أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها0%

أصل الشيعة وأصولها مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

أصل الشيعة وأصولها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
تصنيف: الصفحات: 442
المشاهدات: 76014
تحميل: 8180

توضيحات:

أصل الشيعة وأصولها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76014 / تحميل: 8180
الحجم الحجم الحجم
أصل الشيعة وأصولها

أصل الشيعة وأصولها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مكّة، ثمّ لم نخرج حتّى نهانا عنها(١) .

والنسخ تارةً يُنسب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأُخرى إلى عمر، وأنّها كانت ثابتةً في عهد النبي وعهد أبي بكر، وأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) نهى ابن عباس عن القول بالمُتْعة في مواطن فرجع عن القول بها(٢) ، مع أنّه رُوي أنّ ابن الزبير قام بمكّة فقال:

إنّ أُناساً أعمى اللهُ قلوبَهم كما أعمى أبصارهم (يعني ابن عباس) يُفتون بالمُتعة.

فناداه (أي ابن عباس): إنّك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المُتعة تُفعل على عهد إمام المتّقين... إلى آخر الحديث(٣) .

وهذا يدلّ على بقائه على فتواه إلى آخر عمره في خلافة ابن الزبير.

وأعجب من الجميع نسبة النهي عنها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع أنّ حِلِّيَّة المُتعة قد صار شعاراً لأهل البيت وشارةً لهم، وعلي (عليه السلام) بالخصوص قد تظافر النقل عنه بإنكار حرمة المُتعة، ومِن كلماته المأثورة التي جرتْ مجرى الأمثال قوله:

((لولا نَهْي عُمَر عَن المُتْعَة مَا زَنَى إلاَ شَفَا أَو شَقِيٌّ)) .

ففي تفسير الطبري الكبير:

رُوي عن علي بن أبي طالب أنّه قال:

((لولا أنّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي - أو شفا (٤) -)) (٥) .

____________________________

(١) صحيح مسلم ج٢: ١٠٢٥/٢٢.

(٢) المصنّف لعبد الرزاق ج٧: ٥٠١. الكشّاف للزمخشري ج١: ٥١٩.

(٣) صحيح مسلم ج٢: ١٠٢٦/٢٧. سنن البيهقي ج٧: ٢٠٥.

(٤) أي قليل من الناس، وقيل: إلاّ خطيئة قليلة من الناس لا يجدون ما يستحلّون به الفروج.

انظر:

الصحاح ج٦: ٢٣٩٣. لسان العرب ج١٤: ٤٣٧.

(٥) جامع البيان للطبري ج٥: ٩. وانظر كذلك: التفسير الكبير للرازي ج١٠: ٥٠. تفسير البحر المحيط لابن حيان ج٣: ٢١٨. الدر المنثور ج٢: ١٤٠.

٢٦١

ومن طرقنا الوثيقة:

عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه كان يقول:

((ثلاث لا أتّقي فيهنَّ أحداً: مُتعة الحج، ومُتعة النساء، والمَسح على الخُفَّين)) (١) .

وكيف كان:

فلا ريب حسب قواعد الفن، والأصول المقرّرة في (علم أصول الفقه) أنّه إذا تعارضتْ الأخبار وتكافأتْ سقطتْ عن الحجّة والاعتماد، وصارتْ من المتشابهات، ولا بُدّ مِن رَفْضها والعمل بالمُحْكمات. وبعد ثبوت المشروعية والإباحة باتفاق المسلمين، واستصحاب بقائها، وأصالة عدم النسخ عند الشكّ، يتعيّن القول بجوازها وحِلِّيَّتها إلى اليوم.

____________________________

(١)راجع:

كتاب وسائل الشيعة للحرّ العاملي رحمه الله تعالى (٢١ : ٥ - ٨٠) فقد أورد الكثير من الأحاديث المُبَيِّنة لأحكام هذا النوع من النكاح وشروطه، وأمّا الحديث المذكور أعلاه فقد وجدتُه مرويّاً بصيغةٍ مختلفةٍ، ولعلّ ذلك مرجعه السهو أو التصحيف. راجع الفقيه ج١: ٤٨/٩٥.

٢٦٢

التمحيص وحَلّ العُقْدَة:

وإذا أردنا أنْ نسير على ضوء الحقائق، ونُعطي المسألة حقّها من التمحيص والبحث عن سِرِّ ذلك الارتباك وبَذْرَته الأولى - التي نَمَتْ وتأثَّلتْ - لا نجد حلاًّ لتلك العُقدة إلاّ:

أنّ الخليفة عمر قد اجتهد برأيه لمصلحةٍ رآها بنظره للمسلمين في زمانه وأيّامه، اقتضتْ أنْ يمنع من استعمال المُتعة منعاً مدنيّاً لا دينيّاً، لمصلحةٍ زمنيّةٍ، ومنفعةٍ وقتيّةٍ؛ ولذا تواتر النقل عنه أنّه قال:

مُتْعَتَان كانتا على عهد رسول الله وأنا أُحَرِّمُهُمَا وأُعاقب عليهما(١).

ولم يَقُل إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حَرَّمهما أو نسخهما، بل نسب التحريم إلى نفسه، وجعل العقاب عليهما منه لا مِن الله سبحانه.

وحيث إنّ أبا حفص الحريص على نواميس الدين، الخشن على إقامة شرائع الله، أجلّ مقاماً، وأسمى إسلاماً، من أنْ يُحرِّم ما أحلّ الله، أو يُدخِل في الدين ما ليس من الدين، وهو يعلم أنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، والله سبحانه يقول في حقّ نبيِّه الكريم:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (٢) .

