كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

كتاب شرح نهج البلاغة12%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 319

  • البداية
  • السابق
  • 319 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29767 / تحميل: 6364
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٢٣٥ و من خطبة له ع

فَمِنَ اَلْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي اَلْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ اَلْقُلُوبِ وَ اَلصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ اَلْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ اَلْبَرَاءَةِ وَ اَلْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا اَلْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ اَلْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ اَلْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ اَلْحُجَّةِ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلاِسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ اَلْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لاَ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ اِمْتَحَنَ اَللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لاَ يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا اَلنَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ اَلسَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ اَلْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام

١٠١

أحدها الإيمان الحقيقي و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني.الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد فقال إنه عواري في القلوب و العواري جمع عارية أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها.و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلي بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع و قد جعله ع عواري بين القلوب و الصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر فيكون أضعف مما قبله.فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية و قد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي و لا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين.فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا و لا هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر و أما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية

١٠٢

و المقدمات البديهية يستحيل أن تضعف عند الإنسان حتى يصير إيمانه جدليا أو تقليديا.و ثانيها قوله ع فإذا كانت لكم براءة فنقول إنه ع نهى عن البراءة من أحد ما دام حيا لأنه و إن كان مخطئا في اعتقاده لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد و إن كان مخطئا في أفعاله لكن يجوز أن يتوب فلا تحل البراءة من أحد حتى يموت على أمر فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر و ينبغي أن تحمل هذه البراءة التي أشار إليها ع على البراءة المطلقة لا على كل براءة لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق و هو حي و من الكافر و هو حي لكن بشرط كونه فاسقا و بشرط كونه كافرا فأما من مات و نعلم ما مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة.و ثالثها قوله و الهجرة قائمة على حدها الأول فنقول هذا كلام يختص به أمير المؤمنين ع و هو من أسرار الوصية لأن الناس يروون عن النبي ص أنه قال لا هجرة بعد الفتح فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه فاستثناه و هذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين ع ليست تلك الهجرة بل هي الهجرة إلى الإمام قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف باقيا و هو معنى قوله ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة.و قال الراوندي ما هاهنا نافية أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة و هذا ليس بصحيح لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر.ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا بمعرفة إمام زمانه و هو

١٠٣

معنى قوله إلا بمعرفة الحجة في الأرض قال فمن عرف الإمام و أقر به فهو مهاجر.قال و لا يجوز أن يسمى من عرف الإمام مستضعفا يمكن أن يشير به إلى آيتين في القرآن أحدهما قوله تعالى( إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ) فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كما كان هؤلاء مستضعفين و إن كان في بلده و أهله لم يخرج و لم يتجشم مشقة السفر.ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلي الآية المذكورة( إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين لأن أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم و عفي عن ذوي العجز عن الحركة منهم و شيعة الإمام ع ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به و إقرارهم بإمامته فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم.فإن قلت فما معنى قوله من مستسر الأمة و معلنها و بما ذا يتعلق حرف الجر قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض المستسر منهم باعتقاده و المعلن حاجة فمن على هذا زائدة فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض و من إذا كانت زائدة لا تتعلق نحو قولك ما جاءني من أحد.

١٠٤

و رابعها قوله ع إن أمرنا هذا صعب مستصعب و يروى مستصعب بكسر العين لا يحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإيمان هذه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى( أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) و هو من قولك امتحن فلان لأمر كذا و جرب و درب للنهوض به فهو مضطلع به غير وان عنه و المعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها و يجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحققك الشي‏ء إنما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى فتتعلق اللام بمحذوف أي كائنة له و هي اللام التي في قولك أنت لهذا الأمر أي مختص به كقوله:

أعداء من لليعملات على الوجا

و تكون مع معمولها منصوبة على الحال و يجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الصعبة لأجل التقوى أي لتثبت فيظهر تقواها و يعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن و الشدائد و الاصطبار عليها.و يجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه و نقاه.و هذه الكلمة قد قالها ع مرارا و وقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها

إن قريشا طلبت السعادة فشقيت و طلبت النجاة فهلكت و طلبت الهدى فضلت أ لم يسمعوا ويحهم قوله تعالى( وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فأين المعدل و المنزع عن ذرية الرسول الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم و أعلى رءوسهم فوق رءوسهم و اختارهم عليهم ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها و دوحة أنا ساقها و إني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنا

