أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها0%

أصل الشيعة وأصولها مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

أصل الشيعة وأصولها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
تصنيف: الصفحات: 442
المشاهدات: 76019
تحميل: 8180

توضيحات:

أصل الشيعة وأصولها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76019 / تحميل: 8180
الحجم الحجم الحجم
أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمامة:

قد أَنْبَأْنَاكَ أنّ هذا هو الأصل الذي امتازتْ به الإماميّة وافترقتْ عن سائر فِرَق المسلمين، وهو فَرْقٌ جوهري أصلي، وما عداه من الفروق فرعيّة عَرَضِيّة، كالفروق التي تقع بين أئمّة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما.

وعرفتَ أنّ مرادهم بالإمامة:

كونها منصِباً إلهيّاً يختاره الله بسابق علمه بعباده، كما يختار النبيَّ، ويأمر النبيَّ بأنْ يُدِلَّ الأُمّة عليه، ويأمرهم باتِّباعه.

ويعتقدون:

- أنّ الله سبحانه أمر نبيّه بأنْ ينصّ على عليٍّ (عليه السلام).

- ويُنَصِّبَهُ عَلَمَاً للناس من بعده.

وكان النبي يعلم أنّ ذلك سوف يَثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبّة لابن عمّه وصُهْرِه، ومِن المعلوم أنّ الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم، ليسوا في مستوى واحد مِن الإيمان واليقين بنزاهة النبيّ وعصمته عن الهوى والغرض، ولكنّ الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى إليه:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (١) .

فلم يجد بُدَّاً مِن الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب الناس عند مُنْصَرَفِهِ مِن حِجّة الوداع في غدير خم، فنادى وجُلَّهم يسمعون:

((أَلَسْتُ أَوْلَى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِم))؟

فقالوا: اللهمّ نعم.

فقال:

((مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاَهُ))... إلى آخر ما قال (٢) .

____________________

(١) المائدة ٥: ٦٧.

(٢) روتْ معظمُ المصادر الحديثيّة وغيرها واقعةَ الغدير، ونَصّ الرسولُ (صلّى الله عليه وآله) فيها بالولاية لعلي (عليه السلام)، بأسانيد متعدِّدة يصعب حَصْرها هنا،

ولكن راجع:

سنن ابن ماجة ج١: ٤٣/١١٦ و٤٥/١٢١. سنن الترمذي ج٥: ٣٧٦٣/٦٣٣. خصائص =

٢٢١

ثُمّ أكّد ذلك في مواطن أُخرى تلويحاً وتصريحاً، إشارةً ونصّاً، حتّى أدّى الوظيفة، وبلغ عند الله المعذرة.

ولكنّ كبار المسلمين بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) تأوَّلوا تلك النصوص، نظراً منهم لصالح الإسلام - حسب اجتهادهم - فقدّموا وأخّروا، وقالوا: الأمرُ يَحْدُث بعده الأمر.

وامتنع عليٌّ وجماعةٌ من عظماء الصحابة عن البيعة أوّلاً، ثُمّ رأى [أنّ] امتناعه من الموافقة والمسالمة ضَرَرٌ كبير على الإسلام، بل ربّما يَنْهار عن أساسه، وهو بَعْدُ في أوّل نشوئه وترعرعه، وأنت تعلم أنّ للإسلام عند أمير المؤمنين (عليه السلام) من العِزَّة والكرامة، والحرص عليه والغيرة، بالمقام الذي يُضَحِّي له بنفسه وأنفس ما لديه، وكم قذف بنفسه في لهوات المنايا تضحية للإسلام.

وَزِدْ على ذلك أنّه رأى الرجل الذي تخلّف على المسلمين قد نَصَحَ للإسلام، وصار يبذل جهدَه في قوَّته وإعزازه، وبَسْط رايته على البسيطة، وهذا أقصى ما يتوخّاه أميرُ المؤمنين من الخلافة والإمرة، فَمِنْ ذلك كلّه تابع وبايع(١) ، حيث رأى أنّ بذلك مصلحة الإسلام، وهو على منصبه الإلهي من الإمامة، وإنّ سَلَّمَ لغيره التصرّف والرئاسة العامّة، فإنّ ذلك المقام مِمَّا يمتنع التنازل عنه بحالٍ من الأحوال.

أمّا حين انتهى الأمر إلى معاوية، وعَلِمَ أنّ موافقته ومسالمته وإبقائه والياً

____________________________

= الإمام علي (عليه السلام) للنسائي: ٧٩/٩٦ و ٨٣/٩٩. مسند أحمد ج١: ٨٤، ٨٨ و ج٤: ٣٦٨، ٣٧٢ وج٥: ٣٦٦،٤١٩. تاريخ بغداد ج٧: ٣٧٧ و ج٨: ٢٩٠ و ج١٢: ٣٤٣. أُسْد الغابة ج٢: ٢٣٣ و ج٣: ٩٣. الإصابة ج١: ٣٠٤. مستدرك الحاكم ج٣: ١٠٩، ١١٠، ١١٦. كفاية الطالب: ٦٤. ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج٢: ٥/٥٠١ - ٥٣١. الرياض النضرة ج٢: ١٧٥. المناقب للمغازلي: ١٦ - ٢٦. مصنَّف ابن أبي شيبة ج١٢: ٥٩/ ١٢١٢١. وغيرها كثير.

