كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 290

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 290
المشاهدات: 48658
تحميل: 5879


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 290 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48658 / تحميل: 5879
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 10

مؤلف:
العربية

اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً ) و أصحابنا يحتجون بهذه اللفظة على أن القرآن ليس بقديم لأن الحديث ضد القديم.و ليس للمخالف أن يقول ليس المراد بقوله( أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ ) ما ذكرتم بل المراد أحسن القول و أحسن الكلام لأن العرب تسمي الكلام و القول حديثا لأنا نقول لعمري إنه هكذا و لكن العرب ما سمت القول و الكلام حديثا إلا أنه مستحدث متجدد حالا فحالا أ لا ترى إلى قول عمرو لمعاوية قد مللت كل شي‏ء إلا الحديث فقال إنما يمل العتيق فدل ذلك على أنه فهم معنى تسميتهم الكلام و القول حديثا و فطن لمغزاهم و مقصدهم في هذه التسمية و إذا كنا قد كلفنا أن نجري على ذاته و صفاته و أفعاله ما أجراه سبحانه في كتابه و نطلق ما أطلقه على سبيل الوضع و الكيفية التي أطلقها و كان قد وصف كلامه بأنه حديث و كان القرآن في عرف اللغة إنما سمي حديثا لحدوثه و تجدده فقد ساغ لنا أن نطلق على كلامه أنه محدث و متجدد و هذا هو المقصود

٢٠١

192 و من كلام له ع كان يوصي به أصحابه

تَعَاهَدُوا أَمْرَ اَلصَّلاَةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا وَ اِسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً أَ لاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ اَلنَّارِ حِينَ سُئِلُوا( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ) وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ اَلذُّنُوبَ حَتَّ اَلْوَرَقِ وَ تُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ اَلرِّبَقِ وَ شَبَّهَهَا رَسُولُ اَللَّهِ ص بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ اَلرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي اَلْيَوْمِ وَ اَللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ اَلدَّرَنِ وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لاَ قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَ لاَ مَالٍ يَقُولُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ ) وَ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ ص نَصِباً بِالصَّلاَةِ بَعْدَ اَلتَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ( وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْها ) فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَ يُصْبِرُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ

٢٠٢

ثُمَّ إِنَّ اَلزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ اَلصَّلاَةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ اَلْإِسْلاَمِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ اَلنَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ اَلنَّارِ حِجَازاً وَ وِقَايَةً فَلاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ اَلنَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ اَلْأَجْرِ ضَالُّ اَلْعَمَلِ طَوِيلُ اَلنَّدَمِ ثُمَّ أَدَاءَ اَلْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ اَلْمَبْنِيَّةِ وَ اَلْأَرَضِينَ اَلْمَدْحُوَّةِ وَ اَلْجِبَالِ ذَاتِ اَلطُّولِ اَلْمَنْصُوبَةِ فَلاَ أَطْوَلَ وَ لاَ أَعْرَضَ وَ لاَ أَعْلَى وَ لاَ أَعْظَمَ مِنْهَا وَ لَوِ اِمْتَنَعَ شَيْ‏ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ اَلْعُقُوبَةِ وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ اَلْإِنْسَانُ( إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا اَلْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ هذه الآية يستدل بها الأصوليون من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الواجبات الشرعية و على فعل القبائح لأنها في الكفار وردت أ لا ترى إلى قوله( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) فليس يجوز أن يعني بالمجرمين هاهنا الفاسقين من أهل القبلة لأنه قال( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ

٢٠٣

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِينَ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ) .قالوا و ليس لقائل أن يقول معنى قوله( لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ) لم نكن من القائلين بوجوب الصلاة لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله( وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ) لأن أحد الأمرين هو الآخر و حمل الكلام على ما يفيد فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار و الإعادة فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير المؤمنين ع على تأكيد أمر الصلاة و أنها من العبادات المهمة في نظر الشارع.قوله ع و إنها لتحت الذنوب الحت نثر الورق من الغصن و انحات أي تناثر و قد جاء هذا اللفظ في الخبر النبوي بعينه.و الربق جمع ربقة و هي الحبل أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه و هذا من باب الاستعارة.و يروى تعهدوا أمر الصلاة بالتضعيف و هو لغة يقال تعاهدت ضيعتي و تعهدتها و هو القيام عليها و أصله من تجديد العهد بالشي‏ء و المراد المحافظة عليه و قوله تعالى( إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) أي واجبا و قيل موقوتا أي منجما كل وقت لصلاة معينة و تؤدى هذه الصلاة في نجومها.و قوله كتابا أي فرضا واجبا كقوله تعالى( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ ) أي أوجب.و الحمة الحفيرة فيها الحميم و هو الماء الحار و هذا الخبر من الأحاديث الصحاح قال ص أ يسر أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس

٢٠٤

مرات فلا يبقى عليه من درنه شي‏ء قالوا نعم قال فإنها الصلوات الخمس و الدرن الوسخ.و التجارة في الآية إما أن يراد بها لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر الله ثم أفرد البيع بالذكر و خصه و عطفه على التجارة العامة لأنه أدخل في الإلهاء لأن الربح في البيع بالكسب معلوم و الربح في الشراء مظنون و إما أن يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقا لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص كما تقول رزق فلان تجارة رابحة إذا اتجه له شراء صالح فأما إقام الصلاة فإن التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال فإن أصله إقوام مصدر أقام كقولك أعرض إعراضا فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت التاء.قوله ع و كان رسول الله ص نصبا بالصلاة أي تعبا قال تعالى( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى) .و روي أنه ع قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة و روي أنه قيل له في ذلك فقال أ فلا أكون عبدا شكورا.و يصبر نفسه من الصبر و يروى و يصبر عليها نفسه أي يحبس قال سبحانه( وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) و قال عنترة يذكر حربا كان فيها:

فصبرت عارفة لذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

فصل في ذكر الآثار الواردة في الصلاة و فضلها

و اعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير الذي يعجزنا حصره و لو لم يكن

٢٠٥

إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها و تأكيد الوصاة بها و المحافظة عليها لكان بعضه كافيا.و قال النبي ص الصلاة عمود الدين فمن تركها فقد هدم الدين و قال أيضا ع علم الإيمان الصلاة فمن فرغ لها قلبه و قام بحدودها فهو المؤمن و قالت أم سلمة كان رسول الله ص يحدثنا و نحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا و لم نعرفه و قيل للحسنرحمه‌الله ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها قال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره وقال عمر إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة قيل له و كيف ذلك قال لا يتم خشوعها و تواضعها و إقباله على ربه فيها.و قال بعض الصالحين إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله و لو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا قيل و كيف ذلك قال يكون ساجدا و قلبه عند غير الله إنما هو مصغ إلى هوى أو دنيا.صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة و عمر بن الخطاب يراه فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين فقال عمر يا هذا لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة.وقال علي ع لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه و أوقعه في العظائم وروي عن النبي ص أنه قال الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر

٢٠٦

وجاء في الخبر أن رسول الله ص كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.و قال هشام بن عروة كان أبي يطيل المكتوبة و يقول هي رأس المال.قال يونس بن عبيد ما استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض.يقال إن محمد بن المنكدر جزأ الليل عليه و على أمه و أخته أثلاثا فماتت أخته فجزأه عليه و على أمه نصفين فماتت أمه فقام الليل كله.كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام يصلي و لا يفهمه و كان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة فيتحدثون و يلغطون فهو لا يشعر بهم.و وقع حريق إلى جنبه و هو في الصلاة فلم يشعر به حتى حرق.كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه و هو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان فقيل له كيف تصبر فقال بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال فلان صبور أ فلا أصبر و أنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي. قال ابن مسعود الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف ف وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قال رجل لرسول الله ص يا رسول الله ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة فقال أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود.قوله ع قربانا لأهل الإسلام القربان اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة.و روي و من النار حجازا بالزاي أي مانعا و اللهف الحسرة ينهى ع

٢٠٧

عن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها و التلهف و التحسر على دفعها إلى أربابها و يقول إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال مضيع لماله غير ظافر بما رجاه من المثوبة

ذكر الآثار الواردة في فضل الزكاة و التصدق

و قد جاء في فضل الزكاة الواجبة و فضل صدقة التطوع الكثير جدا و لو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى.و روى بريدة الأسلمي أن رسول الله ص قال ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر.و جاء في الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونهما في سبيل الله ما جاء في الذكر الحكيم و هو قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ الآية قال المفسرون إنفاقها في سبيل الله إخراج الزكاة منها.و روى الأحنف قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الجسد خشن الثياب فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فسألت عنه فقيل هذا أبو ذر الغفاري و كان يذكره و يرفعه.

