الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية0%

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 326

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف: عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (المحدث القمي)
تصنيف:

الصفحات: 326
المشاهدات: 146511
تحميل: 8852

توضيحات:

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146511 / تحميل: 8852
الحجم الحجم الحجم
الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف:
العربية

كم اخترمت(١) ايدي المنون(٢) من قرون بعد قرون، وكم غيرت الارض ببلاها(٣) وغيّبت في ثراها، ممن عاشرت من صنوف الناس وشيعتهم الى الأرماس(٤) .

وانت على الدنيا مكبّ منافس(٥)

لخطابها فيها حريص مكاثِرُ

على خطر(٦) تمسي وتصبحُ لاهياً

اتدري بماذا لو عقلتَ تخاطرُ

وإن امرءأً يسعى لدنياهُ جاهداً

ويذهل(٧) عن اخراه لا شك خاسرُ

فحتَّام على الدنيا اقبالك، وبشهوتها اشتغالك وقد وحظك(٨) لقتير ووفاك النذير(٩) وانت عما يراد بك ساه، وبلذة يومك لاه.

وفي ذكر هولِ الموتِ والقبرِ والبِلى

عن اللهو واللّذاتِ للمرءِ زاجرُ

أبعد اقترابِ الاربعين تربص

وشيب القذال منذ ذلك ذاعر(١٠)

كأنك معني(١١) بما هو ضائر

لنفسِكَ عمداً(١٢) او عن الرشدِ جائرُ(١٣)

انظر الى الامم الماضية، والقرون الفانية، والملوك العاتية(١٤) كيف انتسفتهم(١٥) الايام فافناهم الحمام(١٦) فامتحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها اخبارهم.

____________________

(١) أي اقتطعت واستأصلت (منه).

(٢) المنون: المنية أي الموت.

(٣) أي قديمها البالي.

(٤) جمع رمس أي تراب القبر (منه).

(٥) أي راغب (منه).

(٦) الخطر: الاشراف على الهلاك (منه).

(٧) أي ينسى.

(٨) أي خلطك الشيب (منه).

(٩) أي اتاك نذير الموت (منه).

(١٠) أي خائف.

(١١) انا بها معني على مفعول أي اهتممت بها.

(١٢) أي منتظر (منه).

(١٣) أي مائل (منه).

(١٤) من العتو (منه).

(١٥) انتسفت الريح التراب: قلعته وفرقته.

(١٦) بكسر الأول: الموت.

١٠١

واضحوا رميماً في الترابِ واقفرَتْ(١)

مجالسُ منهمُ عُطّلتْ ومقاصرُ(٢)

وحلّوا بدارٍ لا تزاوُرَ بينهمْ

وأنّى لسكانِ القبورِ التزاوُرُ

فما إن ترى الاجثىً(٣) قد ثروا بها

مسنمةً(٤) تسفى(٥) عليها الأَعاصرُ(٦)

كم عاينت من ذي عز وسلطان، وجنود واعوان، تمكن من دنياه، ونال منها مناه، فبنى الحصون والدساكر(٧) وجمع الاعلاق(٨) والذخائر.

فما صرَفتْ كفُّ المنيةِ إذ أتت

مبادرةً تهوى اليهِ الذخائرُ

ولا دفعتْ عنهُ الحصونُ التي بَنَى

وحفّ بها انهارها والدساكِرُ

ولا قارَعت(٩) عنهُ المنيةَ خيلُهُ

ولا طمِعَتْ في الذبّ عنه العساكِرُ

اتاه من امر اللّه ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الملك الجبار المتكبر القهار، قاصم الجبارين ومبير المتكبرين.

مليك عزيز ما يردُّ قضاؤهُ

عليم حكيم نافذُ الامرِ قاهرُ

عنا كل ذي عزٍّ لعزّةِ وجههِ

فكلُّ عزيزِ للمهيمنِ صاغرُ(١٠)

لقد خَشَعَتْ واسْتَسْلَمَتْ وتضاءَلَتْ

لعزةِ ذي العرشِ الملوكُ الجبابرُ(١١)

____________________

(١) اقفرت. أي صارت قفراً.

(٢) المقاصر: اصول الشجر. والمقاصير: جمع مقصورة وهي الدار الواسعة او الحجلة.

(٣) أي تربة مجموعة (منه).

(٤) أي مرتفعة (منه).

(٥) أي تذر (منه).

(٦) أي ريح تثير الغبار (منه).

(٧) الدساكر: جمع دسكرة وهي بناء شبه القصر حواليه بيوت تكون للملوك (منه).

(٨) الاعلاق: جمع علق بالكسر وهو النفيس من كل شيء (منه).

(٩) مقارعة الابطال: قرع بعضهم بعضاً (منه).

(١٠) أي ذليل.

(١١) أي شراكها وآلات صيدها.

