الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية0%

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 326

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف: عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (المحدث القمي)
تصنيف:

الصفحات: 326
المشاهدات: 146510
تحميل: 8852

توضيحات:

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146510 / تحميل: 8852
الحجم الحجم الحجم
الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف:
العربية

ورُوي عنهعليه‌السلام قوله ما شيب(١) شيء بشيء احسن من حلم بعلم.

وعن الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، قال: قد جمع محمد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، صلاح حال الدنيا بحذافيرها(٢) في كلمتين، فقال صلاح جميع المعايش والتعاشر، ملء مكيال، ثلثان فطنة، وثلث تغافل.

وقال له نصراني: انت بقر، قال لا، انا باقر، قال انت ابن الطباخة قال: ذاك حرفتها، قال انت ابن السوداء الزنجية البذية(٣) ، قال ان كنت صدقت غفر اللّه لها، وان كنت كذبت غفر اللّه لك قال فأسلم النصراني.

اقول ولقد اقتدى به سلام اللّه عليه في هذا الخلق الشريف افضل الحكماء والمتكلمين سلطان العلماء والمحققين الوزير الاعظم الخواجة نصير الملة والدين (قدس اللّه روحه) فقد ذكرنا في ترجمته في الفوائد الرضوية، ان ورقة حضرت اليه من شخص من جملة ما فيها، يا كلب ابن كلب فكان الجواب اما قوله يا كذا فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع وهو نابح(٤) طويل الأظفار، واما انا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الاظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص، واطال في نقض كل ما قال، وهكذا رد عليه بحسن طوية(٥) وتأنٍ غير منزعج(٦) ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة، قلت ليس هذا ببدع ممن قال في حقه العلامة في اجازته الكبيرة، وكان هذا الشيخ افضل عصره في العلوم العقلية والنقلية، وله مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية، والاحكام الشرعية على

____________________

(١) من الشوب وهو المزج.

(٢) حذافير: جمع حذفار (بكسر الحاء) وهو الجانب. يقال بحذافيرها أي بجوانبها وبأسرها.

(٣) البذاء: الفحش والسفاهة.

(٤) النبح: صوت الكلب.

(٥) الطوية: النية والضمير.

(٦) انزعج: قلق.

١٢١

مذهب الإِمامية، وكان اشرف من شاهدناه في الاخلاق، نور اللّه مضجعه، قرأت عليه إلهيات الشفا لأبي علي بن سينا وبعض التذكرة في الهيئة، تصنيفه، ثم ادركه الموت المحتوم (قدس اللّه روحه). انتهى.

فصل في كلماته وحِكَمِه عليه السلام

ومن كلمات مولانا الباقرعليه‌السلام في الحكم.

قال: الكمال كل الكمال التفقه في الدين والصبر على النائبة(١) وتقدير المعيشة.

وقالعليه‌السلام : من لم يجعل اللّه له في نفسه واعظاً فان مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً.

وقالعليه‌السلام كم رجل قد لقي رجلاً فقال له: كبتَ اللّه عدوك وما له عدو الا اللّه.

وقالعليه‌السلام : ما عرف اللّه من عصاه وانشد:

تعصي الإِله وانت تُظهر حبَّهُ

هذا لعمرك في الفعالِ بديعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأَطعتَهُ

ان المحبّ لمِن أحبَّ مُطيعُ

وقال في وصيته لجابر الجعفي: يا جابر اغتنم من اهل زمانك خمساً: ان حضرت لم تعرف(٢) وان غبت لم تفتقد، وان شهدت لم تشاور، وان قلت لم يقبل قولك، وان خطبت لم تتزوج.

____________________

(١) النائبة: المصيبة الواردة.

(٢) لم تعرف: بصيغة المبني للمفعول وكذا ما بعده.

١٢٢

وقال: مثل الحاجة الى من اصاب ماله حديثاً كمثل الدرهم في فم الافعى انت اليه محوج(١) وانت منها على خطر.

وقالعليه‌السلام الحياء والايمان مقرونان في قرن فاذا ذهب احدهما تبعه صاحبه.

وقال لبعض شيعته وقد اراد سفراً، فقال لهعليه‌السلام : أوصني، فقال: لا تسيرن سيراً وانت حاف، ولا تنزلن عن دابتك ليلاً الا ورجلاك في خف، ولا تبولن في نفق ولا تذوقن بقلة(٢) ولا تشمها حتى تعلم ما هي، ولا تشربن من سقاء(٣) حتى تعرف ما فيه ولا تسيرن الا مع من تعرف، واحذر من لا تعرف.

وقال من اعطي الخلق والرفق فقد اعطي الخير والراحة وحسن حاله في دنياه وآخرته ومن حرم الخلق والرفق كان ذلك سبيلاً الى كل شر وبلية الا من عصمه اللّه.

