المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75188
تحميل: 6081

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75188 / تحميل: 6081
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

والغى الرق، وانتزع الأراضي من الطبقة الاقطاعية، وأمم الأرض الزراعية، وقسمها قسماً متساوية ووزعها على الزراع وحرم بيع الأراضي وشراءها ليمنع بذلك من عودة الأملاك الواسعة الى ما كانت عليه من قبل، وأمم المناجم وبعض الصناعات الكبرى.

فهل يمكن أن يكون (وو - دي) أو (وانج مانج).. قد استوحيا ادراكهما الاجتماعي ونهجهما السياسي هذا من قوى البخار، أو قوى الكهرباء أو الذرة، التي تعتبرها الماركسية اساساً للتفكير الاشتراكي.

وهكذا نستنتج: إنّ ادراك هذا النظام أو ذاك - بوصفه النظام الأصلح - ليس صنيعة لهذه الوسيلة من وسائل الإنتاج أو تلك.

كما ان الحركة التقدمية للتاريخ، التي تبرهن الماركسية عن طريقها على: ان جدة الفكر تضمن صحته.. ليست إلاّ اسطورة اخرى من أساطير التاريخ، فان حركات الانتكاس وذوبان الحضارة كثيرة جداً.

٢١

رأي المفكرين غير الماركسيين

وأما المفكرون غير الماركسيين فهم يقررون عادة: أن قدرة الإنسان على ادراك النظام الأصلح.. تنمو عنده من خلال التجارب الإجتماعية التي يعيشها. فحينما يطبق الإنسان الإجتماعي نظاماً معيناً ويجسده في حياته.. يستطيع أن يلاحظ من خلال تجربته لذلك النظام: الأخطاء ونقاط الضعف المستترة فيها، والتي تتكشف له على مر الزمن، فتمكنه من تفكير اجتماعي أكثر بصيرة وخبرة.. وهكذا يكون بامكان الإنسان أن يفكر في النظام الاصلح، ويضع جوابه على السؤال الأساسي في ضوء تجاربه وخبرته. وكلما تكاملت وكثرت تجاربه أو الأنظمة التي جرّبها، ازداد معرفة وبصيرة، وصار اكثر قدرة على تحديد النظام الأصلح وتصور معالمه.

فسؤالنا الأساسي: ما هو النظام الأصلح؟.. ليس إلاّ كسؤال: ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكن؟.. هذا السؤال الذي واجهه الإنسان منذ أحس بالبرد، وهو في كهفه أو مغارته، فأخذ يفكر في الجواب عليه، حتى اهتدى في ضوء ملاحظاته أو تجاربه العديدة الى طريقة إيجاد النار. وظل يثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جواب أفضل عبر تجاربه

٢٢

المديدة، حتى انتهى أخيراً الى اكتشاف الكهرباء واستخدامه في التدفئة.

وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته، فأدرك طريقة حلها خلال التجربة، وازداد إدراكه دقة كلما كثرت التجربة: كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسل، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، أو أسرع واسطة للنقل والسفر أو أفضل طريقة لحياكة الصوف... وما الى ذلك من مشاكل وحلول.

فكما استطاع الإنسان أن يحل هذه المشاكل، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة من خلال تجاربه.. كذلك يستطيع أن يجيب على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟!، من خلال تجاربه الاجتماعية، التي تكشف له عن سيئات ومحاسن النظام المجرّب، وتبرز ردود الفعل له على الصعيد الاجتماعي.

الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية

وهذا صحيح الى درجة ما: فان التجربة الاجتماعية تتيح للإنسان أن يقدم جوابه على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟ كما أتاحت له تجارب الطبيعة أن يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة، التي اكتنفت حياته منذ البداية.

٢٣

ولكننا يجب أن نفرّق - إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى أعمق -: بين التجارب الاجتماعية التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح، وبين التجارب الطبيعية التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها وطريقة الاستفادة منها: كأنجح دواء، أو أسرع واسطة للسفر، أو أفضل طريقه للحياكة، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، او انجع طريقة لفلق الذرة مثلاً.