١٠٥

ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر و قبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ثلاثة ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم أمر فاقبلوه و إلا فاسكتوا تسلموا و ردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع مما بين السماء و الأرض.و خامسها قوله سلوني قبل أن تفقدوني أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة و لا أحد من العلماء سلوني غير علي بن أبي طالب ع ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب.و المراد بقوله فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور و لا سيما في الملاحم و الدول و قد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة و لا مائة مرة حتى زال الشك و الريب في أنه إخبار عن علم و أنه ليس على طريق الاتفاق و قد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.و قد تأوله قوم على وجه آخر قالوا أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوي الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية فعبر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية و عبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية و الأول أظهر لأن فحوى الكلام و أوله يدل على أنه المراد

١٠٦

قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد

و على ذكر قوله ع سلوني حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا و إن كان فيه بعض الكلمات العامية إلا أنه يتضمن ظرفا و لطفا و يتضمن أيضا أدبا.قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضي‏ء بالله واعظ مشهور بالحذق و معرفة الحديث و الرجال و كان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد و من فضلائها أيضا و كان مشتهرا بذم أهل الكلام و خصوصا المعتزلة و أهل النظر على قاعدة الحشوية و مبغضي أرباب العلوم العقلية و كان أيضا منحرفا عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته و يسأله تحت منبره و يخجله و يفضحه بين الناس في المجلس و هذه عادة الوعاظ يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها و سألوا عمن ينتدب لهذا فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي كان له لسن و يشتغل بشي‏ء يسير من كلام المعتزلة و يتشيع و عنده قحة و قد شدا أطرافا من الأدب و قد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره و هو يومئذ شيخ و الناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا فأحضروه و طلبوا إليه أن يعتمد ذلك فأجابهم و جلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه و اجتمع الناس عنده على طبقاتهم حتى امتلأت الدنيا بهم و تكلم على عادته فأطال فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه في أثناء الوعظ قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري و إنما دفعه بالخطابة و الجدل و سجع الألفاظ و تردد الكلام بينهما طويلا و قال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول و صوتي

١٠٧

في مسامعهم طبول و كلامي في أفئدتهم نصول يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم و تجول حول من لا تدركه العقول كم أقول كم أقول خلوا هذا الفضول.فارتج المجلس و صرخ الناس و علت الأصوات و طاب الواعظ و طرب و خرج من هذا الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية و قال سلوني قبل أن تفقدوني و كررها فقام إليه الكزي فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة إلا علي بن أبي طالب ع و تمام الخبر معلوم و أراد الكزي بتمام الخبر قوله ع لا يقولها بعدي إلا مدع.فقال الواعظ و هو في نشوة طربه و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحديث و الرواة من علي بن أبي طالب أ هو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي و عد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب فقام الكزي و قام من يمين المجلس آخر و من يسار المجلس ثالث انتدبوا له و بذلوا أنفسهم للحمية و وطنوها على القتل.فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين أشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ع و إن كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله ص بين الأتباع و الأذناب آخى بينه و بين نفسه و أسجل على أنه نظيره و مماثله فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شي‏ء أو نبت تحت خبكم من هذا شي‏ء.فأراد الواعظ أن يكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن و قال يا سيدي فلان الدين محمد بن عبد الله كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من قال له رب العزة

١٠٨

( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى‏ وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) و كذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي:

و قد تلتقي الأسماء في الناس و الكنى

كثيرا و لكن ميزوا في الخلائق

فالتفت إليه الواعظ ليكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر و قال يا سيدي فلان الدين حقك تجهله أنت معذور في كونك لا تعرفه:

و إذا خفيت على الغبي فعاذر

ألا تراني مقلة عمياء

فاضطرب المجلس و ماج كما يموج البحر و افتتن الناس و تواثبت العامة بعضها إلى بعض و تكشفت الرءوس و مزقت الثياب و نزل الواعظ و احتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها و حضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة و صرفوا الناس إلى منازلهم و أشغالهم و أنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي و الرجلين اللذين قاما معه فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم

١٠٩

٢٣٦ و من خطبة له ع

أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ عَزِيزَ اَلْجُنْدِ عَظِيمَ اَلْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اِجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَ اِلْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ بَادِرُوا اَلْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ اِمْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ اَلْغَايَةَ اَلْقِيَامَةُ وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ وَ قَبْلَ بُلُوغِ اَلْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ اَلْأَرْمَاسِ وَ شِدَّةِ اَلْإِبْلاَسِ وَ هَوْلِ اَلْمُطَّلَعِ وَ رَوْعَاتِ اَلْفَزَعِ وَ اِخْتِلاَفِ اَلْأَضْلاَعِ وَ اِسْتِكَاكِ اَلْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اَللَّحْدِ وَ خِيفَةِ اَلْوَعْدِ وَ غَمِّ اَلضَّرِيحِ وَ رَدْمِ اَلصَّفِيحِ فَاللَّهَ اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ وَ أَنْتُمْ وَ اَلسَّاعَةُ اَلسَّاعَةَ فِي قَرَنٍ وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلاَزِلِهَا وَ أَنَاخَتْ بِكَلاَكِلِهَا وَ اِنْصَرَفَتِ اَلدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا فَكَانَتْ كَيَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ اِنْقَضَى وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ اَلْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ

١١٠

وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا( وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً ) قَدْ أُمِنَ اَلْعَذَابُ وَ اِنْقَطَعَ اَلْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ اَلنَّارِ وَ اِطْمَأَنَّتْ بِهِمُ اَلدَّارُ وَ رَضُوا اَلْمَثْوَى وَ اَلْقَرَارَ اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اِسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلاً تَوَحُّشاً وَ اِنْقِطَاعاً فَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ مَآباً وَ اَلْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ فَارْعَوْا عِبَادَ اَللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ اَلْمَخُوفُ فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ تُنَالُونَ وَ لاَ عَثْرَةً تُقَالُونَ اِسْتَعْمَلَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ اِلْزَمُوا اَلْأَرْضَ وَ اِصْبِرُوا عَلَى اَلْبَلاَءِ وَ لاَ تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اَللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ وَ اِسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَ قَامَتِ اَلنِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلاً وظائف حقوقه الواجبات المؤقتة كالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان و الوظيفة ما يجعل للإنسان في كل يوم أو في كل شهر أو في كل سنة من طعام أو رزق

١١١

و عزيز منصوب لأنه حال من الضمير في أستعينه و يجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في حقوقه و إضافة عزيز إلى الجند إضافة في تقدير الانفصال لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا.و قاهر أعداءه حاربهم و روي و قهر أعداءه.و المعقل ما يعتصم به و ذروته أعلاه.و امهدوا له اتخذوا مهادا و هو الفراش و هذه استعارة.قوله ع فإن الغاية القيامة أي فإن منتهى كل البشر إليها و لا بد منها.و الأرماس جمع رمس و هو القبر و الإبلاس مصدر أبلس أي خاب و يئس و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن.و استكاك الأسماع صممها.و غم الضريح ضيق القبر و كربه و الصفيح الحجر و ردمه سده.و السنن الطريق و القرن الحبل.و أشراط الساعة علاماتها و أزفت قربت و أفراطها جمع فرط و هم المتقدمون السابقون من الموتى و من روى بإفراطها فهو مصدر أفرط في الشي‏ء أي قربت الساعة بشدة غلوائها و بلوغها غاية الهول و الفظاعة و يجوز أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها و ما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة كالدجال و دابة الأرض و نحوهما و يرجع ذلك إلى اللفظة الأولى و هي أشراطها و إنما يختلف اللفظ.و الكلاكل جمع كلكل و هو الصدر و يقال للأمر الثقيل قد أناخ عليهم بكلكله أي هدهم و رضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا أنحى عليه بصدره.قوله ع و انصرفت الدنيا بأهلها أي ولت و يروى و انصرمت أي انقضت.

١١٢

و الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح.و الرث الخلق و الغث الهزيل.و مقام ضنك أي ضيق.و شديد كلبها أي شرها و أذاها و اللجب الصوت و وقودها هاهنا بضم الواو و هو الحدث و لا يجوز الفتح لأنه ما يوقد به كالحطب و نحوه و ذاك لا يوصف بأنه ذاك.قوله ع عم قرارها أي لا يهتدى فيه لظلمته و لأنه عميق جدا و يروى و كأن ليلهم نهار و كذلك أختها على التشبيه.و المآب المرجع و مدينون مجزيون.قوله ع فلا رجعة تنالون الرواية بضم التاء أي تعطون يقال أنلت فلانا مالا أي منحته و قد روي تنالون بفتح التاء.ثم أمر أصحابه أن يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج و من كان يبطن هوى معاوية و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك و لكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و فسادهم و يرومون قتلهم و قتالهم فنهاهم عن ذلك و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء.و روي بإسقاط الباء من قوله بأيديكم و من روى الكلمة بالباء جعلها زائدة و يجوز ألا تكون زائدة و يكون المعنى و لا تحركوا الفتنة بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم فحذف المفعول.و الإصلات بالسيف مصدر أصلت أي سل.

