المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75217
تحميل: 6081

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75217 / تحميل: 6081
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

من نتائج، كما يفعل علماء الإقتصاد.

وجهة النظر في الجواب:

وتصل الحلقة، بعد ذلك، إلى شرح وجهة النظر في الجواب فتعطي المفهوم الصحيح عن الشريعة، واستيعابها وشمولها لشتى الميادين. وتستدل على ذلك، من طبيعة الشريعة ونصوصها. ثمّ نستعرض بعد ذلك، بعض الشبهات التي تثار في وجه الإيمان بالإقتصاد الإسلامي، ونجيب عليها. وأخص بالذكر، الشبهة التي تقول: أن الإسلام جاء بتعاليم أخلاقية، ولم يجئ باقتصاد ينظم الحياة، فهو واعظ وليس منظماً. وقد أوضحنا، كيف أن هذه الشبهة استغلت الجانب الأخلاقي في الإسلام، لطمس معالم التنظيم الإجتماعي، مع أن الشريعة عالجت كلا المجالين. فقد مارست الجانب الأخلاقي، بوصفها ديناً، لتربية الفرد ومارست التنظيم الإجتماعي، باعتبارها النظام المختار من السماء للمجتمع البشري.

هذه صورة عن بحوث الرسالة وموضوعاتها، واليكم الآن تفصيلات تلك البحوث والموضوعات.

١٤١

١٤٢

١٤٣

١٤٤

هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد

قد يكون من أكثر الأسئلة، التي تتردد في كل فكر، وعلى كل لسان، ومع كل مشكلة تمر بها الأمة في حياتها، ويزداد الحاحاً باستمرار، هو السؤال عن المذهب الاقتصادي في الإسلام.

فهل يوجد في الإسلام اقتصاد؟

وهل يمكننا أن نجد حلاً لهذا التناقض المستقطب، بين الرأسمالية والماركسية، الذي يسود العالم اليوم. في بديل جديد مستمد من الإسلام، ومأخوذ من طريقته في التشريع وتنظيم الحياة؟.

وما هو مدى قدرة هذا البديل الجديد الإسلامي، على توفير الحياة الكريمة، واداء رسالته للامة، التي تعاني اليوم محنة عقائدية قاسية، في خضم ذلك التناقض الشديد، بين الرأسمالية والماركسية.

وليس التفكير في هذا البديل الجديد، او التساؤل عن حقيقته ومحتواه الإسلامي، مجرد ترف فكري، يمارسه الإنسان المسلم للمتعة، وانما هو تعبير عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين، واحساسه من خلال مختلف التجارب التي

١٤٥

عاشها، بفشلهما، - أي فشل النقيضين المتصارعين وهما الرأسمالية والماركسية -، في ملء الفراغ العقائدي والمبدئي للأمة.

والتفكير في البديل الإسلامي، أو التساؤل عنه، اضافة إلى تعبيره عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين. يعبر كذلك أيضاً، عن بوادر اتجاه جديد إلى الإسلام، ويعكس وعياً اسلامياً بدأ يتبلور، ويتخذ مختلف المستويات الفكرية في الأذهان، تبعاً لمدى استعدادها، ونوع تجاوبها مع الإسلام. فبذور الوعي الإسلامي، تعبر عن وجودها في بعض الأذهان على مستوى تساؤل عن الإسلام، وفي نفوس آخرين على مستوى ميل اليه، وعاطفة نحوه. وفي عقول أخرى، على مستوى الايمان به، وبقيادته الرشيدة، في كل المجالات، ايمانها بالحياة.

فالوعي الإسلامي، الذي يتحرك الآن في عقول الأمة ويتخذ مختلف المستويات، هو الذي يطرح الأسئلة تارة، ويوحي بالجواب في صالح الإسلام أخرى، ويتجسد حيناً آخر، صرحاً ايمانياً واعياً شامخاً، في التربة الصالحة من عقول الأمة، التي تمثل الإسلام بين المسلمين.

