المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75215
تحميل: 6081

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75215 / تحميل: 6081
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

مَوقفُ الإسِلام مِنَ الحُرية وَالضّمان

الحرية في الرأسمالية والإسلام:

عرفنا - فيما سبق - أن الحرية هي النقطة المركزية في التفكير الرأسمالي، كما أن فكرة الضمان هي المحور الرئيس في النظام الاشتراكي والشيوعي.

ولأجل ذلك سندرس - بصورة مقارنة - موقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، ونقارن بعد ذلك بين الضمان في الإسلام والضمان في المذهب الماركسي.

ونحن حين نطلق كلمة (الحرية)، نقصد بها معناها العام وهو: نفي سيطرة الغير، فإن هذا المفهوم هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين، وان اختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما(١) .

____________________

(١) ولاجل ذلك وردت كلمة «الحرية» بمفهومها العام في نصوص اسلامية أصيلة، لا يمكن أن تتهم بالتأثر بمفاهيم الحضارة الغربية. فقد جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال: «خمس خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع: أولها - الوفاء - والثانية - التدبير، والثالثة - الحياء، والرابعة - حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - (الحرية)»

١٠١

ومنذ نبدأ بالمقارنة بين الحرية في الإسلام، والحرية في الديمقراطية الرأسمالية.. تبدو لدينا بوضوح الفروق الجوهرية بين الحرية التي عاشها المجتمع الرأسمالي ونادت بها الرأسمالية وبين الحرية التي حمل لواءها الإسلام وكفلها للمجتمع الذي صنعه وقدم فيه تجربته على مسرح التاريخ. فكل من الحريتين تحمل طابع الحضارة التي تنتمي اليها، وتلتقي مع مفاهيمها عن الكون والحياة، وتعبر عن الحالة العقلية والنفسية التي خلقها تلك الحضارة في التاريخ.

فالحرية في الحضارة الرأسمالية: بدأت شكاً مريراً طاغياً واستحال هذا الشك في امتداده الثوري الى إيمان مذهبي بالحرية وعلى العكس من ذلك الحرية في الحضارة الإسلامية: فانها تعبير عن يقين مركزي ثابت (الإيمان بالله) تستمد منه الحرية ثوريتها، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الإنسان، تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية.

والحرية الرأسمالية ذات مدلول ايجابي، فهي تعتبر: أن كل إنسان هو الذي يملك بحق نفسه، ويستطيع أن يتصرف فيها كما يحلو له، دون أن يخضع في ذلك لأي سلطة خارجية. ولأجل ذلك كانت جميع المؤسسات الإجتماعية - ذات النفوذ في حياة الإنسان - تستمد حقها المشروع في السيطرة على كل فرد من الأفراد أنفسهم. وأما الحرية في الإسلام فهي: تحتفظ

١٠٢

بالجانب الثوري من الحرية وتعمل لتحرير الإنسان من سيطرة الأصنام، كل الأصنام التي رزحت الإنسانية في قيودها عبر التاريخ، ولكنها تقيم عملية التحرير الكبرى هذه على أساس الإيمان بالعبودية المخلصة لله، وحده. فعبودية الإنسان لله في الإسلام - بدلاً عن امتلاكه لنفسه في الرأسمالية - هي الأداة التي يحطم بها الإنسان كل سيطرة وكل عبودية اخرى لأن هذه العبودية في معناها الرفيع تشعره بأنه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد، أمام رب واحد فليس من حق أي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره، وتتحكم في وجوده وحياته.

والحرية في مفاهيم الحضارة الرأسمالية حق طبيعي للإنسان وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي، لأن الحرية في الإسلام ترتبط إرتباطاً أساسياً بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته «لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». فالإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية.

هذا هو الفرق بين الحريتين في ملامحهما العامة وسنبدأ الآن بشيء من التوضيح:

١٠٣

الحرية في الحضارة الرأسمالية

نشأت الحرية في الحضارة الرأسمالية تحت ظلال الشك الجارف المرير، الذي سيطر على تيارات التفكير الاوروبي كافة نتيجة للثورات الفكرية التي تعاقبت في فجر تاريخ أوروبا الحديثة، وزلزلت دعائم العقلية الغربية كلها.

