الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية0%

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 326

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف: عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (المحدث القمي)
تصنيف:

الصفحات: 326
المشاهدات: 146456
تحميل: 8852

توضيحات:

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146456 / تحميل: 8852
الحجم الحجم الحجم
الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

الانوار البهية في تواريخ الحجج الالهية

مؤلف:
العربية

ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فواللّه ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي سوء مع جفائهم الذي كان بي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وانت ابن عمي وامس الخلق بي رحماً واكثرهم عطاء وبراً، فكيف افعل هذا، فاطرق المنصور ساعة وكان على لبدٍ وعن يساره رفقة(ْ١) جرمقانية، وتحت لبده سيف ذو فقار، كان لا يفارقه اذا قعد في القبة، قال: ابطلت(٢) واثمت، ثم رفع ثني الوسادة، فأخرج منها اضبارة كتب فرمى بها اليه، وقال هذه كتبك الى اهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وان يبايعوك دوني، فقال واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا استحل ذلك ولا هو من مذهبي، وإني لممن يعتقد طاعتك على كل حال وقد بلغت من السن ما قد اضعفني عن ذلك لو اردته، فصيّرني في بعض حبوسك حتى يأتيني الموت، فهو مني قريب، فقال لا ولا كرامة، ثم اطرق وضرب يده الى السيف فسل منه مقدار شبر واخذ بمقبضه، فقلت: انا للّه ذهب واللّه الرجل، ثم رد السيف وقال: يا جعفر اما تستحيي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب ان تنطق بالباطل، وتشق عصا المسلمين، تريد ان تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والاولياء، فقال: لا واللّه يا امير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت انا للّه مضى الرجل، وجعلت في نفسي ان امرني فيه بامر ان اعصيه، لأنني ظننت انه يأمرني ان آخذ السيف فاضرب به جعفر فقلت ان أمرني ضربت المنصور وان أتى ذلك عليَّ وعلى ولدي، وتبت الى اللّه عز وجل مما كنت نويت فيه أولاً فأقبل يعاتبه، وجعفر يعتذر، ثم انتضى السيف الا شيئاً يسيراً منه، فقلت انا للّه مضى واللّه الرجل ثم اغمد السيف واطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال: اظنك صادقاً، يا ربيع هات العيبة(٣) من موضع كانت فيه في القبة، فاتيته بها فقال: ادخل يدك فيها فكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته وكانت بيضاء فاسودت، وقال لي احمله على فاره(٤) من دوابي التي

____________________

(١) الظاهر انها مرفقة كمكنسة وهي المخدة.

(٢) أي جئت بالباطل(منه).

(٣) العيبة: ما يجعل فيه الثياب كالصندوق.

(٤) أي سمين حاذق ذي نشاط.

١٤١

اركبها، واعطه عشرة آلاف درهم، وشيعه الى منزله مكرّماً، وخيره اذا اتيت به الى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، والانصراف الى مدينة جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجنا من عنده وانا مسرور فرح بسلامة جعفر، ومتعجب مما اراد المنصور وما صار اليه من أمره، الخبر، اقول: ما ذكر في هذا الخبر أنهعليه‌السلام قد جاوز السبعين لا يوافق ما ذكره العلماء وارباب السير من تاريخ عمره الشريف.

قال الشيخ الكليني والشيخ المفيد في ذكر وفاتهعليه‌السلام ، ومضى في شوال من سنة ثمان واربعين ومئة، وله خمس وستون سنة، وقال الشهيد في الدروس، وقبض في شوال، وقيل في منتصف رجب يوم الاثنين سنة ١٤٨ ثمان واربعين ومئة، عن خمس وستين سنة، ومثله في اعلام الورى بأدنى تفاوت.

وعن ابن الخشاب عن محمد بن سنان قال مضى أبو عبد اللّهعليه‌السلام وهو ابن خمس وستين سنة ويقال ثمان وستين سنة.

فعلى هذا إنّي احتمل قوياً ان يكون لفظ السبعين مصحف الستين وان كان قولاً ضعيفاً انهعليه‌السلام توفي وهو ابن احدى وسبعين سنة، نقله صاحب كشف الغمة عن محمد بن سعيد وسبط بن الجوزي عن الواقدي.