فلا بُدّ من أنْ يكون مراده:

- المنع الزمني.

- والتحريم المدني، لا الديني.

ولكنّ بعض معاصريه، ومِن بعده مِن المحدِّثين البُسَطَاء، لَمَّا غفلوا عن تلك النكتة الدقيقة، واستكبروا من ذلك الزعيم العظيم - القائم على حراسة الدين - أنْ يُحرِّم ما

____________________

(١) انظر:

السنن الكبرى للبيهقي ج٧: ٢٠٦. زاد المعاد لابن قيم الجوزي ج٣: ٤٦٣، المبسوط للسرخسي ج٤: ٢٧.

(٢) الحاقّة ٦٩: ٤٤ - ٤٧.

٢٦٣

أحلّ الله، ويجتري على حرمات الله، اضطرّوا إلى استخراج مصحِّح، فلم يجدوا إلاّ دعوى النسخ من النبي بعد الإباحة، فارتبكوا ذلك الارتباك، واضطربتْ كلماتُهم ذلك الاضطراب، ولو أنّهم صحَّحوا عمل الخليفة بما ذكرناه لأَغْنَاهم عن ذلك التكلّف والارتباك.

ويشهد لِمَا ذكرناه:

ما سبق من رواية مسلم عن جابر:

كنا نتمتّع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(١) الحديث.

فإنّه يدلّ دلالةً واضحةً أنّ عمر نهى عن المُتعة من أجل قضيّة في واقعةٍ استنكر الخليفةُ منها، فرأى من الصالح للأُمّة النهي عنها، وإنْ كنّا لم نعثر على شيء من شأن القضيّة، ولكنّ أبا حفص كان معلوماً حاله في الشِدَّة والتنمّر، والغِلظة والخُشونة في عامّة أُموره، فربّما يكون قد استنكر شيئاً في واقعة خاصّة أوجب تأثره وتهيّجه الشديد الذي بعثه على المنع المطلق خوف وقوع أمثاله، اجتهاداً منه ورأياً تمكّن في ذهنه، وإلاّ فأمر المُتعة وحِلِّيَّتها بعد:

- نصّ القرآن.

- وعمل النبي والصحابة طول زمن النبي.

- ومدّة خلافة أبي بكر.

- وبُرهة من خلافة عمر.

أَوْضَح مِن أنْ يحتاج إلى شيء من تلك المباحث والهنابث(٢) ، وتلك المداولات العريضة الطويلة.

____________________________

(١) في شرح مسلم المسمّى بإكمال المعلّم للوشتاني الآبي قوله في شأن عمرو بن حريث: قيل:

كان نَهْيُه عن ذلك في آخر خلافته.

وقيل: في أثنائها.

وقال [أي عمر بن الخطّاب]: لا يُؤتى برجل تمتّع وهو مُحصَن إلاّ رجمته، ولا برجل تمتّع وهو غير مُحصَن إلاّ جَلَدْتُه.

وقضيّة عمرو بن حريث:

أنّه تمتّع على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودام ذلك حتّى لخلافة عمر، فبلغه ذلك فدعاها فسألها. فقالتْ: نعم. قال: مَنْ شهد؟ قال عطاء: فأراها قالتْ أُمّها وأباها. قال: فهلاّ غيرهما. فنهى عن ذلك. انتهى (منه قدس سره).

(٢) الهنابث: جمع هنبثة، وهي الأمر الشديد.

الصحاح ج١: ٢٩٦.

٢٦٤

كيف، والذي يظهر مِن فلي نواصي التاريخ، والاستطلاع في ثنايا القضايا، أنّ عَقْد المُتعة كان مستعملاً في زمن الرسالة، حتّى عند أشراف الصحابة ورِجالات قريش، ونتجتْ منه الذراري والأولاد الأمجاد.

فهذا الراغب الأصفهاني - من عظماء علماء السُنّة - يُحدّثنا - وهو الثقة الثبت - في كتابه السابِق الذِكْر ما نصّه:

إنّ عبد الله بن الزبير عَيّر ابن عباس بتحليله المُتعة، فقال له ابن عباس: سلْ أُمّك كيف سطعتْ المجامر بينها وبين أبيك.

فسألها فقالتْ: والله ما وَلَدْتُكَ إلاّ بالمُتعة(١) .

وأنت تعلم مَن هي أُم عبد الله بن الزبير، هي:

أسماء ذات النطاقين، بنت أبي بكر الصديق، أُخت عائشة أُمّ المؤمنين، وزوجها الزبير مِن حواري رسول الله، وقد تزوّجها بالمُتعة، فما تقول بعد هذا أيُّها المكابِر المجادِل؟!

ثمّ إنّ الراغب ذكر عقيب هذه الحكاية روايةً أُخرى فقال:

سأل يحيى ابن أكثم شيخاً من أهل البصرة فقال له: بِمَنْ اقتديت في جواز المُتعة؟

فقال: بعمر بن الخطاب.

فقال له: كيف وعمر كان من أشدّ الناس فيها؟!

قال: نعم، صَحّ الحديث عنه أنّه صعد المنبر فقال: يا أيّها الناس، مُتْعَتَان أحلّهما اللهُ ورسوله لكم وأنا أُحرِّمها عليكم وأُعاقب عليهما، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه.انتهى(٢) .

وقريب منها ما يُنْقَل عن عبد الله بن عمر(٣) .

____________________________

(١) محاضرات الأُدباء ج٣: ٢١٤.

(٢) محاضرات الأُدباء ج٣: ٢١٤.