فإن التجارب الاجتماعية - أي تجارب الإنسان الاجتماعي للأنظمة الاجتماعية المختلفة - لا تصل في عطائها الفكري الى درجة التجارب الطبيعية -: وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة -، لأنها تختلف عنها في عدة نقاط. وهذا الاختلاف يؤدي الي تفاوت قدرة الإنسان على الاستفادة من التجارب الطبيعية والاجتماعية. فبينما يستطيع الإنسان أن يدرك أسرار الظواهر الطبيعية، ويرتقي في ادراكه هذا الى ذروة الكمال على مر الزمن، بفضل التجارب الطبيعية والعلمية.. لا يسير في مجال ادراكه الاجتماعي للنظام الأصلح إلاّ سيراً بطيئاً ولا يتأتى له بشكل قاطع أن يبلغ الكمال في ادراكه الاجتماعي هذا، مهما توافرت تجاربه الاجتماعية وتكاثرت.

ويجب علينا - لمعرفة هذا - أن ندرس تلك الفروق

٢٤

المهمة، بين طبيعة التجربة الاجتماعية والتجربة الطبيعية.. لنصل الى الحقيقة التي قررناها وهي: أن التجربة الطبيعية قد تكون قادرة على منح الإنسان عبر الزمن فكرة كاملة عن الطبيعة، يستخدمها في سبيل الاستفادة من ظواهر الطبيعة وقوانينها، وأما التجربة الاجتماعية: فهي لا تستطيع أن تضمن للإنسان ايجاد هذه الفكرة الكاملة، عن المسألة الاجتماعية.

وتتلخص أهم تلك الفروق فيما يلي:

أولا: أن التجربة الطبيعية يمكن أن يباشرها ويمارسها فرد واحد، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة، ويدرس بصورة مباشرة كل ما ينكشف خلالها من حقائق وأخطاء، فينتهي من ذلك الى فكرة معينة ترتكز على تلك التجربة.

وأما التجربة الاجتماعية فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرب في مجتمع وتطبيقه عليه، فتجربة النظام الاقطاعي أو الرأسمالي مثلاً تعني: ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة من تاريخه وهي لاجل ذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد ويستوعبها وإنما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كله، وتستوعب مرحلة تاريخية من حياة المجتمع أوسع كثيراً من هذا الفرد أو ذاك. فالإنسان حين يريد أن يستفيد من تجربة اجتماعية، لا يستطيع

٢٥

أن يعاصرها بكل أحداثها، كما كان يعاصر التجربة الطبيعية حين يقوم بها، إنما يعاصر جانباً من أحداثها، ويتحتم عليه أن يعتمد في الاطلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها.. على الحدس والاستنتاج والتاريخ.

ثانياً: ان التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعية، أكثر موضوعية ونزاهة، من التفكير الذي يستمده الإنسان من التجربة الاجتماعية.

وهذه النقطة من أهم النقاط الجوهرية، التي تمنع التجربة الاجتماعية من الارتفاع الى مستوى التجربة الطبيعية والعلمية فلا بد من جلائها بشكل كامل.

ففي التجربة الطبيعية، ترتبط مصلحة الإنسان - الذي يصنع تلك التجربة - باكتشاف الحقيقة، الحقيقة كاملة صريحة دون مواربه، وليس له - في الغالب - أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها، التي تتكشف خلال التجربة. فإذا أراد - مثلاً - أن يجرب درجة تأثر جراثيم السل بمادة كيماوية معينة، حين القائها في محيط تلك الجراثيم، فسوف لا يهمه إلاّ معرفة درجة تأثرها، مهما كانت عالية أو منخفضة، ولن ينفعه في علاج السل ومكافحته أن يزور الحقيقة، فيبالغ في درجة تأثرها أو يهوّن منها. وعلى هذا الأساس يتجه تفكير المجرب - في العادة - اتجاهاً موضوعياً نزيهاً.