١٠٢

فالبدار(١) البدار، والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتجلى لك من زينتها، واستشرف لك من فتنتها:

وفي دونِ ما عاينتَ من فَجَعاتِها

الى رفضِها داع وبالزهد آمرُ

فجدَّ ولا تغفل فَعَيْشُكَ زائِل

وانتَ الى دارِ المنيةِ صائرُ

ولا تطلبِ الدنيا فإنّ طِلابَهَا

وان نلت منها غِبُّهُ لكَ ضائرُ

فهل يحرص عليها لبيب، او يسر بلذتها اريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، ام كيف تنام عين من يخشى البيات او تسكن نفس من يتوقع الممات.

ألا لا ولكنّا تَغُر نفوسَنا

وتشغلُنا اللذّاتُ عما نحاذِرُ

وكيف يلذُ العيشُ من هو موقن

بموقف عدلٍ حين تُبلى السرائرُ

كأنَّا نرى ألا نشورَ وانَّنا

سدى(٢) ما لنا بعد الفناء مصائر(٣)

وما عسى ان ينال طالب الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها مع فنون مصائبها، واصناف عجائبها، وكثرة تعبه في طلابها، وفي اكتسابها وما يكابد من اسقامها واوصابها(٤) .

وما ان بنى في كل يوم وليلة

يروح عليها صرفها ويباكر

تعاوره(٥) آفاتها وهمومها

وكم ما عسى يبقى لها المتعاور

فلا هو مغبوط بدنياه آمن

ولا هو عن تطلابها النفس غادر(٦)

____________________

(١) البدار: المسارعة.

(٢) السدى: المهمل (منه).

(٣) مصائر: جمع مصير (منه).

(٤) الاوصاب: جمع الوصب وهو المرض (منه).

(٥) عاوره الشيء: اعطاه اياه عارية.

(٦) اسم فاعل من غدر اصحابه: أي تخلف. يعني ليس بمتخلف او من غدر بمعنى مكر: أي ليس له حيلة.

١٠٣

كم غرّت من مخلد(١) اليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه(٢) من صرعته، ولم تقله من عثرته، ولم تداوه من سقمه ولم تشفه من المه.

بلى اوردته بعد عز ومنعة

موارد سوء ما لهنَّ مصادر

فلما رأى الا نجاة وأنه

هو الموت لا ينجيه منه المؤازر(٣)

تندم لو يغنيه طول ندامة

عليه وابكته الذنوب البكائر

بكى على ما اسلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه حيث لا ينفعه الاستعبار(٤) ولا ينجيه الاعتذار من هول المنية، ونزول البلية.

احاطت به آفاته وهمومه

واُبْلسَ(٥) لما اعجزته المعاذر

فليس له من كربة الموت فارج

وليس له مما يحاذر ناصر

وقد جشأت(٦) خوف المنية نفسه

ترددها دون اللهاة(٧) الحناجر

هنالك خف عنه عوّاده، واسلمه اهله واولاده، وارتفعت الرنة(٨) والعويل، ويئسوا من برء العليل، غمَّضوا بأيديهم عينيه، ومدوا عند خروج نفسه رجليه.

فكم موجع يبكى عليه تفجعاً

ومستنجد(٩) صبراً وما هو صابر

ومسترجع داع له اللّه مخلص

يعدد منه خير ما هو ذاكر

وكم شامت مستبشر بوفاته

وعما قليل كالذي صار صائر

____________________

(١) اخلد اليه: ركن اليه.

(٢) لم تنعشه: أي لم ترفعه.

(٣) أي المعاون.

(٤) الاستعبار: البكاء وارسال الدمع.

(٥) أي يئس (منه).

(٦) جاشت النفس: ارتفعت من خوف او فزع (منه).

(٧) اللهاة بالفتح: اللحمة في أعماق الحلق.

(٨) الرنة: الانين.

(٩) الاستنجاد: الاستعانة (منه).

١٠٤

شق جيوبها نساؤه، ولطم خدودها اماؤه، واعول(١) لفقده جيرانه، وتوجع لرزئه(٢) اخوانه ثم اقبلوا على اجهازه وتشمروا(٣) لابرازه:

فظل احب القوم كان لقربه

يحث على تجهيزه ويبادر

وشمر من قد احضروه لغسله

ووجه لما(٤) فاض(٥) للقبر حافر

وكفّن في ثوبين فاجتمعت له

مشيعة اخوانه والعشائر

فلو رأيت الاصغر من اولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، فغشي من الجزع عليه، وقد خضبت الدموع خديه، ثم افاق وهو يندب اباه، ويقول بشجو(٦) واويلاه:

لأبصرت من قُبحِ المنية منظراً

يهال(٧) لمرآه ويرتاع(٨) ناظر

اكابر اولاد يهيج اكتئابهم

اذا ما تناساه البنون الاصاغر

ورنة نسوان عليه جوازع

مدامعها فوق الخدود غزائر(٩)

ثم اخرج من سعة قصره، الى ضيق قبره، فحثوا بايديهم التراب واكثروا التلدد والانتحاب(١٠) وقفوا ساعة عليه، وقد يئسوا من النظر اليه.

