كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

كتاب شرح نهج البلاغة25%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 319

  • البداية
  • السابق
  • 319 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29753 / تحميل: 6360
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

کتاب شرح نهج البلاغة

الجزء الثالث عشر

ابن ابي الحديد

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

٢٢٤ و من كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة

و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة : وَ بَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّى اِنْقَطَعَتِ اَلنَّعْلُ وَ سَقَطَ اَلرِّدَاءُ وَ وُطِئَ اَلضَّعِيفُ وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ اَلنَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ اِبْتَهَجَ بِهَا اَلصَّغِيرُ وَ هَدَجَ إِلَيْهَا اَلْكَبِيرُ وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا اَلْعَلِيلُ وَ حَسَرَتْ إِلَيْهَا اَلْكِعَابُ التداك الازدحام الشديد و الإبل الهيم العطاش.و هدج إليها الكبير مشى مشيا ضعيفا مرتعشا و المضارع يهدج بالكسر.و تحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة.

٣

و حسرت إليها الكعاب كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة و الكعاب الجارية التي قد نهد ثديها كعبت تكعب بالضم.قوله حتى انقطع النعل و سقط الرداء شبيه

بقوله في الخطبة الشقشقية حتى لقد وطئ الحسنان و شق عطفاي.و قد تقدم ذكر بيعته ع بعد قتل عثمان و إطباق الناس عليها و كيفية الحال فيها و شرح شرحا يستغنى عن إعادته

٤

٢٢٥ و من خطبة له ع

فَإِنَّ تَقْوَى اَللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَ ذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ اَلطَّالِبُ وَ يَنْجُو اَلْهَارِبُ وَ تُنَالُ اَلرَّغَائِبُ فَاعْمَلُوا وَ اَلْعَمَلُ يُرْفَعُ وَ اَلتَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ اَلدُّعَاءُ يُسْمَعُ وَ اَلْحَالُ هَادِئَةٌ وَ اَلْأَقْلاَمُ جَارِيَةٌ وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً فَإِنَّ اَلْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ وَ اِحْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَةُ جُشُوبَةُ مَذَاقِهِ فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ اَلاِجْتِهَادِ وَ اَلتَّأَهُّبِ وَ اَلاِسْتِعْدَادِ وَ اَلتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ اَلزَّادِ وَ لاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِيَةِ وَ اَلْقُرُونِ اَلْخَالِيَةِ اَلَّذِينَ اِحْتَلَبُوا دِرَّتَهَا وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا

٥

وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ وَ لاَ يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ فَاحْذَرُوا اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لاَ يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَ لاَ يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لاَ يَرْكُدُ بَلاَؤُهَا عتق من كل ملكة هو مثل قوله ع التوبة تجب ما قبلها أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله و يستحوذ عليه فإن تقوى الله تعتق منه و تكفر عقابه و مثله قوله و نجاة من كل هلكة.قوله ع و العمل ينفع أي اعملوا في دار التكليف فإن العمل يوم القيامة غير نافع.قوله ع و الحال هادئة أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال الموقف من تلك الحركات الفظيعة نحو تطاير الصحف و نطق الجوارح و عنف السياق إلى النار.قوله ع و الأقلام جارية يعني أن التكليف باق و أن الملائكة الحفظة تكتب أعمال العباد بخلاف يوم القيامة فإنه يبطل ذلك و يستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف.قوله عمرا ناكسا يعني الهرم من قوله تعالى( وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ ) لرجوع الشيخ الهرم إلى مثل حال الصبي الصغير في ضعف العقل و البنية

٦

و الموت الخالس المختطف و الطيات جمع طية بالكسر و هي منزل السفر و الواتر القاتل و الوتر بالكسر الذحل.و أعلقتكم حبائله جعلتكم معتلقين فيها و يروى قد علقتكم بغير همز.و تكنفتكم غوائله أحاطت بكم دواهيه و مصائبه و أقصدتكم أصابتكم.و المعابل نصال عراض الواحدة معبلة بالكسر.و عدوته بالفتح ظلمه و نبوته مصدر نبا السيف إذا لم يؤثر في الضريبة.و يوشك بالكسر يقرب و تغشاكم تحيط بكم.و الدواجي الظلم الواحدة داجية و الظلل جمع ظلة و هي السحاب و الاحتدام الاضطرام و الحنادس الظلمات.و إرهاقه مصدر أرهقته أي أعجلته و يروى إزهاقه بالزاي.و الأطباق جمع طبق و هذا من باب الاستعارة أي تكاثف ظلماتها طبق فوق طبق.و يروى و جشوبة مذاقه بالجيم و الباء و هي غلظ الطعام.و النجي القوم يتناجون و الندي القوم يجتمعون في النادي.و احتلبوا درتها فازوا بمنافعها كما يحتلب الإنسان اللبن.و هذه الخطبة من محاسن خطبه ع و فيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتأمل : مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلزُّهَّادِ كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ اَلدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا

٧

عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلُّبُ أَبْدَانِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ اَلآْخِرَةِ وَ يَرَوْنَ أَهْلَ اَلدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ بين ظهراني أهل الآخرة بفتح النون و لا يجوز كسرها و يجوز بين ظهري أهل الآخرة لو روي و المعنى في وسطهم.قوله ع كانوا قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها أي هم من أهلها في ظاهر الأمر و في مرأى العين و ليسوا من أهلها لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها و نعيمها فكأنهم خارجون عنها.قوله عملوا فيها بما يبصرون أي بما يرونه أصلح لهم و يجوز أن يريد أنهم لشدة اجتهادهم قد أبصروا المآل فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء و هذا كقوله ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.قوله ع و بادروا فيها ما يحذرون أي سابقوه يعني الموت.قوله ع تقلب أبدانهم هذا محمول تارة على الحقيقة و تارة على المجاز أما الأول فلأنهم لا يخالطون إلا أهل الدين و لا يجالسون أهل الدنيا و أما الثاني فلأنهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزلة وصولهم إليه فأبدانهم تتقلب بين ظهراني أهل الآخرة أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة لأن المستحق للشي‏ء نظير لمن فعل به ذلك الشي‏ء.ثم قال هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا إنما يستعظمون موت الأبدان و هم أشد استعظاما لموت القلوب و قد تقدم من كلامنا في صفات الزهاد و العارفين ما فيه كفاية

٨

٢٢٦ و من خطبة له ع خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرة

ذكرها الواقدي في كتاب الجمل : فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ فَلَمَّ اَللَّهُ بِهِ اَلصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ اَلْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ اَلشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي اَلْأَرْحَامِ بَعْدَ اَلْعَدَاوَةِ اَلْوَاغِرَةِ فِي اَلصُّدُورِ وَ اَلضَّغَائِنِ اَلْقَادِحَةِ فِي اَلْقُلُوبِ ذو قار اسم موضع قريب من البصرة و فيه كانت وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام.و صدع بما أمر به أي جهر و أصل الصدع الشق.و لم به جمع و رتق خاط و ألحم.و العداوة الواغرة ذات الوغرة و هي شدة الحر.و الضغائن الأحقاد.و القادحة في القلوب كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة

٩

٢٢٧ و من كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعة

و هو من شيعته و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فَقَالَ ع : إِنَّ هَذَا اَلْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لاَ لَكَ وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْ‏ءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ وَ إِلاَّ فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لاَ تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ

عبد الله بن زمعة و نسبه

هو عبد الله بن زمعة بفتح الميم لا كما ذكره الراوندي و هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.كان الأسود من المستهزءين الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت و القتل و ابنه زمعة بن الأسود قتل يوم بدر كافرا و كان يدعى زاد الركب و قتل أخوه عقيل بن الأسود أيضا كافرا يوم بدر و قتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا و الأسود هو الذي سمع امرأة تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر فقال:

