أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها0%

أصل الشيعة وأصولها مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

أصل الشيعة وأصولها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
تصنيف: الصفحات: 442
المشاهدات: 75999
تحميل: 8180

توضيحات:

أصل الشيعة وأصولها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75999 / تحميل: 8180
الحجم الحجم الحجم
أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهذه كتب الشيعة بأجمعها تُعْلِنُ بِلَعْنِهِ والبراءة منه، وأخفّ كلمة تقولها كتب رجال الشيعة في حقِّه ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذِكْرِهِ في حرف العين هكذا:

(عبد الله بن سبأ، ألْعَنُ مِنْ أنْ يُذْكَر). انظر رجال أبي علي وغيره(١) .

على أنَّه ليس من البعيد رأي القائل أنَّ:

- عبد الله بن سبأ.

- ومجنون بني عامر.

- وأبي هلال.

وأمثال هؤلاء الرجال أو الأبطال كلّها أحاديث خرافة، وضعها القصّاصون وأرباب السَّمر والمُجُون، فإنّ التَرَف والنَعِيْم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولَتَين الأمويّة والعبّاسيّة، وكلّما اتَّسَعَ العيش وتوفَّرتْ دواعي اللهو، اتَّسَع المجال للوضع، وراجَ سوق الخَيال، وجعل القصص والأمثال، كي تأنس بها ربّات الحِجَال، وأبناء الترف والنعمة المنغمرين في

____________________________

= وإلاّ فإنّ موقف الشيعة وعلمائها من هذا الأمر أوضح من أنْ يحتاج معه إلى بيان، فراجع ما شِئْتَ من كُتُبِهِم ترى حقيقة الأمر بِجَلاءٍ ووضوحٍ.

ولعلّ الأمر الواضح والجَلِي في سِرِّ صناعة هذه الأُسطورة يكمن في:

أمر موالاة الشيعة لعليٍّ (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار، امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله، وهذا ما أثار حفيظة الأمويِّين وحِقْدهم الأسود عليهم والذي لا يقف عند أي حَد، فاختلقوا ما زَيَّنَتْهُ لهم نفوسُهم المريضة، ووجدها أعداء الشيعة لُقْمَة سائغة فازدردوها، وطفقوا بجهل يتبجَّحون بها كالحَمْقَى والمغفَّلين، من دون أدنى مراجعة ودراسة.

وأنا أترك للقارئ الكريم مسألة الحكم حول هذا الموضوع، بعد دراسته المجرَّدة للوقائع التاريخيّة الممتدَّة خلال فترة ظهور هذا الرجل، أو ما كُتِبَ عنه من قِبَل الباحثين والدارسين المختلفين، وحتّى يُدْرِك بالتالي تفاهة وسقامة الربط الساذج بين عقيدة تمتدّ جذورها إلى اليوم الأوّل لقيام الدعوة الإسلاميّة، وبين رجل أبسط ما قيل في حقّه أنّه مشرك وكافر، فراجع.

(١) بلى، إنّ جميع مصادر الشيعة اتّفقتْ على لَعْنه وتكفيره، وأنّه غَالٍ، زعم أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) إله أو نبي مرسل من قبل الله على الأقل.

فراجع:

رجال أبو علي: ٣٠٢. رجال الكشّي ج٩: ٣٢٣. رجال الطوسي: ٥١/٧٦. نقد الرجال: ١٩٩/١٣١. الخلاصة (القسم الثاني): ٢٣٧/١٩. تنقيح المقال ج٢: ١٨٣ وغيرها.

١٨١

بُلَهْنية(١) العيش.

وأنَّ سمادير(٢) الأهازيج الَتي أصبح يتغنّى بها لنا عن القرآن والإسلام (الدكتور طه حسين) وزملاؤه، والدور الذي جاءوا يلعبون فيه للمسلمين بالحِرَاب والدُرَق، فهو أشبه أنْ يكون من أدوار تلك العصور الخالية، لا من أدوار هذه العصور التي تتطلّب تمحيص الحقائق بحصافة وأمانة، ورصانة ومتانة.

ومهما كان الأمر أو يكن، فكلّ ذلك ليس من صميم غرضنا في شيء، وما كان ذِكْره إلاّ من باب التوطئة والتمهيد للقصد، وإنَّما جُلّ الغرض:

أنَّه بعد توفّر تلك الأسباب والدواعي، والشؤون والشجون، والوقوف على تلك الطعنات الطائشة على الشيعة المتتابعة مِن كتَبَةِ العصر في مصر وغيرها، رأيْنا من الفرض علينا - الذي لا ندحة عنه - أنْ نكتب موجزاً من القول عن:

- معتقدات الشيعة.

- وأُصول مذهبها.

- وأُمَّهات مسائل فروعها التي عليها إجماع علمائها، والذي يصحّ أنْ يُقَال أنَّه مذهب الشيعة على إطلاقها.

أمّا ما عداه فهو رأي الفَرْد أو الأفراد منها، ومثله لا يصحّ أنْ يُعدّ مذهباً لها، ومعلوم أنَّ باب الاجتهاد لم يزل مفتوحاً عند الشيعة، ولكلٍّ رَأْيه ما لم يُخالف الإجماع أو نصّ الكتاب والسُنَّة أو ضرورة العقول، فإنْ خالف شيئاً من ذلك كان زائغاً

____________________________

(١) البُلَهْنية: السعة والرفاهيّة في العيش.

انظر: القاموس المحيط ج٤: ٢٠٣.

(٢) السمادير: ضعف البصر، وقيل:

هو الشيء الذي يتراءى للإنسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغَشْي النعاس والدِوَار.

قال الكُمَيْت:

وَلَما رايتُ المقرباتِ مُذالةً

وَأنكرتُ إلاّ بِالسًماديرِ ألها

لسان العرب ج٤: ٣٨٠.

١٨٢

عن الطريق، ومارِقاً عن تلك الطائفة، على أصول مقرَّرة، وقواعد محرَّرة، لا يتَّسع المقام لمجملاتها، فضلاً عن مفصَّلاتها.

وإنَّما المقصود هنا بيان ذات المسائل التي:

- يدور عليها محور التشيُّع.

- ويعتقده عوامُّ الشيعة وخواصّها.

- وعليها عملهم.

- ولا خلاف فيها بينهم.

من دون تعرّض للأدلّة والحُجَج، فإنّها موكولة إلى الكتب المطوَّلة، وهو خارج عن الغَرَض المهم من تعريف كافّة فِرَق المسلمين، وإفراد كلّ طائفة من علمائها وعوامِّها عن عقائد الشيعة؛

حتّى يعرفوا:

- أنَّهم مسلمون مثلهم.

- فلا يظلموا أنفسهم ويتورَّطوا في نسبة الأضاليل والأباطيل إلى إخوانهم في الدِّين.

- ولا يتمثّلوهم كالسعالى وأنياب الأغوال ورؤوس الشياطين، أو كوحوش صحارى أفريقيا وأَكَلَة لحوم البشر.

بل هم، بحمد الله:

- ممَّن تأدّب بآداب الإسلام.

- وتمسَّك بتعاليم القرآن.

- وأخذ بحظٍّ وافرٍ من الإيمان ومكارم الأخلاق.

- ولا يعتمدون إلاّ على الكتاب والسُنَّة وضرورة العقل.

فعسى:

- أنْ ينتبّه الغافِل.