(١) تقدّم منّا الحديث عن ذلك، فراجع.

٢٢٢

- فضلاً عن الإمْرة - ضرر كبير، وفَتْقٌ واسعٌ على الإسلام - لا يمكن بعد ذلك رَتْقُه - لم يجد بُدّاً مِن حَرْبه ومنابذته.

والخلاصة أنّ الإماميّة يقولون:

- نحن شيعة علي وتابِعُوه.

- نُسَالِم مَنْ سالمه.

- ونُحارِب مَنْ حاربه.

- ونُعادِي مَنْ عاداه.

- ونُوالِي مَنْ والاه.

إجابةً وامتثالاً لدعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

((اللهمّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ)) .

وحبّنا وموالاتنا لعليٍّ (عليه السلام) وَوُلْدِهِ إنّما هي محبّة وموالاة للنبي (صلّى الله عليه وآله) وإطاعة له.

تَاللهِ مَا جَهِلَ الأَقْوَامُ مَوْضِعَهَا لَكِنَّهُمْ سَتَرُوا وَجْهَ الذِي عَلِمُوا

وهذا كلّه أيضاً خارج عن القصد، فَلْنَعُدْ إلى ما كُنَّا فيه مِن إتمام حديث الإماميّة، فنقول:

إنّ الإماميّة تعتقد أنّ الله سبحانه لا يُخْلِي الأرض مِن حجّة على العباد، مِن نبيٍّ أو وصيٍّ، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، وقد نصّ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) وأوصى إلى عليٍّ، وأوصى عليٌّ وَلده الحسن، وأوصى الحسنُ أخاه الحسين، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (عليهم السلام)، وهذه سنّة الله سبحانه في جميع الأنبياء، مِن آدمهم إلى خاتمهم.

وقد أَلّفَ جَمٌّ غفير من أعاظم علماء الدين مؤلَّفاتٍ عديدةٍ في إثبات الوصيّة.

وها أنا أُورِد لك أسماء المؤلّفين في الوصيّة، من القرون الأولى والصدر الأوّل قبل القرن الرابع:

(كتاب الوصيّة) لهشام بن الحكم المشهور.

(الوصيّة) للحسين بن سعيد.

(الوصيّة) للحكم بن مسكين.

٢٢٣

(الوصيّة) لعلي بن المغيرة.

(الوصيّة) لعلي بن الحسين بن الفضل.

(كتاب الوصيّة) لمحمّد بن علي بن الفضل.

(كتاب الوصيّة) لإبراهيم بن محمّد بن سعيد بن هلال.

(الوصيّة) لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي، صاحب المحاسن.

(الوصيّة) للمؤرِّخ الجليل عبد العزيز بن يحيى الجلودي.

وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأوّل والثاني، أمّا أهل القرن الثالث فهم جماعة كثيرة أيضاً:

(الوصيّة) لعلي بن رئاب.

(الوصيّة) لعيسى(١) بن المستفاد.

(الوصيّة) لمحمّد بن أحمد الصابوني.

(الوصيّة) لمحمّد بن الحسن بن فروخ.

(كتاب الوصيّة والإمامة) للمؤرّخ الثبت الجليل علي بن الحسين المسعودي، صاحب مروج الذهب.

(الوصيّة) لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي.

(الوصيّة) لمحمّد بن علي الشلمغاني المشهور.

(الوصيّة) لموسى بن الحسن بن عامر.

أمّا ما أُلِّفَ بعد القرن الرابع فشيء لا يُسْتَطَاع حصره.

وذكر المسعودي في كتابه المعروف بـ (إثبات الوصيّة) لكلِّ نبي اثني

____________________________

(١) الطبعات متضاربة في ذلك، ففي نسختَي النجف وإيران: يحيى، وفي نسخة بيروت: محمّد، وجميعها مصحَّف، والصواب: عيسى كما أثبتناه. وهو:

أبو موسى البجلي الضرير، روى عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، ذكره النجاشي في رجاله (٢٩٧/٨٠٩) وقال: له كتاب الوصيّة، وكذا الطهراني في الذريعة (٢٥: ١٠٣/٥٦٥)..

٢٢٤

عشر وصيّاً، ذَكَرَهُم بأسمائهم، ومختصر من تراجمهم، وبَسَطَ الكلام بعض البَسْط في الأئمة الاثني عشر. وقد طبع في إيران طبعة غير جيِّدة(١) .