اقول قد وردت روايات كثيرة في مدح الرفق وكفى في ذلك ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال لجابر (رضي اللّه عنه): ان هذا الدين لمتين، فاوغل فيه برفق ولا تبغض الى نفسك عبادة اللّه فان المنبتَّ لا ارضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

بيان: يقال للرجل اذا انقطع في سفره وعطب راحلته قد انبَتَّ من البت (اي القطع)، يريد انه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقض وطره وقد اعطب ظهره، والظهر الابل التي يحمل عليها وتركب.

قال المحقق الطوسي في آداب المتعلم: ويغتنم ايام الحداثة وعنفوان الشباب ولا يجهد نفسه جهداً يضعف النفس وينقطع عن العمل بل يستعمل الرفق في ذلك والرفق اصل عظيم في جميع الأشياء.

____________________

(١) اسم مفعول من الحاجة.

(٢) المراد بها كلما نبت من الأرض لأن فيها مظنة التسمم.

(٣) السقاء: وعاء من جلد للماء واللبن.

١٢٣

فصل في وفاة الإِمام محمد بن علي الباقر عليه السلام

توفي ابو جعفر محمد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة ١١٤ هجري اربع عشرة ومئة وله سبع وخمسون سنة.

قيل سمَّه ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك فتكون وفاته في ايام هشام بن عبد الملك، وقبره بالبقيع في القبر الذي فيه ابوه وعم ابيه الحسنعليهم‌السلام في القبة التي فيها العباس، وأوصى الى ابنه جعفرعليه‌السلام وامره ان يكفنه في برده الذي كان يصلّي فيه يوم الجمعة وان يعمّمه بعمامته وان يربع قبره ويرفعه اربع اصابع وان يحل عنه اطماره عند دفنه.

ورُوي عن ابي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال كتب ابي في وصيته، ان اكفنه في ثلاثة اثواب احدها رداء له حبرة، كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص، فقلت لأبي: لِمَ تكتب هذا؟ فقال: اخاف ان يغلبك الناس وان قالوا كفّنه في اربعة او خمسة فلا تفعل، وعمّمني بعمامة، وليس تعد العمامة من الكفن انما يعد ما يلف به الجسد.

وعنهعليه‌السلام ايضاً قال لي ابي: يا جعفر اوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى، ايام منى.

ورُوي انّه اوصى بثمانمئة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السنة، لأن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا.

وعن ابي عبد اللّهعليه‌السلام ان رجلاً كان على اميال من المدينة فرأى في منامه، فقيل له انطلق فصلّ على ابي جعفرعليه‌السلام فان الملائكة تغسله في البقيع فجاء الرجل، فوجد ابا جعفر قد توفّي (صلوات اللّه وسلامه عليه).

١٢٤

النور الثامن.. الإِمام السادس مولانا ابو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق الامين ينبوع العلم ومعدن الحكمة واليقين صلوات اللّه عليه وعلى آبائه وابنائه الطاهرين

ولدعليه‌السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ٨٣ هجري ثلاث وثمانين من الهجرة، وهو اليوم الذي ولد فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يوم شريف عظيم البركة ولم يزل الصالحون من آل محمدعليهم‌السلام من قديم الايام يعظمون حقّه، ويرعون حرمته وفي صومه فضل كبير وثواب جزيل ويستحب فيه الصدقة وزيارة المشاهد المشرّفة والتطوع بالخيرات وادخال المسرّة على اهل الايمان.

امّهعليه‌السلام النجيبة الجليلة المكرمة فاطمة المعروفة بأم فروة بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر، وامّها اسماء بنت عبد الرحمان بن ابي بكر. قال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : كانت امّي ممّن آمنت واتقت واحسنت، واللّه يحب المحسنين.

وعن عبد الأعلى، قال: رأيت ام فروة تطوف بالكعبة، عليها كساء، متنكرة، فاستلمت الحجر بيدها اليسرى فقال لها رجل يا امَةَ اللّه اخطأت السّنة فقالت إنّا لأغنياء من علمك(١) .

____________________

(١) الذي يظهر لي من الروايات ان سعيدة المعروفة بالفضل وبالعبادة كانت مولاة أم فروة وهي التي قالل لها الصادقعليه‌السلام اسأل اللّه الذي عرفنيك في الدنيا ان يزوجنيك في الجنة (منه).

١٢٥

اقول الظاهر ان الرجل كان من فقهاء العامة وكان المعروف(١) بابن خَرَّبوذ يعبِّر عن الصادقعليه‌السلام بابن المكرمة.

قال المسعودي في اثبات الوصية: وكان ابوها القاسم من ثقات اصحاب عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وكانت من اتقى نساء زمانها، وروت عن علي بن الحسينعليه‌السلام احاديث:

منها قوله لها: يا امّ فروة اني لادعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مئة مرة يعني الاستغفار، لأنا نصبر على ما نعلم وهم يصبرون على ما لايعلمون انتهى.