وروى الشيخ باسناده عن محمد بن ابراهيم قال: بعث ابو جعفر المنصور إلى أبي عبد اللّه جعفر بن محمدعليه‌السلام ، وامر بفرش فطرحت الى جانبه فاجلسه عليها، ثم قال: عليّ بمحمد عليّ بالمهدي يقول ذلك مراراً، فقيل له: الساعة الساعة يأتي يا أمير المؤمنين ما يحسبه الا انه يتبخر، فما لبث ان وافى وقد سبقته رائحته، فاقبل المنصور على جعفرعليه‌السلام فقال يا ابا عبد اللّه حديث حدثته في صلة الرحم، اذكره يسمعه المهدي، قال نعم حدثني ابي عن ابيه عن جدّه عن عليعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان الرجل ليصل

١٤٢

رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها اللّه عز وجل ثلاثين سنة ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة يصيرها اللّه ثلاث سنين، ثم تلاعليه‌السلام : يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب، قال هذا حسن يا ابا عبد اللّه وليس اياه اردت، قال ابو عبد اللّهعليه‌السلام نعم، حدثني أبي عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الاعمار وان كان أهلها غير أخيار، قال هذا حسن يا ابا عبد اللّه وليس هذا اردت فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام ): نعم حدثني ابي عن ابيه عن جده عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صلة الرحم تهون الحساب وتقي ميتة السوء قال المنصور: نعم هذا أردت.

فصل بأمر المنصور بالصادق عليه السلام

روى الشيخ ابن شهرآشوبرحمه‌الله عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر أن المنصور قد كان همّ بقتل ابي عبد اللّهعليه‌السلام غير مرة فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه، ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى انه كان يقع لاحدهم مسألة في دينه في نكاح او طلاق او غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون اليه، فيعتزل الرجل وأهله، قلت ويؤيد هذا الخبر ما رواه القطب الراوندي عن هارون بن خارجة، قال: كان رجل من اصحابنا طلق امرأته ثلاثاً، فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء، فقالت امرأته: لا ارضى حتى تسأل ابا عبد اللّه، وكان بالحيرة اذ ذاك ايام ابي العباس، قال: فذهبت الى الحيرة ولم اقدر على

١٤٣

كلامه، اذ منع الخليفة الناس من الدخول على ابي عبد اللّهعليه‌السلام ، وانا انظر كيف التمس لقاءه، فاذا سواديّ عليه جبة صوف يبيع خياراً، فقلت له بكم خيارك هذا كله، قال بدرهم، فاعطيته درهماً وقلت له اعطني جبتك هذه فاخذتها ولبستها وناديت من يشتري خياراً ودنوت منهعليه‌السلام ، فاذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار، فقالعليه‌السلام لي لما دنوت منه ما أجود ما احتلت، أي شيء حاجتك، قلت اني ابتليت فطلقت اهلي في دفعة ثلاثاً فسألت اصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وان المرأة قالت لا ارضى، حتى تسأل ابا عبد اللّهعليه‌السلام ، فقال ارجع الى اهلك فليس عليك شيء.

وروى كش(١) عن عنبسة قال سمعت ابا عبد اللّهعليه‌السلام يقول: اشكو الى اللّه وحدتي وتقلقلي(٢) من اهل المدينة حتى تقدموا وأراكم واسرّ بكم، فليت هذه الطاغية اذن لي فاتخذت قصراً فسكنته واسكنتكم معي، واضمن له ان لا يجيء من ناحيتنا مكروه ابداً.

اقول: لما منع الصادق من القعود للناس شقّ ذلك على شيعته، وصعب عليهم، حتى القى اللّه عز وجل في روع المنصور ان يسأل الصادقعليه‌السلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لاحد مثله، فبعث اليه بمخصرة(٣) كانت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وامر ان تشق له اربعة ارباع، وقسمها في اربعة مواضع ثم قال: ما جزاؤك عندي الا ان اطلق لك ونُفشي علمك لشيعتك، ولا اتعرض لك ولا لهم، فاقعد غير محتشم وافت الناس، ولا تكن في بلد أنا فيه، ففشا العلم عن الصادقعليه‌السلام .

____________________

(١) كش: رمز للكشي وهو الشيخ ابو عمر ومحمد بن عمر الكشي. ثقة. بصير بالاخبار والرجال. له كتاب الرجال الذي اختصره شيخ الطائفة وسماه اختيار الرجال. والموجود بايدينا هو ذاك الاختيار.

(٢) تقلقل في البلاد: تقلب فيها.

(٣) المخصرة: شيء كالسوط: او ما يتوكأ عليه كالعصا.