أ تبكي أن يضل لها بعير

و يمنعها من النوم الهجود

١٠

و لا تبكي على بدر و لكن

على بدر تقاصرت الجدود

ألا قد ساد بعدهم أناس

و لو لا يوم بدر لم يسودوا

و كان عبد الله بن زمعة شيعة لعلي ع و من أصحابه و من ولد عبد الله هذا أبو البختري القاضي و هو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة قاضي الرشيد هارون بن محمد المهدي و كان منحرفا عن علي ع و هو الذي أفتى الرشيد ببطلان الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع و أخذه بيده فمزقه.و قال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر و يذكر زمعة بن الأسود:

عين بكي لنوفل و لعمرو

ثم لا تبخلي على زمعه

نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى و يعرف بابن العدوية قتله علي ع و عمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء و أجهز عليه عبد الله بن مسعود قوله ع و جلب أسيافهم أي ما جلبته أسيافهم و ساقته إليهم و الجلب المال المجلوب و جناة الثمر ما يجنى منه و هذه استعارة فصيحة

١١

٢٢٨ و من كلام له ع

أَلاَ وَ إِنَّ اَللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ اَلْإِنْسَانِ فَلاَ يُسْعِدُهُ اَلْقَوْلُ إِذَا اِمْتَنَعَ وَ لاَ يُمْهِلُهُ اَلنُّطْقُ إِذَا اِتَّسَعَ وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ اَلْكَلاَمِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وَ عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ وَ اِعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ اَلْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ وَ اَللِّسَانُ عَنِ اَلصِّدْقِ كَلِيلٌ وَ اَللاَّزِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى اَلْعِصْيَانِ مُصْطَلِحُونَ عَلَى اَلْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ وَ فَارِئُهُمْ قَارِنُهُمْ مُمَاذِقٌ لاَ يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ وَ لاَ يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ بضعة من الإنسان قطعة منه و الهاء في يسعده ترجع إلى اللسان.و الضمير في امتنع يرجع إلى الإنسان و كذلك الهاء في لا يمهله يرجع إلى اللسان.و الضمير في اتسع يرجع إلى الإنسان و تقديره فلا يسعد اللسان القول إذا امتنع الإنسان عن أن يقول و لا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول و المعنى أن اللسان آلة للإنسان فإذا صرفه صارف عن الكلام لم يكن اللسان

١٢

ناطقا و إذا دعاه داع إلى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه.و تنشبت عروقه أي علقت و روي انتشبت و الرواية الأولى أدخل في صناعة الكلام لأنها بإزاء تهدلت و التهدل التدلي و قد أخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني فخطب بها في خطبة مشهورة من خطبه

ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام

و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في واقعة اقتضت أن يقوله و ذلك أنه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي أن يخطب الناس يوما فصعد المنبر فحصر و لم يستطع الكلام فقام أمير المؤمنين ع فتسنم ذروة المنبر و خطب خطبة طويلة ذكر الرضيرحمه‌الله منها هذه الكلمات و روى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان و التبيين أن عثمان صعد المنبر فأرتج عليه فقال إن أبا بكر و عمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا و أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب و ستأتيكم الخطبة على وجهها ثم نزل.قال أبو عثمان و روى أبو الحسن المدائني قال صعد ابن لعدي بن أرطاة المنبر فلما رأى الناس حصر فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء و يسقيهم و صعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم و صرفوا أسماعهم

١٣

نحوه قال نكسوا رءوسكم و غضوا أبصاركم فإن أول مركب صعب فإذا يسر الله عز و جل فتح قفل تيسر ثم نزل.و خطب مصعب بن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك أ لهذا دعوناك.و خطب مروان بن الحكم فحصر فقال اللهم إنا نحمدك و نستعينك و لا نشرك بك.و لما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة و كان خطيبا شق عليه ذلك فقال له زياد ابن أبيه و كان خليفته أيها الأمير لا تجزع فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر و قال زياد للناس إن الأمير اليوم موعوك فقيل لرجل من وجوه أمراء القبائل قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر فقال الحمد لله الذي يرزق هؤلاء و بقي ساكتا فأنزلوه و أصعدوا آخر من الوجوه فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس فوقعت عينه على صلعة رجل فقال أيها الناس إن هذا الأصلع قد منعني الكلام اللهم فالعن هذه الصلعة فأنزلوه و قالوا لوازع اليشكري قم إلى المنبر فتكلم فلما صعد و رأى الناس قال أيها الناس إني كنت اليوم كارها لحضور الجمعة و لكن امرأتي حملتني على إتيانها و أنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا فأنزلوه فقال زياد لعبد الله بن عامر كيف رأيت قم الآن فاخطب الناس.

١٤

و قال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال يا أمير المؤمنين كانت عدتك أرفع من جائزتك و هو يتبسم فاغتاظ الفضل بن الربيع فقلت له إن هذا من الحصر و الضعف و ليس من الجلد و القوة أما تراه يفتل أصابعه و يرشح جبينه.و دخل معبد بن طوق العنبري على بعض الأمراء فتكلم و هو قائم فأحسن فلما جلس تلهيع في كلامه فقال له ما أظرفك قائما و أموقك قاعدا قال إني إذا قمت جددت و إذا قعدت هزلت فقال ما أحسن ما خرجت منها.و كان عمرو بن الأهتم المنقري و الزبرقان بن بدر عند رسول الله ص فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال يا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع في أدانيه فقال الزبرقان حسدني يا رسول الله فقال عمرو يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم الخال فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو فقال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت و غضبت فقلت أقبح ما علمت و ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الأخرى

فقال ع إن من البيان لسحرا.و قال خالد بن صفوان ما الإنسان لو لا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة

١٥

و قال ابن أبي الزناد كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه فكتب إليه إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي أ ضأنا أم معزا فإذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي أ ذكرا أم أنثى و إذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي صغيرا أم كبيرا فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني و السلام.و أخذ المنصور هذا فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن و عقر نخلهم فكتب إليه بأيهما أبدأ بالدور أم بالنخل يا أمير المؤمنين فكتب إليه لو قلت لك بالنخل لكتبت إلي بما ذا أبدأ بالشهريز أم بالبرني و عزله و ولى محمد بن سليمان.و خطب عبد الله بن عامر مرة فأرتج عليه و كان ذلك اليوم يوم الأضحى فقال لا أجمع عليكم عيا و لؤما من أخذ شاة من السوق فهي له و ثمنها علي.و خطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فأرتج عليه فقام عمه داود بن علي فقال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله و لأثر الأفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال و حسبكم كتاب الله علما فيكم و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم.قال الشاعر:

١٦

و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه

و إن مات لم يحزن عليه أقاربه

كهام على الأقصى كليل لسانه

و في بشر الأدنى حديد مخالبه

و قال أحيحة بن الجلاح:

و الصمت أجمل بالفتى

ما لم يكن عي يشينه

و القول ذو خطل إذا

ما لم يكن لب يزينه

١٧

٢٢٩ و من كلام له ع

رَوَى ذِعْلَبٌ اَلْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمنِيِنَ ع فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اِخْتِلاَفُ اَلنَّاسِ فَقَالَ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ وَ عَلَى قَدْرِ اِخْتِلاَفِهَا يَتَفَاوَتُونَ فَتَامُّ اَلرُّوَاءِ نَاقِصُ اَلْعَقْلِ وَ مَادُّ اَلْقَامَةِ قَصِيرُ اَلْهِمَّةِ وَ زَاكِي اَلْعَمَلِ قَبِيحُ اَلْمَنْظَرِ وَ قَرِيبُ اَلْقَعْرِ بَعِيدُ اَلسَّبْرِ وَ مَعْرُوفُ اَلضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ اَلْجَلِيبَةِ وَ تَائِهُ اَلْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اَللُّبِّ وَ طَلِيقُ اَللِّسَانِ حَدِيدُ اَلْجَنَانِ ذعلب و أحمد و عبد الله و مالك رجال من رجال الشيعة و محدثيهم و هذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره و ما يتسارع إلى أفهام العامة منه و ذلك لأن قوله إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين و جعل صورة بشرية طينية برأس و بطن و يدين و رجلين ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سبخ و عذب فإن أريد الأول فالواقع خلافه لأن البشر الذين نشاهدهم و الذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم و إنما خلقوا من نطف آبائهم و ليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف

١٨

افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت من العذوبة و الملوحة و ذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه بل من مجموع الأغذية و تلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية لأن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها كما يعلم أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة و أيضا فإن الأرض السبخة أو التي الغالب عليها السبخية لا تنبت الأقوات أصلا و إن أريد الثاني و هو أن يكون طين آدم ع مختلطا في جوهره مختلفا في طبائعه فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي و كيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن.و الذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا و هو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان و كنى عنها بقوله مبادئ طينهم و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال العاصمة له من تفرق العناصر صارت كالمبدإ و كالعلة له من حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه و اختلاط عناصره بعضها ببعض و لذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر و انحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء و الكثيف إلى الأرض.و قوله كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها و حزن تربة و سهلها تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس خلقها مختلفة في ماهيتها فمنها الزكية و منها الخبيثة و منها العفيفة و منها الفاجرة و منها القوية و منها الضعيفة و منها الجريئة المقدمة و منها الفشلة الذليلة إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة.ثم فسر ع و علل تساوي قوم في الأخلاق و تفاوت آخرين فيها فقال

١٩

إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو فإذا هما في الأخلاق متساويتان أو متقاربتان و نفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر أو قريبة من المضادة فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة.و القول باختلاف النفوس في ماهياتها هو مذهب أفلاطون و قد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء و قال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام.و أما أرسطو و أتباعه فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها و القول الأول عندي أمثل.ثم بين ع اختلاف آحاد الناس فقال منهم من هو تام الرواء لكنه ناقص العقل و الرواء بالهمز و المد المنظر الجميل و من أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل.و قال الشاعر:

عقله عقل طائر

و هو في خلقة الجمل

و قال أبو الطيب:

و ما الحسن في وجه الفتى شرف له

إذا لم يكن في فعله و الخلائق

و قال الآخر:

و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم

إذا كانت الأخلاق غير حسان

فلا يغررنك المرء راق رواؤه

فما كل مصقول الغرار يماني

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نذره مطلقا، أو بطلانه من أصله لوقيده بذلك الوقت؟ الاقوى هو الاول، وبيان وجهه يستدعي بسطا من الكلام، فنقول: إنه لاإشكال في أنه يتعبر في متعلق النذر من الرجحان، كما أنه يعتبر في متعلق العهد واليمين عدم المرجوحية، فيكون الرجحان من قبيل القيود المعتبرة في المتعلق، ولاإشكال أيضا في اعتبار تقدم المتعلق بجميع ماله من القيود على الحكم، بحيث يؤخذ المتعلق بماله من الشرائط مفروض التحقق حتى يرد الحكم عليه، فكل قيد لايتأتى إلا من قبل الحكم لايعقل أخذه في متعلقه، كمسألة القربة والعلم والجهل وأمثال ذلك مما هو مسطور في الاصول، وحيث كان الرجحان مأخوذا في متعلق النذر فلابد وأن يكون سابقا على النذر، حتى يرد النذر على المتعلق الراجح، ولايكفي الرجحان الجائي من قبل النذر كما يوهمه بعض العبائر، لتوقف صحة النذر على كونه راجحا، فلو توقف الرجحان على النذر يلزم الدور.

وما ورد(١) من صحة نذر بعض المحرمات، كالاحرام قبل الميقات، وكالصوم في السفر، فليس ذلك من باب الاكتفاء بالرجحان الجائي من قبل النذر، ولا من باب تخصيص ما دل على اعتبار الرجحان في متعلق النذر بغير هذا المورد، بل ورود الدليل بصحة مثل هذا النذر يكشف عن تقييد الحرام الواقعي من الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات بما إذا لم يتعلق النذر به.

والحاصل: أن النذر من العناوين الطارئة القابلة لتغير الواقع عما هو عليه من المصلحة والمفسدة، كالضرر والاضطرار وأمثال ذلك، فإذا ورد دليل بالخصوص على صحة نذر الحرام فلامحالة يكشف عن تقييد الحرام واقعا بما إذا لم يقع نذر على خلافه، وهذا كما ترى لاربط له بما نحن فيه من عدم إمكان

____________________

(١) الوسائل: ج ١٦، ص ٢٠٣، باب ٢٠ وص ١٩٦ باب ١٣ من أبواب النذور والعهد. [ * ]

١٠١

الاكتفاء بالرجحان الجائي من قبل النذر، ومجرد ورود دليل بالخصوص في بعض الموارد لايمكن تسريته إلى جميع الموارد، إذ يلزمه القول بصحة نذر جميع المحرمات، وهذا كما ترى بديهي البطلان، فالنذر كالشرط فكما أنه لايمكن القول بصحة الشرط المخالف للكتاب بأدلة وجوب الوفاء بالشرط فكذلك لايمكن القول بصحة نذر المرجوح بأدلة وجوب الوفاء بالنذر، فلابد من ورود النذر على الموضوع الراجح، ولا أظن أحدا خالف ما ذكرناه.

نعم هنا أمر آخر وقع التكلم فيه من بعض الاعلام، وهو أنه هل يكفي في صحة النذر الرجحان حال النذر وإن صار مرجوحا حال الفعل، أو لايكفي بل يعتبر بقاء الرجحان إلى حال صدور الفعل؟ ومعنى الرجحان حال النذر هو أن يكون الفعل حال تعلق النذر به راجحا، كما إذا نذر زيارة الحسينعليه‌السلام في كل ليلة جمعة، ثم طرأ في بعض ليالي الجمع ما يقتضي المرحوحية، كما إذا حصلت له الاستطاعه للحج، فربما يقال: إن الفعل حيث كان في زمان صدور النذر راجحا فالنذر انعقد صحييحا لوجود ما اعتبر فيه من رجحان المتعلق، وبعد انقعاد النذر المرجوحية الطارئة غير موجبة لانحلاله، ففي المثال المتقدم الاستطاعة العارضة لاتكون موجبة لانحلال النذر، لانه لم تكن الاستطاعة حين انعقاده، فإذا لم تكن موجبة لانحلاله فلا يكون الشخص مستطيعا للحج، ولم يكن واجبا عليه، لاشتغال ذمته بواجب آخر مقدم عليه سببا.

ومن هنا نقل عن الشيخ صاحب الجواهررحمه‌الله أنه كان عند اشتغاله بكتابة الجواهر، ينذر زيارة الحسينعليه‌السلام ليلة العرفة حتى لايجب عليه الحج لوحصلت له الاستطاعة في الاثناء، وربما أفتى بذلك بعض المتأخرين، هذا. ولكن الظاهر أنه يعتبر في صحة النذر وبقائه من ثبوت الرجحان حال صدور

١٠٢

الفعل، ولايكفي الرجحان حال النذر كما لاتكفي القدرة على المتعلق حال التكليف بل يعتبر القدرة حال العمل، فكما أن كل تكليف مشروط ببقاء القدرة إلى زمان صدور الفعل فكذلك الرجحان في متعلق النذر لابد وأن يكون باقيا حال العمل، وإن كان بينهما فرق من حيث إن اعتبار القدرة عقلي واعتبار الرجحان شرعي، لكن الغرض مجرد التنظير.

والحاصل: أن الرجحان حال النذر لاأثر له في بقائه، بل لو فرض أنه كان حال النذر مرجوحا ولكن حال العمل كان راجحا لكان نذره صحيحا بلا إشكال، ففي المثال المتقدم لامحيص عن القول بانحلال نذره بمجرد طروء الاستطاعة، ويجب عليه الحج لصيرورة زيارة الحسينعليه‌السلام حينئذ مرجوحة، ولايمكن العكس بأن يقال: الحج يصير مرجوحا بعد تعلق النذر بالزيارة، فتصير الزيارة واجبة لسبق سببه ويرتفع حينئذ موضوع الاستطاعة، وذلك لان الكلام بعد في انعقاد النذر بالنسبة إلى الزيارة التي حصلت الاستطاعة قبل مجئ زمانها، ومجرد سبق النذر لايكفي في ذلك بعدما كان بقاؤه مشروطا ببقاء الرجحان، فالرجحان حال النذر مما لاأثر له.

