كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١١

كتاب شرح نهج البلاغة21%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 279

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 279 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37112 / تحميل: 6302
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع

و اعلم أن هذا التقسيم صحيح و قد كان في أيام الرسول ص منافقون و بقوا بعده و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته و السبب في استتار حالهم بعده أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون بذكرهم أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته ص لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة و صار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة و يعاملهم بالظاهر و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول ص فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف أ لا ترى أنه قيل له وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة و الكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين

٤١

حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه و بالجملة لما تركوا تركوا و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع فإنه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به الإضلال و تخبيط القلوب و العقائد و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ الصحبة على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره.فإن قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده.قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص و من شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين و كرواية قوم في أيام معاوية أخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى معاوية بها و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي

٤٢

ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهاد

و ليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق.و قد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس إن رسول الله ص قبض و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته و هم قليل حق قليل ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن و نحرم و نقتل و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع فقتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد

٤٣

إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة و أخذهم بكل ظنة و تهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير و لعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئا منها و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع.و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ع فاستعمل عليهم زياد ابن سمية و ضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ع فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل و طرفهم و شردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة و كتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته و الذين يروون فضائله و مناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم و اسمه و اسم أبيه و عشيرته.ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع و يفيضه في العرب منهم و الموالي فكثر ذلك في كل مصر و تنافسوا في المنازل و الدنيا فليس يجي‏ء أحد مردود من الناس عاملا من

٤٤

عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا.ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله.فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر و ألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه و شفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به و أهدموا داره فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره و يخاف من خادمه و مملوكه و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم و يقربوا مجالسهم و يصيبوا به الأموال و الضياع

٤٥

و المنازل حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها.فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع فازداد البلاء و الفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه أو طريد في الأرض.ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة و ولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه و الطعن فيه و الشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا.و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر و قال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم.قلت و لا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة و المتقدمون عليه بالخير و الفضل إلا أن معاوية و بني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه و لم يكن الأمر في الحقيقة كما

٤٦

يظنونه و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم و لا براءة منهم.فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب.و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر

إنما قال ع إنهم ليبكون عليه و إنه ليعذب بجرمه.قالوا و موضع غلطه في خبر القليب أنه

روى أن النبي ص وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم فأنكرت عائشة ذلك و قالت إنما

قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق و استشهد بقوله تعالى( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى ) ‏.فأما الرجل الثالث و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا و كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك و لم يرووا الخبر الناسخ.و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم.و أما قوله ع و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له

٤٧

وجهان فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه و لكنه كالنوع من الجنس لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع.و اعلم أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن و عن معاني كلامه ص و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من يهابه أن يسأله و هم الذين يحبون أن يجي‏ء الأعرابي أو الطارئ فيسأله و هم يسمعون و منهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر و البحث و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعاني إما بعبادة أو دنيا و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و ترك السؤال و منهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته و طهارة طينته و إشراق نفسه و ضوءها و إذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي ع كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب

فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث

و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا

٤٨

في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو حديث السطل و حديث الرمانة و حديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين و تعرف كما زعموا بذات العلم و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض و حديث الجمجمة و نحو ذلك فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو لو كنت متخذا خليلا فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر و نحو ايتوني بدواة و بياض أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر فإنهم وضعوه في مقابلة

الحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا فاختلفوا عنده و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد و حديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس إلى بيعته و أحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة و التابعين الأولين و كفرهم و علي أدون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه و نسبوه تارة إلى ضعف العقل و تارة إلى ضعف السياسة و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و اجترحاه و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة و فضائل أبي بكر المحققة

٤٩

المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل و من تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ و المقابح و نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية و أن يجرينا على ما عودنا من حب الحق أين وجد و حيث كان سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه

٥٠

٢٠٤ و من خطبة له ع

وَ كَانَ مِنِ اِقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ اَلْبَحْرِ اَلزَّاخِرِ اَلْمُتَرَاكِمِ اَلْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ اِرْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ وَ أَرْسَى أَرضاً يَحْمِلُهَا اَلْأَخْضَرُ اَلْمُثْعَنْجِرُ وَ اَلْقَمْقَامُ اَلْمُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ وَ وَقَفَ اَلْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ وَ جَبَلَ جَلاَمِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادِهَا أَطْوَادَهَا فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا قَرَارَتَهَا فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي اَلْهَوَاءِ وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي اَلْمَاءِ فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا فَأَشْهَقَ قِلاَلَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لاَ يَجْرِي وَ قَائِمٍ لاَ يَسْرِي تُكَرْكِرُهُ اَلرِّيَاحُ اَلْعَوَاصِفُ وَ تَمْخُضُهُ اَلْغَمَامُ اَلذَّوَارِفُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى

٥١

أراد أن يقول و كان من اقتداره فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا و البحر الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع و المتراكم المجتمع بعضه على بعض و المتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد و غيره قصيفا.و اليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس و منه قوله تعالى( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً ) و اليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل فالأصوب أن يقال لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا.و الأطباق جمع طبق و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سموات و روي ثم فطر منه طباقا أي أجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض و هي من ألفاظ القرآن المجيد و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس.و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول و يناسبه و هو مذهب

٥٢

كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ.قال شيخنا أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الآية دالة على أن الماء و العرش كانا قبل خلق السموات و الأرض قالا و كان الماء على الهواء قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا.و قال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به و إنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض فجعل أصولها راسخة في ماء البحر الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب و لولاها لماجت و اضطربت و أن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة و تموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز و السنة النبوية و النظر الحكمي أ لا ترى إلى قوله تعالى( أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ

٥٣

كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) و هذا هو صريح قوله ع ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها و إلى قوله تعالى( وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) و إلى ما ورد في الخبر من أن الأرض مدحوة على الماء و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر.و أما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل و حمله على المحمل العقلي و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر و قبلها عنصر الماء و هو محيط بالأرض كلها إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر.و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف و لكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل و إنما وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان و ليس قوله و رست أصولها في الماء مما ينافي النظر العقلي لأنه لم يقل و رست أصولها في ماء البحر و لكنه قال في الماء و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة المائية.و ليس ذكره للجبال و كونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضا للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة.

٥٤

ليس قوله تكركره الرياح منافيا للنظر الحكمي أيضا لأن كرة الهواء محيطة بكرة و قد تعصف الرياح في كرة الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح.و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر:

كالبحر تمطره السحاب و ما لها

فضل عليه لأنها من مائه

بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء.فإن قلت فكيف قال الله تعالى( أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) و هل كان الذين كفروا راءين لذلك حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا.قلت هذا في قوله اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما كما يقول الإنسان لصاحبه أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم و الرؤية هنا بمعنى العلم.و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء و يقال أنه مذهب سقراط إلى تفسير القيامة و جهنم بما يبتني على وضع الأرض على الماء فقالوا الأرض موضوعة على الماء و الماء على الهواء و الهواء على النار و النار في حشو الأفلاك و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار يقتضيان صعود ما يحيطان به و العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما و هما

٥٥

الماء و الأرض يقتضيان النزول و الهبوط وقعت الممانعة و المدافعة فلزم من ذلك وقوف الماء و الأرض في الوسط.قالوا ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما في الغليان و الفوران فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة و نفوس البشر على قسمين أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطريق العلوم و المعارف و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن و الآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه من العلوم و المعارف و انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة و يخلص من دائرة هذا العالم بالكلية و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة.قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها.ثم نعود إلى شرح الألفاظ قوله ع فاستمسكت أي وقفت و ثبتت.و الهاء في حده تعود إلى أمره أي قامت على حد ما أمرت به أي لم تتجاوزه و لا تعدته.و الأخضر البحر و يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف و العرب تسميه بذلك إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ

٥٦

الأخضر كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا لخضرتها و كثرة شجرها و نحو قولهم للديزج من الدواب أخضر.المثعنجر السائل ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج.و القمقام بالفتح من أسماء البحر و يقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر.قوله ع و جبل جلاميدها أي و خلق صخورها جمع جلمود.و النشوز جمع نشز و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين.و متونها جوانبها و أطوادها جبالها و يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها.فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها رسا الشي‏ء يرسو ثبت و رست أقدامهم في الحرب ثبتت و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا أي وقفت في البحر و قوله تعالى( بِسْمِ اَللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها ) بالضم من أجريت و أرسيت و من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي.و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت.قوله فأنهد جبالها أي أعلاها نهد ثدي الجارية ينهد بالضم إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة.و سهولها ما تطامن منها عن الجبال.و أساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض ساخت قوائم