١١٣

و اعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه ع و من ناصع كلامه و نادره و فيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى و قد أخذ ابن نباتة الخطيب كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه مثل قوله شديد كلبها عال لجبها ساطع لهبها متغيظ زفيرها متأجج سعيرها بعيد خمودها ذاك وقودها مخوف وعيدها عم قرارها مظلمة أقطارها حامية قدورها فظيعة أمورها فإن هذه الألفاظ كلها اختطفها و أغار عليها و اغتصبها و سمط بها خطبه و شذر بها كلامه.و مثل قوله هول المطلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللحد و خيفة الوعد و غم الضريح و ردم الصفيح فإن هذه الألفاظ أيضا تمضي في أثناء خطبه و في غضون مواعظه

١١٤

٢٣٧ و من خطبة له ع

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْفَاشِي فِي اَلْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ اَلْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ اَلْمُتَعَالِي جَدُّهُ أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ اَلتُّؤَامِ وَ آلاَئِهِ اَلْعِظَامِ اَلَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَ عَلِمَ مَا بِمَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى مُبْتَدِعِ اَلْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلاَ اِقْتِدَاءٍ وَ لاَ تَعْلِيمٍ وَ لاَ اِحْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَ لاَ إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لاَ حَضْرَةِ مَلاٍ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ اِبْتَعَثَهُ وَ اَلنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ اَلْحَيْنِ وَ اِسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ اَلرَّيْنِ عِبَادَ اَللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ اَلْمُوجِبَةُ عَلَى اَللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اَللَّهِ فَإِنَّ اَلتَّقْوَى فِي اَلْيَوْمِ اَلْحِرْزُ وَ اَلْجُنَّةُ وَ فِي غَدٍ اَلطَّرِيقُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً إِذَا أَعَادَ اَللَّهُ مَا أَبْدَى وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا أُولَئِكَ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ ) فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا وَ اِعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً وَ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً

١١٥

أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اِقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ اِرْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَ دَاوُوا بِهَا اَلْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا اَلْحِمَامَ وَ اِعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لاَ يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا أَلاَ فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا وَ كُونُوا عَنِ اَلدُّنْيَا نُزَّاهاً وَ إِلَى اَلآْخِرَةِ وُلاَّهاً وَ لاَ تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ اَلتَّقْوَى وَ لاَ تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لاَ تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا وَ لاَ تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لاَ تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا وَ لاَ تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا كَاذِبٌ وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ أَلاَ وَ هِيَ اَلْمُتَصَدِّيَةُ اَلْعَنُونُ وَ اَلْجَامِحَةُ اَلْحَرُونُ وَ اَلْمَائِنَةُ اَلْخَئُونُ وَ اَلْجَحُودُ اَلْكَنُودُ وَ اَلْعَنُودُ اَلصَّدُودُ وَ اَلْحَيُودُ اَلْمَيُودُ حَالُهَا اِنْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ دَارُ حَرْبٍ حَرَبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ اَلْمَعَاقِلُ وَ لَفَظَتْهُمُ اَلْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ اَلْمَحَاوِلُ فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ وَ قَدْ أَدْبَرَتِ اَلْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ اَلْغِيلَةُ وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ وَ مَضَتِ اَلدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ )

١١٦

الفاشي الذائع فشا الخبر يفشو فشوا أي ذاع و أفشاه غيره و تفشى الشي‏ء أي اتسع و الفواشي كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة و الإبل و غيرهما و منه الحديث

ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده إطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته و يجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها فحذف المضاف.قوله و الغالب جنده فيه معنى قوله تعالى( فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ ) .قوله و المتعالي جده فيه معنى قوله تعالى( وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا ) و الجد في هذا الموضع و في الآية العظمة.و التؤام جمع توأم على فوعل و هو الولد المقارن أخاه في بطن واحد و قد أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك فهي متئم فإن كان ذلك عادتها فهي متآم و كل واحد من الولدين توأم و هما توأمان و هذا توأم هذا و هذه توأمته و الجمع توائم مثل قشعم و قشاعم و جاء في جمعه تؤام على فعال و هي اللفظة التي وردت في هذه الخطبة و هو جمع غريب لم يأت نظيره إلا في مواضع معدودة و هي عرق العظم يؤخذ عنه اللحم و عراق و شاة ربى للحديثة العهد بالولادة و غنم رباب و ظئر للمرضعة غير ولدها و ظؤار و رخل للأنثى من أولاد الضأن و رخال و فرير لولد البقرة الوحشية و فرار.و الآلاء النعم.