ولأم فروة اخت تعرف بأم حكيم كانت زوجة اسحاق العريضي بن عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب، ولدت له القاسم وهو رجل جليل كان اميراً على اليمن، وهو ابو داود بن القاسم المعروف(٢) بابي هاشم الجعفري البغدادي، العالم الورع، الثقة الجليل، الذي ادرك الرضا وبقية الأئمةعليهم‌السلام ، وكان من وكلاء الناحية المقدّسة، ولم يكن في آل ابي طالب مثله في علو النسب فانه ينتهي الى عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب بأبوين، القاسم بن اسحاق، توفي في جمادى الاولى سنة ٢٦١ مئتين واحدى وستين وكان قبره مشهوراً يزار على ما صرح به المسعودي. ولابن عياش كتاب في اخبار ابي هاشم الجعفري، يروي عنه الطبرسي في اعلام الورى.

____________________

(١) معروف بن خرّبوذ (بتشديد الراء) من اصحاب الباقرينعليهما‌السلام وكان حليف السجدة الطويلة وهو ممن اجتمعت العصابة على تصديقهم وممن انقادوا له بالفقه. راجع ترجمته من الرجال الكبير، ولا يخفى انه غير المعروف بابن فيروز الكرخي العارف المشهور المتوفى سنة (٢٠٠) ببغداد.

(٢) المعروف: صفة داود (منه).

١٢٦

فصل في احوال الإِمام جعفر الصادق عليه السلام

قال السيد الشبلنجي الشافعي في نور الابصار في احوال ابي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام ما هذا لفظه: ومناقبه كثيرة تكاد تفوت عند الحاسب ويحار(١) في انواعها فهم اليقظ الكاتب، وروى عنه جماعة من اعيان الأئمة واعلامهم، كيحيى بن سعيد، وابن جريح، ومالك بن انس، والثوري، وابن عيينة، وابي أيوب السجستاني، وغيرهم، قال ابو حاتم: جعفر الصادقعليه‌السلام ثقة لا يسأل عن مثله. قال ابن قتيبة في كتاب ادب الكاتب وكتاب الجفر: كتبه الإِمام جعفر الصادق بن محمد الباقر، فيه كل ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة والى هذا الجفر اشار ابو العلاء المعري بقوله:

لقد عجبوا لآل البيت لما

اتاهم علمهم في جلد جَفْرِ

ومرآةُ المنجمِ وهي صغرى

تريهِ كل عامرة وقَفْرِ

والجفر من اولاد المعز، ما بلغ اربعة اشهر، وانفصل عن امه.

وفي الفصول المهمة، نقل بعض اهل العلم، ان كتاب الجفر الذي بالغرب يتوارثه بنو عبد المؤمن بن عليّ من كلام جعفر الصادقعليه‌السلام وله فيه المنقبة السّنية والدرجة التي في مقام الفضل علية، انتهى.

وقال شيخنا المفيدرحمه‌الله : وكان الصادق جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام من بين اخوته خليفة ابيه محمد بن عليّعليه‌السلام ووصيه والقائم بالامامة من بعده وبرز على جماعتهم بالفضل وكان أنْبههم(٢) ذكراً واعظمهم قدراً واجلهم في العامة والخاصة، ونقل

____________________

(١) أي يضل ويجهل وجه الصواب.

(٢) أي اشرفهم واشهرهم.

١٢٧

الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلاد ولم ينقل عن احد من اهل بيته العلماء ما نقل عنه ولا لقي احد منهم من اهل الآثار ونقلة الاخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن ابي عبد اللّهعليه‌السلام ، فان اصحاب الحديث قد جمعوا اسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا اربعة آلاف رجل وكان لهعليه‌السلام من الدلائل الواضحة في امامته ما بهرت(١) القلوب واخرست(٢) المخالف عن الطعن فيها بالشبهات، انتهى.

ورُوي انهعليه‌السلام كان يجلس للعامة والخاصة ويأتيه الناس من الاقطار يسألونه عن الحلال والحرام، وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب فلا يخرج احد منهم الا راضياً بالجواب، وبالجملة نقل عنهعليه‌السلام من العلوم ما لم ينقل عن احد.

وذكر عن بعض علماء المخالفين انهم كانوا من تلامذته ومن خدمه واتباعه والآخذين عنه كأبي حنيفة(٣) ومحمد بن الحسن وان ابا يزيد(٤) طيفور السقّاء خدمه وسقاه وابراهيم(٥) بن ادهم ومالك بن دينار، كانا من غلمانه.

وروي عنهعليه‌السلام قال: اني اتكلم على سبعين وجهاً لي من كلها المخرج.

____________________

(١) أي غلبت او اضاءت.

(٢) أي رمته بالخرس (بفتحتين) وهو انعقاد اللسان عن الكلام.

(٣) ابي حنيفة: النعمان بن ثابت الكوفي احد الأئمة الاربعة لأهل السنة. وكان صاحب الرأي والقياس وقد قيل فيه مدحاً وذماً ما قيل في احد توفى سنة ١٥٠ وقبره ببغداد معروف (راجع ترجمته في تاريخ بغداد وغيره).