- ويعلم الجاهِل.

- ويرتدع المهوّس الطائش عن غلوائه.

- ويكسر المتعصِّب عن سَوْرته، ويتقارب من إخوانه.

لعلّ الله يجمع شَمْلَهم، ويجعلهم يداً واحدةً على أعدائهم، وما ذلك على الله بعزيز.

ولابدَّ أولاً من بيان مبدأ التشيُّع، وأسباب نشوئه ونموّه، ثمّ بيان أصوله ومعتقداته.

١٨٣

إذاً، فالغرض يحصل في مقصَدَين:

[المقصد] الأوّل:

في أنَّ التشيُّع مِن أين نشأ ؟

ومتى تكوَّن؟

وَمَنْ هو غارِس بذرته الأُولى، وواضع حجره الأوّل؟

وكيف أفرعتْ دوحتُه حتّى سما واستطال، وأزهر وأثمر، واستدام واستمرّ، حتّى تديَّنت به جملة من أعاظم ملوك الإسلام، بل وجملة من خلفاء بني العبّاس:

كالمأمون، والناصر لدين الله، وكبار وزراء الدولة العبّاسية وغيرها؟

فنقول وبالله المستعان:

إنّ أوّل مَنْ وضع بذرة التشيُّع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلاميّة، يعني أنَّ بذرة التشيُّع وضعت مع بذرة الإسلام، جنباً إلى جنب، وسواء بسواء، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتّى نمتْ وأزهرتْ في حياته، ثمّ أثمرتْ بعد وفاته.

وشاهِدِي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة، لا مِن طُرُق الشيعة ورواة الإماميّة، حتّى يُقال:

إنَّهم ساقطون؛ لأنّهم يقولون (بالرجعة)، أو إنَّ راوِيْهِم (يَجُرّ إلى قُرْصِه).

بل:

- مِن نفس أحاديث علماء السُنَّة وأعلامهم.

- ومن طرقهم الوثيقة، التي لا يظنّ ذو مسكة فيها الكذب والوضع.

وأنا أذكر جملة ممّا عَلِقَ بذهني من المراجعات الغابِرة، والتي عثرتْ عليها عفواً من غير قصد ولا عناية.

فمنها:

ما رواه السيوطي في كتاب (الدرّ المَنْثور في تفسير كتاب الله بالمأثور) في تفسير قوله تعالى:(أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ)(١) .

قال: - أخرج ابن عساكر: عن جابر بن عبد الله قال: كنّا عند النبي (صلّى الله عليه وآله) فاقبل عليٌ (عليه السلام) فقال النبي:((وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّ

____________________________

(١)البيِّنة ٩٨ : الآية ٧.

١٨٤

هذا وَشِيْعَتَهُ لَهُمُ الفَائِزُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ)).

ونزلتْ:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) .

- وأخرج ابن عدي: عن ابن عبّاس قال: لَمّا نزلتْ:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال رسول الله [صلّى الله عليه وآله] لعليٍّ [عليه السلام]:

((هو أنْتَ وَشِيْعَتُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ رَاضِيْنَ مَرْضِيِّيْنَ)) .

- وأخرج ابن مَرْدَوَيْه: عن علي (عليه السلام) قال:

((قال لي رسول اللهّ (صلّى الله عليه وآله): أَلَمْ تَسْمَع قَوْلَ اللهِ:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) .

أَنْتََ وَشِيَْتُكَ، وَمَوْعِدِي وَمَوْعِدكُم الحَوْض، إِذَا جَاءَتْ الأُمَمُ لِلْحِسَابِ تُدْعَوْنَ غُرَّاً مُحَجَّلِيْنَ)) . انتهى حديث السيوطي(١) .

وروى بعض هذه الأحاديث ابنُ حَجَر في (صواعقه) عن الدارقطني، حدّثَ أيضاً عن أمِّ سَلَمَة أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) قال:

((يَا عَلِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ فِي الجَنَّةِ)) (٢) .

وفي (نهاية ابن الأثيم) ما نصّه في مادّة (قمح): وفي حديث علي (عليه السلام) قال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

((سَتَقْدِمُ عَلَى اللهِ أَنْتَ وَشِيْعَتُكَ رَاضِيْنَ مَرْضِيِّيْنَ، وَيَقْدِمُ عَلَيْه عَدُوُّكَ غِضَابَاً مُقْمِحِيْنَ)) ، ثمّ جمع يدَه إلى عنقه؛ ليريهم كيف الإقماح(٣) . انتهى.

وببالي أنَّ هذا الحديث أيضاً رواه ابن حجر في (صواعقه) وجماعةٌ

____________________________

(١) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ج٦: ٣٧٩.

(٢) الصواعق المحرقة: ٩٦.

(٣) النهاية ج٤: ١٠٦.

١٨٥

آخرون من طرق أُخرى، تدلّ على شُهْرَتِهِ عند أَرْباب الحديث(١) .

والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله [صلّى الله عليه وآله] أنَّه قال:

((يَا عَلِي، إذا كانَ يَوْم القِيَامَة أَخَذْتُ بِحُجْزَةِ الله تَعَالَى، وأخذتَ أنْتَ بِحُجْزَتِي، وَأَخَذَ وُلْدُكَ بِحُجْزَتِكَ، وأَخَذَ شِيْعَةُ ولْدِكَ بحجزتهم، فَتَرَى أَيْنَ يُؤْمَرُ بِنَا)) (٢) .

ولو أراد المتتبع [ لـ ] كتب الحديث، مثل:

- مسند الإمام أحمد بن حنبل.

- وخصائص النسائي، وأمثالهما، أنْ يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه.

وإذا كان نفس صاحب الشريعة الإسلاميّة (صلّى الله عليه وآله) يُكرِّر ذِكْر شيعة علي (عليه السلام) ويُنوِّه عنهم بأنَّهم:

- هُمُ الآمنون يوم القيامة.

- وهم الفائزون والراضون المرضيِّون.

ولا شكّ أنَّ كلَّ معتقد بنبوّته يصدِّقه فيما يقول، وأنَّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى(٣) ، فإذا لم يَصِرْ كلُّ أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) شيعةً لعلي (عليه السلام) فبالطبع والضرورة تَلْفِتُ تلك الكلماتُ نظرَ جماعةٍ منهم أنْ يكونوا ممَّنْ ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه، لا بضرب من التوسّع والتأويل.

نعم، وهكذا كان الأمر، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصّوا في حياة النبي (صلّى الله عليه وآله) بعلي (عليه السلام) ولازموه، وجعلوه إماما كمبلِّغٍ عن

____________________________

(١)راجع:

كتاب فضائل الخمسة من الصحاح السِتّة للسيِّد مرتضى الحسيني، وكتاب إحقاق الحق وإزهاق الباطل للسيِّد التُسْتَرِي، وغيرهما من المصادر المختصّة بإيراد هذه الأحاديث الواردة في كتب العامّة، حيث تجد الكثير الكثير من هذه الروايات وبطرقها المختلفة.

(٢) ربيع الأبرار ج١: ٨٠٨.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى في حقّ رسوله الكريم مُحَمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) في سورة النجم (٥٣: ٣ - ٤):

(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحَى).