١١٧

قوله ع مبدع الخلائق بعلمه ليس يريد أن العلم علة في الإبداع كما تقول هوى الحجر بثقله بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أي خرج متسلحا فموضع الجار و المجرور على هذا نصب بالحالية و كذلك القول في و منشئهم بحكمه و الحكم هاهنا الحكمة.و منه قوله ع إن من الشعر لحكمة.قوله بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء قد تكرر منه ع أمثاله مرارا.قوله و لا إصابة خطأ تحته معنى لطيف و ذلك لأن المتكلمين يوردون على أنفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض الأشياء لا من طريق أصلا لا من إحساس و لا من نظر و استدلال فوجب أن يعلم سائرها لأنه لا مخصص فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك و لم لا يجوز أن يكون فعل أفعاله مضطربة فلما أدركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها و اضطرابها و أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير إحساس و يكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه ثم يعود الاستدلال المذكور أولا.قوله ع و لا حضره ملأ الملأ الجماعة من الناس و فيه معنى قوله تعالى( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) .قوله يضربون في غمرة أي يسيرون في جهل و ضلالة و الضرب السير السريع.و الحين الهلاك و الرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب و قيل الرين

١١٨

الطبع و الدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا أي دنسه و وسخه و استغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها.قوله فإنها حق الله عليكم و الموجبة على الله حقكم يريد أنها واجبة عليكم فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب و هذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل و أن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة.قوله و أن تستعينوا عليها بالله و تستعينوا بها على الله يريد أوصيكم بأن تستعينوا بالله على التقوى بأن تدعوه و تبتهلوا إليه أن يعينكم عليها و يوفقكم لها و ييسرها و يقوي دواعيكم إلى القيام بها و أوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله و محاكمته و حسابه فإنه تعالى يوم البعث و الحساب كالحاكم بين المتخاصمين( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) فالسعيد من استعان على ذلك الحساب و تلك الحكومة و الخصومة بالتقوى في دار التكليف فإنها نعم المعونة( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزَّادِ اَلتَّقْوى) .و الجنة ما يستتر به.قوله و مستودعها حافظ يعني الله سبحانه لأنه مستودع الأعمال و يدل عليه قوله تعالى( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) و ليس ما قاله الراوندي من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي‏ء.قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون فقبلها القليل منهم شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم فرغب فيها من رغب و زهد من زهد و على الحقيقة ليست

١١٩

هي العارضة نفسها و لكن المكلفين ممكنون من فعلها و مرغبون فيها فصارت كالعارضة.و الغابر هاهنا الباقي و هو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي و بمعنى الماضي.قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى يعني أنشر الموتى و أخذ ما أعطى و ورث الأرض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي‏ء غيره كما قال( لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهَّارِ ) و قيل في الأخبار و الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب و الفضة كل ما كان منه في الدنيا فيجعله أمثال الجبال ثم يقول هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين.و سأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة عما أسدى إليهم من النعم فيم صرفوها و فيم أنفقوها.قوله ع فما أقل من قبلها يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس.و إذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق و ليس كما ظنه الراوندي أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها لأن المعنى على ما قلناه و لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها.قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع و يروى فانقطعوا بأسماعكم إليها أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم.قوله و ألظوا بجدكم أي ألحوا و الإلظاظ الإلحاح في الأمر و منه قول

١٢٠

ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال و الإكرام و منه الملاظة في الحرب و يقال رجل ملظ و ملظاظ أي ملحاح و ألظ المطر أي دام.و قوله بجدكم أي باجتهادكم جددت في الأمر جدا بالغت و اجتهدت و يروى و واكظوا بحدكم و المواكظة المداومة على الأمر و قال مجاهد في قوله تعالى( إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) قال أي مواكظا.قوله و أشعروا بها قلوبكم يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم و يجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن أي طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد و يجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها.قوله و ارحضوا بها أي اغسلوا و ثوب رحيض و مرحوض أي مغسول.قال و داووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب.و بادروا بها الحمام عجلوا و اسبقوا الموت أن يدرككم و أنتم غير متقين.و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا و لا يعتبرن بكم أهل التقوى أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم و سعادتهم.ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي و تصونوا أنتم بها عن الدناءة و ما ينافي العدالة.و النزه جمع نزيه و هو المتباعد عما يوجب الذم و الولاه جمع واله و هو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله.