فقد بدأت أصنام التفكير الأوروبي تتهاوى الواحد تلو الآخر بسبب الفتوحات الثورية في دنيا العلم، التي طلعت على الإنسان الغربي بمفاهيم جديدة عن الكون والحياة، ونظريات تناقض كل المناقضة بدهياته بالأمس، التي كانت تشكل حجر الزاوية في كيانه الفكري وحياته العقلية والدينية.

وأخذ الإنسان الغربي عبر تلك الثورات الفكرية المتعاقبة ينظر الى الكون بمنظار جديد، والى التراث الفكري الذي خلفته له الإنسانية منذ فجر التاريخ نظرات شك وارتياب. لانه بدأ يحسن ان عالم (كوبرنيكوس) الذي برهن على ان الأرض ليست إلاّ أحد توابع الشمس، يختلف كل الاختلاف عن العالم التقليدي الذي كان يحدثنا عنه (بطليموس)، وان الطبيعة التي بدأت تكشف عن اسرارها لجاليليو وأمثاله من العلماء، شيء جديد بالنسبة الى الصورة التي ورثها عن القديسين والمفكرين

١٠٤

السابقين أمثال القديس توماس الاكويني ودانتي وغيرهما. وهكذا ألقى فجأة وبيد مرعوبة كل بدهياته بالأمس، وأخذ يحاول الخلاص من الاطار الذي عاش فيه آلاف السنين.

ولم يقف الشك في موجه الثوري الصاعد عند حد، بل اكتسح في ثورته كل القيم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانية وكانت تعتمد عليها في ضبط السلوك وتنظيم الصلات. فما دام الكون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالم، وما دام الإنسان ينظر الى واقعه ومحيطه من زاوية العلم لا الأساطير.. فلا بد ان يعاد النظر من جديد في المفهوم الديني، الذي يحدد صلة الإنسان والكون بما وراء الغيب، وبالتالي في كل الأهداف والمثل التي عاشها الإنسان، قبل أن تتبلور نظرته الجديدة الى نفسه وكونه.

وعلى هذا الأساس واجه دين الإنسان الغربي محنة الشك الحديث، وهو لا يرتكز إلاّ على رصيد عاطفي، بدأ ينضب بسبب من طغيان الكنيسة وجبروتها. فكان من الطبيعي ايضاً أن تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كل القواعد الخلقية، والقيم والمثل التي كانت تحدد من سلوك الإنسان، وتخفف من غلوائه. لأن الأخلاق مرتبطة بالدين في حياة الإنسانية كلها، فإذا فقدت رصيدها الديني الذي يمدها بالقيمة الحقيقية، ويربطها بعالم الغيب وعالم الجزاء أصبحت خواء وضريبة لا مبرر لها.

١٠٥

والتاريخ يبرز هذه الحقيقة دائماً، فقد كفر السفسطائيون الاغريق بالآلهية على اساس من الشك السفسطي، فرفضوا القيود الخلقية وتمردوا عليها، واعاد الإنسان الغربي القصة من جديد، حين التهم الشك الحديث عقيدته الدينية، فثار على كل مقررات السلوك والاعتبارات الخلقية واصبحت هذه المقررات والسلوك مرتبطة في نظره بمرحلة غابرة من تاريخ الإنسانية. وانطلق الإنسان الغربي كما يحلو له يتصرف وفقاً لهواه، ويملأ رئتيه بالهواء الطلق الذي احتل الشك الحديث فيه موضع القيم والقواعد حين كانت تقيد الإنسان في سلوكه الداخلي وتصرفاته.

ومن هنا ولدت فكرة الحرية الفكرية والحرية الشخصية: فقد جاءت فكرة الحرية الفكرية نتيجة للشك الثوري والقلق العقلي، الذي عصف بكل المسلمات الفكرية، فلم تعد هناك حقائق عليا لا يباح انكارها ما دام الشك يمتد الى كل المجالات. وجاءت فكرة الحرية الشخصية تعبيراً عن النتائج السلبية التي انتهى اليها الشك الحديث في معركته الفكرية مع الايمان والاخلاق، فقد كان طبيعياً للإنسان الذي انتصر على ايمانه وأخلاقه ان يؤمن بحريته الشخصية، ويرفض أي قوة تحدد سلوكه وتملك ارادته.