(٣) سنن الترمذي ج٣: ١٨٥/٨٢٤.

٢٦٥

ولكن في عبارة شيخ أهل البصرة من الشطح والتجاوز ما لا يرتضيه كلُّ مسلم، والعبارة الشائعة عن أبي حفص أخف وألطف من ذلك، وهي قوله:

متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا أُحرّمهما.

وإذا كان مراده ما أوعزنا إليه، وكشفنا حجابه، وحللنا عُقدتَه، يهون الأمر، وتخفّ الوطأة.

وبعد ما انتهينا في الكتابة إلى هنا، وقفنا على كلامٍ لبعض الأعاظم من علمائنا المتقدّمين، وهو المحقّق محمّد بن إدريس الحلّي، من أهل القرن السادس، وجدناه يتّفق مع كثير مِمّا قدّمناه، فأحببنا نقله هنا ليتأكّد البيان، وتتجلّى الحجّة.

قال في كتابه (السرائر) - الذي هو من جلائل كتب الفقه والحديث - ما نصّه:

(( النكاح المؤجّل مباح في شريعة الإسلام، مأذون فيه، مشروع في الكتاب والسُنّة المتواترة بإجماع المسلمين، إلاّ أنّ بعضهم ادّعى نَسْخَه، فيحتاج في دعواه إلى تصحيحها، ودون ذلك خَرْط القَتَاد. وأيضا فقد ثبت بالأدلّة الصحيحة:

أنّ كلّ منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا في آجل مباحةٌ بضرورة العقل، وهذه صفة نكاح المُتعة، فيجب إباحته بأصل العقل.

فإنْ قيل:

مِنْ أين لكم نَفْي المضرّة عن هذا النكاح في الآجل، والخلاف في ذلك؟

قلنا:

مَنْ ادّعى ضرراً في الآجل فعليه الدليل.

وأيضاً فقد قلنا:

إنّه لا خلاف في إباحتها من حيث إنّه قد ثبت بإجماع المسلمين:

أنّه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) بغير شُبهة، ثمّ ادُّعِي تحريمها مِن بعد ونَسْخها، ولم يثبت النسخ، وقد ثبتتْ الإباحة بالإجماع، فعلى مَنْ ادَّعى الحظرَ والنسخَ الدلالةُ.

فإنْ ذكروا الأخبار التي رووها في أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) حرّمها

٢٦٦

ونهى عنها.

فالجواب عن ذلك:

إنّ جميع ما يروونه مِن هذه الأخبار - إذا سلمتْ من المطاعِن والضَعف - أخبارُ آحادٍ، وقد ثبت أنّها لا تُوجِب عِلْماً ولا عملاً في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عمّا عُلم وقُطع عليه.

وأيضا قوله تعالى بعد ذكر المحرّمات من النساء:(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) (١) .

ولفظة(اسْتَمْتَعْتُمْ) لا تعدو وجهين:

١- إمّا أنْ يُراد بها الانتفاع، أو الالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللفظة.

٢- أو العقد المؤجّل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع.

ولا يجوز أنْ يكون المراد هو الوجه الأوّل لأمرين:

أحدهما:

إنّه لا خلاف بين محصِّلي مَنْ تكلّم في أُصول الفقه في أنّ لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل الأمرين:

- أحدهما: وضع اللغة.

- والآخر: عرف الشريعة.

فإنّه يجب حمله على عرف الشريعة؛ ولهذا حملوا كلهم لفظ: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، على العرف الشرعي دون الوضع اللغوي.

وأيضاً:

فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال من الصحابة والتابعين كـ:

- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

- وابن عباس، ومناظراته لابن الزبير معروفة رواها الناس كلّهم، ونظم الشعراء فيها الأشعار فقال بعضهم:

____________________________

(١) النساء ٤: ٢٤.

٢٦٧

أقُولُ للشَّيخِ لمَا طالَ مَجلِسُهُ

ياصاحُ هَل لَكَ في فَتوى ابن عَبّاسٍ

- وعبد الله بن مسعود.

- ومجاهد.

- وعطاء.

- وجابر بن عبد الله الأنصاري.

- وسلمة بن الأَكوع.

- وأبي سعيد الخدري.

- والمغيرة بن شعبة.

- وسعيد بن جبير.

- وابن جريح.

وأنّهم كانوا يفتون بها. فادّعاء الخصم الاتّفاق على حَضْر النكاح المؤجّل باطل)) . انتهى كلامه (١) .

وكلّ ذي بصيرة يعرف ما فيه من المتانة والرصانة، وقوّة الحجّة والمعارضة.

هذا كلّه في البحث عن المسألة مِن وِجهتها الدينيّة والتاريخيّة، والنظر إليها من حيث الدليل حسب القواعد الأصوليّة، والطرق الشرعية.

أمّا النظر فيها من الوجهة الأخلاقيّة والاجتماعيّة: فأقول:

أليس دين الإسلام هو الصوت الإلهي، والنغمة الربوبيّة الشجيّة التي هبَّت على البشر بنسائم الرحمة، وعطّرت مشامّ الوجود بلطائف السعود، وجاءت لسعادة الإنسان لا لشقائه، ولنعمته لا لبلائه، هو الدين الذي يتمشّى مع الزمان في كلّ أطواره، ويدور مع الدهر في جميع أدواره، ويسدّ حاجات البشر في نظم معاشهم ومعادهم، وجلب صلاحهم، ودَرْء فسادهم؟!

