المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75283
تحميل: 6096

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75283 / تحميل: 6096
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

الإشتراكيّة والشيُوعيّة

في الاشتراكية مذاهب متعددة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية، التي هي عبارة عن: فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبق الماديون الديالكتيكيون هذه المادية الديالكتيكية على التاريخ والاجتماع والاقتصاد، فصارت عقيدة فلسفية في شأن العالم، وطريقة لدرس التاريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد وخطة في السياسة. وبعبارة أخرى: انها تصوغ الإنسان كله في قالب خاص، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره الى الحياة وطريقته العلمية فيها. ولاريب في أن الفلسفة المادية، وكذلك الطريقة الديالكتيكية.. ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته، فقد كانت النزعة المادية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي، سافرة تارة ومتوارية اخرى وراء السفسطة والانكار المطلق، كما ان الطريقة الديالكتيكية في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني، وقد استكملت كل خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وانما جاء (كارل ماركس) الى هذا

٦١

المنطق وتلك الفلسفة فتبناها، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة فقام بتحقيقين:

أحدهما: أن فسر التاريخ تفسيراً مادياً خالصاً بطريقة ديالكتيكية.

والآخر: زعم فيه انه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل(١) .

وأشاد على أساس هذين التحقيقين ايمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، واقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي، الذي اعتبره خطوة للإنسانية الى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً.

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكل وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادية خالصة، منسجمة مع سائر الظواهر والاحوال المادية ومتأثرة بها، غير انه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، حق تتجمع المتناقضات وتحدث تبدلاً في ذلك الوضع وانشاءاً لوضع جديد.. وهكذا يبقى العراك قائماً حتى تكون الإنسانية كلها طبقة واحدة، وتتمثل مصالح كل فرد في مصالح تلك الطبقة الموحدة.. في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقق السلام

____________________

(١) شرحنا هذه النظريات مع دراسة علمية مفصلة في كتاب (اقتصادنا).

٦٢

وتزول نهائياً جميع الآثار السيئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي لأنها انما كانت تتولد من تعدد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدد انما نشأ من انقسام المجتمع الى منتج وأجير. واذاً فلابد من وضع حد فاصل لهذا الانقسام، وذلك بالغاء الملكية، وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية وذلك لان الاقتصاد الشيوعي يرتكز:

أولاً: على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاماً من المجتمع وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها الى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في ادارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق، انما كان رد الفعل الطبيعي لمضاعفات الملكية الخاصة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد برر هذا التأميم: بأن المقصود منه الغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ليختم بذلك الصراع ويسد على الفرد الطريق الى استغلال شتى الوسائل والاساليب لتضخيم ثروته، اشباعاً لجشعه واندفاعاً بدافع الاثرة وراء المصلحة الشخصية.

ثانيا: على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للافراد، ويتلخص في النص الآتي: «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته». وذلك ان كل فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع

٦٣

للمجتمع كل جهده فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته

ثالثاً: على مناج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفق فيه بين حاجة المجموع والانتاج في كميته وتنويعه وتحديده، لئلا يمنى المجتمع بنفس الادواء والازمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما اطلق الحريات بغير تحديد.

الانحراف عن العملية الشيوعية

ولكن أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام، لم يستطيعوا ان يطبقوه بخطوطه كلها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا انه لابد لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين: ان الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية، وتحيى فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ولا يندفع إلاّ في سبيلها.

ولأجل ذلك كان من الضروري - في عرف هذا المذهب الاجتماعي - إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك، ليتخلص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدة للنظام الشيوعي. وهذا النظام الاشتراكي أجريت فيه تعديلات مهمة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية. فالخط الأول من

٦٤

خطوط الاقتصاد الشيوعي، وهو الغاء الملكية الفردية، قد بدل الى حل وسط وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أخرى الغاء رأس المال الكبير مع اطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للافراد، وذلك لأن الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا اليه، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لأن المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم كما ان المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديداً لأكثر من ذلك؟ فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه، هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟! ولماذا يندفع الى توفير السعادة لغيره، وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة إلاّ القيمة المادية الخالصة؟؟!، فاضطر زعماء هذا المذهب الى تجميد التأميم المطلق. كما اضطروا أيضاً إلى تعديل الخط الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً: وذلك بجعل فوارق بين الأجور، لدفع العمال الى النشاط والتكامل في العمل، معتذرين بأنها فوارق موقتة سوف تزول حينما يقضي على العقلية الرأسمالية، وينشأ الإنسان إنشاءا جديداً. وهم

٦٥

لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية، لتدارك فشل كل طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفقوا حتى الآن للتخلص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي. فلم تلغ مثلاً القروض الربوية نهائياً، مع انها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.