فولوا عليه معولين(١١) وكلهم

لمثل الذي لاقى اخوه محاذر

كشاء رتاع(١٣) آمنات بدا لها

بمدية باد الذراعين حاسر(١٢)

فراعت ولم ترتع قليلاً وأجفلت(١٤)

فلما انتحى منها الذي هو حاذر

____________________

(١) العويل: رفع الصوت بالبكاء (منه).

(٢) الرزء: المصيبة العظيمة.

(٣) أي تهيأوا لاخراجه واظهاره (منه).

(٤) أي ارسل (منه).

(٥) أي مات (منه).

(٦) أي بحزن.

(٧) من الهول (منه).

(٨) من الروع وهو الاخافة (منه).

(٩) جمع الغزيرة: أي الكثيرة.

(١٠) التلدد: الالتفات يميناً وشمالاً. والانتحاب: رفع الصوت بالبكاء (منه).

(١١) أي باكين باصوات عالية.

(١٢) والرتاع: جمع راتع كنائم ونيام (منه).

(١٣) بمدية باد للذراعين حاسر (خ د) والمدية بالضم: الشفرة أي السكين العظيم (منه).

(١٤) أي اسرعت وجدت في الهرب (منه).

١٠٥

عادت الى مرعاها، ونسيت ما في اختها دهاها، افبافعال البهائم اقتدينا، وعلى عادتها جرينا، عد الى ذكر المنقول الى الثرى، والمدفوع الى هول ما ترى.

هوى مصرعاً في لحده وتوزّعت(١)

مواريثه ارحامه والاواصر(٢)

وانخوا على امواله يخضمونها(٣)

فما حامد منهم عليها وشاكر

فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها

ويا آمناً من أن تدور الدوائر

كيف امنت هذه الحالة، وانت صائر اليها لا محالة، ام كيف تتهنأ بحياتك وهي مطيتك(٤) الى مماتك، ام كيف تسيغ طعامك وانت تنتظر حمامك(٥) .

ولم تتزود للرحيل وقد دنا

وانت على حال وشيكاً مسافر(٦)

فيا ويح نفسي كم اسوف توبتي

وعمريَ فانٍ والرّدى لي ناظر(٧)

وكل الذي اسلفت في الصحف مثبت

يجازي عليه عادل الحكم قاهر

فكم ترقع بدينك دنياك، وتركب في ذلك هواك، إني لأراك ضعيف اليقين يا راقع الدنيا بالدين، ابهذا امرك الرحمن، ام على هذا دلك القرآن.

تُخرِّبُ ما يبقى وتَعْمر فانياً

فلا ذاك موفور ولا ذاك عامرُ

وهل لك ان وافاك حتفك(٨) بغتة

ولم تكتسب خيراً لدى اللّه عاذر

اترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي

ودينك منقوص ومالك وافر

____________________

(١) توزِّعت: تقسِّمت

(٢) جمع آصره كصاحبه يعني أقرباؤه.

(٣) قال امير المؤمنينعليه‌السلام يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع(منه).

(٤) المطية: الدابة التي تركب.

(٥) الحمام بالكسر: الموت.

(٦) أي سريعاً (منه).

(٧) الردى: الهلاك (منه).

(٨) أي موتك.

١٠٦

فبك إلهنا نستجير يا عليم يا خبير، من نؤمل لفكاك رقابنا غيرك ومن نرجو لغفران ذنوبنا سواك، وانت المتفضل المنَّان، القائم الدّيان العائد علينا بالإحسان، بعد الاساءة منا والعصيان. يا ذا العزة والسلطان والقوة والبرهان، اجرنا من عذابك الاليم، واجعلنا من سكان دار النعيم، يا ارحم الراحمين.

فصل في مدحه واستلامه الحجر الأسود عليه السلام

روى الشيخ الكشي وغيره عن ابن عائشة ان هشام بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك، وطاف بالبيت فأراد ان يستلم الحجر فلم يقدر عليه من الزحام فنصب له منبر فجلس، واطاف به اهل الشام، فبينا هو كذلك اذ أقبل عليّ بن الحسينعليه‌السلام وعليه ازار ورداء من احسن الناس وجهاً واطيبهم رائحة، و بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز فجعل يطوف بالبيت فاذا بلغ الحجر تنحى الناس عنه حتى يستلمه هيبة له واجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً، فقال رجل من اهل الشام لهشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فافرجوا له عن الحجر، فقال هشام: لا اعرفه لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أعرفه، وقال الشامي: ومن هذا يا ابا فراس فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلُّ والحرمّ