٥٧

الفرس في الأرض تسوخ و تسيخ أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة الواحد نصب بضم النون و الصاد و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى( وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ ) لأنها نصبت فعبدت من دون الله قال الأعشى:

و ذا المنصوب لا تنسكنه

لعاقبة و الله ربك فاعبدا

أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة و هي الجبال أنفسها.قوله فأشهق قلالها جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل أشهقها جعلها شاهقة أي عالية.و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا و هو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض و يجوز أرزت لازما غير متعد مثل رزت و ارتز السهم في القرطاس ثبت فيه و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة أي ثابتة في الأرض أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت و آرزها بالمد غيرها أي أثبتها.و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي.فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها.قلت لأنها لو تحركت لكانت إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها

٥٨

و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها.فإن قلت ما المراد ب على في قوله فسكنت على حركتها.قلت هي لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه و دخلت إليه على شربه أي سكنت على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج.قوله موجان مياهها بناء فعلان لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك.و أجمدها أي أجعلها جامدة و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش.فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة و هي معظم البحر.قوله يكركره الرياح الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته.و الرياح العواصف الشديدة الهبوب و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده.و الغمام جمع و الواحدة غمامة و لذلك قال الذوارف لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا و المذارف المدامع

٥٩

٢٠٥ و من خطبة له ع

اَللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا اَلْعَادِلَةَ غَيْرَ اَلْجَائِرَةِ وَ اَلْمُصْلِحَةَ غَيْرَ اَلْمُفْسِدَةِ فِي اَلدِّينِ وَ اَلدُّنْيَا غَيْرَ اَلْمُفْسِدَةِ فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلاَّ اَلنُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ وَ اَلْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ اَلشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ بَعْدُ اَلْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَ اَلآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ ما في أيما زائدة مؤكدة و معنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره.و وصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد كما قالوا شعر شاعر و إما ذات عدل كما قالوا رجل تأمر و لابن أي ذو تمر و لبن و يجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست كاذبة و لا محرفة عن جهتها و الجائرة نقيضها و هي المنحرفة جار فلان عن الطريق أي انحرف و عدل.و النكوص التأخر.قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك أن تشهد عليه و وصفه تعالى

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يكشف عنها أبو الجلد؟ وهل كان السؤال عن السماء فيه من الغموض ما لم يكن يعرفه ابن عباس طيلة عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده حتّى نزل البصرة سنة 36 هـ بعد واقعة الجمل ، فتفطّن إلى أن يسأل أبا الجلد ـ الذي كان يأتيه طيلة سنتين ـ عن السماء ، فأجابه : موج مكفوف. أيّ كشف جديد هداه إليه أبو الجلد!!

ولا تقف مهزلة أبي الجلد عند هذا الحد ، بل اتسع الخرق فروى لنا أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب ( العظمة ) بسنده عن عامر ـ وهذا هو الشعبي ـ قال : ( أرسل ابن عباس ( رضي الله عنهما ) إلى أبي الجلد يسأله عن السماء من أيّ شيء هو (؟) وعن البرق والصواعق ، فقال : أمّا السماء فإنّها من ماء مكفوف ، وأمّا البرق فهو تلألؤ الماء ، وأمّا الصواعق فمخاريق يزجر بها السحاب اهـ )(1) .

ولقد مرّ بنا قريباً جواب أبي الجلد عن السماء وأنّه كان مشافهة يحدّثه بها ابن عباس في داره في السنتين اللتين زعم أنّه كان ابن عباس يحدثه بها. فما باله صار يرسل إليه ـ كما يقول الشعبي ـ فهل كان ابن عباس نسيّاً فأعاد السؤال؟ أو أنّها قضية مكذوبة ، ولقد كان الشعبي كذّاباً(2) ، على أنّ تفسيره البرق في روايته يختلف عما مرّ عنه ، فرواية عطاء عنه عند الطبري حيث فسّر البرق بالماء.