١٨٦

الرسول، وشارح ومفسِّرٍ لتعاليمه، وأسرار حِكَمِه وأحكامه، وصاروا يُعْرَفُون بأنّهم شيعةُ عليٍّ (عليه السلام) كعَلَمٍ خاص بهم، كما نصًّ على ذلك أهل اللغة. راجع النهاية(١) ولسان العرب(٢) وغيرهما(٣) تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على:

أتباع علي (عليه السلام) وولده ومن يواليهم، حتّى صار اسماً خاصّاً بهم.

ومِن الغَنِي عن البيان أنّه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علي (عليه السلام) مَنْ يحبّه أو لا يبغضه - بحيث ينطبق على أكثر المسلمين، كما تخيَّله بعضُ القاصرين - لم يستقم التعبير بلفظ (شيعة)، فإنّ صَرْفَ محبّة شخصٍ لآخر أو عدم بُغْضِهِ لا يكفي في كونه شيعة له، بل لا بدَّ هناك من خصوصيّة زائدة، وهي الاقتداء والمتابعة له، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً، وهذا يعرفه كلُّ من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الألفاظ العربيّة، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.

والقصارى، إنِّي لا أحسب أنّ المُنْصِف يستطيع أنْ يُنْكِر ظهورَ تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصّة من المسلمين، ولهم نسبة خاصّة بعلي (عليه السلام) يمتازون بها عن سائر المسلمين الذين لم يكن فيهم ذلك اليوم مَنْ لا يُحِبُّ عليّاً، فضلاً عن وجود مَنْ يُبْغِضُهُ.

ولا أقول:

إنَّ الآخرين مِن الصحابة - وهم الأكثر الذين لم يتسمّوا بتلك السِمَة - قد خالفوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ولم يأخذوا بإرشاده، كلاّ ومعاذَ الله أنْ يُظنّ فيهم ذلك، وهم خِيْرَةُ مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ، ولكن

____________________________

(١) النهاية ج٢: ٥١٩.

(٢) لسان العرب ج٨: ١٨٩.

(٣) القاموس المحيط ج٣: ٤٧. أقرب الموارد ج١: ٦٢٧. مجمع البحرين ج٤: ٦ ٣٥. تاج العروس ج٥: ٤٠٥.

١٨٧

لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلّهم، ومَنْ سَمِعَ بعضَها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أَسْمَى مِنْ أَنْ تُحلِّق إلى أَوْج مقامهم بغاث الأوهام(١) .

____________________________

(١) بلى، إنّ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم من الفضل والدرجة العظيمة التي ليستْ بخافية على أحد، بل وكانوا ولازالوا موضع احترام وتقدير وتبجيل من قبل المسلمين، والشيعة في أوائلهم. ولاغَرْوَ في ذلك، فإنّ كتاب الله عزَّ وجل يحدّثنا في أكثر من موضع عن تلك المنزلة السامقة لأولئك المؤمنين المجاهدين الذين شادوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام صَرْحَ الإسلام، وأقاموا أركانه.

قال الله تعالى في أواخر سورة الفتح المباركة:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) .

وكذا ترى ذلك بوضوح عند مراجعتك لأقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) وذلك ما لا ندّعيه ولا نتقوّله... إلاّ إنّا لا نتّفق مع مَنْ يذهب إلى سَرَيَان هذا الأمر على جميع صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دون فحص وتمييز، وكذا يوافقنا في ذلك كلُّ عَاقِل مُنصِف مُدرِك للحقيقة.

فالقرآن الكريم، والسُنَّة النبويّة المطهّرة، والوقائع التاريخية الثابتة تؤكد صواب ما نذهب إليه، وبطلان ما ذهب إليه الآخرون، سواء كانوا من الذين أظْفَوا هذه الصِفَة على الجميع، أو مَنْ طعنوا في الجميع دون دليل أو حجّة أو بُرْهان سليم، وإنْ كانت الجماعة الأولى هي الأكثر، وهي صاحبة الرأي السائد عند إخواننا مِن أبناء العامّة، وهم يُشكّلون الطرف الأكثر والأوسع في عموم المسلمين، قِبَال الشيعة التي تُشكِّل الثقل الأكبر الثاني في المذاهب الإسلاميّة المختلفة.

وإذا كنّا لا نتّفق معهم في نسبة العدالة إلى جميع الصحابة دون استثناء، ودون مناقشة تُذْكَر في صِحَّة نسبة تلك العدالة إلى بعض الجماعات التي ثبت تاريخيّاً انحرافها عن مفهوم العدالة الإسلاميّة، فإنّ هذا لا يعني أبداً الاتّفاق مع الجماعة الأُخرى الذاهبة إلى الطعن في جميع الصحابة؛ لأنّه رأي تَافِهٌ وسقيم ولا يستحقّ النقاش.

ولذا فإنّ حديثنا سيكون مع الجماعة الأولى، والتي تلقي باللَوم على الشيعة؛ لاعتمادهم أُسلوب تقييم الصحابة وِفْقَ المنهج السماوي والمقياس الشرعي، الذي جاءتْ به الشريعة الإسلاميّة المتكامِلَة والواضحة، من دون تحزّب أعمى، أو تعصُّب مَقِيْت، وحيث تَعْضُدُنَا في ذلك المبادئ السليمة التي اعتمدْناها في هذا تَبَنِّي هذا المنهج السليم. فلنتوقّف قليلاً ولنتأمَّل فيما نقول.

أقول: ولنبتدئ أوّلاً بما تقدّم منّا مِن ذكر الآية المباركة السالفة والمُثْنِيَة على صحابة رسول =

١٨٨

____________________________

= الله (صلّى الله عليه وآله).

فهذه الآية القرآنية المباركة تحمل في طَيَّاتها الدليل الواضح على صِحّة هذا الاستثناء الذي نقول به، والمؤيِّدة له، حيث جاء في آخرها:(وَعَدَ اللهُ الَذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ مِنْهُم مَغفِرةً وَأجراً عَظيماً) .

فكلمة (منهم) المُبَعِّضة تدلّ بوضوح على التمييز بين فئتين أو طائفتين:

إحداهما: مؤمنة عاملة.

والأُخرى: لابدّ أنْ تكون مخالِفة لها.

بل وفي قوله تعالى في نفس السورة (الآية ١٠):(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) عَيْنُ الدلالة، وذاتُ المِعْيِار، وغيرها وغيرها.

ثمّ أوَليس قد تواتر في كتب القوم المعروفة بالصِحَاح وغيرها الكثيرُ مِن الأخبار الثابتة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الدالّة بوضوح على انحراف جماعة معلومة ومبجّلة من الصحابة معروفة بأعيانها، ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) المروي في:

- البخاري (ج٨: ١٤٨):

((أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنَّ رجالاً منكم ثمّ ليختلجنّ دوني، فأقول: ياربِّ أصحابي !

فيُقَال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).

- ومثله روى ذلك مسلم في صحيحه (ج٤: ١٧٩٦) وأحمد في مسنده (ج٣: ١٤٠و٢٨١ وج٥: ٤٨، ٥٠، ٣٨٨، ٤٠٠).

- وأما الحاكم النيسابوري فقد روى في مستدركه (ج٤: ٧٤):

((إنّي - أيّها الناس - فرطكم على الحوض، فإذا جئتُ قام رجل، فقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان. فأقول: قد عرفتُكم، ولكنّكم أحدثْتم بعدي ورجعْتم القهقرى)) .