هذا ابن خير عباد اللّه كلهمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ

هذا عليّ رسولُ اللّه والدُهُ

امست بنورِ هداهُ تهتدي الاممُ

اذا رأته قريش قال قائلُها

الى مكارمِ هذا ينتهي الكرَمُ

ينمى الى ذروة العز التي قَصرتْ

عن نيلها عربُ الإِسلامِ والعجم

١٠٧

يكاد(١) يمسكهُ عرفانُ راحتِهِ

ركنَ الحطيمِ اذا ما جاء يستلِمُ

ينشقُّ نورُ الهدى عن نورِ غرّتِهِ

كالشمس تنجابُ في اشراقها الظلمُ

بكفهِ خيزران ريحها عَبِق

من كف اروَع من عرنينه شمَمُ

مشتقة من رسول اللّه نبعته

طابت عناصره والخيم والشيمُ

هذا ابنُ فاطمة قدْماً وشرّفَهُ

جرى بذاكَ له في لوحهِ القلَمُ

وليسَ قولُك من هذا بضائِرِهِ

العربُ تعرفُ من انكرت والعَجَمُ

لا يخلف الوعدَ ميمون نقيبته

رحب الفناء اريب حين يعتزمُ(١)

عم الرية بالاإِحسان فانقعشت

عنها الغيابة والاملاق والعدم

من معشرٍ حبهمّ دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

ان عد اهل التقى كانوا ائمتهم

او قيل من خير اهل الأرض قيل همُ

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويسترب به الاحسان والنعمُ

مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم

في كل بدء ومختوم به الكلم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وان كرموا

لا يقبض العسر بسطاً من اكفهم

سيان ذلك ان اثروا وان عدموا

أي الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أو له نعم

من يعرف اللّه يعرف اولوية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الامم

ما قال لا قطُّ الا في تشهده

لولا التشهد كانت لاؤه نعم

ولم اذكر تمامها رعاية للاختصار، فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق فحبس بعسفان(٢) بين مكة والمدينة، وبلغ ذلك علي بن الحسينعليه‌السلام فبعث اليه باثني عشر الف درهم (الخبر).

____________________

(١) الخرائج روى ان الحجاج بن يوسف لما خرب الكعبة بسبب مقاتلة عبد اللّه بن الزبير ثم عمروها فلما اعيد البيت وارادوا ان ينصبوا الحجر الأسود فكلما نصبه عالم من علمائهم او قاض من قضاتهم او زاهد من زهادهم ينزلزل ويضطرب ولا يستقر الحجر في مكانه فجاءه علي بن الحسينعليه‌السلام واخذه من ايديهم وسمى اللّه ونصبه فاستقر في مكانه وكبر الناس ولقد أسلم الفرزدق في قوله يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم، (منه).

(٢) أي يقصد كعثمان إسم لبلدة أكل ما يستر.

١٠٨

قال الاستاذ الاكبر المحقق البهبهانيرحمه‌الله قال جدي وذكر عبد الرحمان الجامي في سلسلة الذهب هذه القصيدة منظومة بالفارسية، وذكر ان كوفية رأت في النوم الفرزدق وقالت له: ما فعل اللّه بك، قال: غفر اللّه لي بقصيدة علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال الجامي وبالحري ان يغفر اللّه للعالمين بهذه القصيدة، مع اشتهاره بالنصب والعداوة.

فصل في حلم علي بن الحسين وعفوه عليه السلام

روى شيخنا المفيد في الارشاد أنه وقف على عليّ بن الحسينعليه‌السلام رجل من اهل بيته، فاسمعه وشتمه فلم يكلمه فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وانا احب ان تبلغوا معي اليه حتى تسمعوا مني ردي عليه، قال: فقالوا له نفعل، ولقد كنا نحب ان تقول له ويقول، قال فاخذ نعليه ومشى وهو يقول، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين، فعلمنا انه لا يقول له شيئاً، قال فخرج الينا متوثباً للشر وهو لا يشك انه انما جاءه مكافياً له على بعض ما كان منه، فقال له عليّ بن الحسينعليه‌السلام يا اخي انك كنت قد وقفت عليّ آنفاً وقلت وقلت، فان كنت قد قلت ما فيّ فأنا استغفر اللّه منه، وان كنت قلت ما ليس فيّ فغفر اللّه لك، قال: فقبل الرجل بين عينيه وقال بلى بل قلت فيك ما ليسك فيك، وانا احق به، قال الراوي للحديث: والرجل هو الحسن بن الحسن (رضي اللّه عنه)، قلت ويقرب منه ما روى عن مشكاة الانوار لسبط الشيخ الطبرسي عن حماد اللحام، قال: اتى رجل ابا عبد اللّهعليه‌السلام فقال ان فلاناً ابن عمك ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة الا قاله فيك، فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام للجارية ايتيني بوضوء فتوضأ ودخل فقلت في نفسي: يدعو عليه، فصلى ركعتين، فقال يا رب هو حقي قد وهبته له وانت اجود مني وأكرم فهبه لي ولا تؤاخذه ولا تقايسه، ثم رق فلم يزل يدعو فجعلت اتعجب.

١٠٩

وقال الشيخ المفيدرحمه‌الله وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والادعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا الى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضى به الزمان، وقد روت الشيعة له آيات ومعجزات وبراهين واضحات لم يتسع لذكرها هذا المكان. انتهى.

