كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 319

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 319
المشاهدات: 28457
تحميل: 5565


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 319 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28457 / تحميل: 5565
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 13

مؤلف:
العربية

و المجاهد جمع مجهدة و هي المشقة.و أبوابا فتحا أي مفتوحة و أسبابا ذللا أي سهلة.و اعلم أن محصول هذا الفصل أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة.فإن قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى أرباب السير و أصحاب التواريخ

روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك أستجيب دعاءك و دعاء من يحف به من ذريتك فقال آدم إني لست أقوى على بنائه و لا أهتدي إليه فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة و كان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودي و بنى قواعده من حراء فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة و طاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات.و روى الطبري في التاريخ أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه.

١٦١

و قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات و أنها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح و جاء الطوفان فرفع البيت و بنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر يسبحك و يقدسك فيها غيري فقال الله إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي و يقدسني و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري يسبحني فيها خلقي و يذكر فيها اسمي و سأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي و أوثره باسمي فأسميه بيتي و عليه وضعت جلالتي و خصصته بعظمتي و أنا مع ذلك في كل شي‏ء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله و من تحته و من فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي و من أخاف أهله فقد أباح حرمتي و استحق سخطي و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق يرجون بالتلبية رجيجا و يعجون بالتكبير عجيجا من اعتمده لا يريد غيره و وفد إلي و زارني و استضاف بي أسعفته بحاجته و حق على الكريم أن يكرم وفده و أضيافه تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم و القرون و الأنبياء من ولدك أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن.قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه

١٦٢

فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي عَاجِلِ اَلْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ اَلظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ اَلْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ اَلْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ اَلْكُبْرَى اَلَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ اَلرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ اَلسُّمُومِ اَلْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لاَ تُشْوِي أَحَداً لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ اَلزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ اَلصِّيَامِ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ اَلْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ اِلْتِصَاقِ كَرَائِمِ اَلْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ اَلْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي اَلزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ اَلْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ اَلْمَسْكَنَةِ وَ اَلْفَقْرِ اُنْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ اَلْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ اَلْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ اَلْكِبْرِ بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة.مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء آلته التي يصطاد بها.و تساور قلوب الرجال تواثبها و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور و مصدر تساور المساورة و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد.

١٦٣

و سورة الشراب وثوبه في الرأس و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع.و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر.و لا تشوي أحدا لا تخطئ المقتل و تصيب غيره و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل.قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق.و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك و قال أيضا يجوز أن تكون نافية أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا بل فعلوه اختيارا من أنفسهم و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلق لام الجر بمحذوف فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه و الوجه الثاني باطل لأن سياقة الكلام تدل على فساده أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا و قوله لما في ذلك من كذا و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم.ثم بين ع الحكمة في العبادات فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات

١٦٤

التي افترضها عليهم من تلك المكايد و كذلك بالزكاة و الصوم ليسكن أطرافهم و يخشع أبصارهم فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة و نصب اللفظات على أنها مفعول له.ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب فصار ذلك علة العلة قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها.و عتاق الوجوه كرائمها.و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأشر و البطر و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر و المسكنة يوجب تطهير النفوس و الأموال و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان.و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه.و الخيلاء التكبر و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين.و القمع القهر.و النواجم جمع ناجمة و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره.و القدع بالدال المهملة الكف قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته.و الطوالع كالنواجم

١٦٥

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ اَلْجُهَلاَءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ اَلسُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لاَ عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا اَلْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ اَلْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ اَلنِّعَمِ فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ اَلْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ اَلْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ اَلْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ اَلْأُمُورِ اَلَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا اَلْمُجَدَاءُ وَ اَلنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ اَلقَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ اَلرَّغِيبَةِ وَ اَلْأَحْلاَمِ اَلْعَظِيمَةِ وَ اَلْأَخْطَارِ اَلْجَلِيلَةِ وَ اَلآْثَارِ اَلْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ اَلْحَمْدِ مِنَ اَلْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ اَلْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ اَلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ اَلْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ اَلْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ اَلْكَفِّ عَنِ اَلْبَغْيِ وَ اَلْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ اَلْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ اَلْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اِجْتِنَابِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ قد روي تحتمل بالتاء و روي تحمل و المعنى واحد.و التمويه التلبيس من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى.و لاط الشي‏ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق.و المترف الذي أطغته النعمة.