ولا يعني هذا كله. ان أولئك الزعماء مقصرون، أو أنهم غير جادين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم.. وانما يعني انهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات، التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للاصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشرون به ففرض عليهم الواقع التراجع آملين أن تتحقق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.

واما من الناحية السياسية: فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل الى محو الدولة من المجتمع، حين تتحقق المعجزة وتعم العقلية الجماعية كل البشر، فلا يفكر الجميع إلاّ في المصلحة المادية للمجموع وأما قبل ذلك مادامت المعجزة غير محققة، وما دام البشر غير موحدين في طبقة، والمجتمع ينقسم الى قوى رأسمالية وعمالية.. فاللازم أن يكون الحكم عمالياً خالصاً، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال، ودكتاتوري بالنسبة الى العموم. وقد عللوا ذلك: بأن الدكتاتورية العمالية في الحكم

٦٦

ضرورية في كل المراحل، التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية وذلك حماية لمصالح الطبقة العاملة، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ومنعاً لها عن البروز الى الميدان من جديد.

والواقع ان هذا المذهب، الذي يتمثل في الاشتراكية الماركسية ثمّ في الشيوعية الماركسية. يمتاز عن النظام الديمقراطي الرأسمالي: بأنه يرتكز على فلسفة مادية معينة، تنبنى فهماً خاصاً للحياة، لا يعترف لها بجميع المثل والقيم المعنوية ويعللها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية، فانها وان كانت نظاماً مادياً، ولكنها لم تبن على أساس فلسفي محدد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية، آمنت به الشيوعية المادية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية، أو لم تحاول ايضاحه.

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركز عليها وانبثق عنها، فان الحكم على كل نظام يتوقف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وادراكها.

ومن السهل ان ندرك في أول نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفف او الكامل: ان طابعه العام هو افناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها. فهو

٦٧

على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحر الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخره لمصالحه. فكأنه قد قدّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية - في عرف هذين النظامين - ان تتصادما وتتصارعا، فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين، الذي أقام تشريعه على اساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوه الحياة في جميع شعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فأصيب الافراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.

المؤاخذات على الشيوعية

والواقع ان النظام الشيوعي وان عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرة، بمحوه للملكية الفردية؛ غير أن هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والاساليب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كله، لانه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها

٦٨

الشر حتى اكتسح العالم في ظل الانظمة الرأسمالية، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الأجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحل الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبب أدواءها ويستأصل أعراضها الخبيثة.

أما مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جداً: فإن من شأنه القضاء على حريات الافراد، لاقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة. وذلك لان هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامة، الى حد الآن على الاقل كما يعترف بذلك زعماؤه - باعتبار ان الإنسان المادي لا يزال يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الافراد نهائياً، ويقضي على الدوافع الذاتية قضاء تاماً.. موضع التنفيذ، يتطلب قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامة نطاقاً لا يجوز أن تتعداه بحال وتعاقب على التهمة والظنة، لئلا يفلت الزمام من يدها فجأة.

وهذا أمر طبيعي في كل نظام يراد فرضه على الامة، قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعم روحيته.

نعم لو أخذ الإنسان المادي يفكر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل

٦٩

مصالحه بعقلية جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصة والاهواء الذاتية والانبعاثات النفسية.. لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الافراد، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادي، الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها إلاّ اللذة المادية يحتاج الى معجزة تخلق الجنة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيون يعدوننا بهذه الجنة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الإنسان، ويخلقه من جديد انساناً مثالياً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرة من القيم المثالية والاخلاقية. ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام. وأما الآن، فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكل أسلوب من الأساليب. والفرد في ظل هذا النظام وان كسب تأميناً كاملاً، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته، لأن الثروة الجماعية تمده بكل ذلك في وقت الحاجة.. ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة، ويضطر إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟!.

