أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها0%

أصل الشيعة وأصولها مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

أصل الشيعة وأصولها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
تصنيف: الصفحات: 442
المشاهدات: 75968
تحميل: 8178

توضيحات:

أصل الشيعة وأصولها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75968 / تحميل: 8178
الحجم الحجم الحجم
أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

الإهداء:

يا سَيّدي يا رسولَ الله:

أوَ يسعني أنْ أتطاول مع ضآلتي وقلّة شأْني لأَخْطُو - متجاوِزاً قَدْرِي - في فناء قُدْسِك، وباحة عَظَمَتِك لأحطّ بأزوادي - التي أوشك أنْ يدركها النفاد - بين أفياء جلالك النَضِرَة، مُقدِّماً بين يديك الكريمَتَين هذه البضاعة القليلة المُزْجاة التي تمخَّضت بها أيّام غُرْبَتِنا المتطارلة، التي ما انفكّت تَنْأَى بنا بعيداً عن الأهل والأوطان.

نعم، يا سيِّد الكونين، ويا أيُّها الرحمة المُهداة إلى العالمين، فإنِّي وإنْ كنتُ حتّى دون أنْ أَجِدَ لنفسي مَوْطأ قَدَمٍ قِبَال تلك الطلعة البَهِيَّة، إلاّ أنِّي أتشبَّث بما عُرف عنك مِن خُلُقٍ عظيم، فأتجرَّأ لأمُدّ يدَيَ إليك سائلاً لا مُعطياً، متوسِّلاً لا مُطالِباً، راجياً من الله تبارك وتعالى الذي اصطفاك وانتجاك أنْ يرزقني شفاعتك يوم تُعرض فيه الأعمال، إنَّه سميع مُجيب.

علاء آل جعفر

٥

٦

مقدّمة التحقيق:

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْمِ

ابتدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه، ربِّ الأرباب، وخالق العباد، الرؤوف الرحيم، الذي خلقنا وكان سبحانه عن خَلْقنا وعبادتنا له غنيّاً، وأسْبغ علينا مِن النِعَم ما لا حدّ له ولا إحصاء، تبارك وتعالى الله ربُّ العالمين.

وأُُصلّي على رسوله الكريم، ورحمته المُهداة إلى العالمين، النبيّ المصطفى، الذي انتشل مَن ابتغى النجاة مِن تَيْه الضلال إلى نور الهُدى، خاتم الأنبياء والمرسَلين، محمَّد بن عبد الله، وعلى أهل بيته المعصومين، وَرَثَةِ عِلْمِه، والقادة مِن بعده، سُفُنِ النجاة الفارِهة، ومنائر الهدى السامِقَة، عليه وعليهم آلاف التحيّة والتسليم.

وبعد:

فَلَرُبّما يَعتقد البعضُ بتصوُّرٍ يَبْتني على الفَهْم السطحي والمظهري لطبيعة المُسَاجَلات الكلاميّة، والمحاورات الفِكريّة التي كانت وما زالت تتمظْهر بها بعضُ المراكز المحدَّدة العناوين، في سَعْيِها الدائب والمتواصل مِن أجل توسيع الهُوَّة الوهميّة المُفتَعَلة بين الإدراك الحقيقي والسليم لعقائد

٧

الشيعة الإماميّة، من قِبل إخواننا في الدين مِن أتباع الفِرَق الإسلاميّة المختلِفة، وبين حالة التفسير السَلْبي وغير العِلْمي، بل والمتغرِّب عن أرضيّة الواقع الحقيقية - التي ينبغي أنْ تكون هي المَحَكّ الأساس في تقدير مصداقيّة وأَحَقَّانِيَّة كلِّ طرف - والذي تحاول هذه الأطراف جاهِدة مِن أجل أنْ تجعل منه الصورة التي تريد لها أنْ ترتسم في مُخَيَّلة هؤلاء المسلمين عن حقيقة التشيُّع وعقائده.

نعم، ربّما يعتقد هذا البعض بحُسْنِ نِيَّةٍ - لا تتوافق حتماً وواقع الحال المُعاش - أنَّ المُرْتكز الحقيقي الذي تبتني عليه هذه المنازعات الفكريّة هو:

ما يمثِّل الجانب الايجابي المُثْمِر الذي يُفترض أنْ يقود الباحثين إلى التوصُّل نحو الخلاصة الايجابيّة المُبتغاة مِن حلقات البحث، والذي هو طَلِبَة كلِّ عاقلٍ منصِفٍ باحثٍ عن الحقيقة في هذا الزمن العَسِر الشاق، الذي يشهد بوضوحٍ جَلِيٍّ تَبَلْوُر صورة الصراع الخَفِي والعَلَنِي، الذي تتوجَّه حِرَابُه نحو العقيدة الإسلاميّة المباركة كأطروحة سماويّة قادِرَة على مِلْء الفراغ العقائدي، الذي خلَّفه الانهيار المتلاحِق للكثير مِن الأطروحات المادِّيّة وغيرها، مِن التي جَهَدَ دعاتها وأنصارها ومريدوها في تأكيد قدرتها المزعومة على السموِّ بالبشريّة وحلّ مشكلات العصر التي - على زعمهم الباهت - تَعْجَز قبالتها العقائدُ الدينيّة، ارتكازاً في تشكيل هذا المعتقد على وضوح الانحراف العقائدي للكنيسة، وبروز حالة التبعثر والتَشَرْذِم بين عموم الفِرَق الإسلاميّة، رغم بروز وظهور الكثير من حالات الالتقاء والتقارب.