ومن ناحية أخرى، فان الإسلام بنفسه، يضطر المسلمين الى القاء هذا السؤال على الإسلام، أو على علمائه الممثلين له ومطالبتهم بتقديم البديل الأفضل، للنقيضين المتخاصمين - الرأسمالية والماركسية -. لأن الإسلام، اذ يعلن في قرآنه، ونصوصه

١٤٦

التشريعية، ومختلف وسائل الإعلان التي يملكها، وبشكل صريح، عدم رضاه عن الرأسمالية والماركسية، معاً، فهو مسؤول بطبيعة الحال، أن يحدد للأمة موقفاً إيجابياً، الى صف ذلك الموقف السلبي، وأن يأخذ بيدها في طريق آخر يتفق مع وجهة نظره، وإطاره العام. لأن الموقف السلبي، إذا فصل عن إيجابية بناءة، ترسم الأهداف، وتحدد معالم الطريق يعني الإنسحاب من معترك الحياة، والتميع الإجتماعي نهائياً، لا المساهمة من وجهة نظر جديدة.

فلابد للإسلام إذن، ما دام لا يقر الإندماج في إطارات رأسمالية واشتراكية وماركسية أن يوفر البديل او يرشد اليه ويصبح من الطبيعي، أن يتساءل المسلمون الذين عرفوا موقف الإسلام السلبي من الرأسمالية والماركسية، وعدم رضاه عنهما أن يتساءلوا عن مدى قوة الإسلام، وقدرته على اعطاء هذا البديل، ومدى النجاح الذي يحالفنا، إذا أردنا أن نكتفي بالإسلام ذاتياً، ونستوحي منه نظاماً اقتصادياً.

وجوابنا على كل ذلك، ان الإسلام قادر على امدادنا بموقف إيجابي غني بمعالمه التشريعية، وخطوطه العامة، وأحكامه التفصيلية التي يمكن أن يصاغ منها إقتصاد كامل، يمتاز عن

١٤٧

سائر المذاهب الإقتصادية، باطاره الإسلامي، ونسبه السماوي وانسجامه مع الإنسانية، كل الإنسانية، بأشواطها الروحية والمادية، وأبعادها المكانية والزمانية.

وهذا ما سوف نراه في البحوث الآتية.

١٤٨

١٤٩

١٥٠

مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي

ماذا نعني بوجود إقتصاد في الإسلام؟

وما هي طبيعة هذا الإقتصاد الإسلامي، الذي تساءلنا في البدء عنه، ثمّ أكدنا وجوده وإيماننا به؟

ان هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كل شيء. لأننا حين ندّعي وجود إقتصاد في الإسلام، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى، مالم تكن محددة ومفهومة، وما لم نشرح للقارئ، المعنى الذي نريده من الإقتصاد الإسلامي.

اننا نريد بالإقتصاد الإسلامي، المذهب الإقتصادي لا علم الإقتصاد.

والمذهب الإقتصادي، هو عبارة عن: إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، تتفق مع وجهة نظر معينة عن العدالة.

فنحن حين نتحدث عن اقتصاد الإسلام، انما نعني طريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصوراته عن العدالة.

ولا نريد بالإقتصاد الإسلامي، أي لون من الوان البحث العلمي في الإقتصاد.

وهذا النوع من التحديد للاقتصاد الإسلامي، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد. فما دام الإقتصاد الإسلامي مذهباً إقتصادياً، وليس علماً للإقتصاد فيجب أن نعرف بوضوح اكبر، ما معنى المذهب الإقتصادي وما معنى علم الإقتصاد، وما هي معالم التمييز بينهما؟ وما لم

١٥١

يتضح ذلك وضوحاً كافياً، مدعماً بالأمثلة، فسوف تظل هوية الإقتصاد الإسلامي، مكتنفة بالغموض.