بل إنّ ابن ماجة في سننه أضاف أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول في حقِّ أصحابه أولئك:

((سُحقاً سُحقاً)) .

ثمّ أَلَم يمرّ علينا حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أبي بكر - وهو من كبار الصحابة وأعيانهم - عندما قال (صلّى الله عليه وآله) عن شهداء أُحُد:

((هؤلاء أشهد عليهم)) .

فقال له أبو بكر: ألَسْنَا - يا رسول الله - بإخوانهم، أَسْلَمْنَا كما أَسْلَمُوا، وجاهدنا كما جاهدوا؟

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

((بلى، ولكن لا أدري ما تُحْدِثُونَ بَعْدِي)) .انظر: موطأ مالك ج٢: ٣٢٦١/٤.

فانظر وتأمّل في دلالة هذا الحديث، ومَنْ هو المخاطَب؛ لِتُدْرِك بوضوح أنْ لا أحد مُسْتَثْنَى من هذه الموازين الشرعيّة، فَمَنْ خالف أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتّبع =

١٨٩

____________________________

= هواه وهوى الشيطان فإنّ الشريعة الإسلاميّة هي التي تَنْبُذُه لا نحن، وتلك بديهيّة لا أعتقد أنَّها تحتاج إلى برهان.

فهل نأتي نحن المسلمين في آخر الزمان ضاربين عرض الحائط بأقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحقِّ هذه الطائفة مِمَّنْ أحدثوا وبدَّلوا وغَيّروا وانْحرفوا لنترحّم عليهم، ونبجِّلهم ونقدِّمهم، دون وعْي أو تدبُّر أو دليل؟! إنّ ذلك لا يقول به عاقل أبداً.

ثمّ أعود فأسال:

مَنْ كان أصحاب الإفك:

- الذين آذَوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

- واتّهموه في عرضه.

- والذين تَوَعَّدَهم الله تعالى بالعقاب الأليم والعذاب الشديد؟

هل كانوا إلاّ جماعة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أَمْ ماذا؟

بل ومَنْ أولئك الذين أرادوا الكيد برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقَتْله عند عودته من تَبُوْك؟

هل كانوا أيضاً إلاّ من صحابته (صلّى الله عليه وآله).

(راجع: مسند أحمدج٥: ٤٥٣. مغازي الواقدي ج٣: ١٠٤٢. دلائل النبوّة للبيهقي ج٥: ٢٥٦. وغيرها).

ثمّ ماذا يعني هذا التكرار الواضح في آيات القرآن الكريم المحذِّرة مِن كَيْد المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأَسَرُّوا الكفرَ والمعاداة، حتّى لقد بلغ عدد المرَّات التي وردتْ فيها كلمة المنافقين والمنافقات في القرآن الكريم (٣٢) مَرّة.

وأخيراً أعود فأسال العقلاء:

كيف تستسيغ العقول أنْ تضفي مسألة العدالة والنزاهة على جميع الصحابة دون استثناء أو تأمّل في سيرة ذلك الصحابي وعرض أفعاله على المقياس الشرعي الذي أقرَّتْه الشريعة الإسلاميّة الخالدة، لا لشيء إلاّ لأنّه رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو صَحْبِهِ، وكأنَّ في تلك الصُحْبَة تنزيهاً أو عصمة من الإدانة والمحاسبة، وجوازاً للفوز بالرضا الإلهي، مهما فعل هذا الصحابي وأسرف وخالف، رغم مخالفة ذلك التصوّر السقيم لأبْسَط المفاهيم الإسلاميّة المعروفة لدى جميع المسلمين؟!

إنّ ذلك والله لَمِنْ عجائب الأمور. كيف وأنَّ الله تبارك وتعالى قد هَدَّد زوجاتِ الرسول (صلى الله عليه وآله) - وَهُنَّ أقرب إليه (صلّى الله عليه وآله) وأَشَدّ تَمَاسَاً به من جميع الصحابة - بمضاعفة العذاب إذا ارْتَكَبْنَ مَا يُخالف الشريعة الإسلاميّة، دون نظر منه تبارك وتعالى إلى شِدَّة هذا التماس وهذا القُرْب، إذ قال جلّ اسمه في سورة الأحزاب (الآية ٣٠):

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)

فإذا كان الأمر وفق هذا المفهوم فإنّ مَنْ يُخالِفُ مِن الصحابة يجب أنْ يُضَاعَف عليه النكير؛ لأنّه أساء إلى شرف الصُحْبَة وكرامتها.

نعم، إنّ لدينا ألفُ دليل ودليل على صِحَّة ما نذهب إليه، ولا أُريد هنا استعراض جملة =

١٩٠

ثمّ إنَّ صاحب الشريعة لم يَزَل يتعاهد تلك البذرة، ويسقيها بالماء النمير العَذِب مِن كلماته وإشاراته، في أحاديث مشهورة عند أئمّة الحديث من علماء السُنَّة، فضلاً عن الشيعة، وأكثرها مرويٌّ في الصَحِيْحَيْن:

- مثل: قوله (صلّى الله عليه وآله):

((عليٌ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُوْنَ مِنْ مُوْسَى)) (١) .

- ومثل:

((لا يُحِبُّكَ إلاّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُكَ إلاّ مُنَاِفقٌ)) (٢) .

- وفي حديث الطائر:

((اللهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ)) (٣) .

____________________________

= معروفة مِمَّنْ يُسمَّون بالصحابة، هم والله أشدُّ ضرراً وكلباً على الإسلام وأهله من النصارى واليهود، فليس هذا المكان المحدود بمحلٍّ مُسْتَسَاغ لهذا المَبْحَث المُهِم، إلاّ أنِّي أعتقد بأنّ القول بعدالة جميع الصحابة، والذي كان أوّل مَن دعا إليه أهلُ الحديث. ثُمّ أصبح بعد ذلك عقيدةً ثابتةً من العقائد التي مُنِحَتْ على أساسها تلك الجماعات سَهْمَاً في التشريع الإسلامي.

- بل وأنْ تكون لهم سنن كسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

- بل وأنْ تكون آرائهم حُجّة على الناس إلى يوم القيامة.

كان مِنْ بِدَع: الفئات المنحرِفة عن أهل البيت (عليهم السلام). والمناصرة لفساد: معاوية بن أبي سفيان، وبسر بن أرطاة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن حديج، وغيرهم مِمَّنْ لا عُذْرَ لهم في كثير من أفعالهم الفاسدة، ولا يستطيع أحد تقديم العذر لهم فيها، إلاّ طريق نسبة العدالة إليهم، وكذا نسبة حقّ الاجتهاد لهم، حتّى ولو كان ذلك قِبالة النصّ، فعمدوا إلى ذلك، وتشبّثوا به، فصار هذا الخليط المَمْجُوج الهَجِيْن سُنّة سارتْ عليها الجماعات اللاحقة بهم دون أدنى وقْفة أو مراجعة لِمَدَى صواب ذلك المنهج الخاطئ والمردود.

(١)انظر:

صحيح البخاري ج٥: ٢٤. سنن ابن ماجة ج١: ٥٢/١١٤. صحيح مسلم ج٤: ٢٤٠٤. سنن الترمذي ج٥: ٦٣٨/٣٧٢٤ و٦٤٠/٣٧٣١. أُسد الغابةج٥: ٨. الرياض النضرة ج٣: ١١٧. تاريخ بغداد ج٤: ١٠٤. حلية الأولياء ج٧: ١٩٤. ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج١: ١٢٤.