أقول:

إنَّ وضوح حالة التشتّت بين الأخوة الفُرَقَاء لم تقعد بالمفكّرين الغربيين والمادِّيين والمُصْطَفَين معهم عن التفكير الجاد في إذكاء وتأجيج هذه الحالة السلبية، من خلال الترويج - بمَكْرِ وخُبْث - عن عدم قدرة الإسلام في الوقت الحاضر لأنْ يشكِّل منهاجاً يمكن اعتماده في بناء الحضارة

٨

البشرية، وحل العُقَد المُسْتَعْصِيَة المُزمِنة التي تغلب على حياة هذه الأُمم ؛ وذلك لإدراك أولئك المفكِّرين بوضوح وجلاء - خيرٌ مِن ادارك الكثيرين من رجال هذه الأمَّة - حقيقة العقائد الإسلاميّة وعِظَمِهَا، وما يمكن أنْ يشكِّله الإدراك والفَهْم الحقيقي لها، لاسيَّما من قِبَل الشعوب التي عاشتْ وتعيش حالة التغرُّب المقصود عن عقائد السماء العظيمة، بعد انفصال الكثيرين منهم ورفضهم لحالة الانحراف والتردِّي التي تتمثَّل بالعقائد الفاسِدة التي يُردِّدها بِسَمَاجَة رجالُ الكنيسة وقَسَاوِسَتِهَا، والتي يَتَأَرْجح أكثرها على ترانيم أفكار اليهود وأحبارهم بشكلٍ لا يخفى إلاّ على السُذَّج والمغفَّلين.

نعم، إنَّ المرء لَيُدْرِك بوضوح حالةَ التوجُّس الكبيرة التي يعاني منها المفكّرون الغربيّون، ودعاة امتطاء رَكْب الحضارة الغربية - باعتبارها على زعمهم: ( المريض البديل الفكري الوحيد الذي لا يسع البشرية الاستعاضة عنه ) لاسيَّما بعد الانهيار المتلاحِق للأفكار المادِّيّة التي حكمتْ الكثير مِن بُلدان أوربّا الشرقيّة، تبعاً لتمزُّق أشلاء اُمِّهم التي ولدتْهم سِفاحَاً - مِن قدرة الإسلام على حلِّ كلِّ مشكلات العصر التي عجزوا هم عن مجرّد تقديم تفسيرٍ مقنعٍ لها.

بل، وقدرته على أنْ يكون هو البديل الوحيد عن كلِّ الأطروحات الفاسِدة التي استطاعت أنْ تجد لها مَوْطِأَ قَدَمٍ، بعد التغييب القَسْري للفكر الإسلامي عن أرض الواقع - ولسنين طوال مرّتْ - وهو ما لا يعسر على أَحَد إدراكه، من خلال استقراء الأحداث المتلاحقة في هذه المعمورة الدالّة بوضوح على ما يمكن أنْ يؤدِّي إليه الإدراك الحقيقي للإسلام - ولا أُحَدِّد هذا بغير المسلمين فحسب - مِن انهيار حَتْمِي لكلِّ النظريّات المادِّية الأُخرى، والى هذه الحقيقة تشير تلك الأحداث التي أشرنا إليها، والتي أبْصَرَهَا حتّى مكفوفي الأبصار.

ثمّ لعلَّ تفشِّي حالة التوجُّه نحو العقائد الإسلاميّة في ذِهْنيّة العديد من

٩

الأوربيِّين، ونَبْذهم للأفكار الغربيّة، وتصريح البعض منهم دون مواربة اعتناقه الإسلام (١) وحثِّ الآخرين نحو فَهمٍ سليم وواقعي للدين الإسلامي، بدأ يشكِّل الحلقة الأكثر خطراً في حسابات المادِّيين والإلحاديين ودُعاة التغريب، فكان ذلك حافزاً مؤكداً لهم للتسرب مِن خلال الخلل التي أوْجدتْها حالة التعصب المقيت المُثارة مِن قِبَل المُتَسَرْبِلِيْن بِجِلْبِاب الإسلام وردائه الفَضفاض، ليُطعن الدين بِمُدَى أهله، ويقف أعداؤهم في خانة المتفرِّجين، لا يُخفون شماتةً، ولا يكتمون سروراً، وتلك هي والله أُمّ الفواقر