هذا ما ألّفه العلماء في الإمامة، لإقامة الأدلّة العقلية والنقليّة عليها، ولسنا بصدد شيء من ذلك، نعم في قضية المهدي (عليه السلام) قد تعلو نَبَرَات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين - بل ومِن غيرهم - على الإماميّة في الاعتقاد بوجود إمام غائب عن الأبصار ليس له أثر من الآثار، زاعمين أنّه رأي فائل، وعقيدة سخيفة.

والمعقول مِن إنكارهم يرجع إلى أمرين:

الأوّل:

استبعاد بقائه طول هذه المدّة التي تتجاوز الألف سنة، وكأنّهم ينسون أو يتناسون حديث عُمْر نوح الذي لبث في قومه بنصّ الكتاب ألف سَنَة إلاّ خمسين عاماً (٢) ، وأقل ما قيل في عمره:

- ألف وستمائة سَنَة.

- وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف(٣).

وقد روى علماء الحديث من السُنَّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك:

- هذا النووي، وهو من كِبَار محدِّثيهم، يُحَدِّث في كتابه (تهذيب الأسماء) ما نَصُّه:

اختلفوا في حياة الخضر ونبوّته، فقال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا، وذلك متّفق عليه عند الصوفيّة وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أنْ تُحصى، وأشهر مِن أنْ

____________________________

(١) أُعِيْدَ طبعه في النجف الأشرف وإيران مع بعض التصحيحات المهمّة.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى في الآية (١٤) من سورة العنكبوت:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَامًا...) .

(٣)انظر:

تفسير الكشاف للزمخشري ج٣: ٢٠٠. تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج٣: ٤١٨. زاد المسير لابن الجوزي ج٦: ٢٦١.

٢٢٥

تُذْكَر.

- قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه:

هو حيّ عند جماهير العلماء والصالحين والعامّة معهم، وإنّما شَذّ بإنكاره بعض المحدِّثين. انتهى(١) . ويخطر لي أنّه قال هو في موضع آخر.

- والزمخشري في (ربيع الأبرار):

إنّ المسلمين مُتَّفقون على حياة أربعة من الأنبياء، اثنان منهم في السماء وهما: إدريس وعيسى، واثنان في الأرض: إلياس والخضر، وأنّ ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء(٢).

والمعمرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون، وقد ذكر السيد المرتضى في أَمَالِيْهِ(٣) جملةً منهم، وذكر غيره كالصدوق في (إكمال الدين)(٤) أكثر مِمَّا ذكر الشريف.

وكَمْ رأينا في هذه الأَعْصار مَنْ تناهت بهم الأَعْمَار إلى المائة والعشرين وما قاربها، أو زاد عليها، على أنّ الحقّ في نظر الاعتبار أنّ مَن يقدر على حفظ الحياة يوماً واحداً يقدر على حفظها آلافاً من السنين، ولم يبق إلاّ أنّه خارق العادة، وهل خَرْق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأنبياء والأولياء بشيء عجيب أو أمر نادر؟!

راجع مجلّدات (المقتطف) السابقة، تجد فيها المقالات الكثيرة، والبراهين الجليّة العقلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في

____________________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ج١: ١٧٦.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات ج١: ١٧٧. ربيع الأبرار ج١: ٣٩٧.

(٣) أمالي المرتضى ج١: ٢٣٢ - ٧٢.

(٤) إكمال الدين:٥٥٥ - ٥٧٥.

٢٢٦

الدنيا للإنسان. وقال بعض كبار علماء، أوروبا: لولا سيف ابن ملجم لكان عليّ بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا؛ لأنّه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال. وعندنا هنا تحقيق، بحث واسع لا مجال لبيانه.

الثاني:

السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته، وهل وجوده مع عدم الانتفاع به إلاّ كعدمه؟

ولكنْ ليت شعري هل يريد أولئك القوم أنْ يصلوا إلى جميع الحِكَم الربَّانِيَّة، والمصالح الإلهيّة، وأسرار التكوين والتشريع، ولا تزال جملة أحكام إلى اليوم مجهولة الحِكْمَة، كتقبيل الحجر الأسود، مع أنّه حجر لا يضرُّ ولا ينفع، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والصبح اثنتين، وهكذا إلى كثير مِن أَمْثالها؟

وقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يطّلع عليها مَلَكَاً مُقَرَّبَاً، ولا نبيّاً مرسلاً، كعلم الساعة وأخواته:

(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (١) .

وأخفى جملة أمور لم يعلم على التحقيق وجه الحِكْمَة في إخفائها، كالاسم الأعظم، وليلة القدر، وساعة الاستجابة.

والغاية:

أنّه لا غرابة في أنْ يفعل سبحانه فعلاً أو يحكم حكماً مجهولَي الحكمة لنا، إنّما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه، فإذا صحّ إخبار النبي وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام) لم يكن بُدٌّ من التسليم والإذعان، ولا يلزمنا البحث عن حِكْمَتِهِ وسببه، وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب الوجيز أنْ لا نتعرَّض لشيءٍ من الأدلّة، بل هي موكولة إلى مواضعها، والأخبار في (المهدي) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من الفريقَين مستفيضة، ونحن وإنْ اعترفنا بجهل الحكمة، وعدم الوصول إلى حاقِّ

____________________________

(١) لقمان ٣١: ٣٤.