بل يمكن أن يقال: إن الرجحان حال النذر كلمة لامعنى لها، ولايعقل في مثل المثال أن يقال بالرجحان حال النذر، فإنه لاإشكال في أن زيارة عرفة إنما تكون راجحة عند مجئ وقتها، ولايعقل أن يقال: إن زيارة عرفة راجحة قل مجئ وقتها الذي هو وقت النذر، فزيادة عرفة كصلاة الظهر، فكما لايمكن أن يقال: إن صلاة الظهر قبل الزوال راجحة فكذلك لامعنى للقول برجحان زيارة عرفة حين النذر الذي يكون قبل مجئ وقتها، بناء على ما هو الحق من عدم معقولية الواجب المعلق والشرط المتأخر، فلو نذر أحد قبل أشهر الحرم زيارة الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة، فانعقاد هذا النذر يكون موقوفا ثبوتا بثبوت

١٠٣

رجحان الزيارة في ظرف وقوعها، فإذا استطاع الشخص قبل ذلك فتكون الزيارة في وقتها مرجوحة لسبق الاستطاعة، فلا يبقى موضوع للنذر، ولامحيص عن انحلاله، فتأمل.

والحاصل: أن النذر كالشرط، فكما لو شرط على المشتري ضيافة زيد في كل شهر مثلا أو في شهر خاص، واتفق ارتداد زيد وكفره في بعض الشهور أو في ذلك الشهر الخاص، بحيث حرم ضيافته إما لوجوب قتله وإما لحرمة موادته كان الشرط ملغى، ولايجب الوفاء به بعموم المؤمنون عند شروطهم(١) . والسر في ذلك أنه يعتبر في الشرط حدوثا وبقاء عدم مخالفته للكتاب، فكذلك لو نذر زيارة الحسينعليه‌السلام في كل شهر أو في شهر خاص، واتفق حصول الاستطاعة في بعض الشهور أو في ذلك الشهر الخاص، بحيث وجب عليه المسير للحج، كان النذر ملغى وينحل قهرا، لاعتبار الرجحان في متعلق النذر حدوثا وبقاء.

فظهر ضعف تعليل بعض الاعلام صحة نذر التطوع في وقت الفريضة بارتفاع مرجوحيتها بنفس النذر، قال: ولايرد أن متعلق النذر لابد أن يكون راجحا، وعلى القول بالمنع لارجحان فيه فلاينعقد نذره، وذلك لان الصلاة من حيث هي راجحة، ومرجوحيتها مقيدة بقيد يرتفع بنفس[ النذر ](٢) ، ولايعتبر في متعلق النذر الرجحان قبله ومع قطع النذر عنه، حتى يقال بعدم تحققه في المقام، انتهي.

وظاهر هذه العبارة لاتستقيم من أنه لاعبرة بالرجحان الجائي من قبل النذر، بل لابد وأن يكون الرجحان متحققا قبله، بل لايعقل ذلك كما عرفت، فتعليل صحة نذر التطوع في وقت الفريضة بهذا غير سديد، بل الاقوى في التعليل هو أن

____________________

(١) الوسائل: ج ١٥ ص ٣٠ باب ٢٠ من أبواب المهور، ح ٤.

(٢) ما بين المعقوفتين لم توجد في النسخة واثبتناه لاقتضاء السياق. [ * ]

١٠٤

يقال: إن ما هو المحرم التطوع في وقت الفريضة بوصف التطوع، وليست ذات صلاة جعفر مثلا محرمة، بل المحرم إنما هو التطوع بصلاة سجعفر وفعلها بداعي الاستحباب والتنفل، وصلاة جعفر بهذا الوصف لم يتعلق النذر بها، بل لايمكن أن يتعلق بها مقيدة بهذا الوصف، لانه يعتبر في متعلق النذر القدرة عليه، وصلاة جعفر بوصف كونها مستحبة غير مقدورة بعد تعلق النذر بها لصيرورتها واجبة، فلو فرض أن أحدا نذر فعل صلاة جعفر بوصف كونها مستحبة، كان نذره باطلا ولاينعقد أصلا، فالنذر دائما يكون متعلقا بذات العمل، وذات صلاة جعفر مع قطع النظر عن استحبابها لم تكن محرمة في وقت الفريضة، بل المحرم إنما هو التطوع بها، فإذا لم تكن ذات العمل منهيا عنه فلا مانع من تعلق النذر به، ويصير بذلك واجبا ويخرج موضوعا عن كونه تطوعا في وقت الفريضة، بل يكون فريضة في وقت فريضة.

فإن قلت: هب أن ذات العمل لم يكن منهيا عنه، إلا أن مجرد ذلك لايكفي في صحة النذر، لما تقدم من اعتبار الرجحان في متعلقه، ولا يكفي مجرد عدم المرجوحية، وذات العمل في وقت الفريضة حيث لم يتعلق به أمر استحبابي ولاوجوبي لايمكن الحكم برجحانه، فإن ذلك يكون رجما بالغيب.

والحاصل: أن رجحان الشئ لابد وأن يستكشف من تعلق الامر، إذ لاطريق لنا إلى معرفته سوى ذلك، وصلاة جعفر في وقت الفريصة بعد ما لم يتعلق بها أمر استحبابي ولاوجوبي حسب الفرض فمن أين يحكم برجحانها حتى يصح نذرها، فتكون واجبة وتخرج موضوعا عن كونها تطوعا في وقت الفريضة، فلامحيص إما عن القول ببطلان النذر وإما عن القول بالاكتفاء بالرجحان الآتي من قبل النذر، وقد تقدم عدم معقولية الثاني، فلابد من الاول وهو بطلان النذر.

قلت: يكفي في إثبات الرجحانية نفس العمومات الدالة على مشروعية صلاة

١٠٥

جعفر في نوعها، وكذا العمومات الدالة على أن الصلاة قربان كل تقي(١) ، ومعراج المؤمن(٢) ، وسقوط الامر بها في وقت الفريضة لايلازم سقوط الرجحانية المستكشفة من تلك العمومات.

والحاصل: أن القدر الثابت إنما هو سقوط الامر بالنوافل في وقت الفريضة، وأما سقوط الرجحان فلم يقم عليه دليل.

مضافا إلى معلومية أن الصلاة المشتملة على الذكر والدعاء لم تكن مرجوحة في حد نفسها بل تكون راجحة، فحينئذ يصح تعلق النذر بها، وبسببه تخرج عن كونها تطوعا في وقت الفريضة. ولايقاس ذلك بما إذا نذر أن يصلي خمس ركعات متصلة، حيث يكون نذره باطلا بالاجماع مع اشتمالها على الدعاء والذكر، وذلك لان الصلاة المشتملة على خمس ركعات لم تكن مشروعة في نوعها، وهذا بخلاف صلاة جعفر وغيرها من النوافل لمشروعيتها في نوعها، وإن سقط أمرها من جهة مزاحمتها لوقت الفريضة فتحصل: أن الرجحان المعتبر في متعلق النذر حاصل في المقام سابقا على النذر ومع قطع النظر عن تعلق النذر به، فلا حاجة إلى الالتزام بتلك المقالة الفاسدة من كفاية الرجحان الجائي من قبل الندر، فتأمل فيما ذكرناه فإنه بعد للنظر فيه مجال، إذ لمانع أن يمنع ثبوت الرجحان بعد تخصيص تلك العمومات الدالة على مشروعية الصلاة بغير وقت الفريضة.

نعم لو كان سقوط الامر بالنوافل في وقت الفريضة من باب المزاحمة لاالتخصيص لكان القول بثبوت الرجحان في محله، إلا أن إثبات ذلك مشكل،

____________________

(١) الكافي: ج ٣ ص ٢٦٥ باب فضل الصلاة، ح ٦.