بهذا التسلسل انتقل الإنسان الحديث من الشك، الى الحرية الفكرية، وبالتالي الى الحرية الشخصية.

١٠٦

وهنا جاء دور الحرية الاقتصادية، لتشكل حلقة جديدة من هذا التسلسل الحضاري: فان الإنسان الحديث بعد أن آمن بحريته الشخصية، وبدأ يضع أهدافه وقيمه على هذا الاساس وبعد ان كفر عملياً بالنظرة الدينية الى الحياة والكون وصلتها الروحية بالخالق وما ينتظر الإنسان من ثواب وعقاب.. عادت الحياة في نظره فرصة للظفر بأكبر نصيب ممكن من اللذة والمتعة المادية، التي لا يمكن أن تحصل إلاّ عن طريق المال.. وهكذا عاد المال المفتاح السحري والهدف، الذي يعمل لاجله الإنسان الحديث، الذي يتمتع بالحرية الكاملة في سلوكه. وكان ضرورياً لأجل ذلك ان توطد دعائم الحرية الاقتصادية، وتفتح كل المجالات بين يدي هذا الكائن الحر للعمل في سبيل هذا الهدف الجديد (المال) الذي أقامته الحضارة الغربية صنماً جديداً للإنسانية: وأصبحت كل تضحية يقدمها الإنسان في هذا المضمار عملاً شريفاً وقرباناً مقبولاً، وطغى الدافع الاقتصادي كلما ابتعد ركب الحضارة الحديثة، عن المقولات الروحية والفكرية التي رفضها في بداية الطريق، واستفحلت شهوة المال فأصبح سيد الموقف، واختفت مفاهيم الخير والفضيلة والدين، حتى خيل للماركسية في ازمة من أزمات الحضارة الغربية: ان الدافع الاقتصادي هو المحرك الذي يوجه تاريخ الانسان في كل العصور.

ولم يكن من الممكن ان تنفصل فكرة الحرية الاقتصادية

١٠٧

عن فكرة أخرى، وهي فكرة الحرية السياسية، لأن الشرط الضروري لممارسة النشاط الحر على المسرح الاقتصادي: ازاحة العقبات السياسية والتغلب على الصعاب التي تضعها السلطة الحاكمة أمامه وذلك بامتلاك اداة الحكم وتأميمها، ليطمئن الفرد إلى عدم وجود قوة تحول بينه وبين مكاسبه واهدافه التي يسعى اليها.

وبذلك اكتملت المعالم الرئيسية أو الحلقات الأساسية، التي الف الإنسان الغربي منها حضارته، وعمل مخلصاً لاقامة حياته على أساسها، وتبنى دعوة العالم اليها.

وعلى هذا الضوء نتبين الحرية في هذه الحضارة بملامحها التي ألمعنا اليها في مستهل هذا الفصل، فهي ظاهرة حضارية بدأت شكاً مراً قلقاً، وانتهت، إلى إيمان مذهبي بالحرية. وهي تعبير عن: ايمان الإنسان الغربي بسيطرته على نفسه وامتلاكه لارادته بعد أن رفض خضوعه لكل قوة. فلا تعني الحرية في الديمقراطية الرأسمالية: رفض سيطرة الآخرين فحسب، بل تعني اكثر من هذا سيطرة الإنسان على نفسه وانقطاع صلته عملياً بخالقه وآخرته.

***

وأما الإسلام فموقفه من الحرية يختلف بصورة أساسية عن

١٠٨

موقف الحضارة الغربية فهو يعني بالحرية بمدلولها السلبي أو بالأحرى معطاها الثوري الذي يحرر الإنسان من سيطرة الآخرين ويكسر القيود والأغلال التي تكبل يديه. ويعتبر تحقيق هذا المدلول السلبي للحرية هدفاً من الأهداف الكبرى للرسالة السماوية بالذات: «ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم»] الاعراف : ١٥٦ [. ولكنه لا يربط بين هذا وبين مدلولها الايجابي في مفاهيم الحضارة الغربية، لأنه لا يعتبر حق الإنسان في التحرر من سيطرة الآخرين والوقوف معهم على صعيد واحد نتيجة لسيطرة الإنسان على نفسه، وحقه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة - الأمر الذي نطلق عليه : المدلول الايجابي للحرية في مفهوم الحضارة الغربية - وانما يربط بين الحرية والتحرر من كل الأصنام والقيود المصطنعة، وبين العبودية المخلصة لله. فالإنسان عبد الله قبل كل شيء، وهو بوصفه عبداً لله لا يمكن أن يقر سيطرة لسواه عليه، أو يخضع لعلاقة صنمية مهما كان لونها وشكلها، بل أنه يقف على صعيد العبودية المخلصة لله، مع المجموعة الكونية كلها على قدم المساواة.