٢٦

وأما في التجربة الاجتماعية، فلا تتوقف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانية، بل قد يكون من مصلحته الخاصة: ان يستر الحقيقة عن الأنظار. فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسمالية والاحتكار، أو على النظام الربوي للمصارف مثلاً. سوف يكون من مصلحته جداً أن تجيء الحقيقة مؤكدة لنظام الرأسمالية والاحتكار والربا المصرفي، بوصفه النظام الأصلح حتى تستمر منافعه التي يدرها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعياً بطبيعته، ما دام الدافع الذاتي يحثه على اكتشاف الحقيقة باللون الذي يتفق مع مصالحه الخاصة.

وكذلك الشخص الآخر، الذي تتعارض مصلحته الخاصة مع الربا او الاحتكار، لا يهمه شيء كما يهمه ان تثبت الحقيقة بشكل يدين الأنظمة الربوية والاحتكارية. فهو حينما يريد أن يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعية: (ما هو النظام الأصلح؟) من خلال دراسته الاجتماعية، يقترن دائماً بقوة داخلية تحبذ له وجهة نظر معينة، وليس شخصاً محايداً بمعنى الكلمة.

وهكذا نعرف: ان تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعية لا يمكن - عادة - أن تضمن له الموضوعية والتجرد عن الذاتية بالدرجة التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربة طبيعية، ومسألة من مسائل الكون.

٢٧

ثالثاً: وهب ان الإنسان استطاع أن يتحرر فكرياً من دوافعه الذاتية، ويفكر تفكيراً موضوعياً، ويكشف الحقيقة وهي: ان هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانية.. ولكن من الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية إذا لم تلتق بمصلحته الخاصة؟!، ومن الذي يكفل سعيه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانية اذا تعارض مع مصالحه الخاصة؟!. فهل يكفي - مثلاً - ايمان الرأسماليين بأن النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكية ورضاهم عنها، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم؟!، أو هل يكفي ايمان الإنسان المعاصر (انسان الحضارة الغربية) - في ضوء تجاربه التي عاشها - بالخطر الكامن في نظام العلاقات بين الرجل والمرأة، القائم على أساس الخلاعة والأباحية.. هل يكفي ايمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات من خطر الميوعة والذوبان على مستقبل الإنسان وغده.. لاندفاعه الى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانية مستقبلها ويحميها من الذوبان الجنسي والشهوي، ما دام لايشعر بخطر معاصر على واقعه الذي يعيشه، وما دامت تلك العلاقات توفر له كثيراً من ألوان المتعة واللذة؟؟!!

نحن اذن وفي هذا الضوء، نشعر بحاجة لا الى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانية فحسب، بل الى دافع يجعلنا

٢٨

نعنى بمصالح الإنسانية ككل، ونسعى الى تحقيقها، وان اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثله من ذلك الكل.

رابعاً: ان النظام الذي ينشئه الإنسان الاجتماعي، ويؤمن بصلاحه وكفاءته، لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان، وتصعيده في المجال الإنساني الى آفاق أرحب.. لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه، ودرجته الروحية والنفسية. فاذا كان المجتمع يتمتع بدرجة منخفضة من قوة الارادة وصلابتها مثلاً لم يكن ميسوراً له أن يربي ارادته وينميها، بايجاد نظام اجتماعي صارم، يغذي الارادة ويزيد من صلابتها.. لأنه ما دام لا يملك ارادة صلبة، فهو لا يملك القدرة على ايجاد هذا النظام ووضعه موضع التنفيذ وانما يضع النظام الذي يعكس ميوعة ارادته وذوبانها. وإلا فهل ننتظر من مجتمع لا يملك ارادته ازاء إغواء الخمورة - مثلاً - واغراءها، ولا يتمتع بقدرة الترفع عن شهوة رخيصة كهذه.. هل ننتظر من هذا المجتمع: ان يضع موضع التنفيذ نظاماً صارماً يحرّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة، ويربي في الإنسان ارادته، ويرد اليه حريته ويحرره من عبودية الشهوة واغرائها؟!!. كلا طبعاً. فنحن لا نترقب الصلابة من المجتمع الذائب، وان أدرك اضرار هذا الذوبان ومضاعفاته. ولا نأمل من المجتمع الذي تستعبده شهوة الخمرة

٢٩

ان يحرر نفسه بارادته، مهما احس بشرور الخمرة وآثارها.. لأن الاحساس انما يتعمق ويتركز لدى المجتمع إذا استرسل في ذوبانه وعبوديته للشهوة واشباعها، وهو كلما استرسل في ذلك اصبح أشد عجزاً عن معالجة الموقف، والقفز بانسانيته الى درجات أعلى.

وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشرية التي صنعها الإنسان، تعجز عادة عن وضع نظام يقاوم في الإنسان عبوديته لشهوته، ويرتفع به إلى مستوى انساني أعلى. حتى لقد اخفقت الولايات المتحدة - وهي أعظم تعبير عن اضخم الحضارات التي صنعها الإنسان - في وضع قانون تحريم الخمرة موضع التنفيذ لأن من التناقض أن نترقب من المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديتها، أن يسن القوانين التي ترتفع به من الحضيض الذي اختاره لنفسه. بينما نجد ان النظام الاجتماعي الإسلامي الذي جاء به الوحي، قد استطاع بطريقته الخاصة في تربية الإنسانية ورفعها الي اعلى أن يحرم الخمرة وغيرها من الشهوات الشريرة، ويخلق في الإنسان الارادة الواعية الصلبة

***

ولم يبق علينا - بعد أن أوضحنا جانباً من الفروق الجوهرية بين التجربة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأسره والتجربة

٣٠

الطبيعية التي يمارسها المجرب نفسه - إلا ان نثير السؤال الأخير في مجال المسألة التي ندرسها (مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعي، واختيار النظام الأصلح.)، وهذا هو السؤال: ما هي قيمة المعرفة العلمية في تنظيم حياة الجماعة وإرساء الحياة الاجتماعية، والنظام الاجتماعي على أساس علمي من التجارب الطبيعية، التي تملك من الدقة ما تتسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء، ونتخلص بذلك من نقاط الضعف التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعية؟؟.

وبكلمة اخرى: هل في الامكان الاستغناء - لدى تنظيم الحياة الاجتماعية والتعرف على النظام الأصلح - عن دراسة تاريخ البشرية، والتجارب التي مارستها المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، والتي لا نملك تجاهها سوى الملاحظة عن بعد، ومن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها.. هل في الامكان الاستغناء عن ذلك كله، باقامة حياتنا الاجتماعية في ضوء تجارب علمية نعيشها ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك من الأفراد، حتى نصل الى معرفة النظام الأصلح؟؟.

وقد يتجه بعض المتفائلين الى الجواب على هذا السؤال بالايجاب، نظراً الى ما يتمتع به انسان الغرب اليوم من امكانات علمية هائلة: أوَ ليس النظام الاجتماعي هو النظام الذي يكفل اشباع حاجات الإنسانية بأفضل طريقة ممكنة؟؟. أوليست

٣١

حاجات الإنسان اشياء واقعية قابلة للقياس العلمي والتجربة كسائر ظواهر الكون؟!. أوَ ليست اساليب اشباع هذه الحاجات تعني اعمالاً محدودة، يمكن للمنطق العلمي أن يقيسها ويخضعها للتجربة، ويدرس مدى تأثيرها في اشباع الحاجات وما ينجم عنها من آثار؟!. فلماذا لا يمكن ارساء النظام الاجتماعي على أساس من هذه التجارب؟!. لماذا لا يمكن ان نكتشف بالتجربة على شخص أو عدة اشخاص، مجموع العوامل الطبيعية والفسيولوجية والسيكولوجية، التي تلعب دوراً في تنشيط المواهب الفكرية وتنمية الذكاء، حتى إذا أردنا أن ننظم حياتنا الاجتماعية، بشكل يكفل تنمية المواهب العقلية والفكرية للافراد، حرصنا على أن تتوفر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد؟!!