(٢) الظاهر أن هذا مستفاد من الخبر لا أنه بنفسه خبر مستقل، راجع بحار الانوار: ج ٨٢ ص ٢٤٨. [ * ]

١٠٦

ولايسعنا التكلم في ذلك بأزيد مما ذكرناه، فعليك بالتأمل.

فإن قلت: سلمنا جميع ما ذكرته من تعلق النذر بذات الصلاة لابوصف التطوع، ومن ثبوت الرجحان لها مع قطع النظر عن تعلق النذر بها، إلا أنه لاإشكال في أن الامر بالوفاء بالنذر توصلي لايعتبر في سقوطه قصد التقرب وامتثال الامر، والمفروض أن ذات الصلاة في وقت الفريضة لم تكن مأمورا بها بأمر عبادي، فمن أين تقولون يعتبر في صحة مثل هذه الصلاة المنذورة من قصد التقرب والامر، بحيث لو لم يأت بها بهذا القصد كانت الصلاة باطلة، ولم يبرأ من نذره، مع أنه لم يكن في البين أمر عبادي يقصد؟ والحاصل: أن الامر النذري لو اتحد مع الامر العبادي في المتعلق، بأن تعلق الامر النذري بعين ما تعلق به الامر العبادي، لاكتسب الامر النذري التعبدية من الامر التعبدي لاتحادهما.

وذلك كما لو نذر صلاة الليل، فحيث إن النذر إنما يتعلق بذات صلاة الليل لابوصف كونها مستحبة، وإلا لكان النذر باطلا لعدم القدرة عليه من حيث صيرورة صلالاة الليل بعد النذر واجبة، فلا يمكن إتيانها بوصف كونها مستحبة، فالنذر لامحالة يتعلق بذات صلاة الليل، والمفروض أنه قد تعلق بذات الصلاة أمر استحبابي عبادي، فيتحذ متعلق النذر مع متعلق الامر الاستحبابي، وحيث لايمكن اجتماع الوجوب والاستحباب في متعلق الواحد فلامحالة يكتسب الامر النذري التعبدية من الامرر الاستحبابي وينخلع عما كان عليه من التوصلية، كما أن الامر الاستحبابي يكتسب من الامر النذري الوجوب وينخلع عما كان عليه من الاستحباب، فيتحد الامران ويحصل من ذلك أمر وجوبي عبادي، لكن هذا إنما يكون بعد تعلق الامر العبادي بصلاة الليل.

وأما فيما نحن فيه فالمفروض أنه لم يتعلق بذات صلاة جعفر في وقت الفريضة

١٠٧

أمر عبادي، والامر النذري لايكون إلا توصليا، فمن أين يكتسب التعبدية حتى يكفي قصده في وقوع الصلاة عبادة مقربة؟ قلت: قد علم من مذاق الشارع أن الصلاة وظيفة شرعت لان يتعبد بها، فلو تعلق بها أمر لكان لامر لامحالة عبادي يعتبر في سقوطه من قصد الامتثال، وحيث إن النذر تعلق بصلاة النافلة بذاتها، والمفروض اجتماع هذا النذر لشرائط الصحة من الرجحان وغيره، فلامحالة يتعلق الامر النذري بذات الصلاة، وإذا تعلق بها أمر وإن كان من قبل النذر فلابد وأن يكون عباديا.

وبالجملة: الامر النذري يختلف باختلاف ما تعلق به، فلو تعلق بأمر عبادي بمعنى أنه لو تعلق به أمر لكان أمره عباديا، لكان الامر النذري عباديا لايسقط إلا بقصد الامتثال، ولو تعلق بأمر غير عبادي يكون توصليا لايعتبر في سقوطه ذلك، فتأمل فإن للنظر في ذلك أيضا مجال. هذا كله بناء على حرمة التطوع في وقت الفريضة، وقد عرفت أن الاقوى صحة النذر مطلقا، وجواز فعل المنذور في وقت الفريضة، لصيرورته واجبا سواء كان نذره مطلقا أو قيده بخصوص وقت الفريضة، وإن كان الصحة في المطلق أوضح كما لايخفى وجهه.

وأما لو قلنا بالكراهة من باب أقل الثواب كما هو الشأن في كراهة العبادات فلا ينبغي الاشكال في صحة النذر، لان الكراهة في العبادات تجتمع مع الرجحان والامر كليهما، ويكون جميع أركان النذر متحققا بلا أن يدخله ريب، فتأمل جيدا. ولو آخر نفسه لصلاة الزيارة مثلا في وقت الفريضة فالاقوى أيضا هو الصحة، لصيرورتها بالاجارة واجبة وتخرج عن موضوع التطوع، بل الصحة في الاجارة أوضح منها في النذر، لامكان الاشكال في النذر من حيث الرجحان المعتبر في

١٠٨

متعلقه، ويتوهم أن ذات الصلاة التي هي متعلقة للنذر مع كونها غير مأمور بها لارجحان فيها، وهذا بخلاف الاجارة فإن متعلقها هي الصلاة المأمور بها بالامر المتوجه على المنوب عنه، فهذا الوصف داخل في متعلق الاجارة.

نعم هنا صورة إشكال، وهو أنه يعتبر في متعلق الاجارة أن يكون العمل المستأجر عليه مما يباح على الاجير فعله بحيث لايكون العمل محرما عليه، ووجه اعتبار ذلك واضح، وفي المقام لو كان متعلق الاجارة هو الصلاة بوصف كونها مأمورا بها بالامر الاستحبابي فالاجير لايمكنه فعلها بهذا الوصف، لان المفروض حرمة التطوع في وقت الفريضة، فإذا لم يمكن للاجير فعلها فكيف يصير أجيرا على فعلها؟ هذا مضافا إلى أنه يعتبر في متعلق الاجارة أيضا أن يكون المستأجر قادرا على العمل، بحيث يكون المستأجر مما يمكنه الفعل إذا أراد المباشرة به، فإذا كان الفعل محرما عليه شرعا لما جاز الاجارة عليه، لان فعل الاجير فعل المستأجر ويكون في الحقيقة هو العامل ببدنه التنزيلي، وفي المقام لو وقعت الاجارة في وقت فريضة المستأجر لكان مقتضى القاعدة بطلان الاجارة.

والحاصل: أنه لو وقعت الاجاة في وقت فريضة الاجير لزم الاشكال الاول، ولو وقعت في وقت فريضة المستأجر لزم الاشكال الثاني، ولو وقعت في وقت فريضة كل منهما لزم الاشكالان جميعا، هذا. ولكن يدفع الاول بأن ما يحرم على الاجير إنما هو فعل التطوع لنفسه في وقت فريضة، لافعل ما هو مستحب على الغير في وقت فريضة نفسه بالاجارة، فإن ذلك لامانع عنه في حد نفسه ولادليل على حرمته، نعم التبرع عن الغير فيما يستحب عليه لايخلو عن إشكال، لصدق التطوع في وقت الفريضة على مثل هذا، مع أن ذلك أيضا لايخلو عن نظر، فإن التبرع إنما هو في جهة النيابة لافي نفس الفعل، فالمتبرع

١٠٩

إنما يفعل ما هو مستحب على الغير نيابة عنه بقصد المجانية والقربة، فيثاب على هذا المعنى أي على فعله نيابة لاعلى أصل الفعل، ففعل الصلاة نيابة عن الغير لايدخل في عنوان حرمة التطوع في وقت الفريضة، سواء كان بالتبرع أو بالاجارة، وإن كان بالاجارة أوضح وأبعد عن الاشكال، وأما التبرع فبعد يحتاج إلى مزيد تأمل. ويدفع الثاني بأن ماهو حرام على المستأجر إنما هو المباشرة بالتطوع، وأما لو كان ذلك بالنيابة فلا، ولا ملازمة بين حرمة المباشرة وحرمة النيابة، كما يظهر ذلك من جواز إجارة الحائض الغير للطواف مع حرمة الطواف عليها مباشرة، وكذا اجارة الجنب الغير لدخول المسجد، وغير ذلك من الموارد كما يظهر للمتتبع، فلا إشكال من هذه الجهة أيضا، ولكن مع ذلك بعد في النفس من صحة الاجارة شئ، فتأمل.

