كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١١

كتاب شرح نهج البلاغة14%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 279

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 279 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37076 / تحميل: 6285
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

و تكاءدنا شق علينا و منه عقبة كئود و يجوز تكأدنا جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى و مثله تعهد الضيعة و تعاهدها.و يقال قوله و توارثنا الوحشة كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال و هذا من باب الاستعارة.قوله و تهدمت علينا الربوع يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه و يجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت و روي و تهكمت بالكاف و هو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا و يعني بالربوع الصموت القبور و جعلها صموتا لأنه لا نطق فيها كما تقول ليل قائم و نهار صائم أي يقام و يصام فيهما و هذا كله على طريق الهز و التحريك و إخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم لأتوا بما وصفه من أحوالهم و ورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل فلما دفن قال لأصحابه قفوا ثم ضرب فأمعن في القبور و استبطأه الناس جدا ثم رجع و قد احمرت عيناه و انتفخت أوداجه فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين قلت ما فعلت بهما قال قطعت الكفين من الرسغين و قطعت الرسغين من الذراعين و قطعت الذراعين من المرفقين و قطعت المرفقين من العضدين و قطعت العضدين من المنكبين و قطعت المنكبين من الكتفين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلين قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين و قطعت الجنبين من الصلب و قطعت الصلب من الوركين و قطعت الوركين من الفخذين و قطعت الفخذين من الركبتين

١٦١

و قطعت الركبتين من الساقين و قطعت الساقين من القدمين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى فقلت و ما أكفان لا تبلى قال تقوى الله و العمل بطاعته و هذا من الباب الذي نحن بصدده نسب الأقوال المذكورة إلى التراب و هو جماد و لم يكن ذلك و لكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية فأفرغها في قالب الحكاية و رتبها على قانون المسألة و الإجابة و أضافها إلى جماد موات لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها و لو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في الصورة التي اخترعها.قوله ع فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك إلى آخر جواب لو هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث بعد ليلتين أو ثلاث لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة و الألوان من ضيق اللحود حائلة و هوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة و الرءوس الموسدة على الأيمان زائلة ينكرها من كان لها عارفا و يفر عنها من لم يزل لها آنفا.قوله ع ارتسخت أسماعهم ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فيها بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب و يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان.و استكت أي ضاقت و انسدت قال النابغة

و نبئت خير الناس أنك لمتني

و تلك التي تستك منها المسامع

١٦٢

قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت أي غارت و ذهبت في الرأس و أخذ المتنبي قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فقال:

يدفن بعضنا بعضا و يمشي

أواخرنا على هام الأوالي

و كم عين مقبلة النواحي

كحيل بالجنادل و الرمال

و مغض كان لا يغضي لخطب

و بال كان يفكر في الهزال

و ذلاقة الألسن حدتها ذلق اللسان و السنان يذلق ذلقا أي ذرب فهو ذلق و أذلق.و همدت بالفتح سكنت و خمدت و عاث أفسد و قوله جديد بلى من فن البديع لأن الجدة ضد البلى و قد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال:

يا دار غادرني جديد بلاك

رث الجديد فهل رثيث لذاك

و سمجها قبح صورتها و قد سمج الشي‏ء بالضم فهو سمج بالسكون ثم ضخم فهو ضخم و يجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن.قوله و سهل طرق الآفة إليها و ذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها.و مستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية فليس لها أيد تدفع عنها و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها.و الأشجان جمع شجن و هو الحزن.و الأقذاء جمع قذى و هو ما يسقط في العين فيؤذيها.

١٦٣

قوله صفة حال لا تنتقل أي لا تنتقل إلى حسن و صلاح و ليس يريد لا تنتقل مطلقا لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال.و رجل عزيز أي حدث و عزيز الجسد أي طري و أنيق اللون معجب اللون و غذي ترف قذ غذي بالترف و هو التنعم المطغي.و ربيب شرف أي قد ربي في الشرف و العز و يقال رب فلان ولده يربه ربا و رباه يربيه تربية.و يتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره و يفزع إلى السلوة يلتجئ إليها و ضنا أي بخلا و غضارة العيش نعيمه و لينه.و شحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح و شححت أيضا بالفتح أشح و أشح بالضم و الكسر شحا و شحاحة و رجل شحيح و شحاح بالفتح و قوم شحاح و أشحة.و يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه كناية عن الفرح بالعمر و العيشة و كذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء كأن الدنيا تحبه و هو يحبها.و عيش غفول قد غفل عن صاحبه فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر فيكدر عليه وقته قال الشاعر:

و كان المرء في غفلات عيش

كأن الدهر عنها في وثاق

و قال الآخر:

ألا إن أحلى العيش ما سمحت به

صروف الليالي و الحوادث نوم

قوله إذ وطئ الدهر به حسكة أي إذ أوطأه الدهر حسكة و الهاء في حسكة ترجع إلى الدهر عدي الفعل بحرف الجر كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه.