فالقاعدة الأساسية للحرية في الإسلام هي: التوحيد والايمان بالعبودية المخلصة لله، الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ.

«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:

١٠٩

ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله»] آل عمران: ٦٤[.

«أتعبدون ما تنحتون؟!، والله خلقكم وما تعملون»] الصافات: ٩٥، ٩٦[.

«إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم»] الأعراف ١٩٢ [.

«أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟!»] يوسف: ٣٩ [.

وهكذا يقيم الإسلام التحرر من كل العبوديات على أساس الاقرار بالعبودية المخلصة لله تعالى، ويجعل من علاقة الإنسان بربه الاساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون الطبيعية.

فالإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معاً عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير. فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والايمان به والحضارة الغربية تقيمها علىأساس الايمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد ان شكت في كل القيم والحقائق وراء الابعاد المادية لوجود الإنسان.

ولاجل ذلك كان مرد فكرة الحرية في الإسلام الى عقيدة ايمانية موحدة بالله، ويقين ثابت بسيطرته على الكون. وكلما

١١٠

تأصل هذا اليقين في نفس المسلم، وتركزت نظرته التوحيدية الى الله.. تسامت نفسه وتعمق احساسه بكرامته وحريته وتصلبت ارادته في وجه الطغيان والبغي واستعباد الآخرين: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»]الشورى: ٣٩ [.

وعلى العكس من ذلك فكرة الحرية في الحضارة الغربية: فانها كانت وليدة الشك لا اليقين، ونتيجة القلق والثورة لا اليقين والاستقرار، كما عرفنا سابقاً.

***

ويمكننا ان نقسم الحريات الديمقراطية الرأسمالية للمقارنة بينها وبين الإسلام الى قسمين:

احدهما: الحرية في المجال الشخصي للإنسان، وهي: ما تطلق عليه الديمقراطية اسم: الحرية الشخصية.

والآخر: الحرية في المجال الاجتماعي، وهي تشمل الحريات: الفكرية والسياسية والاقتصادية.

فان الحرية الشخصية تعالج سلوك الإنسان بوصفه فرداً سواء كان يعيش بصورة مستقلة او جزءاً من مجتمع. واما الحريات الثلاث الاخرى فهي تعالج الإنسان بوصفه فرداً يعيش في ضمن جماعة، فتسمح له بالاعلان عن افكاره للآخرين كما يحلو له، وتمنحه الحق في تقرير نوع السلطة الحاكمة، وتفتح أمامه السبيل لمختلف الوان النشاط الاقتصادي تبعاً لقدرته وهواه.

١١١

الحرية في المجال الشخصي

حرصت الحضارة الغربية الحديثة على: توفير اكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص، وهو القدر الذي لا يتعارض مع حريات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلاّ حيث تبدأ حريات الأفراد الآخرين.

وليس من المهم لديها - بعد توفير هذه الحرية لجميع الأفراد - طريقة استعمالهم لها، والنتائج التي تتمخض عنها، وردود الفعل النفسية والفكرية لها.. ما دام كل فرد حراً في تصرفاته وسلوكه، وقادراً على تنفيذ ارادته في مجالاته الخاصة. فالمخمور مثلاً لا حرج عليه ان يشرب ما شاء من الخمر، ويضحي بآخر ذرة من وعيه وادراكه، لأن من حقه ان يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص، ما لم يعترض هذا المخمور طريق الآخرين، أو يصبح خطراً على حياتهم بوجه من الوجوه.

وقد سكرت الإنسانية على انغام هذه الحرية، وأغفت في ظلالها برهة من الزمن، وهي تشعر لاول مرة أنها حطمت كل القيود وان هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين قد انطلق لأول مرة، وأتيح له ان يعمل كما يشاء في النور، دون خوف او قلق.