ما جاء دين الإسلام لِيَشُقّ على البشر، ويُلْقيهم في حظيرة المشقّة، وعصارة البلاء والمحنة، وكلفة الشقاء والتعاسة، كلا! بل جاء رحمةً للعالمين، وبركةً على الخلق جميع، ممهِّداً سبل الهناء والراحة، ووسائل الرخاء والنعمة؛ ولذا كان أكمل الأديان، وخاتمة الشرائع، إذ لم يدع نقصاً في نواميس سعادة البشر يأتي دين بعده فيكمله، أو ثلمة في ناحية من نواحي الحياة فتأتي شريعة أُخرى فتسدّها.

____________________________

(١) السرائرج٢: ٦١٨- ٦٢٠.

٢٦٨

ثمّ أَوَلَيْس من ضرورات البشر، منذ عرف الإنسانُ نفسَه، وأدرك حِسَّه، ومن المِهَن التي لا ينفك عن مزاولتها، والاندفاع إليها بدواعٍ شتّى وأغراض مختلفة هو السفر والتغرّب عن الأوطان، بداعي التجارة والكسب، في طلب علم أو مال، أو سياحة أو ملاحة، أو غير ذلك من جهاد وحروب وغزوات ونحوها؟!

ثُمّ أَوَلَيْس الغالب في أولئك المسافرين لتلك الأغراض هم الشُبَّان، وما يقاربهم من أَصِحَّاء الأبدان، وأقوياء الأجساد، الراتعين بنعيم الصحّة والعافية؟!

ثمّ أليس الصانع الحكيم - بباهر حكمته، وقاهر قدرته - قد أودع في هذا الهيكل الإنساني غريزة الشهوة، وشِدَّة الشوق والشَبَق إلى الأزواج، لحكمةٍ ساميةٍ، وغايةٍ شريفةٍ، وهي بقاء النسل، حفظ النوع، ولو خُلِّي مِن تلك الغريزة، وبَلَتْ أو ضَعُفَتْ فيه تلك الجِبِلَّة لم يبقَ للبشر على مرِّ الأحقاب عين ولا أثر؟!

ومن المعلوم أنّ حالة المسافرين المُقْوِين لا تساعد على القِران الباقي، والزواج الدائم؛ لِمَا له غالباً من التبعات واللوازم، التي لا تتمشّى مع حالة المسافر، فإذا امتنع هذا النحو من الزواج حسب مجاري العادات، وعلى الغالب والمتعارف من أمر الناس، وملك اليمين، والتسرِّي بالإماء والجواري المملوكة بأحد الأسباب، قد بطل اليوم بتاتاً، وكان متعذِّراً أو متعسِّراً من ذي قبل، فالمسافر لا سِيَّما مَنْ تطول أسفارهم في طلب علم أو تجارة، أو جهاد أو مرابطة ثغر، وهم في مَيْعَة الشباب ورَيْعَان العمر، وتأجّج سعير الشهوة، لا يخلو حالهم من أمرين:

١- إمّا الصبر ومجاهدة النفس:

الموجِب للمشقّة التي تنجر إلى الوقوع في أمراض مزمنة، وعلل مُهلِكة، مضافاً إلى ما فيه من قطع النسل، وتضييع ذراري الحياة المُودَعَة فيهم، وفي

٢٦٩

هذا:

- نقضٌ للحكمة.

- وتفويتٌ للغرض.

- وإلقاء في العسر والحَرَج وعظيم المشقّة التي تأباه شريعة الإسلام، الشريعة السمحة السهلة:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) .(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) .

٢- وإمّا الوقوع في الزنا والعِهَار:

الذي ملأ الممالك والأقطار بالمفاسد والمضار.

ولعمر الله، وقسماً بشرف الحقّ، لو أنّ المسلمين أخذوا بقواعد الإسلام، ورجعوا إلى نواميس دينهم الحنيف، وشرائعه الصحيحة:(لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (٣) .

وَلَعَادَ إليهم عِزّهم الداثر، ومجدهم الغابِر.

ومِنْ تلك الشرائع:

مشروعية المتعة، فلو أنّ المسلمين عملوا بها على أُصولها الصحيحة من:

- العقد.

- والعِدّة.

- والضبط.

- وحفظ النسل منها.

لانسدّتْ بيوت المواخير، وأُوْصِدَتْ أبواب الزنا والعِهَار، ولارْتَفَعَتْ - أو قَلَّتْ - وَيْلات هذا الشر على البشر، ولأصبح الكثير من تلك المومسات المتهتِّكات مصونات محصنات، وَلَتَضَاعَفَ النسل، وكثرتْ المواليد الطاهرة، واستراح الناس من اللقيط والنبيذ، وانتشرتْ صيانة الأخلاق، وطهارة الأعراق، إلى كثير من الفوائد والمنافع التي لا تُعد ولا تُحصى.

ولله درّ عالم بني هاشم، وحبر الأُمّة عبد الله بن عبّاس (رض) في كلمته الخالدة الشهيرة التي رواها ابن الأثير في (النهاية) والزمخشري في (الفائق) وغيرهما حيث قال:

ما كانتْ المُتعة إلاّ رحمة، رحم الله بها أُمّة محمّد

____________________________

(١) البقرة ٢: ١٨٥.

(٢) الحج ٢٢: ٧٨.

(٣) الأعراف ٧: ٩٦.

٢٧٠

(صلّى الله عليه وآله)، ولولا نهيه عنها ما زنى إلاّ شفا(١) . وقد أخذها من عين صافية، من أُستاذه ومعلِّمه ومربِّيْه أمير المؤمنين (عليه السلام).