بلى، فمِن هذا التشخيص الدقيق - الذي يُدركه العقلاء - المُنبعث عن رؤيةٍ صادقةٍ ومُسْتَجْلية للغرض السيِّئ الذي يُراد العزف على أوتاره، مِن خلال بَعْثَرة الصفّ الإسلاميّ الواحد، تَرَانا نستثير بالمسلم ضرورةَ البحث الجِدِّي والرصين، المبني على قواعد علميّة سليمة يستطيع من خلالها تكوين صورة صادقة عن الأمر مَحَلّ البحث - وحديثنا هنا عن عقائد الشيعة - تُمكِّنه مِن الحكم الصحيح لا إطلاقه جُزافاً ؛ لأن ليس بذلك مِن عمل المحصِّلين الواعين، وخلاف البحث الأكاديمي العلمي، فكيف إذا اختصّ ذلك بطائفة كبيرة من طوائف المسلمين، لها آثارها البارزة في بناء الحضارة الإسلاميّة ورُقِيِّها؟

إنَّ السِجَال العِلمي الهادف يُعدّ بلا شَكّ طَلِبَة كلِّ المسلمين الواعين، المدركين بدقة أنَّ سر محنتهم وطوال قرون الانتكاسات المُرّة المُتلاحِقة - التي تُوِّجت بسقوط عاصمة الدولة الإسلاميّة بأيدي المغول عام (٦٥٦ هـ

____________________

(١) المراجعة البسيطة للإحصائيات الميدانيّة في أوربّا حول عدد الأوربّيين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي تُبيِّن بوضوح حِدّة ارتفاع الخطّ البياني بشكلٍ مُلْفِت للأنظار، وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي تعتبر بِحَقٍ سنوات الصحوة الإسلاميّة التي بدأتْ تجتاح العالم، حتّى أنّي قرأْتُ - وقبل فترة - إحصائيّة لعدد مُعْتنقي الإسلام في فرنسا فقط يذكر فيها أنّ عددهم بلغ في حدود (٢٥٠٠٠٠ ) فرنسي، وكذا هو حال باقي بلدان أوربّا وبشكلِ متفاوت، فراجع.

١٠

١٢٥٨ م ) مُستتبِعَة بإخفاقات وتردِّيات متكرِّرة، لتكتمل في انهيارها أمام الغزو الاستعماري المقيت، المبتدأَة أُولى مراحله إبّان القرن التاسع عشر الميلادي، والذي استكملت حلقاته مع نهاية الحرب العالمية الأولى - يكمن:

 - في استسلامهم الممجوج لحالة التناحر المدسوسة مِن قِبَل أعدائهم الأجانب منهم أو المتسربلين بلباس الإسلام.

 - وبُعدهم البَيِّن عن الفهم السليم للكثير من عقائدهم الأساسية - وهنا يكمن أصل الداء - والتي أدار لها الكثير منهم عارِضَيه، واستسلم بجهلٍ لا يُغتفر لِمَا يُلقَّن به من تفسيرات وتأويلات غريبة ومردودة لتلك العقائد، دون أيِّ تأمّل وتبصُّر.

ثمّ إنَّ الاستقراء العِلمي والدقيق للكثير مِن تلك المُساجَلات يُبيِّن بجَلاءٍ أنَّها عَيْن - أو انعكاسات - التقوُّلات التي تَفتَّقتْ عنها مُخَيَّلة اللاهثين خَلْف سراب المُتَع الرخيصة والزائفة إبّان امتطاء الأمويين سَدَّة الحكومة الإسلاميّة، مِمَّن أجهدوا أنفسهم في البحث عن مسوغ ما يُبرِّر تَوَلِّيهم لحكومةٍ كانوا هم أكثر الناس كَلَبَاً عليها، وعداءً لها، فطرقوا أسواق النَخَاسة التي تَصْطَف فيها الضمائر المعروضة للبيع، والمُتَبَارِية في الكذب على الله تعالى ورسوله، كما تتبارى الجواري في عرض محاسنهن أمام روّاد هذه الأسواق - ولكن شتّان ما بين هذه وتلك - فوجدوا بُغْيَتَهم في بعض الصحابة والتابعين، مِمَّن حَفِظَ لنا التاريخ تحلُّقهم حول موائد الأمويّين الذين طالما حذَّر رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) من حكومتهم وما يُجْرُونه فيها على الأُمّة مِن عظائم الأُمور المنبعثة عن فسادهم وبُعدهم البّيِّن عن الإسلام.

لقد كان الأموُيُّون أوَّل مَن سنَّ بِشَكلٍ بيِّن قواعدَ بَعْثَرَة أبناء الدين الواحد، متوسِّلين في تحقيق بُغْيتهم هذه، بكل ما تطاولتْ إليه أيديهم التي أطلقها في بيت مال المسلمين امتطاؤهم لسَدَّة الخلافة الإسلاميّة، التي كانوا أكثر مَن ألَّب عليها، ولم يدَّخروا وُسْعَاً في احتوائها والقضاء عليها، بل ولم يَنَل

١١

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حياته - بل وحتّى وبعد وفاته - أذى مِن أَحَد، قَدْر ما ناله مِن الأمويِّين، حتّى نبذهم المجتمع الإسلامي ودفعهم إلى الظل، فانكفؤا في جحورهم كالسُعَالَى، يترقَّبون أنْ تدور على هذا الدين وأهله الدوائرُ، أو يأتيهم الزمانُ بما عجزوا هم عن إدراكه، وهو ما حدث حين تولى عثمان بن عفان سَدّة الخلافة الإسلاميّة، حيث قفز الأُمويّون إلى قمّة الهَرَم الإداري في الدولة الإسلاميّة، وأطلقوا لأحلامهم الفاسدة العنان، وعاثوا في الأرض فساداً.