١٤٤

اقول: ويظهر من رواية المحاسن، ان الناس اجتمعوا عنده وتداكوا(١) عليه حتى يأخذوا من علمهعليه‌السلام ، والرواية هذه عن معاوية بن ميسرة بن شريح، قال: شهدت ابا عبد اللّهعليه‌السلام في مسجد الخيف وهو في حلقة فيها نحو من مئتي رجل، وفيهم عبد اللّه بن(٢) شبرمة فقال يا أبا عبد اللّه انّا نقضي بالعراق فنقضي من الكتاب والسنّة، وترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي قال: فانصت الناس جميع من حضر للجواب واقبل ابو عبد اللّهعليه‌السلام على من يمينه، يحدثهم، فلما رأى الناس ذلك اقبل بعضهم الى بعض، وتركوا الانصات، ثم تحدثوا ما شاء اللّه، ثم ان ابن شبرمة قال يا أبا عبد اللّه، انّا قضاة العراق، وانّا نقضي بالكتاب والسنة، وانه ترد علينا اشياء ونجتهد فيها بالرأي، قال: فأنصت جميع الناس للجواب، واقبل ابو عبد اللّهعليه‌السلام على من على يساره يحدثهم، فلما رأى الناس ذلك اقبل بعضهم على بعض وتركوا الانصات، ثم ان ابن شبرمة سكت ما شاء اللّه ثم عاد لمثل قوله، فاقبل ابو عبد اللّهعليه‌السلام فقال: أي رجل كان عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام فقد كان عندكم بالعراق ولكم فيه خبر، قال فأطراه(٣) ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً، فقال له ابو عبد اللّهعليه‌السلام فان عليّاً أبى ان يدخل في دين اللّه الرأي، وان يقول في شيء من دين اللّه بالرأي والمقاييس.

____________________

(١) أي ازدحموا.

(٢) عبد اللّه بن شبرمة بالشين المعجمة وبعدها باء منقطة تحتها نقطة والراء قبل الميم من اصحاب علي بن الحسينعليه‌السلام كان قاضياً لابي جعفر على سواد الكوفة مات سنة ١٤٤ اربع واربعين ومئة (صه) في القسم الثاني وكان كوفياً شاعراً (منه).

(٣) اطرى فلاناً: احسن الثناء عليه وبالغ في مدحه.

١٤٥

فصل في وفاته ووصيته عليه السلام

قبض ابو عبد اللّهعليه‌السلام في شوّال من سنة ١٤٨ ثمان واربعين ومئة مسموماً، في عنب سمّه المنصور، وله خمس وستون سنة، وقد عيّن بعض المتتبعين يوم وفاتهعليه‌السلام في الخامس والعشرين منه، وقيل يوم الاثنين لنصف من رجب كما اشرنا الى ذلك سابقاً.

نقل عن مشكاة الانوار انه دخل بعض اصحاب ابي عبد اللّهعليه‌السلام في مرضه الذي توفي فيه اليه وقد ذبل(١) فلم يبق الا رأسه، فبكى فقال: لأي شيء تبكي، فقال كيف لا أبكي وانا أراك على هذه الحال؟ قال: لا تفعل فان المؤمن تعرض (عليه ظ) كل خير ان تقطع أعضاؤه كان خيراً له، وان ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له.

وروى الشيخ عن سالمة مولاة ابي عبد اللّهعليه‌السلام ، قالت: كنت عند ابي عبد اللّه جعفر بن محمدعليه‌السلام حين حضرته الوفاة واغمي عليه، فلما افاق قال: أعطي الحسن بن علي بن علي بن الحسينعليه‌السلام وهو الافطر، سبعين ديناراً وأَعطي فلاناً كذا، وفلاناً كذا، فقلت اتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة(٢) يريد أن يقتلك، قال تريدين ان لا أكون من الذين قال اللّه عز وجل: والذين يصلون ما أمر اللّه به ان يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، نعم يا سالمة ان اللّه تعالى خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها، وان ريحها يوجد في مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم.

____________________

(١) ذبل النبات: ذهبت نضارته. ضمر.

(٢) الشفرة: السكين العظيم. حد السيف.

١٤٦

وروى الشيخ الصدوق عن ابي بصير قال دخلت على ام حميدة اعزيها بابي عبد اللّهعليه‌السلام ، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت يا ابا محمد لو رأيت ابا عبد اللّهعليه‌السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: اجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابة، قالت: فلم نترك احداً الا جمعناه، قالت فنظر اليهم ثم قال: ان شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة.

روى القطب الراوندي عن داود بن كثير الرقّي، قال، وفد من خراسان وافد يكنى ابا جعفر، واجتمع اليه جماعة من اهل خراسان فسألوه ان يحمل لهم اموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار امير المؤمنينعليه‌السلام ، ورأى في ناحية رجلاً حوله جماعة، فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء، يسمعون من الشيخ، فسألهم عنه، فقالوا: هو ابو حمزة الثمالي، قال: فبينا نحن جلوس اذ اقبل اعرابي، فقال جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمدعليه‌السلام ، فشهق ابو حمزة ثم ضرب بيده الأرض ثم سأل الاعرابي هل سمعت له بوصية، قال اوصى الى ابنه عبد اللّه والى ابنه موسىعليه‌السلام والى المنصور، فقال الحمد للّه الذي لم يضلّنا، دل على الصغير وبيَّن على الكبير وستر الامر العظيم، ووثب الى قبر امير المؤمنينعليه‌السلام فصلى وصلينا، ثم اقبلت عليه وقلت له: فسِّر لي ما قلته، قال: بيَّن ان الكبير ذو عاهة، ودل على الصغير، بان ادخل يده مع الكبير، وستر الامر العظيم بالمنصور حتى اذا سأل المنصور من وصيه، قيل: انت.