(٤) ابا يزيد. هو طيفور بن عيسى البسطامي الصوفي المشهور وكان من الزهاد. قيل كان سقاء للإِمام الصادق وبعده انهعليه‌السلام مات سنة ١٤٨ وهو مات سنة ٢٦١ فالتفاوت ما بين وفاتيهما ١١٣ سنة مع انهم لم يذكروا عمر ابي يزيد اكثر من الثمانين؟

(٥) هو والمالك من كبار الزهاد وقد ذكر لهما كرامات. راجع ترجمتهما من تذكرة الشيخ العطار.

١٢٨

ودخل اليه سفيان الثوري يوماً فسمع منه كلاماً اعجبه فقال: هذا واللّه يا ابن رسول اللّه الجوهر، فقال له: بل هذا خير من الجوهر، وهل الجوهر الا الحجر. وروي عن سفيان ايضاً انه قال للصادقعليه‌السلام : يا ابن رسول اللّه لم جعل الموقف من وراء الحرم ولم يصر في المشعر فقال: الكعبة بيت اللّه والحرم حجابه والموقف بابه فلما قصدوه وقفهم بالباب يتضرّعون، فلما اذن لهم بالدخول ادناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة فلما نظر الى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم، فلما رحمهم امرهم بتقريب قربانهم، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم(١) وتطهّروا من الذنوب، امرهم بالزيارة لبيته، فقال له سفيان: فلم كره الصوم ايام التشريق، قال: لأنهم في ضيافة اللّه ولا يحب للضيف ان يصوم قال سفيان: جعلت فداك فما بال الناس يتعلقون بأستار الكعبة وهي خرق لا تنفع شيئاً فقال: ذلك مثل رجل بينه وبين آخر جرم، فهو يتعلق به ويطوف حوله رجاء ان يهب له جرمه.

وروى ابن شهرآشوب عن مسند ابي حنيفة قال الحسن بن زياد: سمعت ابا حنيفة وقد سئِل من افقه من رأيت، قال: جعفر بن محمدعليه‌السلام ، لما اقدمه المنصور، بعث اليّ، فقال: يا ابا حنيفة ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من مسائلك الشداد، فهيأت له اربعين مسألة، ثم بعث اليّ ابو جعفر وهو بالحيرة فاتيته فدخلت عليه وجعفرعليه‌السلام جالس عن يمينه فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لابي جعفر، فسلمت عليه، فأومأ اليّ فجلست، ثم التفت اليه فقال: يا ابا عبد اللّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفت إليَّ فقال: يا ابا حنيفة الق على ابي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول انتم تقولون كذا واهل المدينة يقولون كذا فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً حتى اتيت على الأربعين مسألة فما اخلّ منها بشيء ثم قال ابو حنيفة: اليس ان اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس.

____________________

(١) التفث محركة: قيل هو التنظيف من الوسخ وقيل ما يفعله المحرم عند احلاله كقص الشارب والظفر.

١٢٩

فصل في نبذ من كلامه عليه السلام

قال لحمران: يا حمران انظر الى من هو دونك ولا تنظر الى من هو فوقك في المقدرة فان ذلك أقنع لك بما قسم لك، واحرى ان تستوجب الزيادة من ربك، واعلم ان العمل الدائم القليل على اليقين افضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين واعلم انه لا ورع أولى من تجنب محارم اللّه والكف عن اذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق، ولا مال انفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل اضر من العجب.

وقالعليه‌السلام : ان قدرت على أن لا تخرج من بيتك فافعل، فان عليك في خروجك ان لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا ترائي(١) ولا تتصنع ولا تداهن، ثم قال: نعم صومعة المسلم، بيته، يكفُّ فيه بصره ولسانه ونفسه وفرجه.

أقول: حثعليه‌السلام فيه على الاعتزال عن الناس والانس باللّه تعالى (قال الشاعر):

رغيف خبز يابس تأكله في زاوية

وكف ماء بارد تشربه في ساقية

وغرفة ضيقة نفسك فيها خالية

او مسجد بمعزل عن الورى في ناحية

تتلو به صحيفة مستدثراً ببادية

خير من التيجان في قصر ودار عالية

يا حسنها موعظة

فاين اذن واعية

وقالعليه‌السلام لفضيل بن عثمان: اوصيك بتقوى اللّه وصدق الحديث واداء الأمانة وحسن الصحابة لمن صحبك، واذا كان قبل طلوع

____________________

(١) من الرياء وهو من حبال الشيطان لمنتحلي العلم اعاذنا اللّه منه.

١٣٠

الشمس وقبل الغروب فعليك بالدعاء، واجتهد ولا تمتنع من شيء تطلبه من ربك، ولا تقل هذا ما لا أُعطاه، وادع فان اللّه يفعل ما يشاء.