فصل في وفاة الإِمام زين العابدين عليه السلام

توفيعليه‌السلام بالمدينة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت او مضت من المحرّم سنة (٩٥ هجري) خمس وتسعين من الهجرة، وله يومئذ سبع وخمسون سنة، سمّه هشام بن عبد الملك وكان في ملك الوليد بن عبد الملك.

وقال الشيخان انه توفي (سلام اللّه عليه) في اليوم الخامس والعشرين من المحرّم سنة ٩٤ هجري اربع وتسعين من الهجرة.

اقول سُمّيت سنة وفاته سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من العلماء والفقهاء.

قال السبط في التذكرة: وكانعليه‌السلام سيد الفقهاء مات في اولها وتتابع الناس بعده سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وعامة فقهاء المدينة، وقبره بالبقيع في القبة التي فيها العباس وعمه الحسن بن عليّعليه‌السلام .

روى الكليني عن ابي جعفرعليه‌السلام قال: لما حضر عليّ بن الحسينعليه‌السلام الوفاة ضمّني الى صدره وقال يا بنيّ: اوصيك بما اوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر ان اباه اوصاه به، قال: يا بنيّ اياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الا اللّه.

١١٠

وعن ابي الحسنعليه‌السلام قال: ان عليّ بن الحسين لما حضرته الوفاة اغمي عليه ثم فتح عينيه وقرأ، (اذا وقعت الواقعة وانا فتحنا لك)، وقال: الحمد للّه الذي صدقنا وعده واورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين، ثم قبض من ساعته ولم يقل شيئاً.

وروى انه لما مات عليّ بن الحسينعليه‌السلام كانت له ناقة وقد حج عليها اثنتين وعشرين حجة ما قرعها بمقرعة قط فجاءت، فأتت عليّ بن الحسينعليه‌السلام وضربت بجرانها على القبر وتمرغت عليه ورغت(١) وهملت عيناها، فأتى محمد بن عليعليه‌السلام فقيل: ان الناقة قد خرجت الى القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت فأتاها، فقال مه الآن قومي، بارك اللّه فيك، فثارت ودخلت موضعها، فلم تلبث ان خرجت حتى اتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتى محمد بن عليعليه‌السلام فقيل له ان الناقة قد خرجت، فأتاها فقال مه الآن قومي فلم تفعل، قال دعوها فانها مودعة فلم تلبث الا ثلاثة حتى نفقت (اي ماتت).

وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم: كان سبب وفاة علي بن الحسينعليه‌السلام ، ان الوليد بن عبد الملك سمَّه ولما دفن ضربت امرأته على قبره فسطاطاً.

تتميم: روي انهعليه‌السلام كان يقول في دعائه اللهم من انا حتى تغضب علي، فوعزتك ما يزين ملكك احساني ولا يقبحه اسائتي، ولا ينقص من خزائنك غنائي ولا يزيد فيها فقري.

ومن دعائهعليه‌السلام كما في الصحيفة الكاملة التي هي من منشآته (صلوات اللّه عليه)، فاسألك اللهم بالمخزون من اسمائك وبما وارته الحجب من بهائك، الا رحمت هذه النفس الجزوعة وهذه الرِّمة الهلوعة التي

____________________

(١) أي صاحت.

١١١

لا تستطيع حرَّ سمشك فكيف تستطيع حرَّ نارك، والتي لا تستطيع صوت وعدك فكيف تستطيع غضبك، فارحمني اللهم فاني امرؤ حقير وخطري يسير وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثال ذرة، الى آخر الدعاء.

فانظر ايدك اللّه في اخباره، والمح بعين الاعتبار عجائب آثاره، وفكر في زهده وتعبده وخشوعه وتهجده وادعيته وصلاته وصدقاته وملازمة عباداته وتوسلاته وادعيته ومناجاته التي تدل مع فصاحته وبلاغته على خشوعه لربه وضراعته، ووقوفه موقف العصاة مع شدة طاعته، واعترافه بالذنوب مع براءة ساحته، وبكائه ونحيبه وخفوق قلبه من خشية اللّه ووجيبه وانتصابه، وقد ارخى الليل سدوله(١) وجر على الأرض ذيوله، مناجياً ربِّه، ملازماً بابه، ممثلاً نفسه بين يديه، معرضاً عن كل شيء مقبلاً عليه، قد انسلخ من الدنيا الدنيَّة، وتعرَّى من الجثة البشرية، فجسمه ساجد في الثرى، وروحه متعلقة بالملأ الأعلى، يتململ اذا مر بآية من آيات الوعيد حتى كأنه المقصود بها مع انه عنها بعيد. تجد اموراً عجيبة واحوالاً غريبة ونفساً من اللّه سبحانه قريبة، فلنقطع الكلام في هذا المقام ان ينتهي الى آخره، فان العبارة تعجز عن وصف فضله وعدّ مفاخره، (صلوات اللّه عليه) وعلى آبائه وابنائه.