قال المسعودي: ودفنعليه‌السلام بالبقيع مع ابيه وجده، وله خمس وستون سنة، وقيل انه سمَّ، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة، عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه مبيد الامم، ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن ابي طالب، وعلي بن الحسين بن

١٤٧

علي بن ابي طالب، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد رضي اللّه عنهم انتهى.

وانا اقول صلوات اللّه عليهم، فقد رفعهم اللّه من ان يقال فيهم رحمهم اللّه واما فاطمة التي دفنت الأئمةعليهم‌السلام معها فهي فاطمة بنت اسد أم امير المؤمنينعليه‌السلام ، واما فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليها) فالظاهر انها دفنت في بيتها كما حقق ذلك في محله.

ورُوي عن عيسى بن داب، قال لما حُمِل ابو عبد اللّه جعفر بن محمدعليه‌السلام على سريره واخرج الى البقيع ليدفن قال ابو هريرة(١) :

اقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل(٢) من حامليه وعاتق

اتدرون ماذا تحملون الى الثرى

ثبيرا(٣) ثوى(٤) من رأس علياء شاهق

غداة حثى(٥) الحاثون فوق ضريحه

تراباً وأولى كان فوق المفارق

قال شيخنا المفيدرحمه‌الله في المقنعة، باب فضل زيارة علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد،عليهم‌السلام :

رُوي عن الصادقعليه‌السلام انه قال: من زارني غُفرت له ذنوبه ولم يمت فقيراً.

وروي عن ابي محمد الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام انه قال: من زار جعفراً وأباه، لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى.

____________________

(١) ليس هذا أبا هريرة الصحابي المعروف بالكذب، بل هو ابو هريرة العجلي الذي عد في شعراء اهل البيتعليهم‌السلام المجاهرين، رُويَ عن ابي بصير قال: قال ابو عبد اللّهعليه‌السلام ينشدنا شعر ابي هريرة، قلت جعلت فداك انه كان يشرب، فقال لهرحمه‌الله وما ذنب الا ويغفره اللّه لولا بغض عليعليه‌السلام (منه).

(٢) أي اعلى الظهر مما يلي العنق.

(٣) اسم لأربعة جبال قرب مكة. احدها ثبير الاعرج والثاني ثبير المنى.

(٤) أي اقام.

(٥) حثا: أهال التراب.

١٤٨

قال الصادقعليه‌السلام من زار اماماً من الأئمة وصلى عنده اربع ركعات، كتبت له حجة وعمرة.

وقيل للصادقعليه‌السلام ما حكم من زار احدكم، قال: يكون كمن زار رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال الرضاعليه‌السلام ان لكل امام عهداً في اعناق شيعته وأوليائه، وان من تمام الوفاء بالعهد وحسن الاداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه، كانوا شفعاءه يوم القيامة وللّه در السيد صالح القزويني في قوله من قصيدة بائية:

وللّه(١) افلاك البقيع فكم بها

كواكب من آل النبي غوارب(٢)

حوت منهم ما ليس تحويه بقعة

ونالت بهم ما لم تنله الكواكب

فبوركت ارضاً كل يوم وليلة

تطوف من الاملاك فيك كتائب(٣)

وفيك الجبال الشم(٤) حلماً هوامد(٥)

وفيك البحور الفعم جوداً نواضب(٦)

مناقبهم مثل النجوم كأنها

مصائبهم لم يحصها الدهر حاسب

وهم للورى امّا نعيم مؤبدُ

واما عذابُ في القيامة واصب(٧)

____________________

(١) أي للّه دره يعني له من اللّه خير كثير.

(٢) جمع غارب بمعنى الآفل والمراد هنا افولهم تحت التراب.

(٣) جمع كتيبة وهي القطعة من الخيل.

(٤) أي المرتفعة.

(٥) جمع هامد وهو الساكن.

(٦) نضب الماء: جفَّ وقلَّت مادته

(٧) أي دائم (منه).

١٤٩

النور التاسع.. الإِمام السابع، ابو الحسن موسى بن جعفر الكاظم باب الحوائج الى اللّه تعالى العبد الصالح عليه السلام

قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حقّه: هو الإِمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه، دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء باحسانه اليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج الى اللّه، لنجح المتوسلين الى اللّه تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بان له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول. انتهى.

ولدعليه‌السلام بالابواء منزل بين مكة والمدينة، يوم الاحد(١) لسبع خلون من صفر سنة ١٢٨ هجري(٢) ثمان وعشرين ومئة.

امه:عليه‌السلام حميدة المصفاة البربرية، وكانت من اشراف الأعاجم، قال الصادقعليه‌السلام : حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة

____________________

(١) وقيل في الثلاثاء.

(٢) وقيل سنة ١٢٩ في خلافة ابراهيم بن وليد.