اننا حين نصف شخصاً بأنه مهندس، وليس طبيباً. يجب أن نعرف معنى المهندس، وما هي وظيفته، وثقافته، وما هو نوع عمله، وبماذا يفترق عن الطبيب، لكي نتأكد من صدق الوصف، على ذلك الشخص، وكونه مهندساً حقاً لا طبيباً. وكذلك حين يقال: ان الإقتصاد الإسلامي، مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورة عامة، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الإقتصادية وطبيعة تكونها، والفوارق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك، هوية الإقتصاد الإسلامي، وكونه مذهباً اقتصادياً، لا علماً للاقتصاد.

وفي عقيدتي، ان ايضاح هوية الإقتصاد الإسلامي، على أساس التمييز الكامل، بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد وادراك ان الإقتصاد الإسلامي مذهب، وليس علماً. ان هذا الايضاح، سوف يساعدنا كثيراً، على اثبات الدعوى - أي اثبات وجود اقتصاد في الإسلام -. وينقض المبررات التي يستند اليها جماعة ممن ينكرون وجود الإقتصاد في الإسلام ويستغربون من القول بوجوده.

١٥٢

وعلى هذا الاساس، سوف نقوم بدراسة للمذهب الإقتصادي وعلم الاقتصاد، بصورة عامة وللفوارق بينهما.

المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد

كل انسان منا يواجه لونين من السؤال في حياته الاعتيادية ويدرك الفرق بينهما. فحين نريد ان نسأل الاب عن سلوك ابنه مثلا: قد نسأله كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟.

وحين نوجّه السؤال الاول الي الاب، ونقول له كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ يستوحي الاب جوابه، من القيم والمثل والأهداف، التي يقدسها، ويتبناها في الحياة. فيقول مثلاً: ينبغي ان يكون ولدي شجاعاً جريئاً طموحاً أو يقول ينبغي ان يكون مؤمناً بربه، واثقاً من نفسه، مضحياً في سبيل الخير والعقيدة.

وأما حين نوجّه السؤال الثاني للاب، ونقول له: كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟ فهو لا يرجع الى قيمه ومثله ليستوحي منها الجواب. وانما يجيب على هذا السؤال، في ضوء اطلاعاته عن سلوك ابنه، وملاحظاته المتعاقبة له. فقد يقول: هو فعلاً مؤمن واثق شجاع. وقد يقول: انه يسلك سلوكاً

١٥٣

متميعاً، ويتاجر بايمانه، ويجبن عن مواجهة مشاكل الحياة.

فالأب يستمد جوابه على السؤال الأول من قيمه ومثله، التي يؤمن بها. ويستمد جوابه على السؤال الثاني، من ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة.

ويمكننا أن نستخدم هذا المثال، لتوضيح الفرق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. فإننا في الحياة الاقتصادية، نواجه سؤالين متميزين، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه فتارة نسأل: كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الإقتصادية؟ وأخرى نسأل: كيف تجري الاحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية.

والمذهب الإقتصادي، يعالج السؤال الاول، ويجيب عليه ويستلهم جوابه من القيم والمثل التي يؤمن بها، وتصوراته عن العدالة، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأول، من قيمه ومثله.

وعلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني، ويجيب عليه، ويستلهم جوابه من الملاحظة والتجربة. فكما كان الاب يجيب على السؤال الثاني، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه، وتجربته له، كذلك علم الاقتصاد، يشرح حركة الاحداث في الحياة الإقتصادية، على ضوء الملاحظة والخبرة.

وهكذا نعرف، ان علم الإقتصاد، يمارس عملية الإكتشاف لما يقع في الحياة الإقتصادية من ظواهر اجتماعية وطبيعية، ويتحدث

١٥٤

عن اسبابها وروابطها، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ويحدد كيف ينبغي أن تكون، وفقاً لتصوراته عن العدالة وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها؟.

العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم.

العلم يتحدث عما هو كائن، وأسباب تكونه. والمذهب يتحدث عما ينبغي أن يكون، وما لا ينبغي ان يكون.

ولنبدأ بالأمثلة، للتمييز بين وظيفة العلم، ومهمة المذهب بين الاكتشاف والتقييم.

