

المسألة التاسعة عشرة

نهاية الحياة الإنسانيّة

( ١ )

نظر الشريعة الإسلاميّة

المفهوم من القرآن المجيد أنّ موت الإنسان - وهو نهاية الحياة الإنسانيّة - بأخذ روحه، وهو انقطاع اتّصال الروح وتدبيرها عن البدن انقطاعاً نهائيّاً غير مؤقّت.

قال الله تعالى:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا... ) (١) ، وقال:( قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ) (٢) ، وقال:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِکَةُ ) (٣) ... وقال:( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) (٤) ، وقال:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (٥) ، وقال:( إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) (٦) ، وقال:( إذا بلغت التراقي ) (٧) - بناءً على رجوع الضمير المستتر في كلمة( بلغت ) إلى النفس أو الروح وقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى

___________________

(١) الزمر آية ٤٢.

(٢) السجدة آية ١١.

(٣) النحل آية ٣٢.

(٤) آل عمران ١٨٣ وغيرها.

(٥) الأنعام آية ٩٣.

(٦) الواقعة آية ٨٣.

(٧) القيامة آية ٢٦.

١٣٩

رَبِّکِ... ) (١) ، وغيرها من الآيات.

وليكن هذا واضحاً مسلّماً غير قابل للخلاف والنقاش في الشريعة الإسلاميّة(٢) …، لكن لحظة انقطاع الروح غير محسوسة ولا منصوصة، فهل لها علامة طبيّة وما هي ؟

هل هي سكون القلب عن النبض كما يقول به الأطبّاء القدامى ؟

أو موت جذع المخّ كما يعتقد به الأطبّاء الجدد ؟ أو كلاهما ؟

لا شكّ أنّ إدراك الكليّات والعواطف الإنسانيّة: كالإيثار، وحبّ العلم والكمال، وحب الله تعالى، وغيرها، من أبرز آثار الروح والنفس الإنسانيّة، بل وكذا الإحساس والحركة الإراديّة.

وربّما يتوهّم متوهّمٌ أنّ الحسّ والحركة الإراديّة من خواصّ النفس الحيوانيّة دون الإنسانيّة لثبوتهما في الحيوانات أيضاً، لكنّه توهُّمٌ خاطئ، فإنّهما وإن وُجدا في الحيوان والإنسان معاً، لكن ليس للإنسان نفسٌ حيوانيّة في قِبال النفس الإنسانيّة، ليستند إليها الحسّ والحركة، بل هما يستندان إلى النفس الإنسانيّة، ومن هنا جعل الاستهلال والحركة في المولود علامتين لحياته في الأحاديث(٣) .

كما لا شكّ في علم الطبّ، وعلم الجنين، وغيرهما، لحدّ الآن أنّ القلب - كاليد والرجل والأنف والكبد والكلية ونحوها - لا حسّ له ولا علم ولا إدراك، بل هو أجنبي عن العواطف الإنسانيّة أيضاً، وهي من آثار المخّ

___________________

(١) الفجر آية ٢٨.

(٢) والمتأمِّل المتدبِّر في هذه الآيات يفهم أنّ قوله تعالى:( ثمّ أنشأناه خلقاً آخر ) يُراد به ظاهراً إنشاء اتصال الروح بالجنين، وبه تبدأ الحياة الإنسانيّة. فافهم ذلك جيّداً.

(٣) ص٣٥٠ وص٣٥١ ج٢٤ جامع أحاديث الشيعة.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206