١٦٤

و قواه جمع قوة و هي المرة من مرائر الحبل و هذا الكلام استعارة.و من كثب من قرب و البث الحزن و البث أيضا الأمر الباطن الدخيل.و نجي الهم ما يناجيك و يسارك و الفترات أوائل المرض.و آنس ما كان بصحته منصوب على الحال و قال الراوندي في الشرح هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما ثم ذكر أن العامل في الحال فترات قال تقديره فترات آنس ما كان و ما ذكره الراوندي فاسد فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ و ليس هاهنا مبتدأ و أيضا فليس العامل في الحال فترات و لا فتر بل العامل تولدت و القار البارد.فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار و تحريك البارد بالحار و لأي معنى جعل الأول التسكين و الثاني التحريك قلت لأن من شأن الحرارة التهييج و التثوير فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين و من شأن البرودة التخدير و التجميد فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك.قوله و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء أي و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج أو مركبا كذلك إلا و أمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول.و ينبغي أن يكون قوله و لا اعتدل بممازج أي و لا رام الاعتدال لممتزج لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال فكان قد اعتدل بالقوة.و ينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد و تقديره بمرض كما قدرناه نحن و حذف المفعولات كثير واسع.

١٦٥

قوله حتى فتر معلله لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط لأنهم يرجون البرء فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم.قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا كالأول لأن الممرض إذا أعيا عليه المرض و انسدت عليه أبواب التدبير يذهل.قوله و تعايا أهله بصفة دائه أي تعاطوا العي و تساكتوا إذا سئلوا عنه و هذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله.قوله و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه أي تخاصموا في خبر ذي شجى أي خبر ذي غصة يتنازعونه و هم حول المريض سترا دونه و هو لا يعلم بنجواهم و بما يفيضون فيه من أمره.فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت و آخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها آب فلان إلى أهله أي عاد.و آخر يقول قد رأينا مثل هذا و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي فيمني أهله عود عافيته.و آخر يصبر أهله على فقده و يذكر فضيلة الصبر و ينهاهم عن الجزع و يروي لهم أخبار الماضين.و أسى أهليهم و الأسى جمع أسوة و هو ما يتأسى به الإنسان قالت الخنساء

و ما يبكون مثل أخي و لكن

أسلي النفس عنه بالتأسي

قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط.

١٦٦

قوله إذ عرض له عارض يعني الموت و من غصصه جمع غصة و هو ما يعترض مجرى الأنفاس و يقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا و ذلك لأنه من النفس يدخل فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه و يلزم من ذلك الاختناق لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب و إذا لم تروحه اختنق.قوله فتحيرت نوافذ فطنته أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت و تبلدت.قوله و يبست رطوبة لسانه لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ و يبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة.قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده نحو أن يكون له مال مدفون يسأل عنه حال ما يكون محتضرا فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع و يعجز عن رد جوابهم و قد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها و هي الدواة و الكاغذ فلما حضر ذلك أخذ القلم و كتب في الكاغذ ما لم يفهم و يده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه أظهر الصمم لأنه لا حيلة له.ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه نحو صراخ الوالد على الولد و الولد يسمع و لا يستطيع الكلام و صغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد و هو يسمع و لا قدرة له على جوابه.ثم ذكر غمرات الدنيا فقال إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها و تستغرقها أي تأتي على كنهها و تعبر عن حقائقها.قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا هذا كلام لطيف فصيح غامض و معناه

١٦٧

أن غمرات الموت و أهواله عظيمة جدا لا تستقيم على العقول و لا تقبلها إذا شرحت لها و وصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها و لا نصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل كأنه جعلها كالشي‏ء المعوج عند العقل فهو غير مصدق به

إيراد أشعار و حكايات في وصف الموت و أحوال الموتى

و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر:

بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما

يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى

إذ قيل بات بليلة ما نامها

إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى

إذ قيل أمسى شاخصا و موجها

إذ قيل فارقهم و حل به الردى

و قال أبو النجم العجلي:

و المرء كالحالم في المنام

يقول إني مدرك أمامي

في قابل ما فاتني في العام

و المرء يدنيه إلى الحمام

مر الليالي السود و الأيام

إن الفتى يصبح للأسقام

كالغرض المنصوب للسهام

أخطأ رام و أصاب رام

و قال عمران بن حطان:

أ في كل عام مرضة ثم نقهة

و ينعى و لا ينعى متى ذا إلى متى

١٦٨

و لا بد من يوم يجي‏ء و ليلة

يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا

و جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى يا أهل القبور الموحشة و الربوع المعطلة أ لا أخبركم بما حدث بعدكم تزوج نساؤكم و تبوئت مساكنكم و قسمت أموالكم هل أنتم مخبرون بما عاينتم ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى.و نظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.و قال عبده بن الطبيب و يعجبني قوله على الحال التي كان عليها فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم.

و لقد علمت بأن قصري حفرة

غبراء يحملني إليها شرجع

فبكى بناتي شجوهن و زوجتي

و الأقربون إلي ثم تصدعوا

و تركت في غبراء يكره وردها

تسفي على الريح ثم أودع

أن الحوادث يخترمن و إنما

عمر الفتى في أهله مستودع

و نظير هذه الأبيات في رويها و عروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي:

و لقد علمت و لا محالة أنني

للحادثات فهل تريني أجزع

أهلكن عادا ثم آل محرق

فتركنهم بلدا و ما قد جمعوا

١٦٩

و لهن كان الحارثان كلاهما

و لهن كان أخو المصانع تبع

فعددت آبائي إلى عرق الثرى

فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم

غول أتوها و الطريق المهيع

لا بد من تلف مصيب فانتظر

أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع

و ليأتين عليك يوم مرة

يبكى عليك مقنعا لا تسمع

لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فدل عليها فأتاها و كانت عمياء فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس ما شي‏ء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا ثم غربت و قد رحمنا كل من يدور به و ما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة ثم قالت:

و بينا نسوس الناس و الأمر أمرنا

إذا نحن فيه سوقة نتنصف

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلب تارات بنا و تصرف

فقال قائل ممن كان حول خالد قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول

إن للدهر صرعة فاحذرنها

لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتى معافى فيردى

و لقد كان آمنا مسرورا

دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر و هو على فرش

١٧٠

يكاد يغيب فيها فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل و إن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا و عشرين خليفة ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز.فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية فوجد عليه ثمامة نابتة.كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة فأمر بها فوجد هذا:

تاه الأعيرج و استولى به البطر

فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

و لم تخف سوء ما يأتي به القدر

و سالمتك الليالي فاغتررت بها

و عند صفو الليالي يحدث الكدر

فلم ينتفع بنفسه أياما.عدي بن زيد:

أيها الشامت المعير بالدهر

أ أنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام

بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم من

ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان

أم أين قبله سابور

و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم

و لم يبق منهم مذكور

١٧١

و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة

تجبى إليه و الخابور

لم يهبه ريب المنون فباد

الملك عنه فبابه مهجور

شاده مرمرا و جلله كلسا

فللطير في ذراه وكور

و تبين رب الخورنق إذ أشرف

يوما و للهدى تفكير

سره حاله و كثرة ما يملك

و البحر معرضا و السدير

فارعوى قلبه و قال فما غبطة

حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح و الملك و الأمة

وارتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف

فألوت به الصبا و الدبور

قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى و أن الشعراء كلهم أخذوا منها و احتذوا في هذا المعنى حذوها.و قال الرضي أبو الحسنرضي‌الله‌عنه