(٢)انظر:

صحيح البخاري ج٥: ٨٦/١٣١. صحيح الترمذي ج٥: ٦٣٥/٣٧١٧. سنن ابن ماجة ج١: ٤٢/١١٤. تأريخ بغداد ج٢: ٢٥٥، وج٨: ٤١٧ ، وج١٤: ٤٢٦. حلية الأولياء ج٤: ١٨٥. الرياض النضرة ج٣: ١٨٩.

(٣)انظر:

سنن الترمذي ج٥: ٦٣٦/٣٧٢١. أُسد الغابة ج٤: ٣٠. مستدرك الحاكم ج٣: ١٣٠. الرياض النضرة ج٣: ١١٤. حلية الأولياء ج٦: ٣٣٩. ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من =

١٩١

- ومثل:

((لأعْطِيَنَّ الرَايَةَ غَدَاً رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ)) (١).

- ومثل:

((إنِّي تَارِكٌ فِيْكُمُ الثَقَلَيْن: كِتَاب الله، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي)) (٢) .

- و((عليٌّ مَعَ الحقِّ والحقُّ مَعَ عَلِي)) (٣) .

إلى كثير من أمثالها مِمَّا لَسْنَا في صَدَدِ إحصائه وإثبات أسانيده، وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الإماميّة، فقد ألَّف العالِمُ الحبر السيِّد حامد حسين اللكناهوري كتاباً أسماه (عبقات الأنوار) يزيد على عشرة مجلَّدات، كلُّ مجلَّد بقدر صحيح البخاري تقريباً، أثبت فيها أسانيد تلك الأحاديث من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها، وهذا واحد من أُلوف ممَّن سبقه ولَحِقَهُ.

ثمَّ لمّا ارتحل الرسول (صلّى الله عليه وآله) من هذه الدار إلى دار القرار، ورأى جمعٌ من الصحابة أنْ لا تكون الخلافة لعلي (عليه السلام):

- إمّا لصغر سِنِّهِ !!

- أو لأنَّ قريشاً كَرِهَتْ أنْ تجتمع النبوّة والخلافة لبني هاشم، زَعْماً منهم أنَّ النبوّة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا !! أو لأمور أُخرى لسنا بصدد البحث عنها، ولكنَّه باتفاق الفريقين امتنع أوَّلاً عن البيعة، بل في صحيح البخاري - في باب غزوة خيبر: أنّه لم يُبايع إلاّ بعد سِتَّة أشهر(٤).

____________________________

= تاريخ دمشق ج٢: ١٠٥ - ١٥١. تذكرة الخواص: ٤٤.

(١)انظر:

صحيح البخاري ج٤: ٦٥و٧٣. سنن الترمذي ج٥: ٦٣٨/٣٧٢٤. سنن ابن ماجة ٤٥:ج١/١٢١. مسند أحمد ج٤: ٥٢. سنن البيهقي ج٩: ١٣١. التاريخ الكبير للبخاري ج٧: ٢٦٣. المصنّف لعبد الرزاق ج٥: ٢٨٧/٩٦٣٧.

(٢)انظر:

سنن الترمذي ج٥: ٦٦٢/٣٧٨٦ و ٦٦٣/٣٧٨٨. مسند أحمد ج٣: ١٧ و ج٥: ١٨١. مستدرك الحاكم ج٣: ١٠٩ و ١٤٨. أُسد الغابة ج٢: ٢ ١.

(٣)انظر:

تاريخ بغداد ج١٤: ٣٢١. مستدرك الحاكم ج٣: ١٢٤. ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج٣: ١١٧/١١٥٩.(٤) صحيح البخاري ج٥: ١٧٧،وانظر كذلك: صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ج٥: ١٥٢.

١٩٢

وتبعه على ذلك جماعةٌ من عيون الصحابة،كـ:

- الزبير

- وعمّار

- والمقداد، وآخرين(١) .

ثمَّ لمّا رأى تخلُّفَه يوجب فَتْقَاً في الإسلام لا يُرتَق، وكَسْراً لا يُجبَر، وكلُّ أحد يعلم أنَّ علياً ما كان يطلب الخلافة رغبةً في الإمرة، ولا حِرْصاً على المُلك والغلبة والأَثَرة، وحديثه مع ابن عباس بذي قار مشهور(٢)، وإنّما يريد تقوية الإسلام، وتوسيع نطاقه، ومدّ رواقه، وإقامة الحقّ، وإماتة الباطل.

وحين رأى أنَّ المتخلّفين(٣) - أعني الخليفة الأوّل والثاني - بَذَلاَ أقصى الجهد في نشر:

- كلمة التوحيد.

- وتجهيز الجنود.

- وتوسيع الفتوح.

- ولم يستأثروا ولم يستبدّوا.

بايع وسالم، وأغضى عمّا يراه حقّاً له؛ محافظةً على الإسلام أنْ تتصدّع وحدتُه، وتتفرَّق كلمتُه، ويعود الناس إلى جاهليَّتهم الأولى.

____________________________

= الإمامة والسياسة ج١: ١١. مروج الذهب ج٢: ٣٠٢. تاريخ الطبري ج٣: ٢٠٨. الكامل في التاريخ ج٢: ٣٢٧. الصواعق المحرقة: ١٣.

(١) منهم: أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن عمرو، وعمّار بن ياسر، وفروة بن عمرو، وخالد بن سعيد بن العاص، وأُبي بن كعب، والبراء بن عازب، وقيس بن سعد بن عبادة، وخزيمة بن ثابت، وغيرهم.

راجع:

مروج الذهب ج٢: ٣٠١. العقد الفريد ج٤: ٢٥٩. تاريخ الطبري ج٣: ٢٠٨. الكامل في التاريخ ج٢: ٣٢٥. تاريخ اليعقوبي ج٢: ١٠٣. تاريخ أبي الفداء ج٢: ٦٣.

(٢) قال عبد الله بن عبّاس: دخلتُ علن أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نَعْلَه، فقال رحمه الله لي: ما قيمة هذه النَعْل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): ((والله لهي أحبّ إليَّ من إمْرَتِكُم إلاّ أنْ أُقيم حَقَّاً، أو أدفع باطلاً))....

انظر:

شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده ج١: ٣٢/٧٦.

(٣) صوابها (المختلف) لأنَّ الأمر بِرُمَّتِهِ كان في عهد أبي بكر، ومثل ذلك في المفردات اللاحقة، فلاحظ.

١٩٣

وبقي شيعتُه مُنْضَوِين تحت جَنَاحِه، ومستنيرين بِمِصْبَاحه(١) ، ولم

____________________________

(١) إنّ إدراك حقيقة الموقف الذي اتخذه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالتسليم الظاهري لواقع الحال الذي ترتَّب عليه وضع الدولة الإسلاميّة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لا يتأتّى إلاّ مِن خلال التأمّل الدقيق لمفردات الواقع الذي عايشتْه تلك الدولةُ الفَتِيّة والغضّة أبّان تلك الفترة الحسّاسة والدقيقة من حياتها ووجودها المقدّس.

أقول:

إنَّ من الثابت الذي سجّله معظم المؤرّخين لتلك الحقبة الغابرة من التاريخ الإسلامي:

- أنّ أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة حاولوا قسراً وتهديداً إجبار الإمام علي (عليه السلام) على البيعة لأبي بكر أوَّل الأمر.