٢٢٧

المصلحة، ولكن كان قد سَأَلَنَا نفس هذا السؤال بعض عوامِّ الشيعة، فذكرنا عِدَّة وجوه تصلح للتعليل، ولكن لا على البَتِّ، فإنّ المقام أدقّ وأغمض مِن ذلك، ولعلّ هناك أُموراً تَسَعُهَا الصدور، ولا تَسَعُهَا السطور، وتقوم بها المعرفة، ولا تأتي عليه الصفة.

والقول الفصل:

أنّه إذا قامتْ البراهين في مباحث الإمامة على:

- وجوب وجود الإمام في كلّ عصر.

- وأنّ الأرض لا تخلو مِن حجّة.

- وأنّ وجوده لطف.

- وتصرّفه لطف آخر.

فالسؤال عن الحكمة ساقط، والأدلّة في محالِّها على ذلك متوفِّرة، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إنْ شاء الله.

٢٢٨

العدل:

ويراد به:

- الاعتقاد بأنّ الله سبحانه لا يظلم أحداً.

- ولا يفعل ما يستقبحه العقلُ السليم.

وليس هذا في الحقيقة أصلاً مستقلاًّ، بل هو مندرج في نعوت الحقّ ووجوب وجوده المُسْتَلْزِم لجامعيَّته لصفات الجمال والكمال، فهو شأن من شؤون التوحيد.

ولكنّ الأشاعرة لَمَّا خالفوا العَدْليّة، وهم المعتزلة والإماميّة، فأنكروا الحُسْنَ والقُبْحَ العقليَّين، وقالوا:

ليس الحسن إلاّ ما حَسَّنه الشَرْعُ، وليس القبح إلاّ ما قبّحه الشَرْعُ، وإنّه تعالى لو خَلَّد المطيع في جهنّم، والعاصي في الجنّة، لم يكن قبيحاً؛ لأنّه يتصرّف في مُلْكِهِ:

(لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (١) .

حتّى أنّهم أثبتوا:

- وجوب معرفة الصانع.

- ووجوب النظر في المعجزة لمعرفة النبي مِن طريق السمع والشَرْع لا مِن طريق العقل؛ لأنّه ساقط عن منصّة الحكم، فوقعوا في الاستحالة والدور الواضح.

أمّا العدليّة فقالوا:

- إنّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاًّ، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلاّ تأكيداً وإرشاداً.

- والعقل يستقلّ بحسن بعض الأفعال وقبح البعض الآخر.

- ويحكم بأنّ القبيح مُحَالٌ على الله تعالى؛ لأنّه حكيم، وفعل القبيح منافٍ للحكمة، وتعذيب المطيع ظلم، والظلم قبيح، وهو لا يقع منه تعالى.

وبهذا أثبتوا لله صفة العدل، وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات، إشارةً إلى خلاف الأشاعرة، مع أنّ الأشاعرة في الحقيقة لا ينكرون كونه تعالى عادلاً، غايته: أنّ العدل عندهم هو ما يفعله، وكل ما يفعله فهو حسن، نعم،

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٢٣.

٢٢٩

أنْكروا ما أثبته المعتزلة والإماميّة من حكومة العقل، وإدراكه للحسن والقبح على الحقّ جلّ شأنه؛ زاعمين أنّه ليس للعقل وظيفة الحكم بأنّ هذا حسن مِن الله وهذا قبيح منه.

والعَدْليّة بقاعدة الحسن والقبح العقليين - المُبَرْهَن عليها عندهم - أثبتوا جملةً من القواعد الكلامية:

- كقاعدة اللطف.

- ووجوب شكر المنعم.

- ووجوب النظر في المعجزة.

وعليها بَنَوا أيضاً مسألة الجبر والاختيار:

وهي من مُعْضِلات المسائل التي أخذتْ دوراً مهمّاً في الخلاف، حيث:

-قال الأشاعرةُ: بالجَبْر أو بما يؤدِّي إليه.

-وقال المعتزلة: بأنّ الإنسان حُرُّ مُختار، له حُرِّيّة الإرادة والمشيئة في أفعاله.

غايته:

أنّ مَلَكَةَ الاختيار وصفته كنفس وجوده من الله سبحانه، فهو خَلَقَ العبد وأوجده مختاراً، فَكُلِّي صفة الاختيار مِن الله، والاختيار الجزئي في الوقائع الشخصيّة للعبد ومِن العبد، والله جلّ شأنه لم يجبره على فعل ولا ترك، بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً؛ ولذا يصح عند العقل والعقلاء ملامته وعقوبته على فعل الشر، ومدحه ومثوبته على فعل الخير، وإلاّ لبطل الثواب والعقاب، ولم تكن فائدة في بعثة الأنبياء وإنزال الكتب والوعد والوعيد.