١١٢

ولكن لم يدم هذا الحلم اللذيذ طويلاً، فقد بدأت الإنسانية تستيقظ ببطء، وتدرك بصورة تدريجية، ولكنها مرعبة: ان هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة، وقضت على آمالها في الانطلاق الإنساني الحر، لانها وجدت نفسها مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدد، لا تملك له تغييراً ولا تطويراً، وانما كل سلوتها وعزائها - وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد -: ان هناك من قال لها: ان هذه العربة هي عربة الحرية.. بالرغم من هذه الاغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها.

اما كيف عادت الحرية قيداً؟!، وكيف أدى الانطلاق الى تلك الاغلال، التي تجر العربة في اتجاه محتوم، وأفاقت الإنسانية على هذا الواقع المر في نهاية المطاف؟!. فهذا كله ما قدره الإسلام قبل اربعة عشر قرناً، حين لم يكتف بتوفير هذا المعنى السطحي من الحرية للإنسان، الذي مني بكل هذه التناقضات في التجربة الحياتية الحديثة للإنسان الغربي.. وانما ذهب الى أبعد حد من ذلك، وجاء بمفهوم أعمق للحرية، واعلنها ثورة، لا على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب بل على جذورها النفسية والفكرية وبهذا كفل للإنسان أرقى وأنزه اشكال الحرية التي ذاقها الناس على مر التاريخ.

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والاغلال، كما سنوضح.. فان

١١٣

الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس، لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى. لتنتهي الى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.

يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه، لأنه يرى أن منح الإنسان الحرية ليس أن يقال له: هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر بسلام.. وإنما يصبح الإنسان حراً حقيقة، حين يستطيع أن يتحكم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته. وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه، لتصبح الشهوات أداة تنبيه للإنسان الى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر ارادة الإنسان دون ان يملك بازائها حولا أو طولاً، لأنها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق. ولا يغير من الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين، ما دام عقله وكل معانيه الإنسانية التي تميزه عن مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل. ونحن نعلم أن الشيء الأساسي الذي يميز حرية الإنسان عن حرية الحيوان بشكل عام، أنهما وان كانا يتصرفان بإرادتهما. غير أن إرداة الحيوان مسخرة دائماً لشهواته وإيحاءاتها الغريزية، وأما الإنسان فقد زود بالقدرة التي تمكنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها. فسر حريته - بوصفه إنساناً إذن -

١١٤

يكمن في هذه القدرة. فنحن إذا جمدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرية الظاهرية في سلوكه العلمي ووفرنا له بذلك كل إمكانات ومغريات الإستجابة لشهواته، كما صنعت الحضارات الغربية الحديثة.. فقد قضينا بالتدريج على حريته الإنسانية، في مقابل شهوات الحيوان الكامن في أعماقه، وجعلنا منه أداة تنفيذ لتلك الشهوات، حتى اذا التفت الى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً، ومغلوباً على أمره وإرادته.

وعلى العكس من ذلك: اذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سر الحرية الإنسانية. فأنميناها وغذيناها وأنشأنا الإنسان إنشاء إنسانياً لا حيوانياً، وجعلناه يعي أن رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل، الذي تسوقه اليه تلك الشهوات وأن مثله الأعلى الذي خلق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة، التي يحصل عليها في لذاذاته.. أقول: اذا صنعنا ذلك كله حتى جعلنا الإنسان يتحرر من عبودية شهواته، وينعتق من سلطانها الآسر، ويمتلك ارادته.. فسوف يخلق الإنسان الحر القادر على أن يقول لا أو نعم، دون أن تكمم فاه أو تغل يديه هذه الشهوة الموقوتة او تلك اللذة المبتذلة.

وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص، وطور من مقاييسه ومثله، وانتزعه من الأرض وأهدافها

١١٥

المحدودة، إلى آفاق أرحب وأهداف أسمى:

«زين للناس حب الشهوات: من النساء، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام، والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة ورضوان من الله. والله بصير بالعباد»] آل عمران ١٤، ١٥[.

هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبح كل حرية زيفاً وخداعاً، وبالتالي أسراً وقيداً.