والفضل في ذلك عليهم لعثمان وحده، حيث فتح الباب - الذي أوصده رسولُ الله ( صلّى اللهّ عليه وآله ) في وجوههم - على مصراعيه أمام طموحهم المُنْحَرِف، وأغراضهم الخبيثة، ولاغَرْوَ في ذلك، فعثمان يعلن بصراحة على الملأ: أنْ لو كانت بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتُها بني أُميّة!!(١) .

وكان صادقاً في قوله وفيّاً لتعهده(٢) حتّى ضجَّ المسلمون

____________________

(١) روى أحمد بن حنبل في مسنده (ج١: ٦٢) عن عثمان بن عفّان: أنّه دعا جماعةً مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وفيهمِ عمّار بن ياسر - وقال لهم:

إنَّي سائلُكم، وإنِّي أُحب أنْ تصدقوني، نشدْتُكم الله أتعلمون أنَّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) كان يُؤْثِر قريشاً على سائر الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟

فسكت القوم، فقال عثمان: (لو أنَّ بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتُها بني أُميَّة حتّى يدخلوا مِن عِنْد آخرهم)!!

 (٢) بلى، فقد كانت أيادي عثمان بن عفان في بني أُميّة لا حدود لها، ممّا أَثَارَ ذلك عليه نقمة المسلمين، لاسيّما وأنّ هناك الكثير من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذين أدركوا وعاينوا الموقف العدائي لهذه الأسرة مِن الإسلام وأهله، بل ومِن رسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله) الذي ما زالت كلماته وعباراته المحذِّرة للمسلمين من فساد هذه العائلة وانحرافها، وجهدها الدؤوب قي تمزيق هذا الدين، تَتَرَدَّد في آذانهم، وتتجاوب معها نفوسُهم.

ولذا فقد كان موقف الخليفة المخالف بشكل حاد لتلك الوصايا مصدر نقمة وغضب بدأتْ تعتمل في نفوس أولئك الصحابة، يؤججها إسراف الأمويّين، وتجاوزهم على حقوق المسلمين، وتلاعبهم بها.

ولقد استعرض المؤرِّخون في كُتُبِهم جوانب متفرِّقة مِن تلك الأُمور، إلاّ أنَّ أَوْسَعَهَا =

١٢

- وفيهم الكثير من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - بفساد الأمويين وتهتكهم، فانقضوا على بيت الخليفة وقتلوه.

نعم، لقد كانت هذه العصابة المُشَخَّصَة النوايا - والتي أخذ بِخُطَامِها

____________________

= تفصيلاً ما أَوْرده ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة (ج١: ١٩٨) حيث ذكر:

أنّ عثمان أَوْطأ بني أُميّة رقابَ الناس، وولاّهم الولايات، وأقطعهم القطائع.

فلمّا افتُتِحَتْ افريقيّة في أيّامه، أَخَذَ الخُمس كلَّه ووَهَبَهُ لمروان بن الحكم طَرِيْد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صِلَة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

وأعاد الحَكَمَ بن أبي العاص [عدوَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومَن أكثر الناس إيذاءً له] بعد أنْ كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سَيَّره ثمّ لم يردَّه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم!!.

وتصدَّق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بموضع سوق بالمدينة يُعرف بـ ( مهزور ) على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارثَ بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

وأقطع مروان فَدَك، وقد كانت فاطمةُ (عليها السلام) أطلبتْها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه، تارة بالميراث، وتارة بالنِّحْلة فدُفِعت عنها.

وحَمى المراعى حولَ المدينة كلَّها من مواشي المسلمين كلِّهم إلاّ عن بني أُميَّة.

وأعطى عبدَ الله بن أبي سَرْح جميع ما أفاء الله عليه مِن فَتْح إفريقيّة بالمغرب - وهي مِن طرابلس الغرب إلى طَنْجة - من غير أنْ يَشْرَكه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوّجه ابنته أُمّ أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان: أتبكي أنْ وَصَلْتُ رَحمِي! قال: لا، ولكنْ أبكي لأنّي أظنُّك أنّك أخذتَ هذا المال عِوضاً عمّا كنتَ أنفقتَه في سبيل الله في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لو أعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال: ألقِ المفاتيح يابن أرقم، فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسّمها كلّها في بني أُميّة. وأنْكَحَ الحارث بن الحكم ابنتَه عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صَرْفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضمّ إلى هذه الأُمور أُمور أُخرى نَقَمَهَا عليه المسلمون:

- كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الرَّبَذة.

- وضربِ عبد الله بن مسعود حتّى كُسرت أضلاعه.

- وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين.

