كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 279

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 279
المشاهدات: 35440
تحميل: 5459


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 279 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35440 / تحميل: 5459
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 11

مؤلف:
العربية

بيان أحوال العارفين

و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم و هذا موضعه فنقول إن أول مقام من مقامات العارفين و أول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى( وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) و قال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له و قال علي ع ما من شي‏ء أحب إلى الله من شاب تائب.و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة و ترك الزلة في الحال و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة و إن جاء في الخبر الندم توبة لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها و منهم من قال يكفي الندم وحده لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله أو ما هو عازم على الإتيان بمثله.قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه فإن في الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلم و في الخبر أن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب.

١٨١

و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة.و أول ذلك هجران إخوان السوء فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد و عكس هذا العزم و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه و رجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف عن تعاطي المحظورات و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا و إن نقض التوبة مرة أو مرات ثم حملته إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء فإن لكل أجل كتابا و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي شي‏ء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي و ثبت حتى رجعت إلى منزلي و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق.و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان.و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية كذا و كذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم أعد إليه.

١٨٢

و قيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك ثم تركتنا فأمهلناك و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة.و قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة.و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ و الإنابة صفة الأولياء قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ و الأوبة صفة الأنبياء قال سبحانه نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت ألا تنسى ذنبك فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت السري.و قال ذو النون المصري الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين.و سئل البوشنجي عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فذاك حقيقة التوبة.

١٨٣

و قال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ( عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ) .و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لأني باشرت فيها الذنوب قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة فقال أنا من الذنب على يقين و من هذه التوبة على ظن.و قال رجل لرابعة العدوية إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي فهل يتوب علي أن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت.قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز( إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلتَّوَّابِينَ ) دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له و إلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار و ملازمة التنصل و الاستغفار كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل.

و كان من سنته ع دوام الاستغفار و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة.

١٨٤

و قال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها.و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا فقالت امرأة قائمة على السطح إلى متى تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي و ذهب إلى مكة فجاور بها.و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم.و منها العزلة و الخلوة و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله و من مظالم العباد قال سبحانه( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ ) و قيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أوصني فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم و عليك بذكر الله فإنه نور لك.و قيل في تفسير قوله تعالى( اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) أن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر.

١٨٥

و قال النصرآباذي من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا لأن الله تعالى يقول( وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ) .و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال و حسن الصبر على ما فات.و كان يقال من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه.و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين أنه اشترى أربعين حبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجها قال لا أدري فصبها كلها.و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء و معه مصاحب له فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان و نبسط الثوب عليه فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان فقال نبسطه على الإذخر قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره قبل الشمس و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.و منها الورع و هو اجتناب الشبهات و قال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس و قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام.

١٨٦

و كان يقال الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة.و قال أبو عبد الله الجلاء أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه.و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة الجود في القلة و الورع في الخلوة و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى.و يقال إن أخت بشر بن الحارث جاءت إلى أحمد بن حنبل فقالت إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها فقال أحمد من أنت يا أمة الله قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد و قال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم.و حكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم.و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها حتى مات و لم يذقه و كان إذا انقضى أوان الرطب يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي‏ء سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل.و قال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة.و دخل الحسن مكة فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى

١٨٧

الكعبة و هو يعظ الناس فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع قال فما آفته قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه.و قال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع.و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين.و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له و هو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه فقيل له في ذلك فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له فلما مات صار إلى الورثة.و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل.و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها.و قال أبو سليمان الداراني الزهد ترك كل ما يشغل عن الله.و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها.و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل و العرفان يشمك المسك و العنبر.

١٨٨

و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قال ترك ما فيها على من فيها.و قال رجل لذي النون المصري متى تراني أزهد في الدنيا قال إذا زهدت في نفسك.و قال رجل ليحيي بن معاذ متى تراني أدخل حانوت التوكل و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك و لا في يقينك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح.و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام و هو زهد العوام و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين.و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها و تنتف شعرها و تحرق ثوبها و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها.و كان النصرآباذي يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين و سفك دماء العارفين.و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت و جعل مفتاحه الزهد و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا.و منها الصمت و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى و نذكر الآن شيئا آخر قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت.

١٨٩

و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى( وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا ) .و قال مخبرا عن الجن( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ) .و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة( وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ) .و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة.و أنشدوا:

أرتب ما أقول إذا افترقنا

و أحكم دائما حجج المقال

فأنساها إذا نحن التقينا

و أنطق حين أنطق بالمحال

و أنشدوا:

فيا ليل كم من حاجة لي مهمة

إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة فإنه إذا ورد كشف بغتة خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق و طمست الشواهد فلا علم و لا حس قال الله تعالى( يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ) فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق و غير ذلك من ضروب آفات الكلام و هذا نعت أرباب

١٩٠

الرياضة و هو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس و منازلتها و تهذيب الأخلاق.و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة.و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب و غيره.و قال بشر بن الحارث إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم و قال سهل بن عبد الله لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.و منها الخوف قال الله تعالى( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) .و قال تعالى( وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .و قال( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) .أبو علي الدقاق الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة.فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه قال الله تعالى( فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .و الخشية من شروط العلم قال الله تعالى( إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ ) .