وقيل لهعليه‌السلام : على ماذا بنيت أمرك، فقال: على أربعة اشياء علمت ان عملي لا يعمله غيري فاجتهدت، وعلمت ان اللّه عز وجل مطلع عليّ فاستحييت، وعلمت ان رزقي لا يأكله غيري فاطمأننت، وعلمت ان آخر امري الموت فاستعددت.

وقالعليه‌السلام في وصيته لعبد اللّه بن جندب: يا ابن جندب أقلّ النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء اقل شكراً من العين واللسان، فان ام سليمان قالت لسليمان: يا بنيّ ايّاك والنوم فانه يفقرك يوم يحتاج الناس الى اعمالهم.

وقال له: واقنع بما قسمه اللّه لك، ولا تنظر إلا ما عندك، ولا تتمن ما لست تناله، فإنّ من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع، وخذ حظك من آخرتك، ولا تكن بطراً في الغنى ولا جزعاً في الفقر، ولا تكن فظّاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقّرُك من عرفك، ولا تشارّ(١) من فوقك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الامر اهله، ولا تطع السفهاء، ولا تكن مهيناً(٢) تحت كل احد، ولا تتكلنَّ على كفاية احد، وقفْ عند كل امر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل ان تقع فيه فتندم..

قوله:عليه‌السلام : وقف عند كل امر الخ (فيه الأمر بالتدبر في عاقبة كل امر اهتم به) كما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمن طلب منه وصية: اوصيك اذا انت هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان يك رشداً فامضه، وان يك غياً فانته منه.

____________________

(١) أي لا تخاصم (منه).

(٢) أي ذليلاً.

١٣١

عن كتاب ربيع الأبرار ان يهودياً سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألة، فمكث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساعة ثم اجابه عنها.

وقالعليه‌السلام لداود الرقّي، تدخل يدك في فم التنين(١) الى المرفق خير لك من طلب الحوائج الى من لم يكن له فكان.

وعن كنز الفوائد قال: جاء في الحديث ان أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئاً على يد الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام فقال رجل يقال له رزام مولى خالد بن عبد اللّه: من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد امير المؤمنين على يده؟ فقيل له: هذا أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام ، فقال إنّي واللّه ما علمت لوددت ان خد ابي جعفر نعل لجعفر ثم قام فوقف بين يدي المنصور، فقال له: سل يا امير المؤمنين فقال له المنصور: سل هذا، فالتفت رزام الى الإِمام جعفر بن محمدعليه‌السلام فقال: اخبرني عن الصلاة وحدودها، فقال له الصادقعليه‌السلام ، للصلاة اربعة آلاف حدّ لست تؤاخذ بها، فقال اخبرني بما لا يحل تركه ولا تتم الصلاة إلا به، فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : لا تتم الصلاة الا لذي طهر سابغ(٢) واهتمام بالغ غير نازغ ولا زائغ عرف فوقف، واخبت(٣) فثبت، فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع، كأن الوعد له صنع، والوعيد به وقع، بذل عرضه وتمثل غرضه، وبذل في اللّه المهجة(٤) وتنكب غير الحجة مرتغماً(٥) بارغام، يقطع علائق الاهتمام، يعين من له قصد واليه وفد، ومنه استرفد، فإذا اتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أَمَرَ، وعنها أَخْبَرَ، وانها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر،

____________________

(١) أي الافعى.

(٢) أي الوافي التام.

(٣) اخبت الى اللّه: اطمأن اليه تعالى وتخشع امامه.

(٤) أي الدم.

(٥) رغم انفه للّه: ذل وخضع.

١٣٢

فالتفت المنصور الى أبي عبد اللّهعليه‌السلام فقال له: يا ابا عبد اللّه لا نزال من بحرك نغترف، واليك نزدلف(١) تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطّخياء فنحن نعوم في سبحات قدسك، وطامي بحرك، قولهعليه‌السلام غير نازغ ولا زائغ، النزغ الظن والاغتياب والافساد والوسوسة، والزيغ الميل، والطخياء في قول المنصور الظلمة، ونعوم أي نسبح، ففي الخبر علّموا صبيانكم العوم أي السباحة وسبحات وجه ربنا جلاله وعظمته وقيل نوره وطما البحر، امتلأ) فانظر الى اعدائهم أقروا بفضلهم هل فوق ذاك فخر.

فصل في مكارم اخلاقه عليه السلام واقرار المخالفين بفضله

الصدوق عن مالك بن انس فقيه المدينة، قال: كنت أدخل على الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام فيقدم لي مخدّة ويعرف لي قدراً، ويقول: يا مالك اني كنت احبك، فكنت أسرَّ بذلك واحمد اللّه عليه وكانعليه‌السلام رجلاً لا يخلو من احدى ثلاث خصال، اما صائماً واما قائماً واما ذاكراً.

وكان من عظماء العباد واكابر الزهاد والذين يخشون اللّه عزَّ وجل.