____________________

(١) جمع السدل بضم السين وهو الستر.

١١٢

النور السابع.. الإِمام الخامس ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين باقر علم النبيين صلوات اللّه عليهم اجمعين

ولد بالمدينة يوم الاثنين الثالث من صفر سنة ٥٧ سبع وخمسين من الهجرة، وقيل غرة رجب.

امهعليه‌السلام ام عبد اللّه فاطمة بنت الحسن بن علي بن ابي طالبعليهم‌السلام ، وهو هاشمي من هاشميين وعلويّ من علويين.

روي عن ابي جعفرعليه‌السلام قال كانت أمي قاعدة عند جدار، فتصدع الجدار، وسمعنا هدّة شديدة فقالت بيدها لا وحق المصطفى (صلوات اللّه عليه وآله) ما اذن اللّه لك في السقوط فبقي معلقاً حتى جازته، فتصدق عنها ابي بمئة دينار.

وذكرها الصادقعليه‌السلام يوماً فقال: كانت صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها.

سمي ابو جعفرعليه‌السلام باقراً لأنه بقر العلم بقراً أي شقه شقاً واظهره اظهاراً.

١١٣

وقال السبط بن الجوزي سمِّي الباقر من كثرة سجوده(١) بقر السجود جبهته، أي فتحها ووسعها، وقيل لغزارة علمه.

قال الجوهري في الصحاح: التبقر التوسع في العلم.

وكان يتختمعليه‌السلام بخاتم جده الحسينعليه‌السلام ونقشه: ان اللّه بالغ امره.

ورُوي في وصف علمهعليه‌السلام عن عبد اللّه بن عطا المكي قال: ما رأيت العلماء عند احد قط اصغر منهم عند ابي جعفر محمد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبيّ بين يدي معلمه، وكان جابر بن يزيد الجعفي اذا روى عن محمد بن عليّعليه‌السلام شيئاً يقول: حدثني وصيُّ الاوصياء ووارث علوم الانبياء محمد بن عليّ بن الحسين (صلوات اللّه عليهم).

وعن محمد بن مسلم قال ما شجر في دائي(٢) شيء قط الا سألت عنه ابا جعفرعليه‌السلام حتى سألته عن ثلاثين الف حديث وسألت ابا عبد اللّهعليه‌السلام عن ستة عشر الف حديث.

وروي في حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اذا مضى الحسينعليه‌السلام قام بالأمر بعده عليّ ابنهعليه‌السلام وهو الحجة والإِمام ويخرج اللّه من صلب عليّ ولداً سميي واشبه الناس بي، علمه علمي وحكمه حكمي، وهو الإِمام والحجة بعد ابيه.

وروي عن الباقرعليه‌السلام قال: لو وجدت لعلمي لنشرت التوحيد والإِسلام والدين والشرائع من الصمد، وكيف لي ولم يجد جدّي امير المؤمنينعليه‌السلام حَمَلَةً لعلمه.

____________________

(١)اذ. ظ.

(٢) أي ما خلج في خاطري وبالي.

١١٤

وبالجملة اظهرعليه‌السلام من مخبآت(١) كنوز المعارف وحقائق الاحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى الا على منطمس البصيرة، وفاسد الطوية والسريرة ومن ثم قيل هو باقر العلوم وشاهرها.

وكانت الشيعة قبل ان يكون ابو جعفرعليه‌السلام وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى كان ابو جعفرعليه‌السلام ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى صار الناس يحتاجون اليهم من بعد ما كانوا يحتاجون الى الناس.

قال الشيخ المفيد ولم يظهر عن احد من ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الادب ما ظهر عن ابي جعفرعليه‌السلام وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين وصار بالفضل علماً لأهله تضرب به الامثال، وتصير بوصفه الآثار والأشعار، وفيه يقول القرطبي:

يا باقر العلم لأهل التّقى

وخير من لبّى على الاجبُلِ(٢)

وروى عن ميمون القداح عن جعفر بن محمد عن ابيهعليهما‌السلام قال: دخلت على جابر بن عبد اللّه الانصاريرحمه‌الله فسلمت عليه فرد عليَّ السلام ثم قال لي: من انت وذلك بعد ما كفّ بصره، فقلت محمد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام فقال يا بنيّ ادن مني فدنوت منه فقبل يدي ثم اهوى الى رجلي يقبلهما، فتنحيت عنه، ثم قال لي ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرئك السلام، فقلت وعلى رسول اللّه السلام ورحمة اللّه

____________________

(١) أي المختفيات.

(٢) وقال ابن حجر مع نصبه وشدة عداوته في الصواعق في حقهعليه‌السلام هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه صفا قلبه وذكا علمه وعمله وطهرت نفسه وشرف خلقه وعمرت اوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوخ في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة. انتهى كلام ابن حجر (منه).

١١٥

وبركاته، وكيف ذلك يا جابر، فقال كنت معه ذات يوم فقال لي يا جابر لعلك تبقى حتى تلقى رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسينعليه‌السلام يهب اللّه له النور والحكمة فأقرئه مني السلام.