وقد يذهب بعض الناشئة في التصور الى أكثر من هذا فيخيل له: أن هذا ليس ممكناً فحسب، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربية، منذ رفضت الدين والأخلاق وجميع المقولات الفكرية والاجتماعية، التي مارستها الإنسانية في تجاربها الاجتماعية عبر التاريخ.. واتجهت في بناء حياتها على اساس العلم، فقفزت في مجراها التاريخي الحديث، وفتحت أبواب السماء، وملكت كنوز الأرض....

وقبل ان نجيب على السؤال الذي أثرناه: (السؤال عن مدى

٣٢

امكان إرساء الحياة الاجتماعية على أساس التجارب العلمية) يجب ان نناقش هذا التصور الاخير للحضارة الغربية، وهذا الاتجاه السطحي الى الاعتقاد: بأن النظام الاجتماعي، الذي يمثل الوجه الأساسي لهذه الحضارة، نتيجة للعنصر العلمي فيها. فان الحقيقة هي: ان النظام الاجتماعي الذي آمنت به اوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها، لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفية مجردة أكثر منها آراء علمية مجربة، ونتيجة لفهم عقلي وايمان بقيم عقلية محدودة، أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجية والفسيولوجية والطبيعية، فان من يدرس النهضة الاوروبية الحديثة - كما يسميها التاريخ الاوروبي - بفهم يستطيع ان يدرك: ان اتجاهها العام في ميادين المادة، كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة كانت علمية، إذ أقامت افكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء او عن قانون الجذب او فلق الذرة افكار علمية مستمدة من الملاحظة والتجربة. وأما في الميدان الاجتماعي: فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية. فهو ينادي مثلاً: بحقوق

٣٣

الإنسان العامة، التي اعلنها في ثورته الإجتماعية، ومن الواضح ان فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأن حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وانما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تدرس علمياً.

وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، الذي يعتبر - من الوجهة النظرية - أحد المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية الحديثة.. فاننا نجد أن هذا المبدأ لم يستنتج بشكل علمي من التجربة والملاحظة الدقيقة، لأن الناس في مقاييس العلم ليسوا متساوين، إلاّ في صفة الإنسانية العامة، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعية والفسيولوجية والنفسية والعقلية، وانما يعبر مبدأ المساواة عن قيمة خلقية هي من مدلولات العقل لا من مدلولات التجربة.

وهكذا نستطيع بوضوح : ان نميز بين طابع النظام الإجتماعي في الحضارة الغربية الحديثة، وبين الطابع العلمي. وندرك أن الإتجاه العلمي في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة.. لم يشمل حقل التنظيم الإجتماعي، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه اوروبا انظمتها ومبادئها الإجتماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع.

ونحن بهذا إنما نقرر الحقيقة، ولسنا نريد أن نعيب على الحضارة

٣٤

الغربية اهمالها لقيمة المعرفة العلمية، في مجال التنظيم الاجتماعي أو نؤاخذها على عدم اقامة هذا النظام على أساس التجارب العلمية الطبيعية، فان هذه التجارب العلمية لا تصلح لأن تكون أساساً للتنظيم الإجتماعي.

صحيح أن حاجات الإنسان يمكن إخضاعها للتجربة في كثير من الأحايين، وكذلك أساليب اشباعها.. ولكن المسألة الاساسية في النظام الاجتماعي، ليست هي اشباع حاجات هذا الفرد او ذاك، وانما هي ايجاد التوازن العادل بين حاجات الافراد كافة وتحديد علاقاتهم ضمن الإطار الذي يتيح لهم اشباع تلك الحاجات. ومن الواضح ان التجربة العلمية على هذا الفرد او ذاك، لا تسمح باكتشاف ذلك الاطار، ونوعية تلك العلاقات، وطريقة ايجاد ذلك التوازن.. وانما يكتشف ذلك خلال ممارسة المجتمع كله لنظام اجتماعي، اذ تتكشف خلال التجربة الاجتماعية مواطن الضعف والقوة في النظام، وبالتالي ما يجب اتباعه لإيجاد التوازن العادل المطلوب، الكفيل بسعادة المجموع.