وكان كثير الحديث طيِّب المجالسة كثير الفوائد فاذا قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اخضر مرة واصفر اخرى حتى ينكره من كان يعرفه.

ولقد حججت معه سنة، فلما استوت به راحلته عند الاحرام كان لكما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد ان يخرَّ من راحلته، فقلت: قل يا ابن رسول اللّه، ولا بدّ لك من ان تقول، فقال: يا ابن ابي عامر كيف اجسر ان اقول لبيك اللهم لبيك، واخشى ان يقول عز وجل لا لبيك ولا سعديك.

____________________

(١) أي نتقرب.

١٣٣

وفي توحيد المفضل انه لما سمع المفضل من ابن ابي العوجاء، بعض كفرياته، لم يملك غضبه فقال، يا عدو اللّه أَلَحدتَ في دين اللّه، وانكرت الباري جل قدسه، الى آخر ما قال له، فقال ابن ابي العوجاء: يا هذا ان كنت من اهل الكلام كلمناك، فان ثبتت لك الحجة تبعناك وان لم تكن منهم فلا كلام لك، وان كنت من اصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا اكثر مما سمعت فما افحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وانه للحليم الرزين(١) العاقل الرصين(٢) لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي الينا ويستغرق(٣) حجتنا حتى اذا استفرغنا ما عندنا وظننا انا قد قطعناه ادحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فان كنت من اصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.

في تذكرة السبط، قال: ومن مكارم اخلاقهعليه‌السلام ما ذكره الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار عن الشّقراني مولى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خرج العطاء ايام المنصور وما لي شفيع، فوقفت على الباب متحيراً، واذا بجعفر بن محمدعليه‌السلام قد أقبل، فذكرت له حاجتي فدخل وخرج واذا بعطائي في كمِّه، فناولني اياه وقال ان الحسن من كل احد حسن وانه منك احسن لمكانك منا، وان القبيح من كل احد قبيح وانه منك اقبح لمكانك منا، وانما قال له جعفرعليه‌السلام ذلك: لأن الشّقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم اخلاق جعفرعليه‌السلام انه رحب به وقضى حاجته مع علمه بحاله ووعظه على وجه التعريض، وهذا من اخلاق الانبياء عليهم السلام.

____________________

(١) أي الوقور (منه).

(٢) الرصين: أي محكم ثابت، والخرق: ضد الرفق: والنزق: الخفة عند الغضب (منه).

(٣) أي يستقصيها ويحيط بها.

١٣٤

رُوي انه كان يأكل الخل والزيت، ويلبس قميصاً غليظاً خشناً تحت ثيابه، وفوقه جبة صوف وفوقها قميص غليظ، ودخل عليه بعض اصحابه فرأى عليه قميصاً فيه قب قد رقعه، فجعل ينظر اليه، فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : ما لك تنظر، فقال قب يلقى في قميصك قال، فقال: اضرب يدك الى هذا الكتاب فاقرأ ما فيه، وكان بين يديه كتاب او قريب منه، فنظر الرجل فيه فإذا فيه، لا إيمان لمن لا حياء له، ولا مال لمن لا تقدير له ولا جديد لمن لا خلق له (قال في القاموس القبُّ ما يدخل في جيب القميص من الرقاع).

وكانعليه‌السلام يختضب بالحناء خضاباً قانياً، وكان يحفي شاربه حتى يلصقه بالعسيب (اي منبت الشعر).

ودخل الحمام يوماً، فقال لصاحب الحمام اخليه لك، فقال لا حاجة لي في ذلك، المؤمن اخف من ذلك.

وكان يتصدق بالسُّكر لأنه احب الاشياء عنده، وأُتي له بطعام حار فجعل يكرر: نستجير باللّه من النار نعوذ باللّه من النار نحن لا نقوى على هذا فكيف النار، حتى امكنت القصعة فوضع يده فيها.

ورُئي عليه قميص شبه الكرابيس كانه مخيط عليه من ضيقه وبيده مسحاة يفتح بها الماء، وقال احب ان يتأذّى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة.

وكان يأمر باعطاء اجور العَمَلَةِ قبل ان يجف عرقهم، وروي انهعليه‌السلام كان يتلو القرآن في صلاته فغشي عليه، فسئل عن ذلك فقال: ما زلت اكرر آيات القرآن حتى بلغت الى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها، وروي انه كان يتمثل (بابيات ظ) لأبي ذر الغفاريرحمه‌الله .

١٣٥

انت في غفلةٍ وقلبك ساه

نفد العمر والذنوب كما هي

جمة حصِّلت عليك جميعاً

في كتاب وانت عن ذاك ساهي

لم تبادر بتوبةٍ منك حتى

صرت شيخاً وعظمك اليوم واهي

عجباً منك كيف تضحك جهلاً

وخطاياك قد بدت لإِلهي

فتفكر في نفسك اليوم جهداً

وانفِ عن نفسك الكرى(١) يا مناهي

وروي ان المنصور سهر ليلة، فدَعا الربيع وارسله الى الصادقعليه‌السلام ان يأتي به، قال الربيع فصرت الى بابه فوجدته في دار خلوته، فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفراً خديه، مبتهلاً بظهر يديه، قد اثر التراب في وجهه وخديه.