١٥٠

الذهب، ما زالت الاملاك تحرسها، حتى أدَّت اليّ كرامة من اللّه لي، والحجّة من بعدي، ويظهر من بعض الروايات ان الصادقعليه‌السلام كان يأمر النساء في اخذ الاحكام اليها.

روي عن ابي بصير قال: كنت مع ابي عبد اللّهعليه‌السلام في السنة التي ولد فيها ابنه موسىعليه‌السلام فلما نزلنا الابواء، وضع لنا ابو عبد اللّهعليه‌السلام الغداء ولأصحابه، وكان عليه السلام إذا وضع الطعام لاصحابه اكثره واطابه، فبينا نحن نتغدى اذ اتاه رسول حميدة: ان الطلق قد ضربني، وقد امرتني ان لا اسبقك بابنك هذا، فقام ابو عبد اللّهعليه‌السلام فرحاً مسروراً فلم يلبث ان عاد الينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً سنّهُ، فقلنا اضحك اللّه سنك، واقر عينك ما صنعت حميدة، فقال: وهب اللّه لي غلاماً، وهو خير من برأ اللّه(١) ولقد خبرتني بأمر كنت اعلم به منها، قلت: جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة، قال ذكرت انه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه الى السماء، فأخبرتها ان تلك امارة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وامارة الإِمام من بعده، الخ.

روى البرقي عن منهال القصاب، قال: خرجت من مكة وانا أريد المدينة فمررت بالابواء وقد ولد لأبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فسبقته الى المدينة ودخلعليه‌السلام بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما أكل شيئاً الى الغد حتى اعود فآكل، فكنت بذلك ثلاثاً اطعم حتى أرتفق ثم لا اطعم شيئاً الى الغد، قال الفيروزآبادي ارتفق (اتكأ على مرفق يده او على المخدة وامتلأ).

وروى انه قيل لأبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام ما بلغ بك من حبك ابنك موسىعليه‌السلام ، فقال: وددت ان ليس لي ولد غيره حتى لا يشاركه في حبّي له احد.

____________________

(١) أي خلق اللّه من العدم.

١٥١

فصل في معاجز طفولته عليه السلام

روى الشيخ المفيد عن يعقوب السراج قال دخلت على ابي عبد اللّهعليه‌السلام وهو واقف على رأس ابي الحسن موسىعليه‌السلام وهو في المهد، فجعل يساره طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت اليه، فقال ادنُ الى مولاك، فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد عليَّ بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها امس، فانه اسم يبغضه اللّه، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : انته الى امره ترشد، فغيرت اسمها.

وفي ثاقب المناقب، قال اشتهر عند الخاص والعام من حديث ابي حنيفة حين دخل دار الصادقعليه‌السلام فرأى موسىعليه‌السلام في دهليز داره وهو صبيّ، فقال في نفسه: ان هؤلاء يزعمون انهم يعطون العلم صبية وانا اسبر(١) ذلك، فقال له يا غلام اذا دخل الغريب بلدة، اين يحدث، فنظر اليه نظر مغضب وقال: يا شيخ اسأت الأدب، فاين السلام، قال: فخجلت ورجعت حتى خرجت من الدار وقد نَبُلَ(٢) في عيني، ثم رجعت اليه وسلمت عليه وقلت: يا ابن رسول اللّه، الغريب اذا دخل بلدة اين يحدث، فقال (صلوات اللّه عليه)، يتوقى شطوط البلد (الانهار خ د) ومشارع الماء، وفيء(٣) النُزَّال، ومسقط الثمار، وافنية(٤) الدور، وجاد الطرق، ومجاري المياه ورواكدها، ثم يحدث اين شاء، قال، قلت: يا ابن رسول اللّه ممن المعصية، فنظر الي وقال: اما أن تكون من اللّه

____________________

(١) أي امتحن (منه).

(٢) أي كبر وعظم، والنبالة: النجابة والفضل.

(٣) أي الظل الذي يستريح فيه الواردون.

(٤) جمع فناء وهو الساحة او امام البيت.

١٥٢

او من العبد او منهما معاً، فان كانت من اللّه فهو اكرم ان يؤاخذه بما لم يجنه، وان كانت منهما فهو اعدل من ان يأخذ العبد بما هو شريك فيه، فلم يبق الا أن يكون من العبد، فان عفا فبفضله، وان عاقب فبعدله، قال ابو حنيفة فاغرورقت عيناي وقرأت: ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم.