وروى الشيخ الكليني في كتاب الاطعمة من الكافي عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت جالساً في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذ اقبل رجل فسلم فقال: من انت يا عبد اللّه، قلت: رجل من اهل الكوفة فقلت ما حاجتك فقال لي: اتعرف ابا جعفر محمد بن عليعليه‌السلام فقلت نعم، فما حاجتك اليه قال هيأت له اربعين مسألة اسأله عنها، فما كان من حق اخذته وما كان من باطل تركته، قال ابو حمزة، فقلت له: هل تعرف ما بين الحق والباطل، قال نعم فقلت له فما حاجتك اليه، اذا كنت تعرف ما بين الحق والباطل فقال لي: يا اهل الكوفة انتم قوم ما تطاقون اذا رأيت ابا جعفر فاخبرني فما انقطع كلامي معه حتى اقبل ابو جعفرعليه‌السلام وحوله اهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج، فمضى حتى جلس مجلسه وجلس الرجل قريباً منه، قال ابو حمزة فجلست حيث اسمع الكلام وحوله عالم من الناس، فلما قضى حوائجهم وانصرفوا التفت الى الرجل، فقال له من انت قال: انا قتادة بن دعامة(١) البصري فقال له ابو جعفرعليه‌السلام انت فقيه اهل البصرة، قال نعم، فقال أبو جعفرعليه‌السلام ويحك يا قتادة ان اللّه جل وعز خلق خلقاً من خلقه، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم اوتاد في ارضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه اظلة عن يمين عرضه، قال فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: اصلحك اللّه واللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطراب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك، قال له ابو جعفرعليه‌السلام ويحك تدري اين انت، انت بين يدي بيوت أذِنَ اللّه ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر

____________________

(١) بكسر الدال (منه).

١١٦

اللّه، واقام الصلاة وايتاء الزكاة، فانت ثم(١) ونحن اولئك، فقال له قتادة صدقت واللّه جعلني اللّه فداك واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين، قال قتادة فاخبرني عن الجبن فتبسم ابو جعفرعليه‌السلام ، ثم قال رجعت مسائلك الى هذا قال ضلت عليّ فقال لا بأس به. الحديث.

فصل في احوال الإِمام ابي جعفر الباقر عليه السلام

روي عن الزهري(٢) قال دخلت على عليّ بن الحسينعليه‌السلام في مرضه الذي توفي فيه فدخل عليه محمد ابنهعليه‌السلام فحدثه طويلاً بالسر فسمعته يقول فيما يقول، عليك بحسن الخلق.

وعن ابي بكر الحضرمي، قال: لما حمل ابو جعفرعليه‌السلام الى الشام الى هشام بن عبد الملك وصار ببابه قال هشام لاصحابه اذا سكتُّ من توبيخ محمد بن علي فلتوبخوه، ثم امر ان يؤذن له فلما دخل عليه ابو جعفرعليه‌السلام قال بيده: السلام عليكم فعمهم بالسلام جميعاً ثم جلس فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة، وجلوسه بغير اذن، فقال يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا الى نفسه وزعم انه الإمام سفهاً وقلة علم وجعل يوبخه فلما سكت أقبل القوم عليه رجل بعد رجل يوبخه، فلما سكت القوم نهضعليه‌السلام قائماً، ثم قال: ايها الناس اين تذهبون واين يراد بكم، بنا هدى اللّه اوَّلكم، وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجل فان لنا ملكاً مؤجّلاً وليس بعد ملكنا ملك لأنّا اهل العاقبة، يقول اللّه عز وجل والعاقبة للمتقين، فامر به

____________________

(١) بفتح الثاء.

(٢) الزهري: بضم الزاء وسكون الهاء. ابو بكر محمد بن مسلم ينتهي نسبه الى زهرة بن كلاب. كان من فقهاء المدينة من طبقة التابعين وقد ذكره الجمهور واثنوا عليه راجع ترجمته من الكنى والالقاب.

١١٧

الى الحبس فلما صار في الحبس تكلم فلم يبق في الحبس رجل الا ترشفه(١) وحنّ عليه فجاء صاحب الحبس الى هشام واخبره بخبره فأمر به، فحمل على البريد هو واصحابه ليردوا الى المدينة، وامر ان لا تخرج لهم الاسواق وحال بينهم وبين الطعام والشراب، فساروا ثلاثاً لا يجدون طعاماً ولا شراباً حتى انتهوا الى مَدْين(٢) : فاغلق باب المدينة دونهم، فشكا اصحابه العطش والجوع قال: فصعد جبلاً اشرف عليهم فقال باعلى صوته: يا اهل المدينة الظالم اهلها، انا بقية اللّه، يقول اللّه بقية اللّه خير لكم ان كنتم مؤمنين وما انا عليكم بحفيظ، قال وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال يا قوم هذه واللّه دعوة شعيبعليه‌السلام واللّه لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالاسواق لتؤخذون من فوقكم ومن تحت ارجلكم فصدقوني هذه المرة واطيعوني وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم، قال فبادروا واخرجوا الى ابي جعفر واصحابه الأسواق(٣) .