وروى الكليني عن المفضل بن عمر قال: وجه ابو جعفر المنصور الى الحسن بن زيد، وهو واليه على الحرمين، ان احرق على جعفر بن محمد داره فالقى النار في دار ابي عبد اللّهعليه‌السلام فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج ابو عبد اللّهعليه‌السلام يتخطى النار ويمشي فيها، ويقول: انا ابن اعراق الثرى(٢) انا ابن ابراهيم خليل اللّه.

فصل في احوال ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام

روي أنه سُعِيَ بابي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام عند المنصور، بانه بعث مولاه المعلّى بن خنيس بجباية الاموال من شيعته، وأنه كان يمد بها محمد بن عبد اللّه، فكاد المنصور ان يأكل كفه على جعفر غيظاً، وكتب الى عمه داود، وهو اذ ذاك أمير المدينة، ان يسيّر اليه جعفر بن محمدعليه‌السلام ، ولا يرخص له في التلوّم(٣) والمقام، فبعث اليه داود بكتاب

____________________

(١) الكرى: الشدة في المشي ويمكن ان يكون بمعنى الاكراء وهو السهر في الليل.

(٢) الاعراق جمع عرق وهو اصل كل شيء. والثرى: الأرض: يعني نحن أوتاد الأرض.

(٣) التلوم: التمكث.

١٣٦

المنصور، وقال: اعمل في المسير الى أمير المؤمنين في غد، ولا تتأخر، قال صفوان الجمال: وكنت يومئذ بالمدينة فأنفذ الي ابو عبد اللّهعليه‌السلام فصرت اليه فقال لي: تعهد راحلتنا فانّا غادون في غد ان شاء اللّه الى العراق، ونهض من وقته وانا معه الى مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وركع فيه ركعات ثم رفع يديه ودعا بدعاء، قال صفوان سألتهعليه‌السلام ان يعيد الدعاء عليّ فأعاده وكتبته، فلما اصبح ابو عبد اللّهعليه‌السلام رحلت له الناقة وسار متوجهاً الى العراق حتى قدم مدينة ابي جعفر، واقبل حتى استأذن فأذن له وقربه وادناه، ثم اسند قصة الرافع على ابي عبد اللّهعليه‌السلام ونحن نوردها برواية الشيخ الكليني، فروى مسنداً عن صفوان الجمال قال حملت ابا عبد اللّهعليه‌السلام الحملة الثانية الى الكوفة، وابو جعفر المنصور بها، فلما أشرفعليه‌السلام على الهاشمية مدينة ابي جعفر اخرج رجله من غرز(١) الرحل ثم نزل ودعا ببغلة شهباء ولبس ثياباً بيضاً وتكة بيضاء، فلما دخل عليه قال له ابو جعفر: لقد تشبهت بالانبياء، فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : وأنَّى تبعدني من ابناء الأنبياء، قال لقد هممت ان ابعث الى المدينة من يعقر(٢) نخلها ويسبي ذريتها، فقال: ولم ذاك يا امير المؤمنين، فقال رفع اليّ ان مولاك المعلى بن خنيس يدعو اليك ويجمع لك الأموال، فقال واللّه ما كان، فقال لست ارضى منك الا بالطلاق والعتاق والهدي والمشي، فقال أبالأنداد من دون اللّه تأمرني أن أحلف؟ انه من لم يرض باللّه فليس من اللّه في شيء، فقال اتتفقه عليّ، فقال وانى تبعدني من التفقه وانا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: فانّي اجمع بينك وبين من سعى بك، قال فافعل، قال فجاء الرجل الذي سعى به فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : ما هذا قال: فقال نعم واللّه الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم لقد

____________________

(١) غرز: ركاب (منه).

(٢) أي يقطع.

١٣٧

فعلت، فقال له ابو عبد اللّهعليه‌السلام يا ويلك تبجل اللّه تعالى فيستحيي من تعذيبك، ولكن قل برئت من حول اللّه وقوته والتجأتُ الى حولي وقوتي، فحلف بها الرجل فلم يستتمها حتى وقع ميتاً، قال له ابو جعفر لا اصدق بعدها عليك ابداً، واحسن جائزته وردّه.

اقول قد ظهر من هذه الرواية ومن روايات اُخر أن مجيء الصادقعليه‌السلام من المدينة الى العراق كان اكثر من مرة واحدة، ويظهر من روايات كثيرة ان المنصور احضرهعليه‌السلام مرات عديدة ليقتله فدعا اللّه تعالى لكفاية شرِّ المنصور فكفاه اللّه تعالى شرَّه، فكان من دعائه مرة لما احضره ليقتله وطرح له سيفاً ونطعاً، حسبي الرب من المربوبين، وحسبي الخالق من المخلوقين، وحسبي الرازق من المرزوقين، وحسبي اللّه رب العالمين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي اللّه لا اله الا هو، عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم.