____________________

(1) العظمة 4 / 1287 ، قال عبد الرحمن بن يحيى العلمي اليماني في كتابه ( الانوار الكاشفة / 116 ط السلفية ) : كتاب العظمة تكثر فيه الرواية عن الكذابين والساقطين والمجاهيل ).

(2) راجع عليّ إمام البررة 2 / 323.

١٦١

وهكذا تبقى أساطير أبي الجلد مبثوثة في التراث الإسلامي بدون حدّ ، يتلقفها الزوامل ممّن لا يحسنون صنعاً في روايتها ، وصارت مدعاة لسخرية المستشرقين ، فدسّوا آنافهم في تقييم التراث الإسلامي الأصيل ، من خلال ما فيه من الدخيل ، من دون إنصاف ، وبصلف وإعتساف.

2 ـ رواية أبي نعيم في ترجمته بسنده عنه حديثاً رواه عن الصحابي معقل بن يسار ، مع أنّ ذلك الحديث النبوي الشريف كان يرويه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : ( إذا زالت الشمس ، وفاءت الأفياء ، وراحت الأرواح ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم فإنّها ساعة الأوابين ثمّ تلا :( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ) (1) )(2) .

وأخيراً نستعرض للقارئ آراء آخرين في أبي الجلد ، وهم من فقهاء الحاكمين ، الذين خبطوا في تعيين الأئمة الاثني عشر الذين كلّهم من قريش منهم :

1 ـ قال ابن كثير في تاريخه ( البداية والنهاية ) : ( وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة عن أبي بحر قال : كان أبو الجلد جاراً لي فسمعته يقول يحلف عليه : إنّ هذه الأمة لن تهلك حتّى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدي ودين الحق ، منهم رجلان من أهل البيت أحدهما

____________________

(1) الإسراء / 25.

(2) التمهيد لابن عبد البر 19 / 22.

١٦٢

يعيش أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة(1) .

قال ابن كثير : ثمّ شرع البيهقي في ردّ ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الردّ ، وهذا عجيب منهم ، وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء ، ولعلّ قوله أرجح لما ذكرنا ، وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إنّ الله تعالى بشّر إبراهيم بإسماعيل وأنّه ينجيه ويكثّره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً )(2) .

أقول : وما ذكره ابن كثير عن البيهقي من قول أبي الجلد ، ومناقشته له بترجيح قوله لأنّه كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، من غريب القول! فإنّه يعلم وقد ذكر في كتابه الاثنين من أئمة أهل البيت وهما الإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام ، وكلّ منهما عاش أكثر من المدّة التي ذكرها أبو الجلد ، فعليه يلزمه إخراجهما من الاثني عشر خليفة.

____________________

(1) أخرج البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة رقم ( 8580 ) : ( عن أبي يونس ثنا بحر أن أبا الجلد حدثه وحلفه عليه : أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة يكون خلفاء بعدهم ليسوا منهم ) رواه مسدد عن يحيى عنه به. وجاء في الهامش لا يعرف بهذه الكنية إلا جيلان بن فروة وثّقه أحمد ذكره ابن أبي حاتم. وأبو بحر هو عبد الرحمن بن عثمان البكراوي ضعيف جداً ( هامش المطالب العالية ).

(2) البداية والنهاية 6 / 250.

١٦٣

ثمّ إنّا لسنا بحاجة في تعيين الأئمة الاثني عشر خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقاً إلى الرجوع إلى التوراة والأنجيل المحرّفين! حتّى أنّ النص الذي ذكره هو أيضاً محرّف عما ورد في نسخة الكتاب المقدس ـ أيّ كتب العهد القديم والعهد الجديد ـ(1) .

فقد ورد في سفر التكوين : ( وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً ، أثنى عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمّة كثيرة اهـ )(2) .

وبعد هذه الجولة في بطون الكتب لم نجد رواية ثابتة لابن عباس عن أبي الجلد ، حتّى أن نعيم بن حمّاد أخرج في كتابه ( الفتن ) بعض أخبار الملاحم بسنده عن أبي الجلد ، وليس في شيء منها رواية لابن عباس عنه(3) ، فراجع.

كما أنّ ابن أبي عاصم أخرج لأبي الجلد ستة أحاديث في كتابه ( الزهد ) ليس بينها حديث واحد ، رواه عنه ابن عباس(4) .