١٢١

ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر.و لا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين و لا تجيبوا مناديها.و الأعلاق جمع علق و هو الشي‏ء النفيس و برق خالب و خلب لا مطر فيه.و أموالها محروبة أي مسلوبة.قوله ع ألا و هي المتصدية العنون شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضة أيضا عن لي كذا أي عرض.ثم قال و الجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح و هي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه و جعلها مع ذلك حرونا و هي التي لا تنقاد.ثم قال و المائنة الخئون مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة.و الجحود الكنود جحد الشي‏ء أنكره و كند النعمة كفرها جعلها كامرأة تجحد الصنيعة و لا تعترف بها و تكفر النعمة و يجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد و جحد أي قليل الخير و عام جحد أي قليل المطر و قد جحد النبت إذا لم يطل.قال و العنود الصدود العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحية.و الصدود المعرضة صد عنه أي أعرض شبهها في انحرافها و ميلها عن القصد بتلك.قال و الحيود الميود حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود إذا مالت عنه.و مادت تميد فهي ميود أي مالت فإن كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال.

١٢٢

قال حالها انتقال يجوز أن يعني به أن شيمتها و سجيتها الانتقال و التغير و يجوز أن يريد به معنى أدق و هو أن الزمان على ثلاثة أقسام ماض و حاضر و مستقبل فالماضي و المستقبل لا وجود لهما الآن و إنما الموجود أبدا هو الحاضر فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير و الزوال قال حالها انتقال أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير فلا ثبوت إذا لشي‏ء منها مطلقا و يروى و حالها افتعال أي كذب و زور و هي رواية شاذة.قال و وطئتها زلزال الوطأة كالضغطة و منه قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر و أصلها موضع القدم و الزلزال الشدة العظيمة و الجمع زلازل.و قال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة من قولك وطؤ الشي‏ء أي صار وطيئا ذا حال لينة و موضع وطي‏ء أي وثير و هذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد و هاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر.قال و علوها سفل يجوز ضم أولهما و كسره.قال دار حرب الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب و من فتح الراء أراد السلب حربته أي سلبت ماله.قال أهلها على ساق و سياق يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة و منه قوله سبحانه( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) و السياق نزع الروح يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا و سياقا.و قال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة

١٢٣

ثلاثة بنين على ساق و ليس ما قاله بشي‏ء لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى و لا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان.قال ع و لحاق و فراق اللام مفتوحة مصدر لحق به و هذا كقولهم الدنيا مولود يولد و مفقود يفقد.قال ع قد تحيرت مذاهبها أي تحير أهلها في مذاهبهم و ليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك.و أعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول.و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم.و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم.و أعيتهم المحاول أي المطالب.ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه و قد جرح بدنه.و لحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع.و شلو مذبوح الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت و في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن.و دم مفسوح أي مسفوك و عاض على يديه أي ندما.و صافق بكفيه أي تعسفا أو تعجبا.و مرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا و هما.و زار على رأيه أي عائب أي يرى الواحد منهم رأيا و يرجع عنه و يعيبه و هو البداء الذي يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله و راجع عن عزمه.

١٢٤

فإن قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما ليكون الكلام أكثر فائدة قلت نعم بأن يريد بالأول من رأى رأيا و كشفه لغيره و جامعه عليه ثم بدا له و عابه و يريد بالثاني من عزم نفسه عزما و لم يظهر لغيره ثم رجع عنه و يمكن أيضا بأن يفرق بينهما بأن يعني بالرأي الاعتقاد كما يقال هذا رأي أبي حنيفة و العزم أمر مفرد خارج عن ذلك و هو ما يعزم عليه الإنسان من أمور نفسه و لا يقال عزم في الاعتقادات ثم قال ع و قد أدبرت الحيلة أي ولت و أقبلت الغيلة أي الشر و منه قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال يقال قتله غيلة أي خديعة يذهب به إلى مكان يوهمه أنه لحاجة ثم يقتله.قال ع و لات حين مناص هذه من ألفاظ الكتاب العزيز قال الأخفش شبهوا لات بليس و أضمروا فيها اسم الفاعل قال و لا تكون لات إلا مع حين و قد جاء حذف حين في الشعر و منه المثل حنت و لات هنت أي و لات حين حنت و الهاء بدل من الحاء فحذف الحين و هو يريده قال و قرأ بعضهم( وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ ) بالرفع و أضمر الخبر و قال أبو عبيد هي لا و التاء إنما زيدت في حين لا في لا و إن كتبت مفردة و الأصل تحين كما قال في ألان تلان فزادوا التاء و أنشد لأبي وجزة:

العاطفون تحين ما من عاطف

و المطعمون زمان أين المطعم

و قال المؤرج زيدت التاء في لات كما زيدت في ربت و ثمت.و المناص المهرب ناص عن قرنه ينوص نوصا و مناصا أي ليس هذا وقت الهرب و الفرار.

١٢٥

و يكون المناص أيضا بمعنى الملجأ و المفزع أي ليس هذا حين تجد مفزعا و معقلا تعتصم به.هيهات اسم للفعل و معناه بعد يقال هيهات زيد فهو مبتدأ و خبر و المعنى يعطي الفعلية و التاء في هيهات مفتوحة مثل كيف و أصلها هاء و ناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية و قال الراجز:

هيهات من مصبحها هيهات

هيهات حجر من صنيعات

و قد تبدل الهاء همزة فيقال أيهات مثل هراق و أراق قال:

أيهات منك الحياة أيهاتا

قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء فقال هيهاه و من فتحها وقف إن شاء بالتاء و إن شاء بالهاء.قوله ع و مضت الدنيا لحال بالها كلمة تقال فيما انقضى و فرط أمره و معناها مضى بما فيه إن كان خيرا و إن كان شرا.قوله ع فما بكت عليهم السماء هو من كلام الله تعالى و المراد أهل السماء و هم الملائكة و أهل الأرض و هم البشر و المعنى أنهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم و قيل أراد المبالغة في تحقير شأنهم لأن العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته السماء و بكته النجوم قال الشاعر:

فالشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل و القمرا

فنفى عنهم ذلك و قال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول و تأولها ابن عباسرضي‌الله‌عنه لما قيل له أ تبكي السماء و الأرض على أحد فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض و مصعد عمله في السماء فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منهما إلى السماء

١٢٦

238 و من خطبة له ع و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة

و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره و تركه السجود لآدم ع و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية و تحذير الناس من سلوك طريقته : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَبِسَ اَلْعِزَّ وَ اَلْكِبْرِيَاءَ وَ اِخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اِصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ وَ جَعَلَ اَللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اِخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلاَئِكَتَهُ اَلْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ اَلْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ اَلْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ اَلْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ اَلْغُيُوبِ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ) اِعْتَرَضَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اَللَّهِ إِمَامُ اَلْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ اَلَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اَللَّهَ رِدَاءَ اَلْجَبَرِيَّةِ وَ اِدَّرَعَ لِبَاسَ اَلتَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ اَلتَّذَلُّلِ أَلاَ يَرَوْنَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اَللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي اَلدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي اَلآْخِرَةِ سَعِيراً

١٢٧

يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة من قولهم قصعت الناقة بجرتها و هو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها و يجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه أي أذهبه و سكنه قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى:

فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها

و قد تشح فلا ري و لا هيم

الصرائر جمع صريرة و هي العطش و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته و غلام مقصوع أي قمي‏ء لا يشب و لا يزداد.و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة و عصبية في الباطل و هي مذمومة و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية و جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة و العصبية في الشيطان تورث النار.و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده.قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي و كذلك قوله سبحانه( وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ

١٢٨

اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ ) النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك.فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف.فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت و كيت فلما حكاه اقتصر على الاسم و يجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين.قوله تعالى( فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) أي إذا أكملت خلقه.فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له و قد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة و لا يجوز السجود إلا لله و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة و السجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة.و قوله تعالى( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه و أضاف الروح إليه تبجيلا لها و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح و النفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا.

١٢٩

و قالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة.فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى( كانَ مِنَ اَلْجِنِّ ) و جعل الاستثناء منقطعا و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب.قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين.فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة و امتنع من السجود تكبرا و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا.فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين.