المسألة الثانية: لو حصل للمكلف أحد الاعذار المانعة عن التكليف، كالحيص والجنون وأمثال ذلك، فإن مضى من الوقت مقدار فعل الصلاة التامة الاجزاء والشرائط، من الطهارة المائية وتحصيل الساتر وغير ذلك من الشرائط التي كان فاقدا لها قبل الوقت ثم طرأ عليه العذر، فلا إشكال ولاخلاف في وجوب القضاء عليه، كما لااشكال ولاخلاف فيما إذا طرأ عليه العذر في أول الوقت في سقوط القضاء، إنما الاشكال والخلاف فيما إذا مضى من الوقت اقل من ذلك المقدار، فهل يجب عليه القضاء أولا؟ وكذا الكلام بالنسبة إلى آخر الوقت لوزال العذر قبل آخره بمقدار لايتمكن من فعل الفريضة مجتمعة للشرائط والاجزاء، مع تمكنه منها فاقدة للشرائط مع الطهارة المائية، أو بدونها أيضا بحيث لم يكن متمكنا إلا من الصلاة مع الطهارة الترابية فقط دون سائر الشرائط ودون الطهارة المائية، فهل يجب عليه فعلها ولو خالف كان عليه القضاء، أو لايجب إلا إذا زال العذر

١١٠

قبل آخره بمقدار فعل الفريضة مجتمعة لجميع الشرائط؟ ولنقدم الكلام في أول الوقت ثم نعقبه بآخره إذ ربما يكون بينهما تفاوتا بحسب الدليل، فنقول. مقتضى القاعدة أنه لو طرأ عليه أحد الاعذار المسقطة للتكليف قبل مضي مقدار من الوقت يمكنه فعل الفريضة تامة للاجزاء والشرائط هو عدم وجوب القضاء عليه ولا الاداء، إذا علم في أول الوقت بطرو العذر بعد ذلك.

أما عدم وجوب الاداء فلان المفروض عدم تمكنه من فعل الصلاة التامة، ولادليل على سقوط الشرائط بالنسبة إلى مثل هذا الشخص، فإن ما دل على سقوط الشرائط في حال الاضطرار إنما هو مختص بما إذا كان الشخص غير متمكن في حد نفسه من فعل الشرط، لاما إذا كان في حد نفسه متمكنا من فعل الشرط ولكن طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف، كما فيما نحن فيه.

والحاصل: أن العذر عن فعل الشرط في زمان لايكفي في سقوط التكليف عنه مالم يتعذر في جميع الوقت كما هو التحقيق في ذوي الاعذار، بل يحتاج في سقوط التكليف عن الشرط هو ثبوت العذر في تمام الوقت، ولذا لايجوز لذوي الاعذار البدار إلى فعل الصلاة الفاقدة للشرائط ما لم يعلم بعدم زوال العذر، إلا أن يقوم دليل شرعي على تنزيل العذر في زمان منزلة العذر في تمام الوقت، كما لايبعد ثبوت ذلك بالنسبة إلى خصوص الطهارة المائية، حيث يجوز عليه البدار مع الطهارة الترابية وإن لم يعلم باستيعاب العذر لتمام الوقت، على ما يأتي بيانه إن شاء‌الله، وأما ماعدا الطهارة من سائر الشرائط فيحتاج في سقوط التكليف عنها بحسب القاعدة إلى استيعاب العذر لتمام الوقت، ولايكفي العذر في بعض إنما طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف من الحيض والجنون وغير ذلك.

١١١

فإن قلت: أما قلتم إن العذر إذا استوعب تمام الوقت كان التكليف بالنسبة إلى الشرط المعذور فيه ساقطا وكان يجب عليه الصلاة فاقدة لذاك الشرط، فما الفرق بين ما نحن فيه وبين ذلك، فإن الوقت بالنسبة إلى من تحيض عقيب نصف من الزوال هو هذا المقدار من الزمان، والمفروض أن في هذا المقدار من الزمان غير متمكن من الشرائط، فهو كما إذا استوعب عذره تمام الوقت؟ قلت: ليس الامر كذلك، فإن طروء الحيض لايوجب تضييق في الوقت المضروب للصلاة، بل الوقت المضروب إنما هو باق على حاله، غاية الامر أن الشخص غير متمكن من فعل الصلاة في وقتها من جهة عروض المسقط.

والحاصل: أنه فرق بين أن يستوعب العذر تمام الوقت المضروب للصلاة من الزوال إلى الغروب وبين أن يعرض المسقط في أثناء الوقت، فإن عروض المسقط لايجعله آخر الوقت، فلابد في القول بوجوب الادداء على مثل هذا الشخص من قيام دليل بالخصوص على تنزيل العذر في بعض الوقت بمنزلة العذر في تمام الوقت.

والقول بأن وقت هذا الشخص هذا المقدار من الزمان حتى يدخل في موضوع من استوعب عذره تمام الوقت خال عن الدليل، بل هو قياس محض، فتأمل فإنه بعد للتأمل فيه مجال. ثم لاأقل من الشك في كون هذا المقدار من العذر المتعقب بالمسقط موجبا لسقوط التكليف عن الشرط فقط حتى يجب عليه الصلاة الفاقدة، كما إذا استوعب العذر إلى تمام الوقت، فأصالة البراء‌ة محكمة، لان انعدام المشروط عند انعدام شرطه مما لايدخله ريب، والمفروض الشك في شمول تلك الادلة الدالة على سقوط خصوص الشرائط بالنسبة إلى مثل من يعرض المسقط، إذ لاأقل من كون المتيقن منها هو ما إذا لم يكن الشخص في حد نفسه قادرا على الشرط في مجموع

١١٢

الوقت، فبالنسبة إلى مثل هذا شاك في توجه التكليف إليه والاصل البراء‌ة، فالاقوى هو عدم وجوب الاداء على من علم بطرو المسقط قبل تمكنه من فعل الصلاة تامة الاجزاء والشرائط، فتأمل.

ثم على تقدير وجوب الاداء عليه لاوجه لوجوب القضاء عليه لو عصى وخالف، وذلك لان تبعية وجوب القضاء على الاداء إنما هوفيما إذا لم يقم دليل على سقوط القضاء، وفيما نحن فيه قام الدليل على سقوط القضاء، فإن مادل على أن مافوته الحيض والجنون لاقضاء عليه شامل لما نحن فيه، فإن الصلاة التامة الاجزاء والشرائط قد فوته الحيض فلا قضاء لها، والقول بقضاء الصلاة الفاقدة بديهي الفساد بعد تمكن المكلف من الصلاة التامة.

والحاصل: أن الصلاة التامة للشرائط لاقضاء لها من جهة أنها فاتت بسبب الحيض، والادلة ناطقة بعدم وجوب قضاء مافات بالحيض، وقضاء الصلاة الناقصة ضروري الفساد ولم يدعه أحد، ولايقاس ما نحن فيه بما إذا كان مكلفا بالصلاة الناقصة ففوتها عصيانا حيث يجب عليه قضاء الصلاة التامة بلا إشكال، لان التمامية والناقصية إنما هي من حالات المكلف كالجهر والاخفاف تدور مدار حال المكلف من التمكن وعدمه، ففي الوقت حيث لم يكن متمكنا إلا من الناقصة كانت هي الواجبة ليس إلا، وأما في خارج الوقت فحيث إنه متمكن من التامة كانت هي الواجبة أيضا ليس إلا، وذلك لان كون التمامية والناقصية من حالات المكلف مسلم، إلا أن العصيان لم يكن مسقطا للقضاء كما كان الحيض مسقطا له.

والحاصل: أن الفرق بين العصيان والحيض هو قيام الدليل على عدم قضاء مافات بالحيض.

فالاقوى أنه وإن قلنا بوجوب الاداء على من علم بطرو المسقط لايجب عليه القضاء، فتأمل.

هذا كله بالنسبة إلى أول الوقت.