____________________

(1) الكتاب المقدس مترجم من اللغات الأصلية نشر جمعيات الكتاب المقدس المتحدة ساحة النجمة ط بيروت سنة 1951م.

(2) الكتاب المقدس الأصحاح السابع عشر العدد 20.

(3) راجع الصفحات التالية 31 / 213 / 419 من المطبوع بتحقيق الدكتور سهيل زكار نشر المكتبة التجارية بمكة ، وكذلك الصفحات التالية 39 / 54 / 176 طبعة المكتبة الحيدرية بقم بتحقيق أبو عبد الله أيمن محمّد محمّد عرفة.

(4) راجع الصفحات التالية 2 / 56 / 67 / 72 مكرر 86 / 105 ط مصر نشر دار الريان بالقاهرة سنة 1408 هـ بتحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد.

١٦٤

وجميع تلك الأخبار يذكر فيها أنبياء بني إسرائيل موسى ، وعيسى ، وداوود ( عليهم السلام ) وليس بينها خبر واحد عن نبيّ الإسلام محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وختاماً قال المبرد في كامله : ( ويروى أنّ أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً : يا نافع إنّ لجهنّم سبعة أبواب وانّ أشدّها حرّاً للباب الذي أعدّ للخوارج ، فإن قدرت أن لا تكون منهم فافعل )(1) .

ولمّا كان هذا الأثر تفوح منه رائحة فيح جهنّم الذي يشوي وجوه الخوارج على الحاكمين الذين يعيش أبو الجلد في كنفهم ويدافع عن حكمهم ، فقد حذّر نافعاً أن يكون من الخوارج كما صار عكرمة مولى ابن عباس من الأباضية.

ونهاية القول لقد أعطى ابن عباس رضي الله عنه ميزاناً بيد الناس لقبول حديثه فيما رواه عنه عاصم بن كليب أنّه قال : ( إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجدوا تصديقه في القرآن أو لم يكن حسناً في أخلاق الناس ، فأنا به كاذب )(2) ، وهذا كلام حسن في تصديق الحديث الشريف بالقرآن الكريم ، وأمّا حَسَنا في أخلاق الناس فهذا مع سلامة الفطرة فيما يراه هو في نفسه ، أمّا مع تبدّل الأخلاق والعادات في كلّ زمان فكيف يكون

____________________

(1) الكامل 3 / 222 ـ 283.

(2) قبول الأخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم الكعبي 1 / 78 ط دار الكتب العلمية بيروت ، ذم الكلام وأهله للهروي 2 / 77.

١٦٥

كذلك؟

وختاماً لهذه الفصل نذكر ما قاله أحمد محمد شاكر ردّاً على ابن كثير حيث اتهم ابن عباس رضي الله عنه بأنّه تلقى عن الاسرائيليات.

روى أحمد بن حنبل في مسنده : ( قال حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الآخر ـ عن سعيد بن جبير ، قال ابن عباس : أوّل ما اتخذت النساء المنطَقَ من قِبَل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ـ فذكر الحديث ـ

قال ابن عباس : رحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم ، أو قال : لو لم تغرف من الماء ، لكانت زمزم عينا معينا.

قال ابن عباس : قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحبّ الإنس ، فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم.

وقال في حديثه : فهبطت من الصفا ، حتّى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود ، حتّى جاوزت الوادي ، ثمّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرّات.

قال ابن عباس : قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( فلذلك سعى الناس بينهما ) )(1) .

____________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 5 / 86 رقم 3250.

١٦٦

قال أحمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث : ( إسناده صحيح ، كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، ثقة قليل الحديث ، وكان شاعراً ، وترجمه البخاري في الكبير ( 4 / 1 / 211 ) ، وقد اختصر الإمام أحمد الحديث جداً ، فذكر منه مواضع متفرقة ، وقد رواه البخاري مطولا في ( 6 / 283 ـ 289 ) عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق ، وروى بعضه في ( 5 / 33 ) بالإسناد نفسه ، ونقله ابن كثير في التاريخ ( 1 / 154 ـ 156 ) عن البخاري ).