١٣٠

قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا:

فإنك إن عاديتني غضب الحصا

عليك و ذو الجبورة المتغطرف

و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده : وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ اَلْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ اَلْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ اَلْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ اَلْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ اَلْبَلْوَى فِيهِ عَلَى اَلْمَلاَئِكَةِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلاِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اَللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلاَّ مَا كَانَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اَللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى اَلْعَالَمِينَ خطفت الشي‏ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا و فيه لغة أخرى

١٣١

خطف بالفتح و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى( يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ) .و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن و العرف الريح الطيبة.و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر و كذلك الخال و المخيلة تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر.و أحبط عمله أبطل ثوابه و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا و إبطال العقاب تكفيرا.و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية.و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن و لكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم.فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان.

١٣٢

قال و نفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة.فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون.فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله( تَعْرُجُ اَلْمَلائِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .و الأخرى قوله( يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) .و الثالثة قوله( وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) .و أولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا و سمي ذلك يوما و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف و ينتقل الأمر إلى دار أخرى و أما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا.

١٣٣

فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم و قال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة.فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند.و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض و أنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة.

١٣٤

و قيل كان اسمه عزازيل و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب لعبادته و اجتهاده و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت و لا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق و الباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد.فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص.فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته و لم يقل بالمعصية المطلقة و المرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه( قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ) فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره.فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول

١٣٥

قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة و هاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض.فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا و هل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد و إنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته و عفوه و كما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها : فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ عَدُوَّ اَللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ اَلْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ اَلشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ

١٣٦

غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ اَلْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ اَلْكِبْرِ وَ اَلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اِسْتَحْكَمَتِ اَلطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ فَنَجَمَتْ فِيهِ اَلْحَالُ مِنَ اَلسِّرِّ اَلْخَفِيِّ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْجَلِيِّ اِسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ اَلذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ اَلْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ اَلْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ اَلْقَهْرِ إِلَى اَلنَّارِ اَلْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ اَلَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلاَءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ اَلْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي اَلْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِعْتَمِدُوا وَضْعَ اَلتَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ اَلتَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ اَلتَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اِتَّخِذُوا اَلتَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلاً رَجْلاً وَ فُرْسَاناً وَ لاَ تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى اِبْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اَللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ اَلْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ اَلْحَسَدِ اَلْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ اَلْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ اَلْغَضَبِ وَ نَفَخَ اَلشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ اَلْكِبْرِ اَلَّذِي أَعْقَبَهُ اَللَّهُ بِهِ اَلنَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ اَلْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ

١٣٧

موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و في الحديث لا عدوى في الإسلام.فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل و غيرها و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر.قوله ع يستفزكم أي يستخفكم و هو من ألفاظ القرآن( وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه و الخيل الخيالة و منه الحديث يا خيل الله اركبي.و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب و صحب اسم جمع لصاحب و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز( وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ) و قرئ( وَ رَجِلِكَ ) بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب

١٣٨

و معناه و قد تضم الجيم أيضا فيكون مثل قولك رجل حدث و حدث و ندس و ندس.فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك و قد فسره قوم بهذا و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله فيستأصلهم و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح و خيله و رجله كل ماش و راكب من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد و لا يجوز أن يفسر قوله فقد فوق لكم سهم الوعيد بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا و لا يقال أفوقته و هو من النوادر.و قوله و أغرق إليكم بالنزع أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد.قوله و رماكم من مكان قريب لأنه كما جاء

في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب و لا شي‏ء أقرب من ذلك.و الباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح فما على هذا مصدرية أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح فحذف المفعول و يجوز أن تكون الباء قسما كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم.فإن قلت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه و هل هذا مما يقسم به قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه خلق الغي و الضلال في قلبه بل تكليفه

١٣٩

إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الباري و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر فقال( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف و يجوز فيه وجه ثالث و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم.فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به لأن الباري أمره بالحسن فأباه و عدل عنه إلى القبيح و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه و نعدل عنه إلى القبيح فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري قلت المشابهة بين الواقعتين في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار لأن معصية إبليس كانت من نفسه و وقعت عند الأمر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من الباري و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه.فإن قلت ما معنى قوله فِي اَلْأَرْضِ و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة( إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً ) و أما لفظة الأرض فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف كقوله تعالى

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319