ابن عباس يرفعه من كان عنده ما يزكي فلم يزك و كان عنده ما يحج فلم يحج سأل الرجعة يعني قوله رَبِّ اِرْجِعُونِ.

٢٠٨

أبو هريرة سئل رسول الله ص أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا.و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم قال أما من جهة الشرع فخمسه و أما من جهة الإخلاص فالكل.

أمر رسول الله ص بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت يا رسول الله لم يبق منها غير عنقها فقال ع كلها بقي غير عنقها أخذ شاعر هذا المعنى فقال:

يبكي على الذاهب من ماله

و إنما يبقى الذي يذهب

السائب كان الرجل من السلف يضع الصدقة و يمثل قائما بين يدي السائل الفقير و يسأله قبولها حتى يصير هو في صورة السائل.و كان بعضهم يبسط كفه و يجعلها تحت يد الفقير لتكون يد الفقير العليا.و عن النبي ص ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه و عنه ص الصدقة تسد سبعين بابا من الشر و عنه ص أذهبوا مذمة السائل و لو بمثل رأس الطائر من الطعام.كان النبي ص لا يكل خصلتين إلى غيره لا يوضئه أحد و لا يعطي السائل إلا بيده.بعض الصالحين الصلاة تبلغك نصف الطريق و الصوم يبلغك باب الملك و الصدقة تدخلك عليه بغير إذن.الشعبي من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته و ضرب بها وجهه.

٢٠٩

كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به فإن لم يكن أعطاه كحلا أو خرج بإبرة و خاط بها ثوب السائل أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه.و وقف مرة على بابه سائل ليلا و لم يكن عنده ما يدفعه إليه فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة و قال خذ هذه و تبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك.قوله ع ثم أداء الأمانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به و أصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل لأن حاملها معرض لخطر عظيم فهي بالغة من الثقل و صعوبة المحمل ما لو أنها عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لامتنعت من حملها.فأما الإنسان فإنه حملها و ألزم القيام بها و ليس المراد بقولنا إنها عرضت على السماوات و الأرض أي لو عرضت عليها و هي جمادات بل المراد تعظيم شأن الأمانة كما تقول هذا الكلام لا يحمله الجبال و قوله

امتلأ الحوض و قال قطني

و قوله تعالى( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) و مذهب العرب في هذا الباب و توسعها و مجازاتها مشهور شائع

٢١٠

193 و من كلام له ع

وَ اَللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لاَ كَرَاهِيَةُ اَلْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لاَ أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ الغدرة على فعلة الكثير الغدر و الفجرة و الكفرة الكثير الفجور و الكفر و كل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل فإن سكنت العين فهو للمفعول تقول رجل ضحكة أي يضحك و ضحكة يضحك منه و سخرة يسخر و سخرة يسخر به يقول ع كل غادر فاجر و كل فاجر كافر و يروى و لكن كل غدرة فجرة و كل فجرة كفرة على فعلة للمرة الواحدة.و قوله لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة حديث صحيح مروي عن النبي ص.ثم أقسم ع أنه لا يستغفل بالمكيدة أي لا تجوز المكيدة علي كما تجوز على ذوي الغفلة و أنه لا يستغمز بالشديدة أي لا أهين و ألين للخطب الشديد

٢١١

سياسة علي و جريها على سياسة الرسول ع

و اعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين ع زعموا أن عمر كان أسوس منه و إن كان هو أعلم من عمر و صرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء في الحكمة و كان شيخنا أبو الحسين يميل إلى هذا و قد عرض به في كتاب الغرر ثم زعم أعداؤه و مباغضوه أن معاوية كان أسوس منه و أصح تدبيرا و قد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين ع و صحة تدبيره و نحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذي نحن في شرحه.اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره و توطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها و متى لم يعمل في السياسة و التدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله و أمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة مدفوعا إلى اتباعها و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك و لسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب و لا ناسبين إليه ما هو منزه عنه و لكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و يرى تخصيص عمومات النص بالآراء و بالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص و يكيد خصمه و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب بالدرة و السوط من