ثمّ قال : ( وهذا الحديث من كلام ابن عباس ، وموشح برفع بعضه ، وفي بعضه غرابة ، وكأنّه ممّا تلقاه ابن عباس عن الإسرائليات ). وهذا عجيب منه!! فما كان ابن عباس ممّن يتلقي الإسرائيليات ، ثمّ سياق الحديث يفهم منه ضمناً أنّه مرفوع كلّه ، ثمّ لو سلمنا أنّ أكثره موقوف ، ما كان هناك دليل أو شبه دليل على أنّه من الإسرائيليات ، بل يكون الأقرب ممّا عرفته قريش وتداولته على مرّ السنين ، من تاريخ جدهم إبراهيم وإسماعيل ، فقد يكون بعضه خطأ وبعضه صواباً ، ولكن الظاهر عندي أنّه مرفوع كلّه في المعنى. والله أعلم.

وختاماً نذكر للقارئ ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في تحذيره من الأخذ عن أهل الكتاب ، وقد رواه ابن كثير في تفسيره قال : ( وقال الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أنّه قال : ( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله

١٦٧

على نبيّه أحدث الأخبار ، تقرؤنه غضّاً لم يشَب ، وقد حدّثكم الله تعالى أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله وغيرّوه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا فيهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم؟

قال ابن كثير رواه البخاري من طرق عن الزهري )(1) .

____________________

(1) تفسير ابن كثير 1 / 117 ط2 مطبعة الإستقامة بمصر 1373 هـ.

١٦٨

الباب الثاني

في مدارسه ومجالسه وعطائهما وفيه فصلان

١٦٩

١٧٠

الفصل الاول

في مدارسه

١٧١

١٧٢

قال سيد مير عليّ ( الهندي ) في كتابه ( روح الإسلام ) في حديثه عن ابن عباس : ( أمّا شهرته كفقيه ضليع ، ومفسّر للقرآن ، وعالم بالأحكام التي أصدرها الخلفاء الأربعة فمعروفة للقاصي والداني ، حتّى أن جماهير الناس من مختلف أجزاء البلاد الإسلامية كانوا يهرعون إلى المدينة لسماع دروسه.

وكان ابن عباس يلقي دروساً عامّة ، يوماً واحداً في الاسبوع حول تفسير القرآن ، ويوماً آخر عن تاريخ العرب ، وثالثاً في قواعد اللغة ، ورابعاً في أصول الشرع ، أمّا اليوم الخامس فيبحث فيه الشعر والأدب.

وقد ساهم مساهمة طيبة في هذا المجال بأن دفع قومه إلى تدارس الأدب الجاهلي وتاريخ العرب قبل الإسلام عن طريق تكرار اقتباسه لأشعار فحول الجاهليين. وكان يستعملها في شرح الآيات الغامضة وتوضيح الإشارات العسيرة الفهم من القرآن الكريم.

١٧٣

وكان من عادته أن يقول : ( إذا صادفت نصّاً مبهماً في القرآن فأنظر تفسيره في شعر العرب ، لأنّ الشعراء هم رواة التاريخ وحفظة الأدب )(1) )(2) .

وقال أيضاً في كتابه الآخر ( مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي ) : ( وفيما كان الإسلام ينتشر وتخفق رايته على ربوع تلك الأمصار كان عليّ بن أبي طالب يصرف جهوده في المدينة لتوجيه نشاط العنصر العربي الناشئ إلى الناحية العلمية ، فشرع مع ابن عمه عبد الله بن العباس في إلقاء محاضرات اسبوعية في المسجد الجامع في الفلسفة والمنطق والحديث والبلاغة والفقه ، بينما تفرّغ غيرهما إلى إلقاء محاضرات في شؤون أخرى.

وهكذا تألفت نواة الحركة العلمية التي ترعّرعت وزهت بعد حين في ( بغداد ) عاصمة العباسيين )(3) .

____________________

(1) هكذا وردت الكلمة في تعريبها وأصل الكلمة قوله : الشعر ديوان العرب إذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزل بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه ( البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 293 ، الإتقان 1 / 121 ) ط مصطفى محمّد كما أنه ذكر المؤلف في الهامش رقم (2) ما تعريبه وقد سئل مرّة أنّى اكتسبت هذا العلم الواسع فأجاب ( بلسان يسأل وقلب ذكي مع ان أصل الكلمة قال : ( بلسان سؤول وقلب عقول ) وما ندري كم مثل هذا من تثريب وتخريب في التعريب.

(2) روح الإسلام / 304 تعريب عمر الديراوي ط دار العلم للملايين بيروت.