١١٣

وأما آخر الوقت فيمتاز عن أوله أنه إذا أدرك مقدار خمس ركعات مع سائر الشرائط كان يجب عليه الاداء قطعا لقاعدة " من أدرك " وإن خالف كان عليه القضاء أيضا قطعا، وهذا بخلاف أول الوقت، فإنه لابد في وجوب الاداء والقضاء من إدراك ثمان ركعات من سائر الشرائط، لعدم جريان قاعدة " من أدرك " بالنسبة إلى أول الوقت، لاختصاص أدلتها بآخره كما لايخفى.

وأما لو أدرك من آخر الوقت دون ذلك فالكلام فيه الكلام في أوله أداء وقضاء، أما عدم وجوب القضاء عليه لو خالف فلجريان عين ما ذكرناه في أول الوقت فيه أيضا بلا تفاوت، وأما عدم وجوب الاداء عليه، فلانه وإن لم تجر العلة التي ذكرناها في أول الوقت فيه، لان من أفاق في آخر الوقت بمقدار لايمكنه فعل الصلاة مجتمعة للشرائط أو طهرت الحائض كذلك فقد استوعب عذره تمام الوقت، فيكون مشمولا لتلك الادلة الدالة على سقوط الشرائط عند عدم التمكن منها في مجموع الوقت، وإن كان يمكن أن يدعى أن تلك الادلة مقصورة بما إذا كان الشخص غير متمكن من فعل الشرط في حد نفسه في مجموع، لاما إذا كان متمكنا منه وكان جهة عذره من جهة انتفاء ما هو شرط التكليف من العقل والخلو عن الحيض، إلا أن الانصاف أن قصر تلك الادلة بذلك مشكل.

نعم يمكن أن يقال: إن الشرائط المأخوذة في لسان الادلة شرط للتكليف، كالعقل والبلوغ والخلو عن الحيض، لها دخل في الملاك وما هو جهة التكليف من المصالح والمفاسد، فحينئذ الصلاة التامة للشرائط لاملاك لها مع استيعاب الحيض والجنون إلى قريب من آخر الوقت، ولادليل على ثبوت الملاك في الصلاة الناقصة، فلاطريق إلى إثبات وجوب الاداء على مثل هذا، فتأمل فإن هذا أيضا لايتم إلا بعد القول بعدم شمول تلك الادلة الدالة على ثبوت التكليف بالناقص

١١٤

مع عدم التمكن من التام، كقولهعليه‌السلام " الصلاة لاتترك بحال "(١) وأمثال ذلك لما نحن فيه، وعليه لاحاجة إلى هذا البيان، وأما بعد الاعتراف بشمول تلك الادلة له فنفس تلك الادلة تكفي في ثبوت الملاك والتكليف بالناقص، فتأمل فتأمل(٢) فإن المسألة مشكلة، وعلى أي حال على تقدير القول بوجوب الاداء على مثل هذا الشخص لادليل على ثبوت القضاء عليه بالبيان المتقدم في أول الوقت.

ولافرق فيما ذكرنا بين الطهارة المائية وسائر الشرائط، فكما أنه يعتبر في آخر الوقت القدرة على الطهاررة المائية، كما ورد به النص في باب الحيض واعترف به الخصم، كذلك يعتبر القدرة على سائر الشرائط.

بل يمكن أن يستدل على اعتبار القدرة على جميع الشرائط في آخر الوقت بمصححة عبيد بن زرارة: أيما امرأة رأت الطهر وهي قادرة على أن تغتسل في وقت صلاة معينة ففرطت فيها حتى تدخل وقت صلاة اخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها، وإن رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك فجاز وقت الصلاة ودخل وقت صلاة اخرى فليس عليها قضاء(٣) .

بناء على أن يكون المراد من قوله " قامت في تهيئة ذلك " هو القيام في تهيئة مقدمات الصلاة لاخصوص الغسل، وإن كان ربما يأباه صدره، فتأمل. بل يمكن أن يقال بدلالة رواية محمد بن مسلم على اعتبار التمكن من جميع الشرائط في أول الوقت أيضا، فإن فيها عن أحدهماعليهما‌السلام قال قلت: المرأة ترى الطهر عند الظهر، فتشتغل في شأنها حتى يدخل وقت العصر، قال: تصلي العصر وحدها، فإن ضيعت فعليها صلاتان(٤) .

____________________

(١) الوسائل: ج ٣ ص ١٧٥ باب ٣٩ من أبواب المواقيت، ح ٤.

(٢) هكذا في الاصل والظاهر ان الثانية زائدة.

(٣) الوسائل: ج ٢ ص ٥٩٨ باب ٤٩ من أبواب الحيض، ح ١، وفيه اختلاف يسير.

(٤) تهذيب الاحكام: ج ١ ص ٨٩ باب ١٩ من أبواب الحيض والاستحاضة والنفاس، ح ٢٣. [ * ]

١١٥

بتقريب أن يقال: إن المراد من دخول وقت العصر هو دخول الوقت الاختصاصي لها، فيصير المعنى حينئذ أن المرأة إذا طهرت من حيضها في أول الزوال فقامت تشتغل في شأنها من الغسل وتهيئة سائر الشرائط، فلم يسع وقت صلاة الظهر لجميع ذلك حتى دخل وقت صلاة العصر، فقالعليه‌السلام : لايجب عليها إلا صلاة العصر وحدها، فيستداد منه أنه يعتبر في تكليفها بصلاة الظهر أن يسع الوقت لتهيئة جميع الشرائط التي كانت فاقدة لها، فلو لم يسع الوقت لذلك لم تكن مكلفة بالصلاة.

والاستدلال بهذا أيضا مبني على أن يكون المراد من الاشتغال بشأنها هو الاشتغال بالغسل وسائر الشرائط، لاخصوص الغسل أو هو مع طهارة بدنها من لوث الحيض، وأن يكون المراد من دخول وقت صلاة العصر هو الوقت الاختصاصي لها لا الوقت الفضلي كما هو الظاهر منه، إذ يبعد أن يطول زمان الاشتغال بشأنها إلى الوقت الاختصاصى للعصر مع أنها رأت الطهر في أول الوقت، كما هو الظاهر من قول السائل " رأت الطهر عن الظهر " وعليه يسقط الاستدلال بالرواية بالكلية لعدم العمل بها، بداهة أنه مجرد دخول وقت الفضلي للعصر لايوجب عدم تكليفها بالظهر إلا بناء على القول بأن آخر وقت الاجزائي للظهر هو المثل، فالرواية تنطبق على هذا المذهب، فتأمل فإن الاستدلال بالرواية لما نحن فيه لايخلو عن شئ.

إلا أنه لاحاجة إلى هذه الروايات، فإنا في غنى عنها بعد ما ذكرنا من أن عدم وجوب الاداء والقضاء عليها إنما هو مقتضى القاعدة، فللخصم من إقامة الدليل على الوجوب وهو مفقود، وإن كان ربما يستدل له بإطلاق بعض الاخبار، كخبر ابن الحجاج عن امرأة طمثت بعدما تزول الشمس ولم تصل الظهر، هل

١١٦

عليها قضاء تلك الصلاة؟ قال: نعم(١) .

فإن إطلاق السؤال يعم ما إذا لم يمض من الوقت بمقدار فعل الصلاة التامة، ولكن الانصاف انصرافه إلى مضي ذلك المقدار، فتأمل. ثم إنه لافرق فيما ذكرنا بين الحيض والبلوغ والجنون وغير ذلك من شرائط التكليف. نعم هنا كلام آخر في خصوص البلوغ ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه لو بلغ في اثناء الصلاة أو بعدها في سعة الوقت وقلنا بشرعية عبادة الصبي، فهل يجب عليه الاتمام في الاولى بلا إعادة والاجتزاء في الثانية، أو لايجزي بل يجب عليه إعادة الصلاة فيما إذا بلغ بعد الصلاة واستثنافها فيما إذا بلغ في أثنائها؟ وهنا احتمال آخر وهو إمام الصلاة التي بيده وجوبا أو ندبا ثم إعادتها.

