المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75284
تحميل: 6096

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75284 / تحميل: 6096
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

فعلم الإقتصاد، يدرس من الانتاج الوسائل العامة، التي تؤدي الى تنمية الانتاج، كتقسيم العمل، والتخصص، فيقارن مثلاً، بين مشروعين لإنتاج الساعات، يشتمل كل منهما على عشرة عمال، يكلف كل عامل في أحد المشروعين، بانتاج ساعة كاملة. وأما في المشروع الآخر، فيقسم العمل، ويوكل الى كل عامل نوع واحد من العمليات، التي يتطلبها انتاج الساعة. فهو يكرر هذا النوع الواحد من العملية، باستمرار، دون أن يمارس العلميات الاخري، التي تمر بها الساعة، خلال انتاجها. ان البحث العلمي في الاقتصاد، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين، وأثر كل منهما على الانتاج وعلى العامل.

وهكذا يدرس علم الاقتصاد أيضاً، كل ما يرتبط بالانتاج الإقتصادي، من قوانين طبيعية، كقانون تناقص العلة في الإنتاج الزراعي، القائل أن نسبة زيادة الإنتاج الزراعي من الأرض تقل عن نسبة زيادة النفقات(١) .

____________________

(١) بمعني أن الشخص الذي ينفق مئة دينار، على استثمار أرضه، ويحصل منها على عشرين أردباً من القمح. لو أراد أن يضاعف النفقات، فأنفق على الأرض مئتين، بدلاً من مئة دينار، لم يحصل على ضعف الناتج السابق. أي أنه لا يظفر بأربعين أردباً من القمح، بل يحصل على أقل من الضعف. ولو أنفق ثلاثمائة لم يحصل على ثلاثة أضعاف من القمح، بل على زيادة أقل نسبياً من الزيادة التي يحصل عليها، بإنفاق مئتين. وهكذا تظل الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات، تتناقض نسبياً، حتى تندعم نهائياً، ويعود الانفاق عبثاً باطلاً.

وسبب هذا، أن الأرض نفسها، هي عامل أساسي في الانتاج، فمضاعفة النفقات، لا تكفي لمضاعفة الانتاج، ما دامت كمية العامل الأساسي في الانتاج أي الأرض، ثانية لم تضاعف.

١٦١

كل هذا يدرسه علم الإقتصاد. لأنه يعبر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي، كما تجري، ويحدد العوامل التي تؤثر بطبيعتها على الانتاج، تأثيراً موافقاً او معاكساً.

وأما المذهب، فهو يبحث الأمور التالية.

هل ينبغي أن يبقى الانتاج حراً، أو يجب اخضاعه لتخطيط مركزي من قبل الدولة؟

هل ينبغي اعتبار تنمية الانتاج، هدفاً أصيلاً، او وسيلة لهدف أعلى؟

واذا كانت تنمية الإنتاج، وسيلة لهدف أعلى، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى، على هذه الوسيلة؟ وهل يجب أن تكون سياسة الإنتاج، أساساً لتنظيم التوزيع، أو العكس؟ بمعنى، أن أيهما يجب أن ينظم لمصلحة الآخر؟ فهل ننظم توزيع الثروة، بالشكل الذي يوفر الإنتاح ويساعد على تنميته، فتكون مصلحة الإنتاج، أساساً للتوزيع «فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج، تشريع الفائدة على القروض

١٦٢

التجارية، لجذب رؤوس الأموال، الى مجال الإنتاج. اتخذت الإجراءات بهذا الشأن، ونظم التوزيع، على أساس الإعتراف بحق رأس المال في الفائدة.» أو تنظم توزيع الثروة، وفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية، ونحدد تنمية الإنتاج، بالمناهج والوسائل التي تتفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية.

كل هذا يدخل في نطاق المذهب الإقتصادي، لا علم الإقتصاد لأنه يرتبط بتنظيم الإنتاج، وكيف ينبغي أن تصمم سياسته العامة.

استخلاص من الأمثلة السابقة

يمكننا أن نستخلص من الأمثلة السابقة، الخطين المتميزين للعلم والمذهب: خط الاكتشاف والتعرف على أسرار الحياة الإقتصادية، وظواهرها المختلفة، وخط التقييم، وايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصورات معينة عن العدالة.

وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نميز بين الأفكار العلمية والأفكار المذهبية. فالفكرة العلمية، تدور حول اكتشاف الواقع، كما يجري، والتعرف على أسبابه ونتائجه، وروابطه. فهي بمثابة منظار علمي، للحياة الإقتصادية، فكما أن الشخص حين يضع منظاراً على عينيه، يستهدف رؤية الواقع، دون أن يضيف اليه، أو يغير فيه شيئاً، وكذلك التفكير العلمي

١٦٣

يقوم بدور منظار للحياة الإقتصادية، فيعكس قوانينها وروابطها. فالطابع العام للفكرة العلمية هو الإكتشاف.

وأما الفكرة المذهبية، فهي ليست منظاراً للواقع، بل هي تقدير خاص للموقف، على ضوء تصورات عامة للعدالة. فالعلم يقول: هذا هو الذي يجري في الواقع. والمذهب يقول: هذا هو الذي ينبغي أن يجري في الواقع.

علم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق

وهذا الفرق الذي تبيناه، بين علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي، - بين البحث عما هو كائن والبحث عما ينبغي أن يكون -، يمكننا أن نجد نظيره بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فان علم التاريخ، يتفق مع علم الإقتصاد في خطه العلمي العام. والبحوث الأخلاقية، كالمذهب الإقتصادي، في التقييم والتقدير.

والناس يتفقون عادة، على التفرقة بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فهم يعرفون ان علماء التاريخ، يحدثونهم مثلاً عن الأسباب التي أدت الى سقوط الامبراطورية الرومانية، في أيدي الجرمان. والعوامل التي دعت الى شن الحملات الصليبية على فلسطين، وفشلها جميعاً. والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر، وهو في قمة انتصاره ومجده، او على قتل عثمان

١٦٤

ابن عفان والثورة عليه.

كل هذه الاحداث، يدرسها علم التاريخ، ويكتشف أسبابها وروابطها، مع سائر الاحداث الاخرى، وما تمخضت عنه من نتائج، وتطورات، في مختلف الميادين. وهو بوصفه علماً، يقتصر على اكتشاف تلك الاسباب، والروابط، والنتائج، بالوسائل العلمية. ولا يقيم تلك الاحداث من الناحية الخلقية.

فعلم التاريخ، لا يحكم في نطاقة العلمي، بأن اغتيال قيصر أو قتل عثمان، كان عملاً صحيحاً، خلقياً، او منحرفاً عن المقاييس التي تحتم القيم العليا، اتباعها في السلوك. وليس من شأنه، أن يقيم الحملات الصليبية، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان، ويحكم بأنها حملات عادلة أو ظالمة. وانما يرتبط تقييم تلك الاحداث، جميعاً، بالبحوث الاخلاقية. فعلى ضوء ما تتبنى من مقاييس للعمل، في البحث الاخلاقي، نحكم بأن هذا عدل او ظلم، وان هذه استقامة أو انحراف.

فكما ان علم التاريخ يصف السلوك والحادثة، كما وقعت ويأتي البحث الخلقي، بمقاييسه العامة، فيقيمها. كذلك علم الاقتصاد، يصف احداث الحياة الاقتصادية، والمذهب يقيم تلك الأحداث، ويحدد الطريقة، التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها، وفقاً لتصوراته العامة عن العدالة.

١٦٥

علم الاقتصاد كسائر العلوم

وما قلناه، في تحديد وظيفة علم الاقتصاد، وانها مقتصرة على الاكتشاف، دون التقدير والتقييم. لا يخص علم الاقتصاد فحسب. فان الوظيفة الاساسية، لجميع العلوم، هي الاكتشاف خاصة. ولا فرق بين العالم الاقتصادي، وعلماء الفيزياء والذرة والفلك والنفس، سوى انه يمارس وظيفته في الحقل الاقتصادي من حياة الإنسان، واولئك يمارسون نفس الوظيفة، وهي اكتشاف الحقائق، وروابطها وقوانينها، في حقول اخرى متنوعة طبيعية او بشرية.

فالعالم في الفيزياء الاعتيادية، يدرس مثلاً السرعات المختلفة للنور والصوت وغيرهما، ويكتشف المعادلات الدقيقة لها.

والعالم الذري، يدرس تركيب الذرة، وعدد كهاربها ونوع شحناتها المخبوءة فيها، والقوانين التي تتحكم في حركتها.

والعالم الفلكي، يدرس الاجرام الكبيرة في الفضاء، والقوانين التي تنظم حركتها.