(3) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي / 43 ، نقله إلى العربية رياض رأفت ط لجنة التاليف والترجمة والنشر سنة 1938.

١٧٤

وقال أيضاً وهو يتحدث عن العنصر النسوي : ( كما كنّ يحضرن خطب الخلفاء والمحاضرات التي كان يلقيها عليّ بن أبي طالب وابن العباس )(1) .

ولم نجد حرجاً في موافقة هذا الباحث الضليع على ما قاله ، بل ربّما أمكننا أن نستدل أيضاً بما قاله ( فؤاد سزكين ) على حقيقة تفوّق ابن عباس في مجالاته العلمية ، حيث يقول : ( وترتبط قضية مدى إتقانه للمجالات التي ينسب إليه علمه بها ( وهي الفقه الإسلامي وتاريخ الجاهلية وآثارها واللغة والشعر ) وأنّه عني بها تدريساً وبحثاً ، إرتباطاً وثيقاً بقضايا أخرى تتصل بالتراث العربي ( والإسلامي ) ، منها قضية وجود تراث عربي مدوّن في الجاهلية ، ومنها قضية إشتغال بعض شباب الصحابة وكبار التابعين بمسائل علمية ، ومنها قضية ما إذا كان التطور العام لحركة التأليف بالعربية يسير مع هذا النشاط العلمي المبكر على قدم واحد فإنّ الشك في اشتغال عبد الله بن العباس بمجالات العلم المختلفة ليس له ما يبرّره )(2) .

ونزيد نحن على ذلك ، إثبات ذلك التفوق بثمار عطائه المبارك ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك كلّه من فراغ ، أو ممّا تزيّده الرواة في أيام العباسيين تزلفاً لأبنائه. فلقد كان لحبر الأمة وترجمان القرآن ـ طيلة سنيّ عمره التي جاوزت السبعين ـ آثاراً تشهد له بما فاض عنه من العطاء النافع المكثار ،

____________________

(1) المصدر نفسه / 60.

(2) تأريخ التراث العربي 1 / 64 في علوم القرآن والحديث.

١٧٥

فأينع حتّى زكت منه الثمار ، كما سيأتي الحديث عما بقي له من التراث.

وعلينا كباحثين أن نشير إلى أبرز أدواره الحافلة بالعطاء في العلم والعمل ، في الشكل والمضمون ، واستجلاء تلك الأدوار إنّما يتم من خلال معرفة مدارسه التي كان له فيها حوزات ينهل تلاميذه فيها من نمير علومه ، كلّ حسب قابليته ، فكانوا من بعده إمتداداً لمدرسته ، ومؤشراً معروفاً ، بل معلَما ماثلاً على قدراته على الصعيد التربوي.

والآن إلى لمحات عن مدارسه ومن ثمّ عن تلامذته :

١٧٦

مجالسه مدارسه

لم تكن مدارسه على ما يتخيله القارئ ذات بناء مخصوص للدراسة ، بل كان هو بقدراته العلمية مدرسة سيارة ، فما مدارسه إلاّ مجالسه.

قال يزيد بن الأصم : ( خرج معاوية حاجّاً معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممّن يطلب العلم )(1) .

فحيثما كان فله نشاط علمي ملحوظ في كلّ البلاد التي حلّ بها ، فكان له في كلّ من مكة والمدينة والطائف والبصرة ، وحتّى في الشام ومصر معهد علم فيه حديث يروى وأخبار تذكر ، فكان له في مساجدها كما له في بيته ومحل إقامته حيث أقام ما يصح أن نسمّيه مدرسة ، لما له فيها من عطاء مبارك في التعليم ، لكثرة من باركه ذلك العطاء من أهلها والوافدين عليها فاستفادوا منها ، وقد حدّث كثير من أصحابه الذين أخذوا عنه عن شواهد على ذلك العطاء ، ولمّا كانت المدينة المنوّرة هي دار هجرته وموطنه الذي أقام فيه نحواً من أربعين سنة متواصلة تقريباً ، فهي بحق تعدّ أولى مدارسه التي بثّ فيها معارفه قرابة ربع قرن ، بدءاً من أيام عمر ومروراً بأيام عثمان وانتهاءاً بأوائل خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

____________________

(1) سير أعلام النبلاء 4 / 451.