ونحن نجد في هذا الضوء القرآني: ان الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات اللذة.. هي الطريقة العامة التي يستعملها الإسلام دائماً في تربية الإنسانية في كل المجالات: طريقة التوحيد. فالإسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الارض ولذائذها الخاطفة، يربطه بالسماء وجنانها ومثلها ورضوان من الله، لان التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات كما انه سند التحرر الإنساني في كل المجالات.

ويكفينا مثل واحد - مر بنا في فصل سابق - لنعرف

١١٦

النتائج الباهرة التي تمخض عنها هذا التحرير، ومدى الفرق بين حرية الإنسان القرآني الحقيقية، وتلك الحريات المصطنعة التي تزعمها شعوب الحضارات الغربية الحديثة. فقد استطاعت الامة التي حررها القرآن - حين دعاها في كلمة واحدة الى اجتناب الخمر - ان تقول لا، وتمحو الخمر من قاموس حياتها بعد ان كان جزءاً من كيانها وضرورة من ضروراتها، لأنها كانت مالكة لاراداتها، حرة في مقابل شهواتها ودوافعها الحيوانية. وبكلمة مختصرة: كانت تتمتع بحرية حقيقية تسمح لها بالتحكم في سلوكها.

واما تلك الامة التي أنشأتها الحضارة الحديثة، ومنحتها الحرية الشخصية بطريقتها الخاصة.. فهي بالرغم من هذا القناع الظاهري للحرية، لا تملك شيئاً من ارادتها ولا تستطيع ان تتحكم في وجودها، لانها لم تحرر المحتوى الداخلي لها.. وانما استسلمت الى شهواتها ولذاذاتها تحت ستار من الحرية الشخصية حتى فقدت حريتها ازاء تلك الشهوات واللذاذات، فلم تستطع اكبر حملة للدعاية ضد الخمر جندتها حكومة الولايات المتحدة الامريكية ان تحرر الامة الامريكية من الخمر، بالرغم من الطاقات المادية والمعنوية الهائلة التي جندتها السلطة الحاكمة ومختلف المؤسسات الاجتماعية في هذا السبيل. وليس هذا الفشل المريع إلاّ نتيجة فقدان الإنسان الغربي للحرية الحقيقية

١١٧

فهو لا يستطيع ان يقول: لا، كلما اقتنع عقلياً بذلك كالإنسان القرآني وانما يقول الكلمة حين تفرض عليه شهوته أن يقولها. ولهذا لم يستطع ان يعتق نفسه من أسر الخمر، لانه لم يكن قد ظفر في ظل الحضارة الغربية بتحرير حقيقي في محتواه الروحي والفكري(١) .

وهذا التحرير الداخلي او البناء الداخلي لكيان الإنسان هو في رأي الإسلام حجر الزاوية في عملية اقامة المجتمع الحر السعيد. فما لم يملك الإنسان ارادته، ويسيطر على موقفه الداخلي ويحتفظ لإنسانيته المهذبة بالكلمة العليا في تقرير سلوكه لا يستطيع أن يحرر نفسه في المجال الاجتماعي تحريراً حقيقياً يصمد في وجه الاغراء، ولا أن يخوض معركة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»] الرعد: ١١ [. « واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»] الاسراء: ١٦ [.

____________________

(١) لاحظ مقالنا: الحرية في القرآن. الاضواء ع ١ س ٢.

١١٨

الحرية في المجال الاجتماعي

كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك

يخوض معركة اخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق: فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة اخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة اخرى ولا انتهاك حريتها، ولا انسان يحق له ان ينصب نفسه صنماً للآخرين.

ومرة أخرى نجد أن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: ( معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات )، وتستعمل دائماً في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبياً ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الارض او صنم من أصنامها. لان ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين: احدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل

١١٩

عن حريته الى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له. والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفاً، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» فكان طبيعياً أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها والوانها.

وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم امة، ام فئة أم فرداً.. نستطيع ان نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فان الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلاّ حريات الأفراد الآخرين، لان الإسلام يهتم؛ قبل كل شيء - كما عرفنا - بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء علي ان لا يخرج عن حدود الله. فالقرآن يقول: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً»]البقرة: ٣٩[«وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه»]الجاثية: ١٣ [وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من

١٢٠