والعالم النفسي: يدرس مثلاً عملية الابصار، ومحتواها السيكولوجي والعوامل المؤثرة فيها.

والعالم الاقتصادي، يكتشف من ناحيته أيضاً، قوانين الظواهر الاقتصادية، سواء كانت طبيعية، كظاهرة تناقص

١٦٦

الغلة او اجتماعية، كظاهرة انخفاض الثمن وارتفاعه، في السوق الحرة، وفقاً لكمية الطلب.

فكل هؤلاء بوصفهم العلمي، يكتشفون ولا يقيمون.

الفارق في المهمة لا الموضوع

في ضوء ما تقدم، تعرف أن الفارق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، ينبع من اختلافهما في المهمة، نظراً الى ان مهمة علم الاقتصاد، اكتشاف ظواهر الحياة الاقتصادية وروابطها. ومهمة المذهب، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية كما ينبغي ان تنظم، وفقاً لتصوراته عن العدالة.

وعلى هذا الاساس، ندرك الخطأ في المحاولات التي ترمي الى التمييز بين علم الاقتصاد، والمذهب الاقتصادي، من ناحية الموضوع. عن طريق القول، بأن علم الاقتصاد، يبحث في الانتاج وقوانينه، والعوامل التي تساعد تنميته. والمذهب الاقتصادي يبحث في التوزيع، وأحكامه، والروابط التي تنشأ بين أفراد المجتمع على أساسه.

ان هذه المحاولات خاطئة، لاننا رأينا في الأمثلة السابقة التي قدمناها للتفرقة بين العلم والمذهب، ان المذهب الاقتصادي يتناول الانتاج، كما يتناول التوزيع، (راجع المثال الثالث). وعلم الاقتصاد يتناول التوزيع، كما يتناول الانتاج، (راجع

١٦٧

المثال الاول والثاني). فقانون الاجور الحديدي، الذي سبق في المثال الثاني، قانون علمي، بالرغم من انه يتصل بالتوزيع وتنظيم الانتاج، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، أو على اساس التوجيه المركزي من الدولة، يعتبر قضية من قضايا المذهب، بالرغم من كونه بحثاً في الانتاج.

فمن الخطأ، ان نحكم على أي بحث، بأنه علمي، اذا كان يتناول الانتاج. وانه مذهبي، اذا كان يتناول التوزيع.

بل العلامة الفارقة للبحث العلمي، عن البحث المذهبي، هي علاقة البحث بالواقع، او العدالة. فان كان بحثاً عن الواقع في الحياة الإقتصادية، وكيف هو، فالبحث علمي. وان كان بحثاً عن العدالة، وكيف ينبغي ان تحقق، فالبحث مذهبي. أي ارتباط الفكرة بالعدالة، هو العلامة الفارقة، للمذهب بشكل عام، عن البحوث العلمية التي يضمها علم الاقتصاد.

المذهب قد يكون اطاراً للعلم

عرفنا، ان علم الإقتصاد، كما يبحث في الانتاج، ويكتشف قانون الغلة المتناقصة، مثلاً، كذلك يبحث في التوزيع ويكشف قانوناً، كالقانون الحديدي للاجور.

ولكن بالرغم من ذلك، يوجد أحياناً فرق بين البحث العلمي، في الانتاج، والبحث العلمي في التوزيع. ولنأخذ

١٦٨

قانون الغلة المتناقصة، والقانون الحديدي للاجور مثالاً ذلك.

فالقانون الاول، يمثل البحث العلمي، في الانتاج. والقانون الثاني، يمثل البحث العلمي في التوزيع.

ونحن، اذا لاحظنا قانون الغلة المتناقصة، نجد انه يشتمل على حقيقة عن الانتاج الزراعي، تصدق على الارض في مجتمع بشري، مهما كان نوع المذهب الإقتصادي الذي يتبناه، فالارض في المجتمع الرأسمالي، تتناقص غلتها وفقاً لذلك القانون كما تتناقص في المجتمع الاشتراكي او الإسلامي. وهذا يعني، ان قانون الغلة المتناقصة، ليس متوقفاً على وضع مذهبي معين، بل يعبر عن حقيقة علمية مطلقة.

واما القانون الحديدي للاجور، الذي مر شرحه في المثال الثاني. فهو يكتشف، كما رأينا المستوى الثابت لاجور العمل في مجتمع تسوده الحرية الاقتصادية، ويقرر ان المجتمع الذي تسوده الحرية، تظل فيه اجور العمال على مستوى الكفايه واذا ارتفعت، او انخفتضت، لسبب طارئ عادت مرة اخر وبصورة طبيعية، الى ذلك المستوى.