انظر إلى هذا الأنام بعبرة

لا يعجنك خلقه و رواؤه

فتراه كالورق النضير تقصفت

أغصانه و تسلبت شجراؤه

أني تحاماه المنون و إنما

خلقت مراعي للردى خضراؤه

أم كيف تأمل فلتة أجساده

من ذا الزمان و حشوها أدواؤه

١٧٢

لا تعجبن فما العجيب فناؤه

بيد المنون بل العجيب بقاؤه

إنا لنعجب كيف حم حمامه

عن صحة و يغيب عنا داؤه

من طاح في سبل الردى آباؤه

فليسلكن طريقهم أبناؤه

و مؤمر نزلوا به في سوقة

لا شكله فيهم و لا نظراؤه

قد كان يفرق ظله أقرانه

و يغض دون جلاله أكفاؤه

و محجب ضربت عليه مهابة

يعشي العيون بهاؤه و ضياؤه

نادته من خلف الحجاب منية

أمم فكان جوابها حوباؤه

شقت إليه سيوفه و رماحه

و أميط عنه عبيده و إماؤه

لم يغنه من كان ود لو أنه

قبل المنون من المنون فداؤه

حرم عليه الذل إلا أنه

أبدا ليشهد بالجلال بناؤه

متخشع بعد الأنيس جنابه

متضائل بعد القطين فناؤه

عريان تطرد كل ريح تربه

و يطيع أول أمرها حصباؤه

و لقد مررت ببرزخ فسألته

أين الألى ضمتهم أرجاؤه

مثل المطي بواركا أجداثه

تسفي على جنباتها بوغاؤه

ناديته فخفى علي جوابه

بالقول إلا ما زقت أصداؤه

١٧٣

من ناظر مطروفه ألحاظه

أو خاطر مظلولة سوداؤه

أو واجد مكظومة زفراته

أو حاقد منسية شحناؤه

و مسندين على الجنوب كأنهم

شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه

تحت الصعيد لغير إشفاق إلى

يوم المعاد يضمهم أحشاؤه

أكلتهم الأرض التي ولدتهم

أكل الضروس حلت له أكلاؤه

و قال أيضا:

و تفرق البعداء بعد تجمع

صعب فكيف تفرق القرباء

و خلائق الدنيا خلائق مومس

للمنع آونة و للإعطاء

طورا تبادلك الصفاء و تارة

تلقاك تنكرها من البغضاء

و تداول الأيام يبلينا كما

يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء

و كان طول العمر روحة راكب

قضى اللغوب و جد في الإسراء

لهفي على القوم الأولى غادرتهم

و عليهم طبق من البيداء

١٧٤

متوسدين على الخدود كأنما

كرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العيون بلحظها

أمسيت أوقرها من البوغاء

و نواظر كحل التراب جفونها

قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها

و نأوا عن الطلاب أي تناء

و لبئس ما يلقى بعقر ديارهم

أذن المصيخ بها و عين الرائي

١٧٥

٢١٧ و من كلام له ع قاله عند تلاوته

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ اَلذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ اَلْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ اَلْعَشْوَةِ وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ اَلْمُعَانَدَةِ وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلاَؤُهُ فِي اَلْبُرْهَةِ بَعْدَ اَلْبُرْهَةِ وَ فِي أَزْمَانِ اَلْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي اَلْأَسْمَاعِ وَ اَلْأَبْصَارِ اَلْأَبْصَارِ وَ اَلْأَسْمَاعِ وَ اَلْأَفْئِدَةِ يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اَللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ اَلْأَدِلَّةِ فِي اَلْفَلَوَاتِ مَنْ أَخَذَ اَلْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ اَلطَّرِيقَ وَ حَذَّرُوهُ مِنَ اَلْهَلَكَةِ وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ اَلظُّلُمَاتِ وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ اَلشُّبُهَاتِ وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ اَلدُّنْيَا بَدَلاً فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ اَلْحَيَاةِ وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اَللَّهِ فِي أَسْمَاعِ اَلْغَافِلِينَ وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا اَلدُّنْيَا إِلَى اَلآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا

١٧٦

اِطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ اَلْبَرْزَخِ فِي طُولِ اَلْإِقَامَةِ فِيهِ وَ حَقَّقَتِ اَلْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لاَ يَرَى اَلنَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لاَ يَسْمَعُونَ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ اَلْمَحْمُودَةِ وَ مَجَالِسِهِمُ اَلْمَشْهُودَةِ وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ اَلاِسْتِقْلاَلِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اِعْتِرَافٍ لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّكِينَةُ وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ اَلْكَرَامَاتِ فِي مَقْعَدٍ اِطَّلَعَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ اَلتَّجَاوُزِ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ جَرَحَ طُولُ اَلْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ اَلْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ يَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ اَلْمَنَادِحُ وَ لاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ اَلرَّاغِبُونَ فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ اَلْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء ارتفع رجال عنده بوجهين