١٣

معاوية بن أبي سفيان، وحاله لا يخفى على أَحَد، وبُغْضُه لبيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يحتاج إلى توضيح - هي:

أوَّل مَن تصدّى لتمزيق أشلاء المجتمع الإسلامي الواحد، ثمّ اقتفى الخلف مِن بعد آثار السلف، وامتطى العباسيّون قِفِيَّ الأحداث:

- مثيرين النقع قبالة الحقائق الثابتة بأحقّانيّة أهل البيت (عليهم السلام).

- مُرَدِّدين عَيْنَ التُرَّهات التي ما انفكَّ الأمويّون عن ترديدها والتلاعب بمفرداتها.

- ومستثمرين حالات الصراع الفكري الذي بدأت تتبلور أبعاده في نشوء المدارس الكلامية المتعددة، تزامناً مع توسع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلاميّة، وتأثُّر الكثير من تلك المدارس بالأطروحات الفلسفيّة والفكريّة لتلك الشعوب الحديثة الإسلام، والتي تمتلك بلا شكّ جملةً خاصّةً من الأفكار البعيدة الغَور، والواسعة المدى، فحَدَثَتْ - وذلك أمر مُتوقَّع - العديد مِن حالات التأثُّر الفكري والعقائدي عند بعض المدارس الكلاميّة الإسلاميّة التي أفرزتها تلك الظروف الغريبة عن حياة المسلمين، فاستثمرتْها السياسةُ الحاكمة:

- ترويجاً لموقفها المُعانِد لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

- وإقحاماً لمتكلِّمي الشيعة في مخاضات الجَدَل والمُناظَرَة.

والتي سَجَّل لنا التاريخ امتلاك هؤلاء المتكلِّمين - المُتَخرِّجين من تلك المدرسة المباركة التي تَسْتَقِي علومَها من دوحة النبوَّة المِعْطَاءة - لزمام المحاجّة والمجادلة، فلم يمتلك أولئك المنكسِرِين ما يَرُدُّ لكبريائهم الممرَّغ في وَحْل العجز بعضَ معالمه إلاّ اجترار ما ازدرتْه نفوسُ المسلمين العقلاء مِن الكذب الرخيص والافتراء الباهِت.

نعم، لا شيء جديد يمكن للمرء أنْ يعدّه محفلاً للبحث والتباري الفكري والعقائدي، بل هو - وكما ذكرنا - اجترار مَقِيْت، وتكرار مُمِلٌّ، لانْ تكلَّف البعض أنْ يُضفي عليه طابعاً عصريّاً مموِّها لبضاعة السابقين، ولكن الأصل أجلى من أنْ يُخفيه أيّ تزويق، وأيّ تَمْويه.

والأَنْكى من ذلك أنْ

١٤

تجد التراث الشيعي للكثير من علماء الشيعة ومتكلِّميها، وطوال حِقَب متلاحقة، تَزْدَان به ما لا يُحصى من المؤلَّفات والأسفار القيِّمة، التي تبيِّن بوضوح لا خفاءَ فيه عقائدَ الشيعة، وأدلَّتهم الشرعية التي يَرتكِزون عليها في صياغة أحكامهم التي يتعبَّدون مِن خلالها.

وهذا التراث - بكلِّ ما فيه - لا يَعسر على أحد قراءته ومطالعته، وإدراك حقيقته، وذاك أجدى لمَن ابتغى الحقيقة لا سواها؛ لأنّ السماع أو الركون لتقوّلات الآخرين - كما هو حال العديد من الباحثين في عصرنا الحاضر، وهو ظاهرة سلبية مردودة - قد يؤدِّي إلى إيقاع الظلم بالآخرين دون حُجّة أو دليل يُعْتَذر به، لتعمُّد البعض قَلْب الحقائق، وتزييفها لأغراض ومآرب غير خافية على أحد(١) .

____________________

(١) الغريب أنْ تبلغ السذاجة أو الصلافة بالإنسان حدّاً يتجاوز فيه كلَّ الحدود الشرعيّة والأخلاقيّة، وتحشره مجرَّداً في زاوية حَرِجَة، وفي موقع مفضوح، تجعل المرء معها يتساءل عن مدى الفائدة التي يجنيها هذا البعض من هذه التصرفات والمواقف الشاذّة والمُنحرِفة المرتكِزة على التقوُّلات والافتراءات الباهتة، التي لابُدّ وأنْ يظهر زيفُها مع الأيّام وعند الاستقصاء، وعندها لا أدري بماذا يعتذر هنالك المبطلون، سواء أكان ذلك في الدنيا أو يوم يقوم الحساب.

نعم، هناك الكثير مِن هذه الموارد الدالَّة على انحراف أصحابها عن جادّة الصواب ومنطق الحق - من الذين لا تُفسَّر مواقفهم هذه إلاّ بأنّها محاولات مسمومة لِبَعْثَرة الصف الإسلامي الواحد - أشار إليها بعض الباحثين والمتتبّعين في بحوثهم ومؤلَّفاتهم، كما أشرنا إلى بعض منها في مقدِّمتنا التحقيقية لكتاب مكارم الأخلاق، فراجع.

وأمّا ما نريد الإشارة إليه هنا فهو عَيِّنَة صادقة عن خبايا تلك النفوس التي لا ترعوي أمام كلمة الحق، ولا تخشى المساءلة يوم الحساب، وبشكلٍ تمجّه النفوس، وتزدريه العقول.