ولا مجال هنا لأكثر من هذا، وقد بسطنا بعض الكلام في هذه المباحث في آخر الجزء الأوّل من كتاب (الدين والإسلام)(١) وقد أوضحناها

____________________________

(١) يقع الكتاب في جُزأين، ضَمَّن مؤلِّفُهُ رحمه الله تعالى الجزءَ الأوّلَ منه ثلاثةَ فصولٍ تُمَهِّد لها خمسةُ سوانح، يتعرّض فيها إلى:

- الأخطار المحيطة بالإسلام، ومكائد الغربيِّين له.

- وتأثّر البعض من المسلمين بالآراء والمعتقدات الغربية.

- ثمّ يَنْفُذُ مِن ذلك إلى تبيان دور العلم والعمل في رُقِي الأديان وثبات أصولهما.

-  مع شرح موجز لماهيّة الشرف والسعادة.

- ودور =

٢٣٠

بوجه يسهل تناوله وتعقُّله للأواسط، فضلاً عن الأفاضل، وإنّما الغرض هنا أنّ مِن عقائد الإماميّة وأصولهم:

- أنّ الله عادلٌ.

- وأنّ الإنسانَ حُرٌّ مٌخْتَارٌ.

____________________________

=

الأخلاق في رُقِيّ الشعوب.

- وَنُبَذ من أقوال الحكماء ومؤلّفاتهم.

- والإشارة من خلالها إلى القصور الذي يحيط البعض في كيفيّة الدعوة إلى الإسلام وتبيان عقائده وأفكاره، وغير ذلك.

والمؤلِّف رحمه الله تعالى يتعرّض:

- في الفصل الأوّل منه إلى مسألة إثبات الصانع جلّ اسمه بشكلٍ علمي رَصِين.

- حين يتعرّض في فصله الثاني إلى إثبات وحدة الصانع تبارك وتعالى، ونَفْي الشريك عنه.

- ثُمّ يتناول بالشرح في الفصل الثالث منه ماهيّة العدل وكيفيّة القيام به، بشكلٍ مُفَصَّل ومُسْهَب.

وأمّا الجزء الثاني من الكتاب فقد تعرّض المؤلِّف رحمه الله تعالى فيه إلى:

- إيضاح كُلِّي للنبوّة ووجوبها والحاجة إليه.

- منطلقاً من خلال ذلك إلى كثير من الجوانب الأخرى المتعلّقة بها.

- وصولاً إلى تبيان الإعجاز القرآني الذي جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما يتعلّق به.

٢٣١

المَعَاد:

يعتقد الإماميّة - كما يعتقد سائرُ المسلمين -:

أنّ الله سبحانه يُعيد الخلائق ويُحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء.

والمُعَاد:

هو الشخص بعينه - وبجسده وروحه - بحيث لو رآه الرائي لقال: هذا فلان.

ولا يجب أنْ تعرف كيف تكون الإعادة، وهل هي من قبيل:

- إعادة المعدوم.

- أو ظهور الموجود، أو غير ذلك.

ويؤمنون بـ:

- جميع ما في القرآن والسُنّة القطعيّة من الجنّة والنار.

- ونعيم البرزخ وعذابه.

- والميزان.

- والصراط.

- والأعراف.

- والكتاب الذي لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

- وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشر:

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١).

إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلّها من كلّ ما صَدَعَ به الوحي المبين، وأخبر به الصادقُ الأمين.

هذا تمام الكلام في الشطر الأوّل من شَطْرَي الإيمان بالمعنى الأخص، وهو:

ما يرجع إلى وظيفة العقل والقلب، ومرحلة العلم والاعتقاد.

ونستأنف الكلام فيما هو من وظيفة القلب والجسد، أعني مرحلة العمل بأركان الإيمان من أفعال الجوارح.

____________________

(١) الزلزلة ٩٩: ٧ - ٨.

٢٣٢

تمهيد وتوطئة:

يعتقد الإماميّة:

- أنّ لله - بحسب الشريعة الإسلاميّة - في كلّ واقعة حُكْمَاً حتّى إرش الخدش.

- وما من عمل من أعمال المكلّفين - من حركة أو سكون - إلاّ ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة.

- وما من معاملة على مالٍ، أو عقدِ نكاح، ونحوهما إلاّ وللشرع فيه حكم صحّةٍ أو فسادٍ.

- وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نَبِيِّه خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله)، وعرّفها النبيّ: بالوحي من الله تعالى. أو الإلهام.

- ثمّ إنّه سلام الله عليه - حسب وقوع الحوادث، أو حدوث الوقائع، أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار - بَيَّنَ كثيراً منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافِّين به، الطائفين كلّ يوم بعرش حضوره؛ ليكونوا هم المُبَلِّغين لسائر المسلمين في الآفاق:(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (١) .

وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها:

- إمّا لعدم الابتلاء بها في عصر النبوّة.

- أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.

والحاصل: إنّ حكمة التدريج اقتضتْ بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنّه سلام الله عليه أَوْدَعَهَا عند أوصيائه، كلّ وصي يعهد بها إلى الآخر؛ لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة، من:

- عامٍّ مُخَصَّص.

- أو مُطلق مُقَيَّد.

- أو مُجمل مُبَيَّن. إلى أمثال ذلك.

فقد يذكر النبي عامّاً، ويذكر مُخَصِّصَهُ بعد بُرْهَة من حياته، وقد لا

____________________

(١) البقرة ٢: ١٤٣.

٢٣٣

يذكره أصلاً، بل يودعه عند وصيِّهِ إلى وقته.

ثُمّ إنّ الأحاديث التي نشرها النبي (صلّى الله عليه وآله) في حياته قد يختلف الصحابة في فَهْم معانيها على حسب اختلاف مراتب أفهامهم وقرائحهم:(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (١) .

وَلَكن تَأخُذُ الأذهانُ مِنهُ

على قَدَرِ القرائحِ والفُهومِ

ثمّ إنّ الصحابي قد يسمع من النبي في واقعةٍ حُكْمَاً، ويسمع الآخر في مثلها خلافه، وتكون هناك خصوصيّة في أحدهما اقتضتْ تغاير الحكمين، غفل أحدهما عن الخصوصيّة أو التفتَ إليها وغفل عن نقلها مع الحديث، فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، ولا تنافي واقعاً.

ومن هذه الأسباب وأضعاف أمثالها احتاج حتّى نفس الصحابة - الذين فازوا بشرف الحضور في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث، وضم بعضه إلى بعض، والالتفات على القرائن الحاليّة، فقد يكون للكلام ظاهر ومراد النبي خلافه؛ اعتماداً على قرينة كانت في المقام، والحديث نُقِل والقرينة لم تُنْقَل.

وكلّ واحد من الصحابة مِمَّن كان من أهل الرأي والرواية... - إذ ليس كلّهم كذلك بالضرورة -:

- تارةً يروي نفس ألفاظ الحديث للسامع من بعيد أو قريب، فهو في الحال راوٍ ومحدِّث.

- وتارةً يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره واجتهاده، فهو في هذا الحال مُفْتٍ وصاحب رأي، وأهل هذه المَلَكَة مجتهدون، وسائر المسلمين - الذين لم يبلغوا إلى تلك المرتبة - إذا أخذوا برأيه مُقَلِّدون.

وكان كل ذلك قد جرى في زمن صاحب الرسالة، وبمرأى منه

____________________________

(١) الرعد ١٣: ١٧.

٢٣٤

ومَسْمَع، بل وربّما رجع بعضهم إلى بعض، على أنّ الناس من هذا بإزاء أمر واقع لا محالة.

وإذا أمْعَنْتَ النظر فيما ذكرناه، اتّضح لديك:

أنّ باب الاجتهاد كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين الصحابة، فضلاً عن غيرهم، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده، نعم غايته:

أنّ الاجتهاد يومئذٍ كان خفيف المؤنة جدّاً؛

- لِقُرْبِ العَهْد.

- وتوفّر القرائن.

- وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع.

ثُمّ كلّما بَعُدَ العهد من زمن الرسالة، وتكثَّرتْ الآراء، واختلطتْ الأَعارب بالأَعاجم، وتغيّر اللحن، وصعب الفَهْم للكلام العربي على حاقِّ معناه، وتكثّرتْ الأحاديث والروايات، وربّما دخل فيها الدس والوضع، وتوافرتْ دواعي الكذب على النبي (صلّى الله عليه وآله)، أَخَذَ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي يصعب، ويحتاج إلى مزيد مؤنة، واستفراغ وسع؛ للجمع بين الأحاديث، وتمييز الصحيح منها من السقيم، وترجيح بعضها على البعض، وكلّما بَعُدَ العهد، وانتشر الإسلام، وتكثَّرتْ العلماء والرواة، ازداد الأمر صعوبةً.

ولكنْ مهما يكنْ الحال، فباب الاجتهاد كان في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله) مفتوحاً، بل كان أمراً ضرورياً عند من يتدبّر، ثمّ لم يزل مفتوحاً عند الإماميّة إلى اليوم، والناس بضرورة الحال لا يزالون بين عالِم وجاهل. وبسنة الفطرة، وقضاء الضرورة أنّ الجاهل يرجع إلى العالِم.

فالناس إذاً في الأحكام الشرعيّة بين عالِم مجتهد، وجاهل مُقَلِّد يجب عليه الرجوع في تعيين تكاليفه إلى أحد المجتهدين.

والمسلمون مُتَّفِقون أنّ أدلة الأحكام الشرعيّة منحصرة في الكتاب والسُنّة، ثمّ العقل والإجماع. ولا فرق في هذا بين الإماميّة وغيرهم من فِرَق المسلمين.