وروى الصدوق وغيره عن هشام بن الحكم ان جاثليقاً من جثالقة النصارى يقال له بريهة، قد مكث في النصرانية سبعين سنة، فكان يطلب الإِسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه، ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال: وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به النصارى وقالت: لو لم يكن في دين النصرانية إلاّ بريهة لأجزأنا، وكان طالباً للحق والإِسلام مع ذلك، وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يستر ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال: فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الامر ظهراً لبطن واقبل يسائل عن ائمة المسلمين وعن صلحائهم وعن علمائهم واهل الحجى منهم، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئاً، وقال لو كانت ائمتكم ائمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم، فقال يونس بن عبد الرحمان: فقال لي هشام: بينما انا على دكاني على باب الكرخ جالس، وعندي قوم يقرأون عليَّ القرآن، فاذا انا بفوج من النصارى، ما بين القسيسين الى غيرهم من نحو مئة رجل، عليهم السوار والبرانس، والجاثليق الاكبر فيهم بريهة، حتى بركوا (نزلوا خد) حول دكاني، وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه، فقامت الاساقفة والرهابنة على عصيهم(١) وعلى رؤوسهم برانسهم فقال بريهة: ما بقي للمسلمين احد ممن يذكر بالعلم بالكلام الا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شيء فقد جئت اناظرك الإِسلام ثم ذكر مناظرته معه وغلبة هشام عليه في حديث طويل،

____________________

(١) جمع عصا وهي ما يتوكأ عليها.

١٥٣

حتى افترق النصارى وهم يتمنون ان لا يكونوا رأوا هشاماً ولا اصحابه، ورجع بريهة مغتماً مهتماً حتى صار الى منزله، فقالت امرأته التي تخدمه: مالي اراك مهتماً مغتماً، فحكى لها الكلام الذي بينه وبين هشام، فقالت لبريهة: ويحك اتريد أن تكون على حق او باطل، قال بريهة بل على الحق، فقالت له: اينما وجدت الحق فمل اليه، واياك واللجاجة فان اللجاجة شك، والشك شؤم، واهله في النار، قال: فصوَّب قولها وعزم على الغدو على هشام، قال: فغدا اليه وليس معه احد من اصحابه، فقال: يا هشام الك من تصدر عن رأيه، فترجع الى قوله وتدين بطاعته، قال هشام: نعم يا بريهة، ثم سأله بريهة عن صفته فوصف له هشام الإِمامعليه‌السلام ، فاشتاق بريهة اليهعليه‌السلام ، فارتحلا حتى أتيا المدينة، والمرأة معهما، وهما يريدان ابا عبد اللّهعليه‌السلام ، فلقيا موسى بن جعفرعليه‌السلام في الدهليز، وفي رواية ثاقب المناقب: فسلم هشام عليه وسلم بريهة عليه، ثم اخبرهما بما جاءا له، وكان (صلوات اللّه عليه) صبياً، وفي رواية الصدوق: فحكى له هشام الحكاية، قال موسى بن جعفرعليه‌السلام يا بريهة كيف علمك بكتابك؟ قال: انا به عالم، قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال ما اوثقني بعلمي به، قال: فابتدأ موسىعليه‌السلام يقرأ الأنجيل، قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا، وما قرأ هذه القراءة الا المسيح، قال بريهة اياك كنت اطلب منذ خمسين سنة او مثلك، قال: فآمن وحسن ايمانه وآمنت المرأة وحسن ايمانها، قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسىعليه‌السلام وبريهة، فقال ابو عبد اللّهعليه‌السلام : ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم، قال بريهة: جعلت فداك أنَّى لكم التوراة والانجيل وكتب الانبياء، قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرأها كما قرأوها ونقولها كما قالوها، ان اللّه لا يجعل حجة في ارضه يسأل عن شيء فيقول لا ادري، فلزم بريهة ابا عبد اللّه حتى مات ابو عبد اللّهعليه‌السلام ، ثم لزم موسىعليه‌السلام حتى مات في زمانه، فغسله

١٥٤

عليه‌السلام بيده وكفّنه بيده ولحده بيده، وقال هذا حواري من حواريي(١) المسيحعليه‌السلام ، يعرف حق اللّه عليه فتمنى اكثر اصحابه ان يكونوا مثله.

فصل في ذكر نُبذ من كلام موسى بن جعفر عليه السلام

قال لبعض شيعته: أي فلان اتق اللّه وقل الحق وان كان فيه هلاكك، فان فيه نجاتك، أي فلان، اتق اللّه ودع الباطل وان كان فيه نجاتك، فان فيه هلاكك.

وقالعليه‌السلام عند قبر حضره: ان شيئاً هذا آخره لحقيق ان يزهد في اوله، وان شيئاً هذا اوله لحقيق ان يخاف آخره.

اقول: هذا مثل ما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال البراء بن عازب: بينا نحن مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذ أبصر جماعة، فقال على ما اجتمع هؤلاء؟ فقيل: على قبر يحفرونه، قال: فبدر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين يديه أصحابه مسرعاً حتى اتى القبر، فجثا عليه، قال فاستقبلته من بين يديه لانظر ما يصنع، فبكى حتى بل التراب من دموعه، ثم اقبل علينا فقال: اخواني، لمثل هذا فأعدّوا.