٧٠

وكيف يمكن أن يطمع بالحرية - في ميدان من الميادين - انسان حرم من الحرية في معيشته. وربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينة، مع أن الحرية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحريات جميعاً.

ويعتذرعن ذلك المعتذرون فيتساءلون. ماذا يصنع الإنسان بالحرية والاستمتاع بحق النقد والاعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عبء اجتماعي فظيع؟!. وماذا يجديه أن يناقش ويعترض وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه الى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرية؟!.

وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية، كأنها القضية الإجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها، لأنهم رأوا فيها خطراً على التيار الإجتماعي العام.. ولكن من حق الإنسانية أن لا تضحي بشيء من مقوماتها وحقوقها، ما دامت غير مضطرة إلى ذلك، وأنها إنما تقف موقف التخيير: بين كرامة هي من الحق المعنوي للإنسانية، وبين حاجة هي من الحق المادي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ويوفق الى حل المشكلتين.

ان إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة وأجر عادل وتأمين في أوقات الحاجة.. لهو إنسان قد

٧١

حرم من التمتع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة كما أن إنساناً يعيش مهدداً في كل لحظة، محاسباً على كل حركة معرضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة.. لهو إنسان مروع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغص الرعب عليه ملاذ الحياة.

والإنسان الثالث: المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟.

وقد قلنا: أن العلاج الشيوعي للمشكلة الإجتماعية ناقص مضافا إلى ما أشرنا اليه من مضاعفات. فهو: وان كان تتمثل فيه عواطف ومشاعر إنسانية، آثارها الطغيان الإجتماعي العام فأهاب بجملة من المفكرين إلى الحل الجديد، غير أنهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنما قضوا على شيء آخر فلم يوفقوا في العلاج ولم ينجحوا في التطبيب.

ان مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الاجير وجهوده بلا حساب ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من

٧٢

منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه الى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا انتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه الى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الاسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح اسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعفت كرامتها وحريتها...

كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وانما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع. فان من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة، فلو ابدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة، تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.

٧٣

٧٤

٧٥

٧٦

الإسلام والمشكلة الاجتماعية

التعليل الصحيح للمشكلة:

ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية علينا أن نتساءل: عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي، مقياساً ومبرراً وهدفاً وغاية نتساءل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟. فإن تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي، وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته، وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة، فقد وضعنا حداً فاصلاً لكل المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة، ووفقنا الى استثمار الملكية الخاصة لخير الإنسانية ورقيها، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.

فما هي تلك الفكرة؟.

ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فإن

٧٧

كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة، وآمن أيضاً بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وانه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذة التي توفرها له المادة.. وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ اساليبهم كاملة ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.

وحب الذات هو: الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الإنسان ذاته - الذي يعني حبه للذة والسعاة لنفسه، وبغضه للالم والشقاء لذاته - هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار، اذا وجد أن تحمل ألم الموت اسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.

فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو: حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختاراً مرارة الالم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلاّ اذا سلبت منه انسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الالم.

٧٨

وحتى الالوان الرائعة من الايثار، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة ايضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية: (غريزة حب الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم.. ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه، او تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.

وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الإنسان بصورة عامة، في مجالات الانانية والايثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتعة الجنسية وما اليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي او عقيدة معينة، حين يجد الإنسان ان تلك القيم او ذلك الاليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهيئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليتها.. باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد ان ألواناً

٧٩

اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها. وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انساناً الى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع انساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه الى الايثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.

فمتى أردنا ان نغير من سلوك الإنسان شيئاً، يجب ان نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.

فاذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة: عن طاقه مادية محدودة وكانت اللذة عبارة: عما تهيئه المادة من متع ومسرات.. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأن مجال كسبه محدود، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال، الذي يفتح امام الإنسان السبيل الى تحقيق كل

٨٠