١٧٧

أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله تقديره يسبحه رجال و دل على يسبحه يسبح كما قال الشاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة

و مختبط مما تطيح الطوائح

أي يبكيه ضارع و دل على يبكيه ليبك.و الثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره المسبحون رجال و من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل و أوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع و الشراء ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء لأن البيع يحصل ربحه بيقين و ليس كذلك الشراء و الذكر يكون تارة باللسان و تارة بالقلب فالذي باللسان نحو التسبيح و التكبير و التهليل و التحميد و الدعاء و الذي بالقلب فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعة.و جلوت السيف و القلب جلاء بالكسر و جلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح.و الوقرة الثقل في الأذن و العشوة بالفتح فعله من العشا في العين و آلاؤه نعمه.فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه و عزت بمعنى قلت و هل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله.قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت و لكن بمعنى كرمت و عظمت تقول منه عززت على فلان بالفتح أي كرمت عليه و عظمت عنده و فلان عزيز علينا أي كريم معظم.

١٧٨

و البرهة من الدهر المدة الطويلة و يجوز فتح الباء.و أزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين.و ناجاهم في فكرهم ألهمهم بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم و كذلك و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به.قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك و نحو ذلك و طريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة و قال الشاعر:

فليس لنا من ماء زمزم شربة

مبردة بانت على طهيان

أي عوضا من ماء زمزم.قوله و من أخذ يمينا و شمالا أي ضل عن الجادة.و إلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى.و يهتفون بالزواجر يصوتون بها هتفت الحمامة تهتف هتفا و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت.و القسط العدل و يأتمرون به يمتثلون الأمر.و قوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة إلى قوله و يسمعون ما لا يسمعون هو شرح قوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.و الأوزار الذنوب و النشيج صوت البكاء و المقعد موضع القعود.

١٧٩

و يد قارعة تطرق باب الرحمة و هذا الكلام مجاز.و المنادح المواضع الواسعة.و على في قوله و لا يخيب عليه الراغبون متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها و التقدير نادمين عليه.و الحسيب المحاسب.و اعلم أن هذا الكلام في الظاهر صفة حال القصاص و المتصدين لإنكار المنكرات أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة و يخوفون مقامه من قوله تعالى( وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) ثم قال فمن سلك القصد حمدوه و من عدل عن الطريق ذموا طريقه و خوفوه الهلاك ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين و يأمرون بالقسط و ينهون عن المنكر.و هذا كله إيضاح لما قلناه أولا إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص و أرباب المواعظ في المجامع و الطرقات و المتصدين لإنكار القبائح و باطن الكلام شرح حال العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه و هو ع دائما يكني عنهم و يرمز إليهم على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.و قد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر و محاسبة النفس و البكاء و النحيب و الندم و التوبة و الدعاء و الفاقة و الذلة و الحزن و هو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله

١٨٠

بيان أحوال العارفين

و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم و هذا موضعه فنقول إن أول مقام من مقامات العارفين و أول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى( وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) و قال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له و قال علي ع ما من شي‏ء أحب إلى الله من شاب تائب.و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة و ترك الزلة في الحال و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة و إن جاء في الخبر الندم توبة لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها و منهم من قال يكفي الندم وحده لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله أو ما هو عازم على الإتيان بمثله.قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه فإن في الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلم و في الخبر أن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب.

١٨١

و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة.و أول ذلك هجران إخوان السوء فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد و عكس هذا العزم و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه و رجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف عن تعاطي المحظورات و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا و إن نقض التوبة مرة أو مرات ثم حملته إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء فإن لكل أجل كتابا و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي شي‏ء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي و ثبت حتى رجعت إلى منزلي و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق.و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان.و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية كذا و كذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم أعد إليه.

١٨٢

و قيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك ثم تركتنا فأمهلناك و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة.و قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة.و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ و الإنابة صفة الأولياء قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ و الأوبة صفة الأنبياء قال سبحانه نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت ألا تنسى ذنبك فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت السري.و قال ذو النون المصري الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين.و سئل البوشنجي عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فذاك حقيقة التوبة.