فقد عَمَدَ أحدُ الكُتّاب المُصطَفِين في خانة حاملي معاول تمزيق هذه الأمّة باسم الدفاع عن حريمها زُوراً وبُهتاناً، ويَدّعي محمّد مال الله في كتابه الموسوم بـ ( موقف الشيعة مِن أهل السنّة ) في الإصدار الأوَّل، ممّا يُسمّى بدراسات في الفكر الشيعي: إلى التلاعب بإحدى العبارات التي نَقَلَهَا عن كتابنا هذا بصلافة عجيبة، ووقاحَة غريبة.

فقد ذكر في الصفحة (٢٨) من كتابه المذكور، ما هذا نصّه:

والبَدَاء عند الشيعة: (أنْ يظهر ويبدو لله عزَّ شأْنه أمرٌ لم يكن عالِمَاً به)!! انتهى. =

١٥

إنَّ المسلمين الذي دكَّتْ سنابُك خيولِهم أَقَاصي المعمورة، وأذْعنَ لسلطانهم العظيم الأكاسرة والقياصرة، وأخذتْ أصوات مآذنهم تُنادي بالتكبير والتوحيد في أراضي الصليب المتكسِّر - الذي ما انفكَّ المُتاجِرون به مِن حَمْله على أكتافهم ليخفوا تحت أخشابه المتهرِّئة جَشَعَهم وفسادهم وانحرافهم عن أبسط المفاهيم السماويّة المقدّسة - أولئك المسلمين كانوا بأمسِّ الحاجة مِن غيرهم إلى وقْفة تأمُّل لا بُدّ منها لإدراك الخَلل أو العِلّة الرئيسية التي أودتْ بكلِّ أمجادهم ومفاخرهم، وبدأتْ وأَمَامَ أعْيُنهم تتهاوى

____________________

= وأشار في الهامش الخامس إلى كتابنا هذا: (٥) أصل الشيعة وأصولها/ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء: ٢٣١.

ويالَيْتَه اكتفى بموقفه المُخزي هذا، لَكُنّا تلمّسنا له عذراً، ولكنّه يُصرُّ على خِداع القُرّاء، ويواصِل كذبه وافتراءه دون أيِّ حياءٍ، فقد أعاد كتابة عَيْن تقوّلاته هذه في كتابه الآخر(الشيعة وتحريف القرآن) !! في طبعته الثانية الصادرة عن شركة الشرق الأوسط للطباعة في عمان عام (١٤٠٥هـ )، وفي الصفحة ١٢ منه، فراجع.

نعم، هكذا تصرّف هذا المؤلِّف بهذه العبارة لِيُسيء إلى طائفةٍ بأكبرها ويتَّهِمها بالكفر والانحراف، متوهِّماً أنْ لا أحد سيكشف كِذبَتَهُ هذه، وأنَّها ستمرُّ على القرّاء مرورَ الكِرام، ويُقال:

انظروا ماذا تقول الشيعة على لسان واحد مِن كبار علمائها، هل هذا إلاّ هو الكفر المحض؟!

ونص العبارة التي تصرَّف بها هذا المؤلِّف موجودة في خاتمة كتابنا هذا ضمن حديث الشيخ رحمه الله تعالى عن المفتريات التي تُتْهَمُ ظلماً بها الشيعة، حيث قال:

ممَّا يُشنّع به الناس على الشيعة، ويُزدرى به عليهم أيضاً أمران:

الأوّل: قَوْلُهم بالبداء، تَخَيُّلاً مِن المشنِّعين أنَّ البداء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أنْ يظهر ويبدو لله عزَّ شأنه أمرٌ لم يكن عالِماً به! وهل هذا إلاّ الجهل الشنيع، والكفر الفظيع، لاستلزامه الجهل على الله تعالى، وأنَّه محلٌّ للحوادث والتغييرات، فيخرج مِن حظيرة الوجوب إلى مكانة الإمكان! وحاشا الإماميّة ( بل وسائر فرق الإسلام من هذه المقالة التي هي عَيْنُ الجهالة ) بل الضلالة... الخ.

أقول: أَتْرُكُ للقارئ الكريم مسألة التعليق على هذا الأمر، والحكم بما يراه موافقاً للعقل والمنطق والصواب.

١٦

شيئاً فشيئاً، دون أنْ يمتلكوا أمامها حيلةً ولا سبيلاً.

حقّاً - وهذا ممّا لا ريب به - إنَّ ذلك الخلل كان قد استشرى كثيراً في جسد هذه الأُمّة التي تمتلك - وذلك ما تغصُّ به الأفواه - كلَّ مقوِّمات الرُقِيّ والسُمُوّ، بل وتُعَدُّ رسالتُها هي المنهج العقائدي الوحيد القادر على إنقاذ البشريّة وانتشالها من وَهْدَة الضياع والتغرُّب والانسلاخ عن رسالتها العظيمة التي خلقها الله تبارك وتعالى مِن أجْلِها.