وهذا القانون علمي بطبيعته، ومضمونه، وهدفه. لانه يحاول اكتشاف الواقع، والتعرف على حركة الاجور واتجاهها كما يحدث في المجتمع. ولكنه يقرر، في نفس الوقت، أن هذه

١٦٩

الحقيقة التي يتحدث عنها، انما تصدق، على مجتمع تسوده الحرية الإقتصادية الرأسمالية، ولا تنطبق على مجتمع موجه إقتصادياً تفرض الدولة فيه تحديداً عالياً للاجور.

فالحرية الرأسمالية، شرط لصدق القانون العلمي، عن الأجور، او هي الإطار العام، الذي يتحقق القانون الحديدي ضمنه. وهذا معنى أن القانون مضمونه علمي، واطاره العام - شرط صدقه -، مذهبي.

وأكبر الظن، ان عدم التمييز بين المضمون والإطار، او بين القانون العلمي، وشروطه، هو الذي أدى الى القول، بأن بحوث التوزيع، كلها مذهبية، وليس للعلم، ان يبحث في حقل التوزيع. فان اشراط القوانين العلمية في التوزيع، باطار مذهبي معين، جعل أصحاب هذا القول يتخيلون ان تلك القوانين مذهبية بطبيعتها.

النتائج المستخلصة

نستخلص مما سبق، النتائج التالية:

أولاً: ان علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي، يختلفان في مهمتهما الاساسية، لأن مهمة العلم، اكتشاف الحياة الإقتصادية وظواهرها، كما توجد في الواقع، ومهمة المذهب، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، كما ينبغي أن توجد، وفقاً لتصوراته

١٧٠

العامة عن العدالة. فالعلم يعمل لتجسيد الواقع، والمذهب يعمل لتجسيد العدالة.

ثايناً: ان علم الإقتصاد، يبحث في الإنتاج والتوزيع معاً كما ان المذهب الإقتصادي، يبحث في الإنتاج والتوزيع أيضاً، ولا اساس للتفرقة بينهما، على أساس الموضوع، يجعل الإنتاج موضوعاً للعلم، والتوزيع موضوعاً للمذهب. لأن العلم والمذهب يختلفان في مهمة البحث وطريقته، لا في موضوعه.

وثالثاً: ان قوانين علم الإقتصاد، في الانتاج، تعبر عن حقائق ثابتة، في مختلف المجتمعات، مهما كان نوع المذهب الاقتصادي المطبق عليها. واما قوانين علم الإقتصاد، في التوزيع فهي تشرط عادة باطار مذهبي معين، بمعنى ان العالم الإقتصادي يفترض مجتمعاً يطبق مذهباً كالرأسمالية، والحرية الإقتصادية ثمّ يحاول أن يكتشف قوانينه، وحركة الحياة الإقتصادية فيه.

المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية

عرفنا، من التحليلات السابقة للمذهب والعلم، أن مهمة المذهب، التعبير عن مقتضيات العدالة، بينما يكون على العلم مهمة اكتشاف الأحداث الإقتصادية، كما تقع، باسبابها وروابطها.

وهذا الإختلاف في المهمة الأساسية بينهما، يفرض اختلافهما

١٧١

في وسائل البحث، حتماً. بمعنى أن علم الإقتصاد، بوصفه علماً، يكتشف ما يقع في الكون والمجتمع، مما يتصل بالحياة الإقتصادية يستعمل الوسائل العلمية، من الملاحظة أو التجربة وتتبع الأحداث التي تزخز بها الحياة الإقتصادية، لكي يستنبط على ضوء ذلك، روابطها وقوانينها العامة. ومتى كانت قضية من القضايا موضعاً للشك، ولم يعلم مدى صدقها وتصويرها للواقع، أمكن للعالم الإقتصادي، أن يرجع الى المقاييس العلمية وملاحظاته المنظمة، للاحداث المتعاقبة، لكي يكتشف مدى صحة تلك القضية وصدقها في تصوير الواقع.

ان العالم الإقتصادي، كالعالم الطبيعي، من هذه الناحية(١) فالعالم الطبيعي، اذا أراد أن يكتشف درجة الغليان في الماء امكنه أن يقيس حرارة الماء قياساً علمياً، بوصفها ظاهرة طبيعية، ويلاحظ درجة الحرارة، التي تبدأ عندها الغليان.