١٨٣

و قال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ( عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ) .و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لأني باشرت فيها الذنوب قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة فقال أنا من الذنب على يقين و من هذه التوبة على ظن.و قال رجل لرابعة العدوية إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي فهل يتوب علي أن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت.قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز( إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلتَّوَّابِينَ ) دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له و إلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار و ملازمة التنصل و الاستغفار كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل.

و كان من سنته ع دوام الاستغفار و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة.

١٨٤

و قال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها.و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا فقالت امرأة قائمة على السطح إلى متى تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي و ذهب إلى مكة فجاور بها.و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم.و منها العزلة و الخلوة و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله و من مظالم العباد قال سبحانه( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ ) و قيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أوصني فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم و عليك بذكر الله فإنه نور لك.و قيل في تفسير قوله تعالى( اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) أن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر.

١٨٥

و قال النصرآباذي من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا لأن الله تعالى يقول( وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ) .و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال و حسن الصبر على ما فات.و كان يقال من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه.و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين أنه اشترى أربعين حبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجها قال لا أدري فصبها كلها.و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء و معه مصاحب له فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان و نبسط الثوب عليه فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان فقال نبسطه على الإذخر قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره قبل الشمس و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.و منها الورع و هو اجتناب الشبهات و قال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس و قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام.

١٨٦

و كان يقال الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة.و قال أبو عبد الله الجلاء أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه.و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة الجود في القلة و الورع في الخلوة و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى.و يقال إن أخت بشر بن الحارث جاءت إلى أحمد بن حنبل فقالت إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها فقال أحمد من أنت يا أمة الله قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد و قال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم.و حكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم.و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها حتى مات و لم يذقه و كان إذا انقضى أوان الرطب يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي‏ء سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل.و قال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة.و دخل الحسن مكة فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى

١٨٧

الكعبة و هو يعظ الناس فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع قال فما آفته قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه.و قال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع.و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين.و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له و هو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه فقيل له في ذلك فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له فلما مات صار إلى الورثة.و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل.و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها.و قال أبو سليمان الداراني الزهد ترك كل ما يشغل عن الله.و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها.و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل و العرفان يشمك المسك و العنبر.

١٨٨

و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قال ترك ما فيها على من فيها.و قال رجل لذي النون المصري متى تراني أزهد في الدنيا قال إذا زهدت في نفسك.و قال رجل ليحيي بن معاذ متى تراني أدخل حانوت التوكل و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك و لا في يقينك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح.و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام و هو زهد العوام و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين.و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها و تنتف شعرها و تحرق ثوبها و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها.و كان النصرآباذي يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين و سفك دماء العارفين.و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت و جعل مفتاحه الزهد و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا.و منها الصمت و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى و نذكر الآن شيئا آخر قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت.

١٨٩

و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى( وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا ) .و قال مخبرا عن الجن( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ) .و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة( وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ) .و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة.و أنشدوا:

أرتب ما أقول إذا افترقنا

و أحكم دائما حجج المقال

فأنساها إذا نحن التقينا

و أنطق حين أنطق بالمحال

و أنشدوا:

فيا ليل كم من حاجة لي مهمة

إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة فإنه إذا ورد كشف بغتة خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق و طمست الشواهد فلا علم و لا حس قال الله تعالى( يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ) فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق و غير ذلك من ضروب آفات الكلام و هذا نعت أرباب

١٩٠

الرياضة و هو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس و منازلتها و تهذيب الأخلاق.و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة.و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب و غيره.و قال بشر بن الحارث إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم و قال سهل بن عبد الله لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.و منها الخوف قال الله تعالى( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) .و قال تعالى( وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .و قال( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) .أبو علي الدقاق الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة.فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه قال الله تعالى( فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .و الخشية من شروط العلم قال الله تعالى( إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ ) .

١٩١

و الهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ.و قال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.و قال بعضهم من خاف من شي‏ء هرب منه و من خاف الله هرب إليه.و قال أبو سليمان الداراني ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ.و الفرق بين الرجاء و التمني و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد و الرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل.و قال أبو علي الروذباري الرجاء و الخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل و من حمل نفسه على الخوف قنط و لكن من هذا مرة و من هذا مرة.و من كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على

١٩٢

الإخلاص و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك و كيف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف.و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك.و قال أبو علي الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين.