المثال الأول:

ولنأخذ هذا المثال: من ارتباط الثمن في السوق، بكمية الطلب فكلنا نعلم من حياتنا الاعتيادية، أن السلعة اذا كثر عليها الطلب، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور، ارتفع ثمنها. فكتاب نؤلفه في الرياضيات، قد يباع بربع دينار، فاذا قررت المعارف تدريسه، وأدى ذلك الى كثرة الطلب عليه، من التلاميذ، ارتفع ثمنه في السوق، تبعاً لزيادة الطلب. وهكذا سائر السلع، فان ثمنها، يرتبط بكمية الطلب عليها في السوق فكلما زاد الطلب ارتفع الثمن.

وارتباط الثمن هذا، بالطلب، يتناوله العلم والمذهب معاً. ولكن كلاً منهما يعالجه من زاويته الخالصة.

١٥٥

فعلم الاقتصاد يدرسه، بوصفه ظاهرة، تتكون وتوجد في السوق الحرة، التي لم يفرض عليها أثمان السلع من جهة عليا كالحكومة. ويشرح كيفية تكون هذه الظاهرة، نتيجة لحرية السوق ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن، وكمية الطلب. ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن، والزيادة النسبية في الطلب فهل يتضاعف الثمن، اذا تضاعف الطلب، او يزداد بدرجة أقل. ويشرح ما اذا كان ارتباط الثمن بكمية الطلب، بدرجة واحدة في جميع السلع، او ان بعض السلع، يؤثر عليها ازدياد طلبها، على ارتفاع ثمنها اكثر، مما يؤثره في سلع أخرى.

كل هذا يدرسه العلم، لاكتشاف جميع الحقائق التي تتصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب، وشرح ما يجري في السوق الحرة، وما ينجم عن حريته، شرحاً علمياً، قائماً على اساليب البحث العلمي والملاحظة المنظمة.

والعلم في ذلك كله، لا يضيف منه شيئاً الى الواقع، وانما هدفه الاساسي، تكوّن فكرة دقيقة عما يجري في الواقع، وما ينجم عن السوق الحرة، من ظواهر، وما بين تلك الظواهر من روابط، وصياغة القوانين التي تعبر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي، بمنتهى الدقة الممكنة.

وأما المذهب الإقتصادي: فهو لا يدرس السوق الحرة ليكتشف نتائج هذه الحرية، واثرها على الثمن ، وكيف يرتبط

١٥٦

الثمن بكمية الطلب في السوق الحرة. ولا يلقي على نفسه سؤال لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرة اذا زاد الطلب عليها؟.

ان المذهب لا يصنع شيئاً من ذلك، وليس من حقه هذا لان اكتشاف النتائج والاسباب، وصياغة الواقع في قوانين عامة تعكسه وتصوره، من حق العلم، بما يملك من وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج.

وانما يتناول المذهب، حرية السوق، ليقيِّم هذه الحرية ويقيِّم ما تسفر عنه من نتائج، وما تؤدي اليه من ربط الثمن بكمية الطلب الذي يغزو السوق.

ونعني بتقييم الحرية، وتقييم نتائجها، الحكم عليها من وجهة نظر المذهب، إلى العدالة. فإن كل مذهب اقتصادي، له تصوراته العامة عن العدالة. ويرتكز تقييمه لأي منهج من مناهج الحياة الإقتصادية، على أساس القدر الذي يجسده ذلك المنهج من العدالة، وفقاً لتصور المذهب لها.

فحرية السوق، اذا بحثت على الصعيد المذهبي، فلا تبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع، لها نتائجها، وقوانينها العلمية بل بوصفها منهجاً اقتصادياً، يراد اختبار مدى توفر العدالة فيه.

فالسؤال القائل: ما هي نتائج السوق الحرة، وكيف يرتبط الثمن بكمية الطلب فيها، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخر

١٥٧

يجيب عليه علم الإقتصاد.