والعالم الإقتصادي، اذا أراد ان يكشف دورية الأزمات الإقتصادية، المشهورة، التي تنتاب المجتمع الرأسمالي، بين حين وآخر، فعليه أن يرجع إلى أحداث الحياة الإقتصادية، كما تسلسلت ووقعت، ليحدد الفاصل التاريخي، بين كل ازمة واخرى

____________________

(١) لا نعني بذلك، ان الوسائل العلمية، التي يستعملها العالم الطبيعي، هي نفس الوسائل التي يستعملها العالم الإقتصادي، وانما نعني ان الوسائل التي يستعملها العالمان، موضوعية وليست ذاتية.

١٧٢

فاذا وجد ان الفاصل التاريخي، بين كل أزمة وسابقتها واحد استطاع أن يحدد دورة تلك الأزمات، وبالتالي يبحث عن أسبابها، والعوامل المؤثرة فيها.

وعلى العكس من ذلك، المذهب الإقتصادي، فانه لا يمكنه أن يقيس الموضوعات التي يعالجها، قياساً علمياً، لأنه يدرس تلك الموضوعات، من زاوية العدالة، ويحاول ايجاد طريقة للتنظيم، وفقاً لمقتضيات العدالة. ومن الواضح، ان العدالة تختلف عن حرارة الماء وغليانه، وعن الازمات الاقتصادية ودورتها، لأنها ليست من الظواهر الكونية، أو الإجتماعية التي تقبل الملاحظة الموضوعية، والقياس العلمي، وأساليب التجربة المتعارفة في العلم. ففي المذهب الإقتصادي، لا يكفي أن نطل برأسنا على الواقع، ونلاحظ الاحداث، ملاحظة علمية، لنعرف ما هي العدالة، في التنظيم، كما يطل العالم الإقتصادي ويدرس الازمات الاقتصادية ليعرف ودورتها وقانونها.

ولنأخذ العدالة في التوزيع، مثلاً على ذلك، فهناك من يقول ان العدالة في التوزيع، تتحقق في نظام يكفل المساواة بين أفراد المجتمع، في الحرية، بدلاً عن الرزق، هي الاساس العادل للتوزيع، وان أدت ممارسة الافراد لحقهم في الحرية الى اختلافهم في الرزق، وزيادة ثروة بعضهم، على ثروة الآخرين

١٧٣

ما دام الآخرون، يتمتعون بنفس الحرية، الممنوحة للجميع بدرجة واحدة. وهناك من يرى عدالة التوزيع، تتحقق في ضمان مستوى عام من الرزق، للجميع، ومنح الحرية لهم خارج حدود ذلك المستوى، كما يصنع الإسلام:

فاذا أردنا ان نعرف، ما هو طريق تحقيق العدالة في التوزيع هل هو التسوية في الرزق والثروة، أو اعطاء كل فرد الحرية في ممارسة مختلف الوان النشاط الاقتصادي، وتحديد نصيبه من الرزق، وفقاً لطريقة ممارسته للحرية، او اسلوب ثالث بين هذا وذاك.

اذا أردنا أن نعرف، ما هو طريق العدالة، من هذه الأساليب فلا يمكننا ان نقيس، ونستعمل وسائل البحث العلمي. لان العدالة، ليست ظاهرة طبيعية، كالحرارة والغليان، لكي نحس بها، ببصرنا او لمسنا او سائر حواسنا، وليست ظاهرة اجتماعية كالازمات الاقتصادية، في المجتمع الرأسمالي، لتقاس وتلاحظ وتجرب.

ان العلم، يمكنه ان يقيس الناس أنفسهم، فيعرض مدى تساويهم او اختلافهم، في صفاتهم الجسدية والنفسية. ولكنه لا يستطيع، ان يقيس حقهم في الرزق، ليعرف ما اذا كان من العدل أن يتساووا في الرزق، أو لا. لأن العدالة والحق ليس من الصفات الموضوعية، الخاضعة للقياس العلمي والحس كصفات الجسد وظواهر الحياة.