- والتنازل عن موقفه المُبْتَنِي على حقِّه الشرعي في خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

- حتّى بلغ الأمر بهم إلى التهديد الصريح بإحراق بيته (عليه السلام).

وحيث كانت فيه بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وثُلّة من الصحابة الذين أعلنوا رفضهم لما ترتّب عليه الأمر في سقيفة بني ساعدة أثناء غَيبة أهل البيت (عليهم السلام) وانشغالهم بأمر تغسيل وتكفين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بالشكل الذي ينبغي أنْ يكون عليه، لِمَا يمثّله من الوداع الأخير لنبيِّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله)...

وإلى حقيقة هذه المحاولة الخطيرة التي لجأ إليها هؤلاء الصحابة أشارتْ بوضوح الكثير الكثير من المصادر والمراجع التاريخيّة المختلفة المثبّتة لوقائع الأيّام الأولى لِمَا بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

راجع:

تاريخ الطبري، الإمامة والسياسة لابن قتيبهّ، أنساب الأشراف للبلاذري، تاريخ ابن شحنة، تاريخ أبي الفداء، شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي، كتاب المِلَل والنحل للشهرستاني، مروج الذهب، العقد الفريد، كتاب أعلام النساء لابن طيفور، وغيرها.

وتحضرني اللحظة جملة أبيات شعريّة قرأتُها للشاعر حافظ إبراهيم، تشير بوضوح إلى هذا الأمر، يقول فيها:

وقَولَةٍ لِعَليٍ قالها عُمَرُ

أكْرِمْ بِسامِعِها أعْظِمْ بِمُلْقِيها

حَرقْتُ داركً لا اُبقي عَليكَ بِها

إنْ لَم تُبايع ، وَبنتُ المُصطفى فيها!!

ماكانَ غيرُ أبي حَفصٍ بِقاثِلِها

أمامَ فارِسِ عَدنانٍ وَحامِيها!!!.

بَيْدَ أنّ هذه المحاولة الرهيبة - والتي تشكًل سابقة خطيرة في التاريخ الإسلامي، وغيرها من المحاولات السقيمة - لم تكن لتؤدِّي بالنتيجة المرجوّة من قِبَل الحكومة الإسلاميّة آنذاك لولا الحسّ العميق، والإدراك الدقيق لجملة النتائج المترتِّبة على الوقوف المُعَارِض المُعْلَن أمام ذلك الطرف المستهجَن في مسيرة الدولة الإسلاميّة - وما سيتلاقى به مع واقع الحال =

١٩٤

____________________________

= الذي يحيط بالدولة الفتيّة من كلّ جانب - لدى الإمام علي (عليه السلام)، وإلى ذلك تشير خطبه وكلماته المليئة بالشكوى والتظلّم.

نعم، لقد كانت المدينة المنوَّرة وما يحيط بها حلقة حسّاسة وخطيرة لقربها من مركز الدولة الإسلاميّة وعاصمتها، في حين كان يَعْتَاش بين جدرانها والى جوارها مَنْ يريد الكيد بها، والانقضاض عليها، ومِن هؤلاء:

أوّلاً:

المنافقون الذين كانوا يُشَكِّلون شريحة لا يُسْتَهَان بها، بل وكان خطرهم أكبر وأعظم من أنْ يُغضّ الطرفُ عنه.

قال تعالى في سورة التوبة الآية ١٠١:(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) .

ثانياً:

اليهود، وهم أشدّ الناس عداوةً للإسلام وأهله.

ثالثاً:

الدول والامبراطوريّات التي كانت ترى في الإسلام خطراً أكيداً عليها، كالرومان والأكاسرة والقياصرة.

رابعاً:

المراكز المنحرِفة والفاسدة التي حاولتْ عبثاً أنْ تجد لها مَوْطِأ قَدَمٍ في أرض الواقع، يُضاف إليها مدّعي النبوّة مِمَّن وجدوا أعداداً لا يُسْتَهَان بها من الحَمْقَى والمغفَّلين يؤيِّدونهم في تُرَّهَاتِهِم ومفاسدهم أمثال:

مسيلمة الكذاب

وطليحة بن خويلد

وسجاج بنت الحرث.

وغير ذلك من الأسباب الأُخرى، والتي أدرك الإمام علي (عليه السلام) مَدَى خطرها على الدولة الإسلاميّة المباركة، التي كان لجهاده وسيفه الفضل الأكبر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في إقامتها وتثبيتها.

وإليك أخي القارئ الكريم شيئاً من كلماته (عليه السلام) الموضِّحة لواقع الحال الذي عايشه (عليه السلام)، والذي دفعه لِغَضِّ النظر عن حقِّه الشرعي، ومكانه الحقيقي:

- قال (عليه السلام) فيما يعرف بالخطبة الشقشقيّة:

((أَمَا والله لقد تَقَمَّصَهَا فلان [وفي بعض المصادر: ابن أبي قُحَافَة، ولا خلاف في ذلك، فإنّ الحديث لواضح، والتلميح يُغْنِي عن التصريح هنا] وإنّه لَيَعْلَم أنّ مَحَلِّيَ منها مَحَلُّ القُطْبِ مِن الرَحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَيْل، ولا يَرْقَى إليَّ الطَيْر، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْبَاً، وَطَوَيْتُ عَنْها كشْحاً، وطفقتُ أَرْتَئِي بين أنْ أَصُولَ بِيَدٍ جذاء، أو أَصْبِرُ على طخية عَمْيَاء، يَهْرَمُ فيها الكَبِيْرُ، ويَشِيْبُ فيها الصَغِيرُ، وَيَكْدَحُ فيها مُؤْمِنٌ حتّى يلْقَى به، فرأيْتُ أنّ الصَبْرَ على هاتا أَحْجَى. فَصَبَرْتُ وفي العَيْنِ قَذَى، وفِي الحَلْقِ شَجَاً، أَرَى تُرَاثِي نَهباً))..... =

١٩٥

يكن للشِّيعة والتشيُّع يومئذٍ مجال للظهور؛ لأنَّ الإسلام كان يجري على مناهِجِهِ القويمة، حتّى إذا تميَّز الحقُّ من الباطل، وتبيَّن الرشدُ من الغيِّ، وامتنع معاويةُ عن البيعة لعليٍّ (عليه السلام) وحارَبَهُ في (صِفِّين) انضم بقيّة الصحابة إلى عليّ (عليه السلام) حتّى قُتل أكثرهم تحت رايته(١) ، وكان معه من عظماء أصحاب النبي ثمانون رجلاً، كلّهم بدريٌّ عقبيٌّ، كـ:

عمَّار بن ياسر

وخزيمة ذي الشَّهادتين

وأبي أيوب الأنصاري، ونظرائهم.

ثمَّ لَمّا قُتل عليٌّ (عليه السلام) واستتبّ الأمرُ لمعاوية، وانقضى دور

____________________________

=- وفي إحدى خطبه (عليه السلام) يقول:((.... فَنَظَرْتُ فإذا ليس لِي مُعِينٌ إلاّ أَهْل بَيْتِي، فَظَنَنْتُ بهم على الموت، وأَغْضَيْتُ على القَذَى، وشَرِبْتُ على الشَجَى، وصَبَرْتُ على أَخْذِ الكظم، وعلى أَمَرِّ مِن طَعْمِ العَلْقَم)) .