بلى، إنَّ ذلك الخَلَل الرهيب - بأبعاده المختلِفَة - كان يَسْري في جسد هذه الأُمَّة، مترافقاً مع جوانب الخير والعطاء التي أفاضتْها شريعةُ السماء بأشكالها المتعدِّدة، فكان كالعلّة التي لا يُعيرها البعض اهتماماً حتّى تودي به على حِين غُرّة.

فتقادم العصور والدهور، وإذكاء حالة الاستسلام أمام واقع الحال دون أيّ ردّة فِعل أو إنكار، بل والوقوف السلبي في بعض الأحيان - أو الحيادي في أحيان أُخرى - أمام دعوات التصحيح المُخلِصة، كلُّ ذلك كان يشكِّل العنصر الداعم والمتسامح تجاه حالة السقوط هذه.

نعم، ولعلَّ الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم يمثِّل عَيِّنة واضحة مفردة تعكس ابتلاء الشيعة - وطوال قرون ودهور - في إيضاح ورد الشبهات السقيمة والواهية التي ما انفكّ البعضُ كالببغاء لا يملُّ مِن تكرارها في كلِّ مناسبة وعلى كلِّ منبر، إصراراً على المعاندة والمكابرة، أو جهلاً مَمْجُوجاً لا عُذرَ فيه، فكانت مواقفهم المردودة هذه تمثِّل وبوضوح رؤوس الفتنة الملعونة المُبْتَغِيَة زعزعة وخلخلة البُنْيان الإسلاميّ، مِن خلال التمويه المقصود على الحقائق الواضحة التي لا يُعفى أحد مِن وجوب التعرُّف عليها وإدراك مصداقيَّتها.

وأقول بعيداً عن المُغالاة والتطرُّف:

إنَّ الأمر الذي لا مِراء فيه هو أنَّ التفاوت المنظور بين فِرَق المسلمين لا يُشكِّل حالة مَهُولة تدفع العقلاء إلى

١٧

اليأس وإلْقاء ما في أيديهم، وترك الحِبال على غاربها ؛ لأنَّ - وذلك منتهى الصدق والحق - ما يتّفق عليه الإخوة الفُرَقَاء هو أكثر مِمّا يختلفون فيه، وفي ذلك ما يَشْحَذ في المصلحين الهِمَم، ويدفعهم إلى مواصلة الجهد الدؤوب نحو التقريب والالتقاء.

بيد إنّ المحاولات المعدودة - ومع اقتران أكثرها بصدق النية وصفاء السريرة - تبقى قاصرة ودون الإحاطة الشاملة لأبعاد هذا الأمر الجسيم ؛ لأنّها تبقى دائرة في الذيول - دون الأصل - مرّات كثيرة، ويُتعاطى معها بين الأخْذ والرد.

ولا غَرْوَ في ذلك، إذ إنّ العلاج الأنْجَع لأيّ علّة لا بُدّ فيه مِن البحث عن الأسباب الرئيسية والأساسية في بروزها، لا معالجة نتائجها، وهذا ما عجز الكثيرون عن إدراكه، أو الإشارة إليه صراحةً ودون مواربة... فتعاقبتْ الانتكاسات، وتوالَتْ الإخفاقات، وستبْقى، طالما ما زِلْنا نجد من لا يتورّع عن تزييف الحقائق، وقلب المُسَمَّيات بصلافة عجيبة، ووقاحة لا تُصدَّق.

وحقّاً أقول:

إنّ الحديث عن هذا الأمر يستثير في خواطر المرء الكثير من الشجون، التي لا بُدّ لها مِن تتَّرجم للجميع دون مواربة ومخاتلة، وتتطلَّب صِدقاً وإخلاصَ نِيَّةٍ تتجاوز حدود الأهواء والنزعات النفسيّة، وتصبح مِعياراً وسبيلاًَ لإدراك الحقّ والحقيقة، لا شيء غير ذلك...

المسلمون في هذه المعمورة تشعَّبتْ بهم المذاهبُ، ونَأَتْ ببعضهم عن بعض، بمسافات تتباعد وتتقارب تبعاً لمدى الوعي الفكري، والفهم العقائدي، وتتوسَّط بين الاثنين جماعةٌ لا تُجيد غيرَ لُغَة التكفير البغيضة، وإثارة النَقْع قبالة الحقائق الناصِعة والثابتة.

فالثقل الأكبر - وكما يعلم الجميع - لعدد المسلمين يتمثّل بأهل السُنّة

١٨

والجماعة(١) والذين يتعبَّدون بفتاوى أئمة المذاهب الأربعة:

(أبو حنيفة، مالك، الشافعي، وأحمد بن حنبل).

فهناك الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، وجميع هذه المذاهب تلتقي وتفترق في جُملة واسعة من المسائل، وذلك أمر لا مناصَ منه.

وأمّا الثِقْل الأكبر الثاني فيتمثَّل بالشيعة، وأعني بهم الشيعة الإماميّة الاثني عَشَرِيَّة، وهم يَنْقادون في فَهْم عباداتهم ومعاملاتهم لأهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، الذين توارثوا علومهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فما افترق حكم اللاحق عن السابق، بل كان مؤتمِناً مؤدّياً.