١٧٧

لقد كان في المدينة يعلّم ويفتي ويزدحم عليه روّاد المعرفة ، حتّى إذا خرج مع الإمام عليه السلام إلى العراق فقد تحوّل نشاطه العلمي إلى البصرة حيث ولاّه الإمام عليه السلام عليها فأقام فيها طيلة خمس سنوات ، حتّى خرج منها بعد مهادنة الإمام الحسن عليه السلام ـ كما مرّ في الحلقة الأولى ـ فكانت البصرة مدّة مكثه فيها المدرسة الثانية من مدارسه ، ولمّا رجع إلى المدينة عادت مدرسته الأولى في المدينة إلى سابق عهدها به.

ولمّا تطوّرت الأحداث أيام معاوية ومن بعده من الحاكمين فقد أقام بمكة ، وله ما يبرّر إقامته فيها لتولّيه أمر السقاية للحجاج أيام الحج في كلّ عام. مضافاً إلى أنّها مثابة للناس وحرماً آمناً ، وقد مرّ بنا في الحلقة الأولى أنّه قضى بمكة جلّ أيام حكومة يزيد ، ومن هناك كان وجوده ثقيلاً على ابن الزبير الذي كان يدعو الناس إلى بيعته ، ويريد منه أن يبايعه فلم يفعل ، فأخرجه إلى الطائف وبقي هناك حتّى توفي.

ومدرسة الطائف كانت آخر مدارسه التي ما برح طلاب العلم من التابعين ينهلون منها نمير علومه.

أمّا مدرسته في الشام فقد كانت أيام وفوده على معاوية ، وسيأتي الحديث عنها وكذلك عن مدرسته بمصر.

والآن إلى معرفة شيء عن ثمار تلك المدارس

١٧٨

نماذج ومناهج

مدرسته في المدينة المنورة

لقد كان له الحضور العلمي الواضح من خلال بعض تلامذته الذين كانوا يسكنون المدينة المنورة ، ولعلّ أشهرهم وأظهرهم هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي ، فهذا ـ كما ستأتي ترجمته في حرف العين ـ من تلامذته ، كان مبرّزاً ومميّزاً عند ابن عباس حتّى كان يرفعه معه على السرير وقريش أسفل من السرير فيتغامزون به ، فيقول ابن عباس : ( هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرة )(1) .

ودونه شهرة محمّد بن كعب القرظي الذي روى عن عليّ وابن مسعود وابن عباس. وهو من حلفاء الأوس.

وسوى هذين فثمة جماعة من مواليه المعدودين في المدنيين كما في طبقات ابن سعد(2) ، بدءاً من عكرمة ومروراً بكريب بن أبي مسلم ، وأبي معبد ، ودفيف ، وأبي عبيد الله ، وأبي عبيد ، ومقسم ـ وهذا لم يكن من مواليه حقيقة وإنّما قيل له مولى ابن عباس للزومه إيّاه وانقطاعه إليه

____________________

(1) أنظر سير أعلام النبلاء 4 / 208.

(2) طبقات ابن سعد 5 / 212 فما بعدها.

١٧٩

وروايته عنه ـ ، ومن جملة مواليه أيضاً شعبة.

وله حضور وإمتداد من خلال بقية الرواة عنه من المدنيين ، ولعلّ جلّهم من الموالي أيضاً ، فمنهم محمّد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى لآل الأخنس ابن شريق الثقفي ، وكان ثقة كثير الحديث(1) ، وعبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب ، وكان ثقة وليس بكثير الحديث(2) ، وعمير مولى أم الفضل بنت الحارث الهلالية ـ وهي زوجة العباس ـ وقد يقال له مولى ابن عباس وإنّما هو مولى أمه ، روى عنه في صلاة الخوف.

وأمّا غير هؤلاء من غير الموالي فكثير ، أذكرهم في بحث تلاميذه إن شاء الله تعالى.

مدرسته في البصرة

كان أوّل من جمع الناس بالبصرة في المسجد يوم عرفة هو عبد الله ابن عباس ، كما قاله الحسن البصري لمن سأله عن ذلك على ما ذكره ابن سعد في طبقاته ، قال : ( أخبرنا عفان بن مسلم ، قال : حدّثنا سليم بن أخضر ، عن سليمان التيمي سمعه ، قال : أنبأني من أرسله الحكم بن أيوب إلى

____________________

(1) المصدر نفسه 5 / 208.

(2) المصدر نفسه 5 / 211.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279