وتنقيح البحث هو أن الكلام في المقام إنما هو بعد الفراغ عن شرعية عبادة الصبي واستحبابه، إذ لاموضوع لهذا البحث بناء على التمرينية، فإنه لاإشكال في عدم الاجتزاء بها، سواء بلغ في الاثناء أو بعد الفراغ، وليس له إتمامها إذابلغ في الاثناء وإن احتمله بعض لفوات موضوع التمرين بالبلوغ، وينقلب موضوع التمرين إلى الوجوب وتصير الصلاة واجبة عليه، فلاسبيل إلى القول بإتمامها تمرينا.

ثم إنه اختلفت كلمات الاصحاب في الحج وفي باب الصلاة والصيام، ففي باب الحج ذهب المشهور إلى أنه لو بلغ الصبي بعد تلبسه بالحج قبل الوقوف بالمشعر أجزأه عن حجة الاسلام، ولايحتاج إلى إعادة الافعال السابقة، وأما في باب الصلاة فقد ذهب المشهور إلى خلاف ذلك، وقالوا: إنه لو بلغ الصبي في

____________________

(١) الوسائل: ج ٢ ص ٥٩٧ باب ٤٨ من أبواب الحيض، ح ٥ وفيه اختلاف يسير. [ * ]

١١٧

الاثناء فلا يعتد بالافعال السابقة ويجب عليه استئنافها.

فقد يتخيل أنه لاوجه لهذا التفصيل مع كون البابين من واد واحد، إلا أن الانصاف أنه ليس كذلك، ويختلف باب الحج عن باب الصلاة، فإن في باب الحج بعد ما لوحظ كل فعل فيه على جهة الاستقلالية، ولذا يحتاج إلى تجديد النية عند كل فعل، وبعد كون حجة الاسلام ليست من الامور القصدية كالظهرية والعصرية، بل هي تدور مدار اجتماع شرائط حجه الاسلام على المكلف، فلو كان واجدا لها يكون حجه حجة الاسلام، وإن كان فاقدا لها لاتكون حجة الاسلام، وبعد ورود النص في أن العبد إذا اعتق قبل الوقوف بالمشعر أجزأه عن حجه الاسلام(١) ، وفهم وحدة المناط بين اشتراط الحرية واشتراط البلوغ وليس ذلك من باب القياس، يكون الاجتزاء بالحج الذي بلغ في أثنائه عن حجة الاسلام على القاعدة، بخلاف باب الصلاة فإن تطبيقه على القاعدة يحتاج إلى مؤنة اخرى سيأتي التعرض لها.

والحاصل: أنه فرق بين باب الحج وبين باب الصلاة، فإن في باب الحج بعد ورود النص الصحيح بأن العبد إذا اعتق قبل الوقوف أجزأ حجه عن حجة الاسلام، وبعد اتحاد المناط في العبد والصبي كما فهمه الاصحاب يكون

الحكم كما ذكره المشهور، فإن ما أوقعه الصبي قبل بلوغه ولو كان على جهة الندبية إلا أنه ندبية البعض لاينافي وجوب الآخر وهو سائر أفعال الحج التي تقع منه بعد البلوغ، لعدم ارتباطية الافعال بعضها مع بعض من هذه الجهة، فمجرد وقوع الاحرام مثلا ندبا لاينافي وقوع الوقوف مثلا وجوبا، وكذا وقوع الاحرام لاعن حجة الاسلام لاينافي وقوع الاحرام عنه بعد ما لم تكن حجة الاسلام من

____________________

(١) الوسائل: ج ٨ ص ٣٥ باب ١٧ من أبواب وجوب الحج، ح ١ و ٤ من كتاب الحج. [ * ]

١١٨

العناوين القصدية، وحينئذ لو قام الدليل على عدم لزوم اجتماع شرائط الوجوب عند أول فعل من أفعال الحج بل يكفي اجتماعها عند الوقوف، كان اللازم هو القول بالصحة والاكتفاء به عن حجة الاسلام كما قاله المشهور.

وهذا بخلاف باب الصلاة، لان المفروض ارتباطية أفعالها بعضها مع بعض، وفقدان النص على كفاية تحقق شرائط الوجوب في بعضها، كان مقتضى القاعدة هو البطلان وعدم الاجتزاء بها إلا بعناية اخرى، وهي أن يقال: إن ما هو الملاك في تكليف البالغ بالصلاة وإلزامه بها هو الموجب لتكليف الغير البالغ بالصلاة استحبابا من دون أن يكون تفاوت بينهما في ذلك، فالمصلحة القائمة بصلاة الظهر لاتختلف بحسب الكمية، سوى أنها في غير البالغ تقتضي الاستحباب وفي البالغ تقتضي الوجوب والالزام.

وحينئذ يمكن أن يقال بأنه لو بلغ الصبي في أثناء الصلاة بما لايوجب نقض الطهارة لكان اللازم عليه تتميم الصلاة بلاحاجة إلى الاستئناف والاعادة، وكذا لو بلغ بعد الصلاة، أما إذا كان بلوغه بعد الصلاة فواضح، فإن تمام ما هو المصلحة القائمة في صلاة الظهر قد استوفاها، فلايبقى حينئذ موضوع للامر الوجوبي بالصلاة ثانيا، فلو قيل مع ذلك بوجوب الصلاة عليه ثانيا لكان مساوقا للقول بالتكليف بشئ بلا أن يكون هناك ما يوجب التكليف به، وأما إذا بلغ في الاثناء فكذلك أيضا، لان المفروض أنه لم يتبدل حقيقة المأمور به بالبلوغ ولاحقيقة الامر، بل إنما تبدل صفة الامر، لاسقوط أمر عن ملاك وثبوت أمر آخر عن ملاك آخر، فحينئذ الركعتان اللتان أتى بهما إلى الآن بوصف الاستحباب تكون تامة في المصلحة كما إذا كانت واجبة من أول الامر، وعند انضمام الركعتين الاخيرتين إليهما يسقط الامر.

والحاصل: أن مبنى القولين في المسألة من إتمام الصلاة التي بيده إذا بلغ في

١١٩

أثنائها والاكتفاء بها وعدم إعادة الصلاة التي بلغ بعدها، ومن عدم وجوب الاتمام ولزوم الاستئناف إذا بلغ في الاثناء وإعادة الصلاة إذا بلغ بعدها، إنما هو كون الملاك الذى امر لاجله بالصلاة هل هو متحد في البالغ والصبي، ويلزمه وحدة الامر والمأمور به وأن التفاوت إنما هو في صفة الامر من الوجوب والاستحباب، أو تغاير الملاك فيهما وأن المصلحة التي اقتضت أمر الصبي بالصلاة استحبابا مغايرة للمصلحه التي اقتضت أمر البالغ بالصلاة وجوبا، ويلزمه سقوط الامر الاستحبابي عند البلوغ لسقوط ملاكه وثبوت أمر آخر وجوبيا عنده لثبوت ملاكه؟ فلو قلنا بوحدة الملاك وأن التغاير إنما هو في الصفة فقط كان اللازم هو القول بعدم إعادة الصلاة لو بلغ بعدها وإتمام الصلاة إذا بلغ في أثنائها، لاستيفاء الغرض والمصلحة فلا يكون هناك ما يوجب تجدد الامر الوجوبي بالاعادة والاستئناف، ولو قلنا بتغاير الملاك كان اللازم هو إعادة الصلاة واستئنافها، لسقوط ما هو الموجب للاستحباب وثبوت ما هو الموجب للوجوب، ولايمكن القول حينئذ بالاجتزاء بالركعتين اللتين صلاهما استحبابا، لان ملاك الاستحباب لايمكن أن يكون مسقطا لما هو ملاك الوجوب، والامر الوجوبي الذي يتوجه عليه في أثناء الصلاة إنما هو الامر بتمام الصلاة من التكبيرة إلى التسليمة، إذ ليس هناك أمر سوى قوله تعالى: أقيموا الصلاة(١) وأمثال ذلك، والصلاة اسم لمجموع الافعال لاخصوص الركعتين اللتين بلغ عندهما كما هو واضح، هذا.

ولكن الانصاف أنه وإن قلنا بوحدة الملاك كما هو ليس بكل البعيد لايلزمنا القول بسقوط الاعادة لو بلغ بعدها ولزوم إتمام الصلاة التي بلغ في

____________________

(١) الروم: الآية ٣١. [ * ]

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319