بلى، إنَّ الشيعة ترجع في أحكام دينها إلى هذه العترة الطاهرة التي يجب على المسلمين - بنصّ القران الكريم - اتباعهم وموالاتهم ومَوَدَّتهم، ينضاف إلى ذلك جملة واسعة مِن الأدلّة الثابتة والصحيحة التي لا غُبار عليها، وهذا ما لا يحاول البعضُ - تعنُتاً ومُجافاةً للحق - إدراكَه وتفهُّمَه، فيضع نفسه في المضيق دون أيِّ مرتكَز يُعوِّل عليه، بل والأغْرب من ذلك أنْ تجد مَن يتوسَّل، تبريراً لموقفه المُستَهْجَن - وذلك ما ليس بخَافٍ على أحد - بما تُمليه عليه حالتُه النفسيّة القَلِقَة، لا المرتكزات العقائديّة والفكريّة التي ينبغي أنْ تسود هذه المباحث.

____________________________

(١) لعلّه لا يخفى على أحد الأثر العظيم الذي خلّفتْه الدهورُ المُرَّة القاسية التي أحاطت بالشيعة - وأعْمَلَتْ أنيابها فِيهم تمزيقاً وتقطيعاً وبشكلٍ متناوِب متلاحِق - وساهمتْ بشكل مباشِر في تحديد أعدادهم، والحدّ من تكاثرهم بشكلِ جليٍّ واضحٍ للعَيان، وهذا ما سبق أنْ تقدَّم منّا الحديث عنه سالفاً.

يُضاف إلى ذلك ما لجأتْ إليه الحكوماتُ الجائرة المتلاحقة مِن ترويجها وإسنادها للمذاهب الإسلاميّة الأُخرى، تنكيلاً بالتشيَّع، وتحجيماً له، لا حبّاً وإيماناً بتلك المذاهب في أغلب الأحيان، وإنْ كان ذلك الأمر يتشكّل في بعض الأحيان بصِبْغة التعصُّب الطائفي المَقيت، الخارج عن أيّ مفهومٍ شرعيٍّ.

١٩

نعم، لا خلاف بأنَّ المسلمين كانوا يُشكّلون - ظاهراً - في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اُمَّةً واحدةً يَحْكمها وجودُ قائدٍ ميدانيٍّ، تَنْقاد لمشيئته المنبعثة عن إرادة السماء جموعُ المسلمين، فلا وجهَ لأيّ مخالَفَة آنذاك غير الخروج عن إطار الإسلام، والكفر الصريح.

ومن هنا فلم تكن هناك شُبُهَات عقائديّة تعتري أحداً ؛ لأنَّه يجد الجواب الشافي والحاسِم لدى صاحب الرسالة (صلّى اللهّ عليه وآله).

بَيْدَ أنَّ اللحظات الأًولى لرحليه (صلّى الله عليه وآله) شَهِدتْ بذر شجرة الخلاف التي تطاولتْ مع الأيّام وتفرَّعتْ، وضربتْ جذورَها بعيدةً في أعماق العقيدة الإسلاميّة المباركة، وأثمرتْ مع الأيّام ثمراً مُرّاً لا يُسْتَسَاغ، أقْسَرَ البعضُ نفسَه على تجرُّعه غُصَصَاً، عِناداً للحقِّ، أو استسلاماً للواقع المعاش.

فقد تُوفِّي رسول الله (صلّى اللهّ عليه وآله) والدولة الإسلاميّة الغضّة الفتيّة تعيش في أدقِّ ظروفها السياسيّة وأحرجها، وحيث تحوطها وتعيش بين جَنْبَيها الكثيرُ مِن المخاطر المشخَّصةِ العناوين:

كالمنافقين، ومدَّعي النبوّة، وحلفائهم من المشركين، واليهود، بالإضافة إلى الخطر الذي تُشَكِّله عليهم كلٌّ مِن الدولتين الرومانيّة والفارسيّة، وغير ذلك.

وإبّان تلك الظروف الحسّاسة والخطِرة ابْتُلِيَتْ الأمَّةُ بأوّلِ وأخْطرِ انقسامٍ أصابها في الصميم، وكان العلّة الأساسيّة لكلِّ أمراضها ووَيْلاتها المتلاحقة، ونقطة الاختلاف التي تشعَّبتْ عنها كلُّ موارد التفرُّق المتفاوتة، ولنْ تجد تفسيراً منطقيّاً وعلميّاً يمكنه الإعراض عن التصريح بهذه الحقيقة الثابتة.

نعم، إنَّ الاختلاف الذي مُنِيَتْ به الأُمَّة في مسألة خِلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - وما استتبعه بعد ذلك مِن نتائج متوقَّعة - كان هو سرَّ الداء، الذي سرى في جسد هذه الأًمَّة، وتصيَّده أعداؤُها، فَطَفِقُوا - بأساليب مُحْكَمة ومَدْروسة - يؤجِّجوا نار الاختلاف، ويُوسِّعوا الهوَّة بين الإخوة الأشقّاء، بل ولم يتورَّعوا عن الكذب والافتراء، والتحريف والتشويه، وقلب الحقائق وتزييفها كما أسلفنا.

٢٠