وفي الحقّ إنّها رحمة واسعة، وبركة عظيمة، ولكنّ المسلمون فَوّتوها على أنفسهم، وحُرموا من ثمراتها وخيراتها، ووقع الكثير في حماة الخَنَا والفساد، والعار والنار، والخِزْي والبوار:(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (٢) . فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

ولكنّ مع هذا كلّه أَلاَ تعجب حين ترى ما نُشر في (الاعتدال) أيضاً (١٦١) من المجلّد الأوّل بعنوان:

(لم يبق إلاّ أنْ نتّخذ مِن القلم إبرة تطعيم، ونجعل المعاني مَصْلاً).؟

وذكر صورة كتاب ورد إليه من بغداد بتوقيع (خادم العلماء)!! على الجواب الذي تقدّم في مبادئ هذه النسخة، بتوقيع (ابن ماء السماء) يعيد فيه إشكال اختلاط الأنساب، وضياع النسل، وعقد عابر الطريق والمجهول، ويقول:

إنّ ابن ماء السماء لم يتعرّض للمجهول الذي هو محلّ النظر - إلى أنْ قال: - فما يقول في تحليل المُتعة الدوريّة التي يتناوبها ويتعاقبها ثلاثة أو أربعة بل وعشرة بحسب الساعات!! فما يقول في الولد إذا جاء من هذه الجهة، فَمَنْ يَتْبعَ، وبِمَنْ يُلْحَق.

نعم، من المعلوم حِلِّيّة المُتعة بجميع طرقها عند الشيعة، ولكن تراهم يتحاشَون ويتحاشَى أشرافهم وسَرَاتُهُم مِن تعاطيها بينهم، فلم يُسمع مَن يقول: حضرنا تَمَتُّع السيّد الفلاني أو الفاضل الفلاني بالآنسة بنت السيّد الفلاني، كما يقال: حضرنا عقد نكاح الفاضل الفلاني بآنسة الفاضل، بل

____________________________

(١) النهاية ج٢: ٤٨٨. الفائق ج٢: ٢٥٥.

(٢) البقرة ٢: ٦١.

٢٧١

أكثر جريانها وتعاطيها في الساقطات والسافلات!! فهل ذلك إلاّ لقضاء الوطر وإنْ حصل منه النسل قهراً. وجدير من العلاّمة كاشف الغطاء - الذي قام بتهذيب أصل الشيعة وأصولها - أنْ يُهَذِّب أخلاق أهلها!! وينهض بهم إلى مراتب النزاهة!! وفّقه الله لذلك.

بغداد: خادم العلماء

ونشر في جواب هذا الكتاب ما نصّه:

ورد على إدارة مجلّة الاعتدال كتاب من بغداد، من كاتب مجهول يقول:

إنّه قرأ في العدد الثالث من المجلّة جواباً لابن ماء السماء، فوجده لا يناسب السؤال، ولا يُلائم المقال، ثُمّ أعاد الكاتب ما ذكره السيّد الراوي من اختلاط الأنساب، وضياع النسل، الذي دفعه ابن ماء السماء بأقوى حجّة، وأجلى بيان، وقد أوضح له:

أنّ حكمة تشريع العِدّة هو حفظ النسل، ومنع اختلاط المياه، وهي كما أنّها لازمة في الدائم، كذلك تلزم في المُنْقَطِع، فلا يجوز لأحد أنْ يتمتّع بامرأة تَمَتَّعَ بها غيرُه حتّى تخرج من عِدَّة ذلك الغَير، وإلاّ كان زانياً، ومع اعتبار العِدّة، فأين يكون اختلاط الأنساب وضياع النسل؟!

ثمّ قال الكاتب:

ولم يتعرّض ابن ماء السماء للمجهول الذي هو محلّ النظر، فما حال الولد إذا تمتّع بها عابر الطريق والمجهول وأتتْ بعد فراقه بالولد؟ فقول ابن ماء السماء (والولد يتبع والده) فليتَ شعري أين يجده وهو مجهول. انتهى.

وما أدري أنّ هذا الخادِم لم ينظر إلى تمام كلام ابن ماء السماء، أو نظر فيه ولم يفهمه، وإلاّ فأيّ بيان أوضح في دفع هذا الإشكال من قوله (صفحه ١١٢):

ويجب على الزوج أنْ يتعرّف حالها، ويعرفها بنفسه، حتّى

٢٧٢

إذا ولدتْ ولداً ألحق به، كي لا تضيع الأنساب، كذلك المُتَمَتَّع بها إذا انتهى أجلها يجب عليها أنْ تَعْتَدّ وأنْ يَتَعرّف حالها، وتعرف حاله ونسبه؛ كي تلحق الولد به بعد فصاله أينما كان.

فأين المجهول الذي لم يتعرّض له ابن ماء السماء أيّها الكاتب المجهول؟!

وإذا كنت لا تفهم هذا البيان - مع هذا الوضوح والجلاء - فلم يبق إلاّ أنْ نَتَّخِذ من القلم إبرة تطعيم، ونجعل المعاني مَصْلاً نَحْقِنُ بها دماغك، عساك تحسّ بها وتفهمها.

وأمّا قولك:

فما قولكم في المُتعة الدوريّة التي يتناوبها ويتعاقبها الثلاثة وإلأربعة بل والعشرة بحسب الساعات!! فَمَنْ يَتْبع الولد وبِمَنْ يُلْحَق؟

فاللازم (أوّلاً) أنْ تدلّنا على كتاب جاهل من الشيعة ذكر فيه تحليل هذا النحو من المُتعة، فضلاً عن عالم من علمائهم، وإذا لم تدلنا على كتابةٍ منهم أو كتاب، فاللازم أنْ تُحَدّ حَدّ المُفتري الكذّاب... كيف وإجماع الإماميّة على لزوم العِدّة في المُتعة، وهي على الأقل خمسة وأربعون يوماً، فأين التناوب والتعاقب عليها حسب الساعات؟!