١٩١

و الهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ.و قال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.و قال بعضهم من خاف من شي‏ء هرب منه و من خاف الله هرب إليه.و قال أبو سليمان الداراني ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ.و الفرق بين الرجاء و التمني و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد و الرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل.و قال أبو علي الروذباري الرجاء و الخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل و من حمل نفسه على الخوف قنط و لكن من هذا مرة و من هذا مرة.و من كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على

١٩٢

الإخلاص و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك و كيف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف.و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك.و قال أبو علي الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين.

في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين.و في بعض كتب النبوات القديمة إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا.و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان دائم الفكر.و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت.و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس.و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه.و كان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من أصحابه يقول إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام.و كان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض.و قال بعض السلف أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم.

١٩٣

و قال الفضيل أدركت السلف يقولون إن لله في كل شي‏ء زكاة و زكاة العقل طول الحزن.و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك.و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس و روى أنس بن مالك أن رسول الله ص كان يعود المريض و يشيع الجنائز و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد.و كان يوم قريظة و النضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا و جيشه يومئذ عشرة آلاف.قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم.و قال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع.و قال حذيفة بن اليمان أول ما تفقدون من دينكم الخشوع.

١٩٤

و كان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول.و قال محمد بن علي الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته و سكن دخان صدره و أشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه و حيي قلبه و تطامنت جوارحه.و قال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب.و قال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى( وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً أي خاشعون متواضعون ) .و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوي منكبيه فقال يا فلان الخشوع هاهنا و أشار إلى صدره لا هاهنا و أشار إلى منكبيه.و روي أن رسول الله ص رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.و قيل شرط الخشوع في الصلاة ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله.و قال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة.و كان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره.و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب.و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو.كان رجاء بن حيوة ليلة عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال

١٩٥

أنبه الغلام قال إنها أول نومه نامها ثم قام بنفسه فأصلح السراج فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز.و في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت و يخصف النعل و يرقع الثوب و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم و يطحن معها إذا أعيت و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر و كان هين المئونة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما لكل مسلم ما تجشأ قط من شبع و لا مد يده إلى طبع.و قال الفضيل أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه.سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح و لين الجانب.ابن المبارك التكبر على الأغنياء و التواضع للفقراء من التواضع.و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه.و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها و التكبر محنة لا يرحم منها و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.و كان يقال الشرف في التواضع و العز في التقوى و الحرية في القناعة.يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد لكنه في الأغنياء أحسن و التكبر سمج في كل أحد و لكنه في الفقراء أسمج.

١٩٦

و ركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال مه يا ابن عم رسول الله فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.و قال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى و على عاتقه قربة ماء فقلت يا أمير المؤمنين إنه لا ينبغي لمثلك هذا فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.أبو سليمان الداراني من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع.بشر الحافي سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم و أشبع به ألف بطن و اتخذ خاتما من درهمين و اجعل فصه حديدا صينيا و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره.قومت ثياب عمر بن عبد العزيز و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل و رداء و خفان و قلنسوة.و قال إبراهيم بن أدهم ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة كنت في سفينة و فيها رجل مضحك كان يلعب لأهل السفينة فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه و كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق فأخذ

١٩٧

برجلي و جرني إلى خارج المسجد و كنت بالشام و علي فرو فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر و بين القمل لكثرته.عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد اشترني يا مولاي ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن قال ما هي قال لو قدمتني على جميع مماليك و خولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي بل أعلم أني عبدك فاشتراه.

تشاجر أبو ذر و بلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه إلى رسول الله ص فقال يا أبا ذر ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي‏ء من كبر الجاهلية فألقى أبو ذر نفسه و حلف ألا يحمل رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلك

مر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها فدعوه فنزل و أكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم و قال الفضل لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم.و منها مخالفة النفس و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك.و منها القناعة قال الله تعالى( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) قال كثير من المفسرين هي القناعة.و في الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد

١٩٨

و في الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس و كن قنوعا تكن أشكر الناس و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.و كان يقال الفقراء أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة.و قال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا و هذا أول الزهد.و قيل القناعة سكون النفس و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات.و قيل في تفسير قوله تعالى( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً ) أنه القناعة.و قال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف و أنكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود و الاستغناء بالموجود.و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.و كان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة.مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك.و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة و الذل في المعصية و الهيبة في قيام الليل و الحكمة في البطن الخالي و الغنى في القناعة.و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص.ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه و استطال على أقرانه.و أنشدوا:

و أحسن بالفتى من يوم عار

ينال به الغنى كرم و جوع

١٩٩

و رأى رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.و قيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت على حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة.و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد.و منها التوكل قال الله تعالى( وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) و قال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة و لا تدبير.و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال( وَ لِلَّهِ خَزائِنُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنَّ اَلْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) .و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب و ليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فإن تعسر شي‏ء فبتقديره و أن تسهل فبتيسيره.

٢٠٠