- وفى كتابه (عليه السلام) إلى أهل مصر يقول:((... فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان لِيُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدي حتّى رأيتُ رَاجِعَةَ الناس قد رَجعتْ عن الإسلام، يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دين محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فخشيتُ إنْ لَمْ أَنْصُر الإسلامَ وأهلَه أنْ أرى فيه ثَلْمَاً أو هَدْمَاً، تكونُ المصيبة به عَلَيَّ أَعْظَم مِن فَوْتِ وَلاَيَتِكُم)) .

- وقوله (عليه السلام) عند فِتْنَةِ الجَمَل:((فو الله ما زِلْتُ مَدْفُوعَاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثِرَاً عليَّ مُنْذُ قَبَضَ اللهُ تعالى نَبِيَّه (صلّى الله عليه وآله) حتّى يوم الناس هذا)) .

- ويروي هو (عليه السلام) حديثاً له مع بعض الصحابة: ((وقد قال قائلٌ: إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لَحَرِيْص! فقلتُ: بل أنتم والله أحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنَّما طلبتُ حقَّاً لي وأنتم تَحُوْلُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُوْنَهُ. فلمّا قَرَعْتُهُ بالحجّة في الملأ الحاضرين هَبَّ كأنّه بُهِتَ لا يدري ما يُجِيْبُنِي بِهِ)).

- وأخيراً إليك أخي القارئ الكريم دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) وتظلمه مِمّا وَقَعَ عليه من قِبَلِ قريش، فتأمَّل فيه بِرَويّة وإمعان:((اللهم إنِّي أَسْتَعْدِيْكَ على قُرَيْشٍ، ومَنْ أَعَانَهُم، فإنَّهم قَطَعُوا رَحِمِي، وصغّروا عظيم مَنْزِلَتِي، وأَجْمَعُوا على مُنَازَعَتِي أَمْرَاً هو لِي)) .

(١) منهم: عمّار بن ياسر، خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، أبو عمرة الأنصاري، ثابت بن عبيد الأنصاري، عبد الله بن بديل الخزاعي، أبو الهيثم مالك بن التيهان، هاشم المرقال، عبد الرحمن بن بديل الخزاعي، جندب بن زهير الأزدي، سعد بن الحارث الأنصاري.

١٩٦

الخلفاء الراشدين، سار معاوية بسيرة الجبابرة في المسلمين، واستبدّ واستأثر عليهم، وفعل في شريعة الإسلام ما لا مجال لتعداده في هذا المقام، ولكن باتفاق المسلمين سار بضدِّ سيرة مَنْ تقدَّمه من الخلفاء، وتغلّب على الأُمَّة قهراً عليها، وكانت أحوالُ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأطواره في جميع شؤونه جاريةً على:

- نواميس الزهد والوَرَع.

- وخشونة العيش.

- وعدم المخادعة والمداهنة في شيء من أقواله وأفعاله.

وأطوار معاوية كلّها على الضد من ذلك تماماً.

وقضية إعطائه مصر لابن العاص على الغَدْرِ والخيانة مشهورة(١) ، وقهر

____________________________

(١) روتْ المصادرُ التاريخيّة المختلفة:

أنّ معاوية بن هِنْد لَمّا عزم على الخروج على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أرسل إلى عمرو بن العاص طالِباً منه القدوم إليه من مصر، فشدّ إليه الرِحَال حتّى قَدِمَ عليه في الشام، فتذاكرا أَمْرَ الخروج على عليّ (عليه السلام) وقتاله، فترادّا في القول حتّى قال معاوية له: ولكنّا نُقَاِتُلُه على ما في أيدينا، ونُلْزِمُهُ قتل عثمان.

فقال عمرو: وا سَوْأَتَاه، إنّ أحقَّ الناس ألاّ يَذْكُر عثمان لا أنا ولا أنت !!

فقال معاوية: ولِمَ ويحك؟

فقال: أمّا أنت فخذلْتَه - ومعك أهل الشام - حتّى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، وأمّا أنا فتركْتُهُ عَيَانَاً وهربْتُ إلى فلسطين!!

فقال معاوية: دَعْنِي مِن هذا، مُدَّ يَدَكَ فَبَايِعْنِي.

قال: لا لَعَمْر الله، لا أُعطيك ديني حتّى آخذ مِن دنياك !!

فقال معاوية بن هند: لك مصر طعمة.

وهكذا اتفق الفريقان حيث تَمّ لمعاوية ما أراد مِن شراء دين ابن العاص قِبَال ثمن زهيد ومَتَاع قليل، لم يلبث أنْ خلَّفه مِن وراءه ليقف أمام محكمة السماء مثقلاً بذنوبه ومعاصيه، حتّى قيل أنّه تذكّر ذلك على فراش الموت - على ما ترويه كتب التأريخ - فقال:

ياليتني متُّ قبل هذا اليوم بثلاثين سَنَة، أصلحْتُ لمعاوية دُنْيَاه وأفسدتُ ديني، أثرتُ دنياي وتركتُ آخرتي، عُمِّي عليّ رُشْدِي حتّى حضرني أَجَلِي.

انظر:

وقعة صِفِّين: ٣٤. تأريخ اليعقوبي ج٢: ١٨٤. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ٢/٦١. سير أعلام النبلاء ج٣: ٧٢. مختصر تأريخ دمشق ج١٩: ٢٤٤. العقد الفريد ج٤: ٩٧ و ج٥: ٩٢. عيون الأخبار ج١: ٤٣٨.

١٩٧

الأُمّة على بَيْعَة يزيد(١) ، واستلحاق زياد أشهر(٢) ، وتَوَسُّعُهُ بالموائد وألوان المطاعم الأنيقة معلومٌ، وكلُّ ذلك من أموال الأُمَّة، وَفَيء المسلمين الذي كان يصرفه

____________________________

(١) وتلك والله وحدها مُوبِقَة عظيمة كفيلة بإيراد معاوية في أسفل درك الجحيم، حيث:

- ملّك رقاب الأُمّة رجلاً تَجمَّعتْ فيه كلُّ صفات الرذيلة والانحطاط بشكل جَلِي.

- بل وكان من أوضح الناس عداءً لله ولرسوله، وبغضاً لأهل بيت النبوّة (عليهم السلام).

حتّى فعل ما فعل إبّان حكمه القصير من الفجائع والنكبات ما تَرْتَعِش مِن هَوْلِها السموات والأرضين، كان أعظمها:

- قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وريحانته، وسيِّد شباب أهل الجنّة، الإمام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) مع إخوانه وأهل بيته وأصحابه.

- بل وسَبْي عياله والطواف بهم في البلدان بشكل تتفطَّر له القلوب، وتتصدّع له الجبال....