وقالعليه‌السلام : من تكلم في اللّه هلك، ومن طلب الرئاسة هلك ومن دخله العجب هلك، وقال اشتدت مؤونة الدنيا والدين، فاما مؤونة الدنيا فانك لا تمد يدك الى شيء منها الا وجدت فاجراً قد سبقك اليه، واما مؤونة الآخرة فانك لا تجد اعواناً يعينونك عليه.

____________________

(١) حواري: ناصر الانبياء والمراد به انصار عيسىعليه‌السلام واصحابه.

١٥٥

وقال لعلي بن يقطين: كفارة عمل السلطان الاحسان الى الاخوان.

وقالعليه‌السلام : كلما احدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون احدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدّون.

وقال: تَعجُّبُ الجاهل من العاقل اكثر من تعجّب العاقل من الجاهل.

وقال: المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان.

وقال: يعرف شدة الجور من حكم به عليه.

وقال: واللّه ينزل المعونة على قدر المؤونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة، ومن اقتصد وقنع بقيت عليه النعمة، ومن بذر واسرف زالت عنه النعمة، واداء الامانة والصدق يجلبان الرزق، والخيانة والكذب يجلبان الفقر والنفاق، وإذا أراد اللّه بالنملة شراً أنبت لها جناحين، فطارت فأكلها الطير.

قولهعليه‌السلام : ومن بذر واسرف الخ، (التبذير التفريق واصله القاء البذر وطرحه فاستعير لكل مضيع لماله، فتبذير البذر تضييع في الظاهر لمن لا يعرف مآل ما يلقيه، والسرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان وان كان ذلك في الانفاق اشهر ويكون تارة اعتباراً بالقدر وتارة بالكيفية، كذا قال الراغب).

وقالعليه‌السلام : أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل الا به، واوجب العمل عليك ما انت مسؤول عن العمل به، والزم العلم لك ما دلك على صلاح قلبك واظهر لك فساده، واحمد العلم عاقبة ما زاد في علمك العاجل، فلا تشغلن بعلم ما لا يضرك جهله ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه.

روى السيد بن طاوس انه كان جماعة من خاصة ابي الحسن موسىعليه‌السلام من اهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في كمامهم الواح ابنوس لطاف واميال، فاذا نطق أبو الحسنعليه‌السلام بكلمة وافتى في نازلة اثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك.

١٥٦

أقول: ولهعليه‌السلام وصية لهشام طويلة جمعت فيها حكم جليلة، وبأيدينا مسائل علي بن جعفرعليه‌السلام وهي سؤالات سأل عنها علي اخاه موسىعليه‌السلام فأجاب عنها، يرجع اليها فقهاؤنا (رضوان اللّه عليهم) في الأحكام (اوردها العلامة المجلسيرحمه‌الله في المجلد الرابع من البحار).

فصل في عبادته وفقهه وكرمه عليه السلام

كان ابو الحسن موسىعليه‌السلام أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً.

وروي انه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس ويخر للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من السجود والتحميد حتى يقرب زوال الشمس.

وكان يدعو كثيراً فيقول: اللهم اني اسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب ويكرر ذلك.

وكان من دعائهعليه‌السلام : عظم الذنب من عبدك(١) فليحسن العفو من عندك.

وكان يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع.

____________________

(١) قيل في اعترافهم بالذنب مع عصمتهمعليهم‌السلام وخلوهم عن المعاصي ان حسنات الابرار سيئات المقربين. حيث ان انعطافهم عنه تعالى ذنب عندهم، وقيل ان ذلك كناية عن دنو مقامهم في جنب عظمة اللّه ونحو من التذلل، وقيل ان ذلك صدر عنهم تعليماً للعباد في التضرع والاستكانة وقيل ان معنى الذنب هو الفقر الذاتي المعبر عنه بالامكان الذي لا يخلو منه غيره تعالى، ولكن في غير الوجهين الأولين ما لا يخفى على العارف بحالاتهم ومقالاتهمعليهم‌السلام .

١٥٧

وكان اوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل اليهم الزبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل اليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو، وكان كريماً بهياً وعتق الف مملوك.

وانه قد حضره فقير مؤمن يسأله سد فاقته فضحكعليه‌السلام في وجهه فقال اسألك مسألة فان أصبتها اعطيتك عشرة اضعاف ما طلبت، وكان قد طلب منه مئة درهم يجعلها في بضاعة يتعيش بها، فقال الرجل سل، فقال موسىعليه‌السلام لو جعل اليك التمني لنفسك في الدنيا ماذا كنت تتمنى؟ قال: كنت اتمنى ان ارزق التقية في ديني وقضاء حقوق اخواني، قالعليه‌السلام : وما لك لم تسأل الولاية لنا اهل البيت، قال ذلك قد اعطيته وهذا لم اعطه، فانا اشكر على ما اعطيت وأسأل ربي ما منعت، فقال احسنت اعطوه الفي درهم، وقال اصرفها في كذا يعني في العفص فانه متاع يابس.