وإنْ كنتَ تُريد أنّ بعض العوام والجهلاء، الذين لا يبالون بمقارفة المعاصي، وانتهاك الحرمات، قد يقع منهم ذلك، فهذا مع أنّه لا يختص بعوام الشيعة، بل لعلّه في غيرهم أكثر، ولكنْ لا يصحّ أنْ يُسمّى هذا تحليلاً، إذ التحليل ما يستند إلى فتوى علماء المذهب، لا ما يرتكبه عُصَاتُهم وقُسَاتُهم، وهذا النحو مِن المُتعة عند علماء الشيعة من الزنا المحض الذي يجب فيه الحدّ، ولا يُلحق الولد بواحد، كيف وقد قال سيّد

٢٧٣

البشر:

((الوَلَد لِلْفِرَاش وَلِلْعَاهِر الحَجَر)) (١) .

أمّا تحاشي أشراف الشيعة وسَرَاتهم مِن تعاطيها فهو عِفّة وتَرَفّع، واستغناء واكتفاء بما أحلّ الله مِن تعدّد الزوجات الدائمة مثنى وثلاث ورباع، فإنْ أرادوا الزيادة على ذلك جاز لهم التمتّع بأكثر من ذلك، كما يفعله بعض أهل الثروة والبذخ من رؤساء القبائل وغيرهم.

وعلى كلٍّ فإنّ تحاشي الأشراف والسَرَاة لا يدلّ على الكراهة الشرعيّة، فضلاً عن عدم المشروعيّة، أَلاَ ترى أنّ الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا كثيراً ما يتسرَّون بالإماء، ويتمتَّعون بملك اليمين، ويَلِدْنَ لهم الأولاد الأفاضل...؟ أمّا اليوم فالأشراف والسَرَاة يَأْنَفُون من ذلك، مع أنّه حلال بنصّ القرآن العزيز.

كما أنّ تحاشي الأشراف والسَرَاة من الطلاق، بحيث لم نسمع أنّ شريفاً طلّق زوجة له، لا يدل على عدم مشروعيّة الطلاق.

أمّا قولك:

وجدير من العلاّمة كاشف الغطاء - الذي قام بتهذيب أصل الشيعة وأُصولها - أنْ يهذِّب أخلاق أهلها، وينهض بهم إلى مراتب النزاهة.

فهو حق، وما في الحق مغضبة، وهو - دامت بركاته - لا يزال قائماً بوظيفته من التهذيب والإرشاد، ليس للشيعة فقط، بل لعامّة المسلمين، والجميع في نظره على حدٍّ سواء. ولكن لا تختصّ هذه الوظيفة به - أيّده الله - بل تعمّ سائر علماء المسلمين، ولعلّ وجوبها على علماء العواصم التي تكثر فيها المنكرات، ويُجَاهِر فيها بالكبائر أشدّ وآكد، والمسؤوليّة عليهم أَلْزم وأعظم.

ولولا أنّنا لا نريد أنْ نحيد عن خطّة هذه الصحيفة(الاعتدال) لَسَرَدْنَا

____________________________

(١) صحيح البخاري ج٥: ١٩٢. سنن أبي داود ج٢: ٢٨٢/٢٢٧٣. سنن ابن ماجة ج٢: ٦٤٧/ ٢٠٠٦ و ٢٠٠٧. سنن الترمذي ج٣: ٤٦٣/١١٥٧.

٢٧٤

مِن أحوال سائر الطوائف ما يتجلّى لكلِّ أحد أنّ عوامّ الشيعة الإماميّة - فضلاً عن خواصّهم - أَعَف وأَنْزه، وأتقى وأَبَرّ، بَيْدَ أنّنا - حسب تعاليم أُستاذنا العلاّمة الأكبر كاشف الغطاء - نتباعد عن كلّ ما يُشَمُّ منه رائحة النعرات الطائفيّة، والنزعات المذهبيّة، ونسعى - حسب إرشاده - إلى توحيد الكلمة، ورفض الفواصل والفوارق بين الأمم الإسلاميّة.

ولا يزال يُعَلِّمُنَا - وهو العلاّمة المُصْلِح - أنّ:

- دين الإسلام دين التوحيد لا دين التفريق.

- وشريعته شريعة الوصل لا التمزيق.

- وأنّ صالح المسلمين أجمعين قلع شجرة التشاجر والخلاف فيما بينهم من أصلها.

ولا يزال يوصينا ويقول:

أيّها المسلمون، نَزِّهوا:

- قلوبكم عن نِيَّة السوء.

- وألسنتكم عن بذيء القول والهَمْز واللَمْز.

- وأقلامكم عن طعن بعضكم في بعض.

إذاً تُسعدون وتَعيشون كمسلمين حقّاً، وكما كان آباؤكم من قبل، رجالُ صِدْقٍ في القول، وإخلاص في العمل.

هذه هي (مراتب النزاهة) يا خادم العلماء، لا ما جئتنا به منذ اليوم، وكنّا نظنّ أنّ هذه المباراة والمناظرات في قضيّة المُتعة قد انتهى دورانها، وغُسِلَتْ أدرانها، بأجوبة ابن ماء السماء، ولكن المسمّي نفسه بـ (خادم العلماء) قد شاء - أو شاءتْ له الجهالة - أنْ يُثير غبارها، ويُعيد شرارها، ويُسْدَل على الحقيقة أستارها، والحقيقةُ نورٌ تُمزِّق الحُجُب والسُتُور، وتأبى إلاّ الجلاء والظهور، حتّى مِن مُعَلِّم (الجهلاء). انتهى.