١٦٦

و تفاضلت فيها أي تزايدت.و المجداء جمع ماجد و المجد الشرف في الآباء و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكونا في آبائه هكذا قال ابن السكيت و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى قال سبحانه( ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ ) على قراءة من رفع و الله سبحانه يتعالى عن الآباء و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ) و النجداء الشجعان واحدهم نجيد و أما نجد و نجد بالكسر و الضم فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ.و بيوتات العرب قبائلها و يعاسيب القبائل رؤساؤها و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها.و الرغيبة الخصلة يرغب فيها.و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار.ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها و ينبغي أن يحمل قوله ع فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة على أنه لا يعرف له سبب مناسب فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا.و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين و كانوا قبائل في الكوفة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم

١٦٧

و يا لربيعة و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتن و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض : وَ اِحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَ اَلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ اِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ اَلْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ حَالَهُمْ وَ زَاحَتِ اَلْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ اَلْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ اِنْقَادَتِ اَلنِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ اَلْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ اَلاِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اَللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ اَلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ اَلتَّوَاصِي بِهَا وَ اِجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ اَلْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ اَلصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ اَلنُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ اَلْأَيْدِي المثلات العقوبات.و ذميم الأفعال ما يذم منها.و تفاوت حاليهم اختلافهما و زاحت الأعداء بعدت و له أي لأجله.و التحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض و هو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا.و الفقرة واحدة فقر الظهر و يقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته.

١٦٨

و المنة القوة.و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد و تخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضا : وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ اَلْمَاضِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ اَلتَّمْحِيصِ وَ اَلْبَلاَءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ اَلْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ اَلْعِبَادِ بَلاَءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ اَلدُّنْيَا حَالاً اِتَّخَذَتْهُمُ اَلْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ اَلْمُرَارِ جَرَّعُوهُمُ اَلْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ اَلْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ اَلْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ اَلْغَلَبَةِ لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي اِمْتِنَاعٍ وَ لاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ اَلصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى اَلْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ اَلاِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ اَلْبَلاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ اَلْعِزَّ مَكَانَ اَلذُّلِّ وَ اَلْأَمْنَ مَكَانَ اَلْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلاَماً وَ قَدْ بَلَغَتِ اَلْكَرَامَةُ مِنَ اَللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ اَلآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ تدبروا أي تأملوا و التمحيص التطهير و التصفية.و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء.و أجهد العباد أتعبهم.و الفراعنة العتاة و كل عات فرعون.و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه و هذا إشارة إلى قوله تعالى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ

١٦٩

اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .و المرار بضم الميم شجر مر في الأصل و استعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة.و رأى الله منهم جد الصبر أي أشده.و أئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة : فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ اَلْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً وَ اَلْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ اَلْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ اَلْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ اَلسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ اَلْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ اَلْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ اَلْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ اَلْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ اَلْأُلْفَةُ وَ اِخْتَلَفَتِ اَلْكَلِمَةُ وَ اَلْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَ قَدْ خَلَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ.

١٧٠

و مترادفة متعاونة البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر أي اجتمع همي عليه و لم يبق عندي تردد فيه لعلمي به و تحقيقي إياه.و أقطار الأرضين نواحيها و تشتتت تفرقت.و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل مختلفين.و تفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا و روي متحازبين.و غضارة النعمة الطيب اللين منها.و القصص الحديث.يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم كيف كانت حالهم في العز و الملك لما كانت كلمتهم واحدة و إلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا أن تكونوا مثلهم و أن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم : فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع فَمَا أَشَدَّ اِعْتِدَالَ اَلْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اِشْتِبَاهَ اَلْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ وَ اَلْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلآْفَاقِ وَ بَحْرِ اَلْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ اَلدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ اَلشِّيحِ وَ مَهَافِي اَلرِّيحِ وَ نَكَدِ اَلْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ اَلْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لاَ يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ اَلْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ اَلْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلاَءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