٢٣٥

نعم، يفترق الإماميّة عن غيرهم هنا في أُمور:

منها:

إنّ الإماميّة لا تعمل بالقياس، وقد تواتر عن أئمّتهم (عليهم السلام)، أنّ الشريعة:((إذا قِيْسَتْ مُحِقَ الدينُ)) (١) .

والكشف عن فساد العمل بالقياس يحتاج إلى فضل بيان لا يتَّسع له المقام.

ومنها:

أنّهم لا يعتبرون من السُنّة - أعني الأحاديث النبوية - إلاّ ما صحّ لهم من طرق أهل البيت (عليهم السلام) عن جَدِّهم (صلّى الله عليه وآله)، يعني: ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السبط، عن أبيه أمير المؤمنين، عن رسول الله سلام لله عليهم جميعاً.

أمّا ما يرويه مثل:

- أبي هريرة.

- وسمرة بن جندب.

- ومروان بن الحكم.

- وعمران بن حطان الخارجي.

- وعمرو بن العاص. ونظائرهم، فليس لهم عند الإماميّة من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أنْ يُذْكَر، كيف وقد صرّح كثير من علماء السُنّة بمطاعنهم، ودلّ على جائفة جروحهم(٢).

ومنها:

أنّ باب الاجتهاد - كما عرفتَ - لا يزال مفتوحاً عند الإماميّة، بخلاف جمهور المسلمين، فإنّهم قد سُدّ عندهم هذا الباب، وأُقْفِلَ على ذوي الألباب، وما أدري في أيّ زمان، وبأيّ دليل، وبأيّ نحو كان ذلك الانسداد، ولم أجد مَنْ وفّى هذا الموضوع حقّه من علماء القوم، وتلك أسئلةٌ لا أعرف من جواباتها شيئاً، والعُهْدَة في إيضاحها عليهم.

وما عدا تلك الأمور فالإماميّة وسائر المسلمين فيها سواء، لا يختلفون

____________________________

(١)انظر:

الكافي ج١: كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقائس.

(٢) تقدّم مِنّا الحديث عن ذلك، فراجع.

٢٣٦

إلاّ في الفروع، كاختلاف علماء الإماميّة أو علماء السُنَّة فيما بينهم من حيث الفَهْم والاستنباط.

والمراد بالمجتهد: مَنْ زَاوَلَ الأدلّة ومارسها، واستفرغ وُسْعَه فيها حتّى حصلتْ له مَلَكَة وقوّة يَقْدِرُ بها على استنباط الحكم الشرعي مِن تلك الأدلّة.

وهذا أيضاً لا يكفي في جواز تقليده، بل هنا شروط أُخرى، أهمّها: العدالة: وهيمَلَكَةٌ يستطيع معها المرء الكف عن المعاصي، والقيام بالواجب، كما يستطيع مَنْ لَه مَلَكَة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة، بخلاف الجبان.

وقصاراها: أنّها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الإنسان في جميع أحواله، وهي ذات مراتب، أعلاها العصمة التي هي شرط في الإمام.

ثمّ إنّه لا تقليد ولا اجتهاد في الضروريّات كوجوب الصلاة والصوم وأمثالها، مِمَّا هو مقطوع به لكلّ مكلّف، ومُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ لضروري مِن ضروريّات الدين.

كما لا تقليد في أُصول العقائد:

- كالتوحيد

- والنبوّة

- والمعاد.

ونحوها مِمّا يلزم تحصيل العلم به من الدليل على كلّ مُكلّف ولو إجمالاً، فإنّها تكاليف علميّة، وواجبات اعتقاديّة، لا يكفي الظن والاعتماد فيها على رأي الغير(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) .

وما عداها من الفروع فهو موضع الاجتهاد والتقليد.

وأعمال المُكَلّفين - التي هي موضوع لأحكام الشرع، يلزم معرفتها اجتهاداً أو تقليداً، ويُعاقَب مَنْ تَرَكَ تعلّمها بأحد الطريقَين - لا تخلو:

١- إمّا أنْ يكون القصد منها المعاملة بين العبد وربّه فهي: العبادات الموقوف صِحَّتها على قصد التقرّب بها إلى الله، [وهي أمّا]:

-بدنيّة: كالصوم، والصلاة، والحج.

-أو ماليّة: كالخمس، والزكاة، والكفّارات.

٢٣٧

٢- أو المعاملة بينه وبين الناس، وهي:

- إمّا أنْ تتوقّف على طرفين: كعقود المعاوضات والمناكحات.

- أو تحصل من طرف واحد: كالطلاق والعَتْق ونحوهما.

- أو المعاملة مع خاصة نفسه، ومن حيث ذاته: كَأَكْلِهِ، وشُرْبِهِ، وَلِبَاسِهِ، وأمثال ذلك.

والفقه يبحث عن أحكام جميع تلك الأعمال في أبواب أربعة:

[١] العبادات.