وقد روى الناس عنه فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان اذا قرأه يحزن ويبكي السامعون بتلاوته وكان الناس بالمدينة يسمونه زين المجتهدين وسمي الكاظم لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين حتى مضى قتيلاً في حبسهم ووثاقهم. وكان يقول: اني استغفر اللّه في كل يوم خمسة آلاف مرة.

وروى الصدوق انه كانت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، قال: فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه ابا الحسنعليه‌السلام فكان يرى أبا الحسنعليه‌السلام ساجداً، فقال للربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ قال يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب وانما هو موسى بن جعفر له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الى وقت الزوال قال الربيع: فقال لي هارون اما ان هذا من رهبان بني هاشم، قلت فما لك فقد ضيقت عليه في الحبس، قال هيهات لا بد من ذلك.

١٥٨

وعن أبيه عن علي بن ابراهيم عن اليقطيني عن احمد بن عبد اللّه القزويني عن ابيه، قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: ادن مني فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي اشرف الى البيت في الدار فأشرفت، فقال ما ترى في البيت، قلت: ثوباً مطروحاً، فقال انظر حسناً فتأملت ونظرت فتيقنت فقلت: رجل ساجد، فقال لي تعرفه قلت لا، قال: هذا مولاك، قلت: ومن مولاي، فقال: تتجاهل عليَّ، فقلت: ما اتجاهل ولكني لا اعرف لي مولى، فقال هذا ابو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام اني اتفقده في الليل والنهار فلم اجده في وقت من الاوقات الا على الحال التي اخبرك بها، انه يصلي الفجر فيقف ساعة في دبر صلاته الى ان تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد له الزوال، فلست ادري متى يقول الغلام قد زالت الشمس اذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير ان يجدد وضوءاً فاعلم انه لم ينم في سجوده ولا اغفى(١) فلا يزال كذلك الى ان يفرغ من صلاة العصر، فاذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً الى ان تغيب الشمس، فاذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلى المغرب من غير ان يحدث حدثاً ولا يزال في صلاته وتعقيبه الى ان يصلي العتمة(٢) فاذا صلى العتمة افطر على شوى يؤتى به، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدِّد الوضوء ثم يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري متى يقول الغلام ان الفجر قد طلع اذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حوّل اليّ.

وروي عن الخطيب البغدادي، وهو من اعاظم اهل السنة وثقات المؤرخين وقدمائهم، انه قال: كان موسىعليه‌السلام يدعى العبد الصالح من شدة عبادته واجتهاده.

____________________

(١) غفى الرجل: نعس، نام نومة خفيفة، يقال اغفيت وقل ما يقال غفيت.

(٢) العتمة: ظلمة الليل او الثلث الأول منه وقد استعير لصلاة العشاء.

١٥٩

روي انه دخل مسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسجد سجدة في اول الليل فسمع وهو يقول عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، يا اهل التقوى ويا أهل المغفرة فجعل يرددها حتى اصبح.

قلت وفي حديث طويل عن المأمون يصف فيه موسى بن جعفرعليه‌السلام ويذكر وروده على أبيه الرشيد بالمدينة يقول: اذ دخل شيخ مسخّد(١) قد انهكته العبادة كأنه شنُّ بال قد كلم(٢) السجود وجهه وانفه.

وبالجملة كانعليه‌السلام حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة(٣) وكان له غلام اسود بيده مقص(٤) يأخذ اللحم من جبينه وعرنين انفه من كثرة سجوده:

طالت(٥) لطول سجود منه ثفنته

فقرحت جبهةً منه وعرنينا

رأى فراغته في السجن منيته

ونعمةً شكر الباري بها حينا

وحُكي انه توفي (صلوات اللّه عليه) في حال السجود للّه تعالى.

اقول: ولقد اقتدى بهعليه‌السلام في ذلك جماعة ممن لقيه ورآه، منهم محمد بن ابي عمير الثقة الجليل الاواه.

روي عن الفضل بن شاذان، قال: دخلت العراق فرأيت احداً يعاتب صاحبه ويقول له: انت رجل عليك عيال وتحتاج ان تكتسب عليهم وما آمن من ان تذهب عيناك لطول سجودك، فلما اكثر عليه قال: اكثرت عليَّ، ويحك لو ذهب عين احد من السجود لذهبت عين ابن ابي عمير، ما ظنك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما رفع رأسه الا الى زوال الشمس.

____________________

(١) اصبح فلان مسخداً بالخاء المعجمة والدال المهملة اذا اصبح مصفراً ثقيلاً مورماً (منه).

(٢) أي جرح.

(٣) أي الكثيرة (منه).

(٤) مقراض (منه).

(٥) اولها: يا ساجداً عدوة للّه مبتهلاً الى الزوال بضيق السجن مرهوناً.

١٦٠