وكان من دعائهعليه‌السلام ، لما اخذه صاحب المدينة ووجّه به الى المنصور وكان المنصور استعجله واستبطأ قدومه حرصاً منه على قتله، يا من لا يضام(١) ولا يرام، وبه تواصل الارحام، صلِّ على محمد وآله واكفني شره بحولك وقوتك.

وكان من دعائهعليه‌السلام ايضاً، اللهم انت تكفي من كل شيء، ولا يكفي منك شيء، فاكفنيه.

وكان من دعائهعليه‌السلام حين امر المنصور باحضاره، فلما بصر به قال قتلني اللّه ان لم اقتلك، اتلحد في سلطاني وتبغيني(٢) الغوائل. قال الربيع: وكنت رأيت جعفر بن محمدعليه‌السلام حين دخل على المنصور يحرك شفتيه، وكلما حركهما سكن غضب المنصور، حتى أدناه منه وقد رضي

____________________

(١) لا يضام: أي لا يقهر ولا ينتقص.

(٢) الغوائل: ولكن الظاهر ان معناه الاحقاد الباطنة والشرور والخرق في السلطنة.

١٣٨

عنه، فلما خرجعليه‌السلام اتبعته وقلت له بأي شيء كنت تحرك شفتيك حتى سكن غضبه، قال بدعاء جدي الحسين بن عليّعليه‌السلام ، قلت: جعلت فداك وما هذا الدعاء، قال: يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي في كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام. قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء فما نزلت بي شدة قط الا دعوت به ففرج.

فصل فيما جرى عليه عليه السلام من المنصور

ونقل السيد بن طاوس عن كتاب عتيق باسناده فيه عن محمد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القبة الخضراء، وكانت قبل قتل محمد وابراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه يسمى ذلك اليوم، يوم الذبح، وكان أشخص جعفر بن محمدعليه‌السلام من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كله حتى جاء الليل، ومضى اكثره، قال: ثم دعا ابي، الربيع فقال له: يا ربيع، انك تعرف موضعك مني، وأنّي يكون لي الخبر ولا تظهر عليه امهات الأولاد وتكون انت المعالج له. فقال: قلت يا أمير المؤمنين ذلك من فضل اللّه عليّ، وفضل امير المؤمنين، وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك انت، سر الساعة الى جعفر بن محمد بن فاطمة، فأتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً مما هو عليه فقلت انا للّه وانا اليه راجعون، هذا واللّه هو العطب(١) ان اتيت به على ما اراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وان لم آت به وادهنت في امره قتلني وقتل نسلي واخذ اموالي، فخيرت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي الى الدنيا، قال محمد بن الربيع، فدعاني ابي وكنت افظ ولده واغلظهم قلباً،

____________________

(١) العطب: الهلاك.

١٣٩

فقال لي: امض الى جعفر بن محمد بن علي فتسلّق(١) على حائطه ولا تستفتح عليه باباً، فيغير بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولاً فأت به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل الا أقله، فامرت بنصب السلاليم، وتسلقت عليه الحائط فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلما سلم من صلاته قلت له: اجب امير المؤمنين، فقال: دعني ادعو والبس ثيابي، فقلت ليس الى تركك وذلك سبيل، قال: وأدخل المغتسل فاتطهر، قال: قلت وليس الى ذلك سبيل، فلا تشغل نفسك فانّي لا ادعك تغّير شيئاً، قال فأخرجته حافياً حاسراً(٢) في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز السبعين، فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ، فرحمته فقلت له اركب فركب بغلاً شاكرياً(٣) كان معنا، ثم صرنا الى الربيع فسمعته وهو يقول له: ويلك يا ربيع قد ابطأ الرجل، وجعل يستحثه استحثاثاً شديداً، فلما ان وقعت عين الربيع على جعفر بن محمدعليه‌السلام وهو بتلك الحال، بكى وكان الربيع يتشيع، فقال له جعفرعليه‌السلام يا ربيع انا اعلم ميلك الينا، فدعني أصلّي ركعتين وادعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خففهما، ثم دعا بعدهما بدعاء لم افهمه الا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع فلما فرغ من دعائه، على طوله، اخذ الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور، فلما صار في صحن الايوان وقف ثم حرك شفتيه بشيء لم ادر ما هو، ثم ادخلته فوقف بين يديه فلما نظر اليه قال: وانت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وافسادك على اهل هذا البيت من بني العباس وما يزيدك اللّه بذلك الا شدة حسد ونكد ما تبلغ به ما تقدره، فقال له: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من هذا ولقد كنت في ولاية بني امية وأنت تعلم انهم اعدى الخلق لنا

____________________

(١) أي اصعد عليه.

(٢) أي منكشفاً.

(٣) أي المستخدم والاجير.

١٤٠