٢٧٥

الفذلكة:

وفذلكة تلك الأبحاث:

أنّ الزواج - الذي هو عُلْقَة بين المرء والمرأة، ورَبْط خاص له آثار خاصّة - يحدث بالعقد الخاص من الإيجاب والقبول بشرائط معلومة.

-فإنْ وقع العقد مرسَلاً مطلقاً، غير مُقيَّد بمدّة، حدثتْ الزوجيّة بطبيعتها المرسَلَة المطلَقة الدائمة المؤبّدة، التي لا ترتفع إلاّ برافعٍ مِن طلاقٍ ونحوه.

-وإنْ قُيِّدَ العقد بأجل معيّن، من يوم أو شهر أو نحوهما، حدثتْ الزوجيّة الخاصّة المحدودة، وطبيعة الزوجيّة فيهما سواء، لا يختلفان إلاّ في:

- الضيق والسِعَة.

- والطول والقصر.

ويشتركان في كثير من الآثار، ويمتاز كلّ منهما عن الآخر في بعضها. وليس الاختلاف من اختلاف الحقيقة، بل من اختلاف النوع أو التشخُّص، كاختلاف الزنجي والرومي في كثير من اللوازم مع وحدة الحقيقة.

ونظير الزوجيّة المطلَقة والمقيَّدة في الشرع: الملكيّة التي تَحْدُث بعقد البيع:

وهي عبارة عن علقة تَحْدُث بين الإنسان وعين ذات ماليّة من الأعيان، فإنْ أُطلق العقد حدثتْ الملكيّة المطلَقة اللازمة الدائمة المؤبَّدة، التي لا ترتفع إلاّ برافع:

-اختياري: كبيع أو هبة أو صُلح،

-أو اضطراري: كفلس أو موت.

-وإنْ قُيِّدتْ بخيار فسخ أو الانفساخ: حدثتْ الملكيّة المقيَّدة الجائزة المحدودة إلى زمن الفسخ أو الانفساخ، وكلّ هذه المعاني والاعتبارات أُمور يتطابق عليها العقل والشرع، والعُرف والاعتبار.

فما هذا النكير والنفير، والنبز والتعبير على الشيعة في أمر المُتعة يا علماء الإسلام، ويا حَمَلَةَ الأقلام!

٢٧٦

لَبِّثْ قَلِيْلاً يَلْحَقُ الْهَيْجَا حَمَلْ(١) .

أَفَهَل في هذا مَقْنَع مع اختصاره لكم في كفّ الخصام، وحصول الوِئام، والانقياد للحقّ والاستسلام؟!

فوعزة الحق، وشرف الحقيقة، إنّي لم أتعصّب فيما كتبتُ إلاّ للحق، ولمْ أَتَحامَل إلاّ على الباطل، وحسبنا الله عليه توكّلنا وإليه أَنَبْنا وإليه المصير.

ولنكتفِ من مباحث عقود النكاح وأحكامه بهذا القدر.

أمّا:

- نكاح الإماء.

- وأحكام الأولاد.

- والنفقات.

- والعدد.

- والنشوز، وأمثالها من المباحث العريضة الطويلة.

فهي موكولة إلى محالّها من كتب الإماميّة التي برعوا وأبدعوا فيها، بين مختصر حوى تمام الفقه من الطهارة إلى الحدود والديات في خمسين ورقة بقطع الربع، وبين مطوّل (كالجوامع) و (الحدائق) الذي جمع الفقه في عشرين مجلّداً مثل (البخاري) و (صحيح مسلم). وبين الطرفين أوساط ومتوسطات لا تُعَد ولا تُحْصَى.

____________________________

(١) صدر بيت شعري ذهب مثلاً، وهو:

لَبِّث قَليلاً يَلحَق الهَيجا حَمَل

ما أحسن المَوَت إذا حانَ الأجَل

ويُضرب مثلاً لِمَنْ ناصره من ورائه.

والهيجاء: الحرب.

وحمل: اسم رجل شجاع كان يُستظهر به في الحرب، ولعلّه - كما قيل - حمل بن بدر، صاحب الغبراء.

انظر:

المستقصى في أمثال العرب ج٢: ٢٧٨ / ٩٦٩، جمهرة الأمثال ج٢: ٢٠٦/١٥٤٦.

٢٧٧

الطلاق:

لقد اسْتَجْلَيْتَ من كلماتنا التي مرّتْ عليك قريباً أنّ حقيقة الزواج:

هي عبارة عن عُلْقة ورَبْط خاص يحدث بين الرجل والمرأة، يصير ما هو فرد من كلّ منهما - بلحاظ نفسه - زوجاً بلحاظ انضمام الآخر إليه، وارتباطه به، وملابسته معه ملابسة صَيَّرَتْ كُلاًّ منهما قريناً للآخر، وعِدْلاً له، ومتكافئاً معه، مثل اقتران العَيْنَيْن واليَدَين، بل السَمْعَين والبَصَرَيْن.

وبعد أنْ كان كلّ منهما مُبَايِنَاً للآخر ومنفصلاً عنه، أحدث العقد الخاص ذلك الربط، وتلك الملابسة التي لا ملابسة فوقها، ولا يُعْقَل - بل لا يُمكن - أنْ توجد عبارة تشير إلى حقيقة ذلك الربط وعميق آثاره أعلى من قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)(١) .