١٧١

لقائل أن يقول ما نعرف أحدا من بني إسحاق و بني إسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية و منابت الشيح إلا أن يقال يهود خيبر و النضير و بني قريظة و بني قينقاع و هؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم و يعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام و لأنه ع قال تركوهم إخوان دبر و وبر و هؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر و الدبر بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون و آطام و الحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة و القياصرة من الريف إلى البادية و صاروا أهل وبر ولد إسماعيل لا بنو إسحاق و بنو إسرائيل و الجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات و هي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل المقهورين و القاهرين جميعا أما المقهورون فبنو إسماعيل و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل لأن الأكاسرة من بني إسحاق ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق و القياصرة من ولد إسحاق أيضا لأن الروم بنو العيص بن إسحاق و على هذا يكون الضمير في أمرهم و تشتتهم و تفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة.فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك و غيره حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم على المقام ببادية الحجاز و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق و بني إسرائيل فجاء بهم في صدر الكلام على العموم ثم خصص فقال الأكاسرة و القياصرة و هم داخلون في عموم ولد إسحاق و إنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك

١٧٢

ولد يعقوب فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم من بني ساسان و من بني الأصفر.قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال أي ما أشبه الأشياء بعضها ببعض و إن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم.قوله يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع و الجمع أرياف و رافت الماشية أي رعت الريف و قد أرفنا أي صرنا إلى الريف و أرافت الأرض أي أخصبت و هي أرض ريفة بتشديد الياء.و بحر العراق دجلة و الفرات أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع.قوله ع أربابا لهم أي ملوكا و كانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا و لما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد.و منابت الشيح أرض العرب و الشيح نبت معروف.و مهافي الريح المواضع التي تهفو فيها أي تهب و هي الفيافي و الصحاري.و نكد المعاش ضيقه و قلته.و تركوهم عالة أي فقراء جمع عائل و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر قال تعالى( وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) قال الشاعر:

تعيرنا أننا عالة

صعاليك نحن و أنتم ملوك

١٧٣

نظيره قائد و قادة و سائس و ساسة.و قوله إخوان دبر و وبر الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب و الوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن و الشعر للمعز.قوله أذل الأمم دارا لعدم المعاقل و الحصون المنيعة فيها.و أجدبهم قرارا لعدم الزرع و الشجر و النخل بها و الجدب المحل.و لا يأوون لا يلتجئون و لا ينضمون.و الأزل الضيق و أطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.و غارات مشنونة متفرقة و هي أصعب الغارات

فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات

من بنات موءودة كان قوم من العرب يئدون البنات قيل إنهم بنو تميم خاصة و إنه استفاض منهم في جيرانهم و قيل بل كان ذلك في تميم و قيس و أسد و هذيل و بكر بن وائل قالوا و ذلك أن رسول الله ص دعا عليهم

فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعل عليهم سنين كسني يوسف فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم و كانوا يسمونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم و قد دل على ذلك بقوله( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) قال( وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) .و قال قوم بل وأدوا البنات أنفة و زعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة سنة من

١٧٤

السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر و جل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم و سبى الذراري و في ذلك يقول بعض بني يشكر:

لما رأوا راية النعمان مقبلة

قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن

يا ليت أم تميم لم تكن عرفت

مرا و كانت كمن أودى به الزمن

إن تقتلونا فأعيار مخدعة

أو تنعموا فقديما منكم المنن

منكم زهير و عتاب و محتضن

و ابنا لقيط و أودى في الوغى قطن

فوفدت بنو تميم إلى النعمان و استعطفوه فرق عليهم و أعاد عليهم السبي و قال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها و هو عمرو بن المشمرخ اليشكري فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها و الوأد أن يخنقها في التراب و يثقل وجهها به حتى تموت ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه( وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) أي على طريق التبكيت و التوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه كما قال سبحانه يا عِيسَى( اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ ) .و من جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير:

أ لم تر أنا بني دارم

زرارة منا أبو معبد

و منا الذي منع الوائدات

و أحيا الوليد فلم يوأد

أ لسنا بأصحاب يوم النسار

و أصحاب ألوية المربد

١٧٥

أ لسنا الذين تميم بهم

تسامى و تفخر في المشهد

و ناجية الخير و الأقرعان

و قبر بكاظمة المورد

إذا ما أتى قبره عائذ

أناخ على القبر بالأسعد

أ يطلب مجد بني دارم

عطية كالجعل الأسود

قرنبى يحك قفا مقرف

لئيم مآثره قعدد

و مجد بني دارم فوقه

مكان السماكين و الفرقد

و في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله ص قال يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال ع و ما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت في بغائهما فرفع لي بيت حريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم قال هما عندي و قد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر فجلست معه ليخرجهما إلى فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها ما وضعت إن كان سقبا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا وأدناها فقالت العجوز وضعت أنثى فقلت له أ تبيعها قال و هل تبيع العرب أولادها قلت إنما أشتري حياتها و لا أشتري رقها قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين و الجمل قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إياها قال بعتك فاستنقذتها