فما فعل معاوية بهذه الأُمّة وما جنى عليها؟

بل وبِمَنْ تتعلّق هذه الجناية العظيمة، والرزيّة المَهُولَة؟

ثمّ هل ينجو معاوية من واقعة الحَرَّة؟ التي: فَجَعَ فيها وَلَدُهُ اللعين مدينةَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله). واستباح فيها الأموال والدماء والأعراض. وغير ذلك مِمّا لا تحتمله القلوب ولا تُصَدِّقه العقول. بل ووضع سيفَه في رِقاب المسلمين حتّى قتل يومئذ من المهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين أكثر مِن عشرة آلاف رجل كما تَذكر ذلك الكثيرُ من المراجع والمصادر المختلفة، حتّى لقد قيل بأنّه لم يبقَ في المدينة بَدْرِيٌّ بعدها. ناهيك عَمَّنْ قُتل من النساء أيضا والصبيان. بل وروي أيضاً بأنّ جُنْدَهُ وأَزْلامه افتضُّوا في هذه الواقعة ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار. وأمروا المسلمين بالبيعة لأميرهم اللعين يزيد على أنّهم عبيد وخول، إنْ شاء استرق وإنْ شاء أعتق !!.

نعم، هذه وغيرها من الموبقات العظيمة التي لا عَدَّ لها ولا حَصْر، والتي لا تصدر إلاّ عن كافر، خبيث السريرة، نتن الطويّة، لعين المَرْتَع.

وأخيراً أقول:

ماذا فعل معاوية بهذه الأُمّة، وأنّى له التنصُّل مِن تَبِعَات هذه الأفعال الثِقَال التي لحقتْ بأفعاله هو، والتي لا تقلُّ عنها فساداً ولا انحرافاً.

(٢) نعم، ألْحَقَهُ بدعوى أنّ أبا سفيان زنى بسميّة - وكانت من ذوات الرايات - وهي على فراش عبيد، فحملتْ بزياد، وذلك بشهادة أبي مريم المتاجر بالخمور والقيادة، فهنيئاً للأُمّة الإسلاميّة بكذا زعماء لا يزال البعض يَكِنُّون لهم الاحترام والتقدير والتقديس، بعد أنْ حرَّفوا الدين، وضيَّعوا حدودَه، وأباحوا حُرُمَاتِهِ، وسفكوا دماءَ أَهْلِهِ، وما تركوا شيئاً منكراً إلاّ وفعلوه.

انظر:

تاريخ الطبري ج٥: ٢١٤. الكامل في التأريخ ج٣: ٤٤١. مروج الذهب ج٣: ١٩٣. العقد الفريد ج٥: ٢٦٧ و ج٦: ١٤٤. سير أعلام النبلاء ج٣: ٤٩٥. الإصابة ج٣: ٤٣.

١٩٨

الخليفتان(١) في الكراع والسلاح والجند.

ويحدِّثنا الوزير أبو سعيد منصور بن الحسين اللآبي المتوفَّى سنة (٤٢٢) في كتابه (نثر الدرر) ما نصّه:

قال أحنف بن قيس: دخلتُ على معاوية فقدَّم لي من الحار والبارد، والحلو والحامض، ما كثر تعجّبي منه، ثُمّ قدَّم لوناً لم أعرف ما هو، فقلتُ: ما هذا؟

فقال: هذا مصارين البَط محشوَّة بالمخ، قد قُلِيَ بدهن الفستق، وذُرَّ عليه بالطبرزد.

فبكيتُ، فقال: ما يُبكيك؟

قلت: ذكرتُ عليّاً، بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره - وسألني المقام - فَجِيءَ له بِجِرَاب مختوم، قلتُ: ما في الجراب؟

قال: سُوَيْق شعير.

قلتُ: خِفْتَ عليه أنْ يُؤخذ أو بَخِلْتَ به؟

قال: لا ولا أحدهما، ولكن خفتُ أنْ يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت.

فقلتُ: محرَّم هو يا أمير المؤمنين؟

فقال: لا، ولكن يجب على أئمّة الحقِّ أنْ يعتدُّوا أنفسهم من ضعفة الناس لِئَلاّ يطغيَ الفقيرَ فقرُهُ.

فقال معاوية: ذكرتَ مَنْ لا يُنْكَر فَضْلُه(٢) .

____________________________

(١) لعلّه رحمه الله تعالى يقصد بهما أبا بكر وعمر، ولكنْ لم أدرك وجه تخصيصهما بذلك، فتأمّل.

(٢) نثر الدر ج١: ٣٠٥.

١٩٩

وتجد في (ربيع الأبرار) للزمخشري ونظائره لهذه النادرة نظائرٌ كثيرة(١) .

هذا كلّه والناس قريبو عهد بالنبي والخلفاء، وما كانوا عليه مِن التجافي عن زخارف الدنيا وشهواتها، ثُمّ انتهى الأمرُ به إلى أنْ دسَّ السّم إلى الحسن (عليه السلام) فقتله(٢) ، بعد أنْ نقض كلَّ عهدٍ وشرط عاهد الله عليه له(٣) ، ثُمّ أخذ البيعة لولده يزيد قهراً، وحاله معلوم عند الأُمَّة يومئذٍ أكثر ممَّا هو معلوم عندنا

____________________________

(١)انظر: ربيع الأبرار ج١: ٩٠، ٩٢، ٨٠٧، ٨٣٥ و ج٢: ٦٩٣، ٧٢٠ وج٣: ٧٧، ٨٠ و ج٤: ٢٣٩و٢٤٢.

(٢) مقاتل الطالبيِّين: ٧٣. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج١٦: ٤٩. الاستيعاب بهامش الإصابة ج١: ٣٧٥. مروج الذهب ج٣: ١٨٢/١٧٦٠.

(٣) قد يكتفي البعض بمقولة معاوية بن هند في مسجد الكوفة مِن أنّ كلَّ العهود والمواثيق - التي أبرمها وتعهّد للإمام الحسن (عليه السلام) بالوفاء بها، وأشهد على نفسه في ذلك الشهود - تحت قدميه لا يفي منها بشيء، إلاّ أنّ استقراء سيرة معاوية وأفعاله بعد ذلك الصلح خيرُ شاهدٍ على هذا النقض والتنصّل عَمّا عاهد الله تعالى عليه لأنْ يفي به.

بلى، فقد عاهد الإمام الحسن (عليه السلام) بأنْ تكون الخلافة له بعد موته، وإذا توفي الإمام الحسن (عليه السلام) قبله فإنَ الخلافة تكون للإمام الحسين (عليه السلام) بعد هلاك معاوية، بَيْدَ أنَّه (أي معاوية) جهد على استحصال البيعة لولده يزيد الفاجِر بِشَتَّى الوسائل والذرائع بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) حين كان قد تحايل في التمهيد لإذاعة هذا الأمر في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) على ما تذكره المراجع المختلفة.

ثُمّ إنّ معاوية تعهّد للإمام الحسن (عليه السلام) بالكفّ عن مطاردة شيعته وحقن دمائهم، لكنّه لم يترك وجهاً من أصحاب الإمام (عليه السلام) وشيعته إلاّ ونَكَّلَ به أو قتله.

بل ونقض ما تعهّد به مِن رَفْع السُنَّة السَيِّئَة التي ابتدعها بسبِّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر، ولكنّه هلك وهلك الذين بعده وهم على هذه الفعلة النكرة دائمون، حتّى نهى عنها عمر بن عبد العزيز مِنْ بَعْد.

وأخيراً فقد تعهّد بأنْ يحكم بما في القرآن وما جاء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولكنّه... وكما قيل شَتّان بين مشرق ومغرب.

راجع ما شِئْتَ مِن كُتُبِ التأريخ التي تحدَّثتْ عن هذه الواقعة، واحكم بما يُمْلِيْهِ عليك دينُك وعقلُك.

٢٠٠