اقول، قال العلامة المجلسيرحمه‌الله في شرح الخبر: فلم يبق في الحبس رجل الا ترشّفه ( الترشف المص والتقبيل مع اجتماع الماء في الفم وهو كناية عن مبالغتهم في اخذ العلم عنهعليه‌السلام او عن غاية الحبّ ولعله تصحيف ترسفه بالسين المهملة يعني مشى اليه مشي المقيد يتحامل رجله مع القيد) انتهى.

وروى عن ابي عبد اللّهعليه‌السلام قال ان محمد بن(٤) المنكدر كان

____________________

(١) سيأتي تفسيره.

(٢) مدين: بالفتح ثم السكون وفتح الياء. مدينة قوم شعيب وهي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل.

(٣) وفي الكافي فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشيخ فبعث اليه فحمله فلم يدر ما صنع به (منه).

(٤) الظاهر ان محمد بن المنكدر كان من متصوفة العامة كطاوس وشقيق وابن ادهم وامثالهم حكى صاحب المستطرف عن محمد بن المنكدر انه جزأ عليه وعلى امه وعلى اخته الليل اثلاثاً فماتت اخته فجزأ عليه وعلى امه فماتت امه فقام الليل كله اقول لو صح هذا من ابن المنكدر فقد اخذ هذا من =

١١٨

يقول ما كنت ارى ان مثل عليّ بن الحسينعليه‌السلام يدع خلفاً لفضل عليّ بن الحسينعليهما‌السلام حتى رأيت ابنه محمد بن عليّعليه‌السلام فأردت ان اعظه فوعظني فقال له اصحابه باي شيء وعظك قال: خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيت محمد بن عليّعليه‌السلام وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له اسودين او موليين له، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، واللّه لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فسلم عليّ بنهر وقد تصبَّب عرقاً فقلت: اصلحك اللّه، شيخ من اشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وانت على هذه الحال، قال فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني واللّه الموت وانا في هذه الحال جاءني وانا في طاعة من طاعات اللّه، اكف بها نفسي عنك وعن الناس، وانما كنت اخاف الموت لو جاءني وانا على معصية من معاصي اللّه، فقلت: يرحمك اللّه اردت ان اعظك فوعظتني.

وروي انهعليه‌السلام خرج حاجاً فلما دخل المسجد ونظر الى البيت بكى حتى علا صوته ثم طاف بالبيت وصلّى عند المقام فرفع رأسه من سجوده، فاذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينيه، وكانعليه‌السلام اذا ضحك قال اللهم لا تمقتني، وكان يقول في جوف الليل في تضرعه: أمرتني فلم أأتمر، ونهيتني فلم انزجر فها انا ذا عبدك بين يديك ولا اعتذر.

وروي عن ابي عبد اللّهعليه‌السلام قال: كان ابيعليه‌السلام اذا احزنه امر جمع النساء والصبيان ثم دعا، وأمنوا.

وقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام كان أبي كثير الذكر لقد كنت امشي معه وانه ليذكر اللّه ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر

____________________

= آل داود فقد روي ان داودعليه‌السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على اهله فلم يكن ساعة الا وانسان من اولاده في الصلاة فقال تعالى اعملوا آل داود شكراً (منه).

١١٩

اللّه، وكنت ارى لسانه لازقاً(١) بحنكه يقول لا اله الا اللّه وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ومن كان لا يقرأ منّا امره بالذكر.

فصل في مكارم أخلاقه عليه السلام

كان ابو جعفر الباقرعليه‌السلام مع ما وصف من الفضل في العلم والسؤدد(٢) والرياسة والإِمامة ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله.

قال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : كان أبي أقل اهل بيته مالاً واعظمهم مؤونة وكان يتصدق كل جمعة بدينار وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف، لفضل يوم الجمعة على غيره من الايام.

وروي عن الحسن بن كثير قال: شكوت الى ابي جعفر محمد بن عليّعليه‌السلام الحاجة وجفاء الاخوان، فقال بئس الاخ اخاً يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً ثم أمر غلامه فاخرج كيساً فيه سبعمئة درهم وقال استنفق هذه فاذا نفدت فاعلمني.

روي انهعليه‌السلام كان يجير(٣) الخمسمئة درهم الى الستمئة الى الالف درهم وكان لا يملّ من صلة الاخوان وقاصديه ومؤمليه وراجيه.

وروي عنه عن آبائهعليهم‌السلام ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: اشد الاعمال ثلاثة، مواساة الاخوان في المال وانصاف الناس من نفسك وذكر اللّه على كل حال.

____________________

(١) أي لاصقاً.

(٢) أي السيادة والرفعة.

(٣) اجار فلاناً: اغاثه.

١٢٠