٢١٢

يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده و ما يؤديه إليه نظره و لم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك و كان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعداها إلى الاجتهاد و الأقيسة و يطبق أمور الدنيا على أمور الدين و يسوق الكل مساقا واحدا و لا يضيع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص فاختلفت طريقتاهما في الخلافة و السياسة و كان عمر مع ذلك شديد الغلظة و السياسة و كان علي ع كثير الحلم و الصفح و التجاوز فازدادت خلافة ذاك قوة و خلافة هذا لينا و لم يمن عمر بما مني به علي ع من فتنة عثمان التي أحوجته إلى مداراة أصحابه و جنده و مقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة ثم تلا ذلك فتنة الجمل و فتنة صفين ثم فتنة النهروان و كل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي و انحلال معاقد ملكه و لم يتفق لعمر شي‏ء من ذلك فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة و صحة تدبير الخلافة.فإن قلت فما قولك في سياسة رسول الله ص و تدبيره أ ليس كان منتظما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص و التوقيف من الوحي فهلا كان تدبير علي ع و سياسته كذلك إذا قلتم إنه كان لا يعمل إلا بالنص قلت أما سياسة رسول الله ص و تدبيره فخارج عما نحن فيه لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله و لا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا و أيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول الله ص أن يحكم في الشرعيات و غيرها برأيه و قال له احكم بما تراه فإنك لا تحكم إلا بالحق و هذا مذهب يونس بن عمران و على هذا فقد سقط السؤال لأنه ص يعمل بما يراه من المصلحة و لا ينتظر الوحي.و أيضا فبتقدير فساد هذا المذهب أ ليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله ص كان يجوز له أن يجتهد في الأحكام و التدبير كما يجتهد

٢١٣

الواحد من العلماء و إليه ذهب القاضي أبو يوسفرحمه‌الله و احتج بقوله تعالى( لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِما أَراكَ اَللَّهُ ) .و السؤال أيضا ساقط على هذا المذهب لأن اجتهاد علي ع لا يساوي اجتهاد النبي ص و بين الاجتهادين كما بين المنزلتين.و كان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرةرحمه‌الله إذا حدثناه في هذا يقول إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين سيرة النبي ص و سياسة أصحابه أيام حياته و بين سيرة أمير المؤمنين ع و سياسة أصحابه أيام حياته فكما أن عليا ع لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه و كثرة الفتن و الحروب فكذلك كان النبي ص لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين و أذاهم و خلاف أصحابه عليه و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن.و كان يقول أ لست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين و الشكوى منهم و التألم من أذاهم له كما أن كلام علي ع مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه و التألم من أذاهم له و التوائهم عليه و ذلك نحو قوله تعالى( أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ ) .و قوله( إِنَّمَا اَلنَّجْوى‏ مِنَ اَلشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا... ) الآية.و قوله تعالى( إِذا جاءَكَ اَلْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ

٢١٤

لَرَسُولُهُ وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ... ) السورة بأجمعها.و قوله تعالى( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. ) و قوله تعالى ( رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ اَلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اَللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) . و قوله تعالى ( أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) . و قوله تعالى ( سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) . و قوله تعالى ( سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ

٢١٥

فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) .و قوله( إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .قال و أصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال و طلبوها لأنفسهم حتى أنزل الله تعالى( قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .و هم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر و كرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم و ذلك قبل أن تتراءى الفئتان و أنزل فيهم( يُجادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) .و هم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق فسألوهما عن العير فقالا لا علم لنا بها و إنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب فضربوهما و رسول الله ص قائم يصلي فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها فلما رفعوا الضرب عنهما قالا و الله ما رأينا العير و لا رأينا إلا الخيل و السلاح و الجيش فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية فقالا و هما يضربان العير أمامكم فخلوا عنا فانصرف رسول الله ص من الصلاة و قال إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما فما رأيا إلا جيش أهل مكة و أنزل قوله تعالى( وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ

٢١٦

دابِرَ اَلْكافِرِينَ ) قال المفسرون الطائفتان العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب و إليها كان خروج المسلمين و الأخرى الجيش ذو الشوكة و كان ع قد وعدهم بإحدى الطائفتين فكرهوا الحرب و أحبوا الغنيمة.قال و هم الذين فروا عنه ص يوم أحد و أسلموه و أصعدوا في الجبل و تركوه حتى شج الأعداء وجهه و كسروا ثنيته و ضربوه على بيضته حتى دخل جماجمه و وقع من فرسه إلى الأرض بين القتلى و هو يستصرخ بهم و يدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه و شديد الاختصاص به و ذلك قوله تعالى( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم لأن أولهم أوغلوا في الفرار و بعدوا عن أن يسمعوا صوته و كان قصارى الأمر أن يبلغ صوته و استصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم.قال و منهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم حيث أقامهم على الشعب في الجبل و هو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه و هم أصحاب عبد الله بن جبير فإنهم خالفوا أمره و عصوه فيما تقدم به إليهم و رغبوا في الغنيمة ففارقوا مركزهم حتى دخل الوهن على الإسلام بطريقهم لأن خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه فما أحس المسلمون بهم إلا و قد غشوهم بالسيوف من خلفهم فكانت الهزيمة و ذلك قوله تعالى( حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ

٢١٧

وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ) .قال و هم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك بعد أن أكد عليهم الأوامر و خذلوه و تركوه و لم يشخصوا معه فأنزل فيهم( يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ اِثَّاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) و هذه الآية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين و فيها أوضح دليل على أن أصحابه و أولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه و يخالفون أمره و أكد عتابهم و تقريعهم و توبيخهم بقوله تعالى( لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .ثم عاتب رسول الله ص على كونه أذن لهم في التخلف و إنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم و إلا قعدوا عنه و لم تصل له المنة فقال له عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد و خروج من يخرج صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم و كان بعضهم ينوي الغدر و بعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف و من لا يتخلف فعرف الصادق منهم و الكاذب.

٢١٨

ثم بين سبحانه و تعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان فقال له( لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) .و لا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله ص مع أصحابه كيف كانت و لم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا و هو مع المنافقين له و المظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد حتى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم الحديبية احلقوا و انحروا مرارا فلم يحلقوا و لم ينحروا و لم يتحرك أحد منهم عند قوله و قال له بعضهم و هو يقسم الغنائم اعدل يا محمد فإنك لم تعدل.و قالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن قال لهم في مرض موته ائتوني بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده فعصوه و لم يأتوه بذلك و ليتهم اقتصروا على عصيانه و لم يقولوا له ما قالوا و هو يسمع.و كان أبو جعفررحمه‌الله يقول من هذا ما يطول شرحه و القليل منه ينبئ عن الكثير و كان يقول إن الإسلام ما حلا عندهم و لا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته حين فتحت عليهم الفتوح و جاءتهم الغنائم و الأموال و كثرت عليهم المكاسب و ذاقوا طعم الحياة و عرفوا لذة الدنيا و لبسوا الناعم و أكلوا الطيب و تمتعوا بنساء الروم و ملكوا خزائن كسرى و تبدلوا بذلك القشف و الشظف و العيش الخشن و أكل

٢١٩

الضباب و القنافذ و اليرابيع و لبس الصوف و الكرابيس و أكل اللوزينجات و الفالوذجات و لبس الحرير و الديباج فاستدلوا بما فتحه الله عليهم و أتاحه لهم على صحة الدعوة و صدق الرسالة و قد كان ص وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى و قيصر فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله عظموه و بجلوه و انقلبت تلك الشكوك و ذاك النفاق و ذلك الاستهزاء إيمانا و يقينا و إخلاصا و طاب لهم العيش و تمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا فعظموا ناموسه و بالغوا في إجلاله و إجلال الرسول الذي جاء به ثم انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقيدة ممهدة و أمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم ثم انقرض ذلك القرن و جاء من بعدهم كذلك و هلم جرا.قال و لو لا الفتوح و النصر و الظفر الذي منحهم الله تعالى إياه و الدولة التي ساقها إليهم لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله ص و كان يذكر في التواريخ كما تذكر الآن نبوة خالد بن سنان العبسي حيث ظهر و دعا إلى الدين و كان الناس يعجبون من ذلك و يتذاكرونه كما يعجبون و يتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء و الملوك و الدعاة الذين انقرض أمرهم و بقيت أخبارهم.و كان يقول من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها و ذلك لأن حرب رسول الله ص مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر و انتصر المشركون عليه يوم أحد و كان يوم الخندق كفافا خرج هو و هم سواء لا عليه و لا له لأنهم قتلوا رئيس الأوس و هو سعد بن معاذ و قتل منهم فارس قريش و هو عمرو بن عبد ود و انصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح فكان الظفر له.و هكذا كانت حروب علي ع انتصر يوم الجمل و خرج الأمر بينه و بين

٢٢٠