والسؤال القائل: كيف ينبغي أن تكون السوق، وهل أن حريتها كفيلة بتوزيع السلع توزيعاً عادلاً، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الإجتماعية؟ إن هذا السؤال، هو الذي يجيب عليه المذهب الإقتصادي.

وعلى هذا الأساس، فمن الخطأ أن نترقب من أي مذهب إقتصادي، أن يشرح لنا، مدى ارتباط الثمن، بكمية الطلب في السوق الحرة، وقوانين العرض والطلب، التي يتحدث عنها علماء الإقتصاد، في دراستهم لطبيعة السوق الحرة.

المثال الثاني:

من رأي ريكاردو، أن أجور العمال، اذا كانت حرة وغير محدودة من جهة عليا، كالحكومة، تحديداً رسمياً، فلا تزيد عن القدر الذي يتيح للعامل معيشة الكفاف. ولو زادت أحياناً عن هذا القدر، كان ذلك شيئاً موقتاً، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرة أخرى.

ويقول ريكاردو، في تفسير ذلك، أن أجور العمال، اذا زادت عن الحد الأدنى من المعيشة، أدى ذلك الى ازديادهم نتيجة لتحسن أوضاعهم، وإقبالهم على الزواج والإنجاب. وما دام عمل العامل سلعة في سوق حرة، لم تحدد فيها الأجور والأثمان

١٥٨

فهو يخضع لقانون العرض والطلب. فاذا ازداد العمال، وكثر عرض العمل في السوق انخفضت الأجور.

وهكذا، كلما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف، وجدت العوامل التي تحتم انخفاضها من جديد، ورجوعها الى حدها المحتوم. كما انها اذا نقصت عن هذا الحد. نتج عن ذلك، ازديات بؤس العمال، وشيوع المرض والموت فيهم، حتى ينقص عددهم وإذا نقص عددهم، ارتفعت الأجور، ورجعت إلى مستوى الكفاف لأن كل سلعة اذا نقصت كميتها، وقلَّت، ارتفع ثمنها في السوق الحرة.

وهذا ما يطلق عليه ريكاردو، اسم القانون الحديدي للاجور.

وريكاردو في هذا القانون، انما يتحدث عما يجري في الواقع اذا توفرت السوق الحرة للاجراء. ويكتشف المستوى الثابت للاجور، في كنف هذه السوق، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخل في تثبيت هذا المستوى، والحفاظ عليه، كلما تعرض الاجر لارتفاع او هبوط استثنائيين.

فريكاردو، انما يجيب في هذا القانون، على سؤال: ماذا يجري في الواقع؟ لا عما ينبغي أن يجري. ولأجل هذا كان بحثه في نطاق علم الاقتصاد، لأنه بحث يستهدف اكتشاف ما يجري من احداث وما تتحكم فيها من قوانين.

١٥٩

والمذهب الاقتصادي، حين يتناول أجور العمال، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرة. وانما يوجد طريقة لتنظيمها، تتفق مع مفاهيم العدالة عنده. فهو يتحدث عن الاساس الذي ينبغي أن تنظم بموجبه الاجور، ويبحث عما اذا كان مبدأ الحرية الاقتصادية، يصلح ان يكون أساساً لتنظيم الاجور، من وجهة نظره عن العدالة أولاً.

وهكذا لا نرى، ان المذهب الإقتصادي، يحدد كيف ينبغي أن تنظم السوق من وجهة نظره الى العدالة. هل تنظم على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، او على أساس آخر؟ وعلم الاقتصاد، يدرس السوق المنظمة، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، مثلاً، ليتعرف على ما يحدث في السوق المنظمة وفقاً لهذا المبدأ، من أحداث، وكيف تحدد فيها أثمان السلع واجور العمال، وكيف ترتفع وتنخفض.

وهذا معنى قولنا: ان العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم ويقدر.

المثال الثالث:

ولنأخذ المثال الثالث من الانتاج، ولنحدد الزاوية التي منها يدرس علم الإقتصاد الانتاج، والزاوية التي منها يدرس الانتاج في المذهب الإقتصادي. ونتبين الفارق بين الزاويتين.

١٦٠