١٧٦

منه بالجمل و الناقتين و آمنت بك يا رسول الله و قد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين و جمل فعندي إلى هذه الغاية ثمانون و مائتا موءودة قد انقذتهن قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله و أن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه.و روى الزبير في الموفقيات أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري ما حملك على أن وأدت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك : فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ اَلنِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ اِلْتَفَّتِ اَلْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ فَاكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ اَلْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ اَلْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ اَلْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى اَلْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ اَلْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ اَلْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ اَلْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل و الضيم و الجهل عاد فذكر ما أبدل الله

١٧٧

به حالهم حين بعث إليهم محمدا ص فعقد عليهم طاعتهم كالشي‏ء المنتشر المحلول فعقدها بملة محمد ص.و الجداول الأنهر.و التفت الملة بهم أي كانوا متفرقين فالتفت ملة محمد بهم أي جمعتهم و يقال التف الحبل بالحطب أي جمعه و التف الحطب بالحبل أي اجتمع به.و في في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف و موضع الجار و المجرور نصب على الحال أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها و العوائد جمع عائدة و هي المنفعة تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك و روي و التقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم من اللقاء و الرواية الأولى أصح.و أصبحوا في نعمتها غرقين مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.و فاكهين ناعمين و روي فكهين أي أشرين و قد قرئ بهما في قوله تعالى( وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ) و قال الأصمعي فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة و من أمثالهم لا تفاكه أمة و لا تبل على أكمة فأما قوله تعالى( فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) فقيل تندمون و قيل تعجبون.و عن في قوله و عن خضرة عيشها متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه.و تربعت الأمور بهم أي أقامت من قولك ربع بالمكان أي أقام به.

١٧٨

و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم و أنزلتهم قال تعالى( آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ ) أي ضمه إليه و أنزله و يجوز أوتهم بغير مد أفعلت في هذا المعنى و فعلت واحد عن أبي زيد.و الكنف الجانب و تعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة و الإقبال يقال قد تعطف الدهر على فلان أي أقبل حظه و سعادته بعد أن لم يكن كذلك.و في ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه جمع ذروة و يكنى عن العزيز الذي لا يضام فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب و القناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر.و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته : أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ اَلطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اَللَّهِ اَلْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اِمْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ اَلْأُلْفَةِ اَلَّتِي يَتَقَلَّبُونَ يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ اَلْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ اَلْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ وَ لاَ تَعْرِفُونَ مِنَ اَلْإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ تَقُولُونَ اَلنَّارَ وَ لاَ اَلْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا اَلْإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ اِنْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ اَلَّذِي وَضَعَهُ اَللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ اَلْكُفْرِ ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلَ جَبْرَائِيلُ

١٧٩

وَ لاَ مِيكَائِيلَ وَ لاَ مُهَاجِرِينَ وَ لاَ أَنْصَارَ مِيكَائِيلُ وَ لاَ مُهَاجِرُونَ وَ لاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ اَلْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَكُمْ وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ اَلْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ اَلْقَرْنَ اَلْمَاضِيَ اَلْقُرُونَ اَلْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اَللَّهُ اَلسُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ اَلْمَعَاصِي وَ اَلْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ اَلتَّنَاهِي نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي‏ء و تركه و هي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة لأن من يخلي الشي‏ء من يده ثم ينفض يده منه يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط لأن نفضها إشعار و إيذان بشدة الاطراح و الإعراض.و الباء في قوله بأحكام الجاهلية متعلقة بثلمتم أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية التي حكمتم بها في ملة الإسلام.و الباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن و في من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال و هذا إشارة إلى قوله تعالى( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) و قوله( فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ) .و روي تتقلبون في ظلها.

١٨٠