١٧٤

خذ اليك رأسمالياً، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الحرية وان اختلفت أرزاقهم، واشتراكياً، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الرزق، واسألهما: هل يوجد مقياس زئبقي، للعدالة كالمقياس الزئبقي للحرارة، لكي أعرف درجة العدالة، في مجتمع تتساوى ارزاق أفراده، ومجتمع تتساوى حريات أفراده وان اختلفت أرزاقهم؟ وهل ان الحق الذي يتمتع به أفراد المجتمع، ظاهرة من الظواهر، التي يمكن الاحساس بها، كما نحس بألوانهم وطول قامتهم، ومدى نباهتهم، ونوع أصواتهم لكي ندرس الحق، بأساليب البحث العلمي، القائمة على أساس الحس والتجربة.

ان الجواب على كل هذا، بالنفي طبعاً. فليس للعدالة مقياس زئبقي، لانها ليست من الظواهر، التي يمكن ادراكها بالحس والمشاهدة. وليس حق الناس في الرزق، او حق الناس في حرية اكتسابه، ظاهرة من ظواهرهم، كطول قامتهم او سرعة بديهتهم، لنحكم العلم في تحديد ذلك الحق.

ونخرج من ذلك كله، بأن المذهب، لا يمكنه ما دام يدرس القضايا من زاوية العدالة والحق، ان يكتفي بأساليب البحث العلمي. بل لا بد له، أن يستلهم الطريقة التي يفضلها، في تنظيم الحياة الإقتصادية، من تصوراته الذاتية للعدالة، وقيمه ومثله، التي يؤمن بها، ونظرته العامة الى الحياة.

١٧٥

١٧٦

١٧٧

١٧٨

الإقتصاد الإسلامي كما نوعظ به

أحسب ان البحث السابق، يكفي لتكوين فكرة محددة عن المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد، ووظيفة كل منهما ووسائله في البحث. ولاجل هذا، فسوف نستطيع الآن أن نوضح طبيعة فهمنا للاقتصاد الإسلامي، وما نعنيه بتأكيدنا على وجود اقتصاد، او نظام اقتصادي في الإسلام.

ان الإقتصاد الإسلامي كما مر بنا، في مستهل هذه الدراسة عبارة عن مذهب اقتصادي، وليس علماً للاقتصاد. فنحن حين نقول: ان الإسلام جاء بمذهب اقتصادي، لا نحاول ان نزعم، ان الإسلام جاء بعلم الاقتصاد. وذلك ان الإسلام، لم يجئ ليكتشف أحداث الحياة الإقتصادية، وروابطها وأسبابها وليس من مسؤولياته ذلك. كما ليس من مسؤوليته، ان يكشف للناس قوانين الطبيعة، او الظواهر الفلكية، وروابطها وأسبابها. فكما لا يجب ان يشتمل الدين، على علم الفلك، وعلوم الطبيعة كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد.

وانما جاء الإسلام، لينظم الحياة الإقتصادية، بدلاً عن كشفها. ويضع التصميم، الذي ينبغي أن تنظم به، وفقاً لتصوراته عن العدالة.

فالإقتصاد الإسلامي، يصور وجهة نظر الإسلام عن العدالة وطريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية، ولا يعبر عن كشوف علمية، لروابط الحياة الإقتصادية، وعلاقاتها، كما تجري في

١٧٩

الواقع. وهذا معنى، كون الإقتصاد الإسلامي مذهباً لا علماً.

وبتعبير آخر: لو أن الإسلام، جاء ليحدثنا عن الحياة الإقتصادية في الحجاز، وما هي الاسباب التي تؤدي في المجتمع الحجازي، مثلاً، الى ارتفاع سعر الفائدة الربوية، التي يتقاضاها المرابون، لكان حديثه علمياً، ومن علم الإقتصاد. ولكنه بدلاً عن ذلك، جاء ليقيم نفس الفائدة الربوية، فحرمها ونظم العلاقة بين رأس المال، وصاحب المشروع، على أساس المضاربة، بدلاً عن الربا والفائدة. وبذلك، كان الإسلام يتخذ في اقتصاده الموقف المذهبي، لا العلمي.

ونحن، اذا عرفنا بوضوح، طبيعة الإقتصاد الإسلامي وكونه مذهباً اقتصادياً، لا علماً للاقتصاد، أمكننا أن ندحض أكبر العقبات، التي تحول دون الاعتقاد، بوجود اقتصاد في الإسلام.

ما هي اكبر العقبات

وهذه العقبة الكبيرة، التي يستند اليها كثير من الناس لرفض الاقتصاد الإسلامي، نشأت من عدم التمييز، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي. فان هؤلاء الذين لم يتح لهم التمييز بين العلم والمذهب، اذا سمعوا شخصاً يقول: ان في

١٨٠