وهي من آيات الإعجاز والبلاغة، وفوائد القرآن ومخترعاته، ولا يتّسع المقام لتعداد ما تضمَّنَتْه من دقائق المعاني، وأسرار البيان، وعجيب الصنعة.

وعرفت أنّ من شأن ذلك الربط وطبيعته - مع إرسال العقد وإطلاقه - أنْ يبقى ويدوم إلى الموت، بل وما بعد الموت، إلاّ أنْ يحصل له رافع يرفعه، وعامِل يُزيله، ولَمّا كانت الحاجة والضرورة، والظروف والأحوال قد تستوجِب حلّ ذلك الربط، وفكّ تلك العُقدة، ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك؛ لذلك جعل الشارع الحكيم أسباباً رافعة، وعوامِل قاطعة، تقطع ذلك الحبل، وتفصل ذلك الوصل:

- فإنْ كانت النفرة والكراهة من الزوج، فالطلاق بِيَدِهِ.

- وإنْ كانت من الزوجة فالخُلْع بيدها.

- وإنْ كان منهما فالمباراة بيدهما.

ولكلّ واحد منها

____________________

(١) البقرة ٢: ١٨٧.

٢٧٨

أحكام وشروط، ومواقع خاصّة لا تتعدّاها، ولا يقوم سواها مقامها.

ولكنْ لَمَّا كان دين الإسلام ديناً اجتماعياً، وأساسه: التوحيد، والوحدة. وأهمّ مقاصده الاتِّفاق، والأُلفة.

وأبغض الأشياء إليه:

- التقاطع.

- والفرقة؛

لذلك ورد في كثير من الأحاديث ما يدلّ على كراهة الطلاق والردع عنه، ففي بعض الأخبار:((مَا مِن حلالٍ أَبْغَض إلى الله مِن الطلاق)) (١) .

فكانت الحاجة والسعة على العباد، وجعلهم في فُسحة من الأمر تقتضي بتشريعه، والرحمة والحكمة، وإرشاد العباد إلى مواضع جهلهم بالعاقبة:(فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(٢) .

كلّ ذلك يقتضي التحذير منه، والردع عنه، والأمر بالتروي والتبصر فيه.

ونظراً لهذه الغاية، جعل الشارع الحكيم للطلاق قيوداً كثيرة، وشَرَطَ فيه شروطاً عديدة، حِرْصَاً على تقليله ونُدْرَته (والشيء إذا كثرت قيودُه، عزّ وجودُه).

فكان من أهمّ شرائطه عند الإماميّة: حضور شاهدين عَدْلَيْن:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣) .

فلو وقع الطلاق بدون حضورهما كان باطلاً، وفي هذا أبدع ذريعة، وأنفع وسيلة، إلى تحصيل الوِئام، وقطع مواد الخِصام بين الزوجين، فإنّ للعدول وأهل الصلاح مكانة وتأثيراً في النفوس، كما أنّ من واجبهم الإصلاح والموعظة، وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصِمَين إلى مجاريها، فإذا لم تنجع نصائحهم ومساعيهم في كلّ حادثة، فلا أقل من التخفيف والتلطيف، والتأثير في عدد كثير.

____________________________

(١)انظر: الكافي ج٦: ٥٤/٢ و٣.

(٢) النساء ٤: ١٩.

(٣) الطلاق ٦٥: ٢.

٢٧٩

وقد ضاعت هذه الفلسفة الشرعيّة على إخواننا من علماء السُنَّة، فلم يشترطوا حضور العَدْلَيْن، فاتّسعتْ دائرة الطلاق عندهم، وعظمتْ المصيبة فيه، وقد غفل الكثير منّا ومنهم عن تلك الحِكَم العالية، والمقاصد السامية، في أحكام الشريعة الإسلاميّة، والأسرار الاجتماعيّة، التي لو عمل المسلمون بها لأخذوا بالسعادة من جميع أطرافها، ولَمَا وقعوا في هذا الشقاء التعيس، والعيش الخسيس، واختلال النظام العائلي في أكثر البيوت.

ومن أهمّ شرائط الطلاق أيضاً:

- أنْ لا يكون الزوج مُكْرَهاً ومتهيِّجاً، أو في حال غضب وانزعاج.

- وأنْ تكون الزوجة طاهرة من الحيض.

- وفي طُهْر لم يواقعها فيه.

وقد اتفقت الإماميّة أيضاً على أنّ طلاق الثلاث واحدة:

-فلو طلّقها ثلاثاً لم تحرم عليه، ويجوز له مراجعتها، ولا تحتاج إلى محلِّل.

-نعم، لو راجعها ثمّ طلّقها وهكذا ثلاثاً حرمتْ عليه في الطلاق الثالث، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره.

-ولو طلّقها ثمّ راجعها تسع مرّات مع تخلّل المحلّل حرمتْ عليه في التاسعة حُرْمة مؤبَّدة.

وقد خالف في طلاق الثلاث الأكثر من علماء السُنَّة:

- فجعلوا قول الزوج لزوجته، أنت طالق (ثلاثاً) يُوجِب تحريمها.

- ولا تحلّ إلاّ بالمحلِّل.

مع أنّه قد ورد في الصِحَاح عندهم ما هو صريح في أنّ الثلاث واحدة، مثل ما في البخاري بسنده عن ابن عباس قال:

كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم(١).

____________________________

(١) لم أجدْه في صحيح البخاري، بل في صحيح مسلم ج٢: ١٥/١٠٩٩. وفي مسند أحمد ج١: ٣١٤.

٢٨٠