في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين.و في بعض كتب النبوات القديمة إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا.و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان دائم الفكر.و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت.و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس.و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه.و كان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من أصحابه يقول إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام.و كان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض.و قال بعض السلف أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم.

١٩٣

و قال الفضيل أدركت السلف يقولون إن لله في كل شي‏ء زكاة و زكاة العقل طول الحزن.و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك.و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس و روى أنس بن مالك أن رسول الله ص كان يعود المريض و يشيع الجنائز و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد.و كان يوم قريظة و النضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا و جيشه يومئذ عشرة آلاف.قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم.و قال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع.و قال حذيفة بن اليمان أول ما تفقدون من دينكم الخشوع.

١٩٤

و كان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول.و قال محمد بن علي الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته و سكن دخان صدره و أشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه و حيي قلبه و تطامنت جوارحه.و قال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب.و قال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى( وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً أي خاشعون متواضعون ) .و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوي منكبيه فقال يا فلان الخشوع هاهنا و أشار إلى صدره لا هاهنا و أشار إلى منكبيه.و روي أن رسول الله ص رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.و قيل شرط الخشوع في الصلاة ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله.و قال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة.و كان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره.و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب.و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو.كان رجاء بن حيوة ليلة عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال

١٩٥

أنبه الغلام قال إنها أول نومه نامها ثم قام بنفسه فأصلح السراج فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز.و في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت و يخصف النعل و يرقع الثوب و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم و يطحن معها إذا أعيت و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر و كان هين المئونة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما لكل مسلم ما تجشأ قط من شبع و لا مد يده إلى طبع.و قال الفضيل أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه.سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح و لين الجانب.ابن المبارك التكبر على الأغنياء و التواضع للفقراء من التواضع.و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه.و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها و التكبر محنة لا يرحم منها و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.و كان يقال الشرف في التواضع و العز في التقوى و الحرية في القناعة.يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد لكنه في الأغنياء أحسن و التكبر سمج في كل أحد و لكنه في الفقراء أسمج.

١٩٦

و ركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال مه يا ابن عم رسول الله فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.و قال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى و على عاتقه قربة ماء فقلت يا أمير المؤمنين إنه لا ينبغي لمثلك هذا فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.أبو سليمان الداراني من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع.بشر الحافي سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم و أشبع به ألف بطن و اتخذ خاتما من درهمين و اجعل فصه حديدا صينيا و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره.قومت ثياب عمر بن عبد العزيز و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل و رداء و خفان و قلنسوة.و قال إبراهيم بن أدهم ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة كنت في سفينة و فيها رجل مضحك كان يلعب لأهل السفينة فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه و كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق فأخذ

١٩٧

برجلي و جرني إلى خارج المسجد و كنت بالشام و علي فرو فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر و بين القمل لكثرته.عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد اشترني يا مولاي ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن قال ما هي قال لو قدمتني على جميع مماليك و خولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي بل أعلم أني عبدك فاشتراه.

تشاجر أبو ذر و بلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه إلى رسول الله ص فقال يا أبا ذر ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي‏ء من كبر الجاهلية فألقى أبو ذر نفسه و حلف ألا يحمل رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلك

مر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها فدعوه فنزل و أكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم و قال الفضل لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم.و منها مخالفة النفس و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك.و منها القناعة قال الله تعالى( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) قال كثير من المفسرين هي القناعة.و في الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد

١٩٨

و في الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس و كن قنوعا تكن أشكر الناس و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.و كان يقال الفقراء أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة.و قال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا و هذا أول الزهد.و قيل القناعة سكون النفس و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات.و قيل في تفسير قوله تعالى( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً ) أنه القناعة.و قال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف و أنكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود و الاستغناء بالموجود.و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.و كان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة.مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك.و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة و الذل في المعصية و الهيبة في قيام الليل و الحكمة في البطن الخالي و الغنى في القناعة.و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص.ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه و استطال على أقرانه.و أنشدوا:

و أحسن بالفتى من يوم عار

ينال به الغنى كرم و جوع

١٩٩

و رأى رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.و قيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت على حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة.و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد.و منها التوكل قال الله تعالى( وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) و قال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة و لا تدبير.و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال( وَ لِلَّهِ خَزائِنُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنَّ اَلْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) .و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب و ليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فإن تعسر شي‏ء فبتقديره و أن تسهل فبتيسيره.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279