اضف الى ذلك: ان بعض الحاجات أو المضاعفات لا يمكن اكتشافها في تجربة علمية واحدة، فخذ اليك مثلاً هذا: الشخص الذي يعتاد الزنا، فقد لا تجد في كيانه - بوصفه انساناً سعيداً - ما ينقصه أو يكدره، ولكنك قد تجد المجتمع الذي عاش - كما يعيش هذا الفرد - مرحلة كبيرة من عمره، وأباح لنفسه

٣٥

الانسياق مع شهوات الجنس.. قد تجده بعد فترة من تجربته الاجتماعية منهاراً، قد تصدع كيانه الروحي، وفقد شجاعته الادبية، وارادته الحرة وجذوته الفكرية.

فليست كل النتائج، التي لا بد من معرفتها لدى وضع النظام الاجتماعي الاصلح.. يمكن اكتشافها بتجربة علمية، نمارسها في المختبرات الطبيعية والفسلجية، او في المختبرات النفسية.. على هذا الفرد او ذاك وانما يتوقف اكتشافها على تجارب اجتماعية طويلة الأمد.

وبعد هذا استخدام التجربة العلمية الطبيعية، في مجال التنظيم الاجتماعي، يمنى بنفس النزعة الذاتية التي تهدد استخدامنا للتجارب الإجتماعية. فما دام للفرد مصالحه ومنافعه الخاصة التي قد تتفق مع الحقيقة التي تقررها التجربة وقد تختلف.. يظل ممكناً دائماً أن يتجه تفكيره اتجاهاً ذاتياً، ويفقد الموضوعية التي تتميز بها الافكار العلمية، في سائر المجالات الاخرى.

***

والآن وقد عرفنا مدى قدرة الإنسان على حل المشكلة الإجتماعية والجواب على السؤال الاساسي فيها.. نستعرض أهم المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامة اليوم ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي، على اختلاف مدى

٣٦

وجودها الإجتماعي في حياة الإنسان. وهي مذاهب اربعة:

١ - النظام الديمقراطي الرأسمالي.

٢ - النظام الاشتراكي.

٣ - النظام الشيوعي.

٤ - النظام الإسلامي.

والثلاثة الاولى من هذه المذاهب تمثل ثلاث وجهات نظر بشرية، في الجواب على السؤال الاساسي: ما هو النظام الاصلح؟. فهي أجوبة وضعها الإنسان على هذا السؤال، وفقاً لامكاناته وقدرته المحدودة التي تبينا مداها قبل لحظة.

وأما النظام الإسلامي فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعي، بوصفه ديناً قائماً على أساس الوحي ومعطى إلهياً، لا فكراً تجريبياً منبثقاً عن قدرة الإنسان وامكاناته.

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الانظمة الاربعة: فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الارض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اخرى. وكل من النظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً، يحميه في صراعه مع الآخر، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطالها في سبيل الحصول على قيادة العالم، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه.

وأما النظام الشيوعي والإسلامي، فوجودهما بالفعل فكري

٣٧

خالص. غير ان النظام الإسلامي، مر بتجربة من أروع تجارب النظم الاجتماعية وانجحها، ثمّ عصفت به العواصف بعد ان خلا الميدان من القادة المبدئيين او كاد، وبقيت التجربة في رحمة اناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوض الكيان الإسلامي، وبقي نظام الإسلام فكرة في ذهن الأمة الإسلامية وعقيدة في قلوب المسلمين، وأملاً يسعى الى تحقيقه ابناؤه المجاهدون.

واما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة حتى الآن تجربة كاملة، وانما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم الى تهيئة جو اجتماعي له بعد ان عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم، فأعلنت النظام الاشتراكي، وطبقته كخطوة الى الشيوعية الحقيقية.

فما هو موضعنا من هذه الانظمة؟

وما هي قضيتنا التي يجب ان ننذر حياتنا لها، ونقود السفينة الى شاطئها؟.

٣٨

٣٩

٤٠