[٢] المعاملات.

[٣] الإيقاعات.

[٤] الأحكام.

وأُمّهات العبادات ست:

- اثنتان بدنيّة محضة، وهما: الصلاة والصوم.

- واثنتان ماليّة محضة وهما: الزكاة، والخمس.

- واثنتان مشتركة على المال والبدن وهما: الحج والجهاد(جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (١) .

أمّا الكفّارات فعقوبات خاصّة على جرائم مخصوصة.

____________________________

(١) التوبة ٩: ٤١.

٢٣٨

الصلاة: هي عند الإماميّة - بل عند عامّة المسلمين -: عمود الدين، والصلة بين العبد والرب، ومعراج الوصول إليه.

فإذا تَرَكَ الصلاةَ فقد انقطعتْ الصلة والرابطة بينه وبين ربّه، ولذا ورد في أخبار أهل البيت (عليهم السلام): أنّه ليس بين المسلم وبين الكفر بالله العظيم إلاّ ترك فريضة أو فريضتَين (١) .

وعلى أيّ: فإنّ للصلاة - بحسب الشريعة الإسلاميّة - مقاماً من الأهمِّيَّة لا يوازيه شيء من العبادات، وإجماع الإماميّة على أنّ تارك الصلاة:

- فاسق.

- لا حُرْمَةَ له.

- قد انقطعتْ من الإسلام عصمتُه.

- وذهبتْ أمانته.

- وحلّتْ غيبته.

وأمرها عندهم مبني على الشِدَّة جِدّاً.

والواجب منها بحسب أصل الشرع خمسة أنواع:

١- الفرائض اليومية.

٢- صلاة الجمعة.

٣- صلاة العيدين.

٤- صلاة الآيات.

٥- وصلاة الطواف.

وقد يوجبها المكلّف على نفسه بسبب مِنْ نذر أو يمين أو استئجار، وما عدا ذلك فنوافل.

وأَهمّ النوافل عندنا: الرواتب: يعني رواتب اليوم والليلة، وهي ضعف الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة، فمجموع الفرائض والنوافل في اليوم والليلة عند الشيعة إحدى وخمسون.

وخَطَرَ على بالي هنا ذكر ظريفة أوردها الراغبُ الأصفهاني في كتاب (المحاضرات) وهو من الكتب القَيِّمة المُمْتِعَة، قال: كان بأصبهان رجلٌ يُقال له الكناني، في أيّام أحمد بن

____________________

(١) راجع: كتاب الوسائل للحرّ العاملي رحمه الله تعالى، الجزء الرابع، باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الصلاة الواجبة جحوداً لها واستخفافاً.

٢٣٩

عبد العزيز، وكان يتعلّم أحمد منه الإمامةَ، فاتّفق أنْ تطلّعتْ عليه أُم أحمد يوماً فقالت:

يا فاعل، جعلت ابني رافضيّاً.

فقال الكناني: يا ضعيفة العقل! الرافضة تُصَلِّي كلّ يوم إحدى وخمسين ركعة، وابنك لا يُصلّي في كلّ أحد وخمسين يوماً ركعة واحدة، فأين هو من الرافضة(١) ؟!

ويليها في الفضل أو الأهمِّيَّة نوافل شهر رمضان: وهي ألف ركعة زيادة عن النوافل اليوميّة، وهي كما عند إخواننا من أهل السُنّة، سوى أنّ الشيعة لا يَرَوْنَ مشروعيّة الجماعة فيها (إذ لا جماعة إلاّ في فَرْض) والسُنَّة يُصَلُّونَهَا جماعةً، وهي المعروفة عندهم بالتراويح.

وباقي الفرائض: كالجمعة، والعيدين، والآيات، وغيرها، كبقيّة النوافل قد استوفتْ كتبُ الإماميّة بيانها على غاية البسط، وتزيد المؤلّفات فيها على عشرات الألوف. ولها أوراد وأدعية وآداب وأذكار مخصوصة قد أُفْرِدَتْ بالتأليف، ولا يأتي عليها الحصر والعد.

ولكن تتحصّل ماهيّة الصلاة الصحيحة عندنا شرعاً من أمور ثلاثة:

الأول: الشروط: وهي أوصاف تقارنها، واعتبارات تُنْتَزَع من أمور خارجة عنها، وأركان الشروط التي تبطل بدونها مطلقاً ستة:

١- الطهارة.

٢- الوقت.

٣- القبلة.

٤- الساتر.

٥- النية.

٦- أمّا المكان فليس من الأركان وإنْ كان ضرورياً، ويُشترط إباحته وطهارة موضع السجود.

الثاني: أجزاؤها الوجوديّة التي تتركّب الصلاة منها: وهي نوعان:

أ - ركن تبطل بدونه مطلقاً، وهو أربعة:

١- تكبيرة الإحرام.

٢- والقيام.

____________________________

(١) محاضرات الأُدباء ج٤: ٤٤٨ - ٤٤٩.

٢٤٠