المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية0%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 200
المشاهدات: 75197
تحميل: 6081

توضيحات:

المدرسة الاسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75197 / تحميل: 6081
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

أغراضه وشهواته.

هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية، الذي يؤدي إلى عقلية رأسمالية كاملة.

أفترى أن المشكلة تحل حلاً حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكرون؟!. وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟!، مع ان ضمان سعادته واستقراره يتوقف الى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الاصلاحية، في ميدان العمل والتنفيذ. والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة، عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وانما الفرق أن هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد، بين خسارة وألم يتحملهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم، فماذا تقدر للامة وحقوقها، وللمذهب وأهدافه، من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة، التي تمر على الحاكمين؟!. والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي أفترضناه، بالغاء مبدأ الملكية الخاصة، بل هي

٨١

تتمثل في أساليب وتتلون بألوان شتى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين والتوائهم على ما يتبنون من أهداف.

ان الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق، والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية.. تسلم - عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصة - الى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.

فالخطر على الإنسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية وما ينبثق عنها من مقاييس للاهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية - الصغيرة أو الكبيرة - في ثروة كبرى يسلم امرها للدولة، من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية.. لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الأمة جميعاً عمال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.

نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية. في أن

٨٢

أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فهم لايملكون شيئاً من ذلك، في مفروض النظام، غير أن ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادي للحياة - الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرراً - لا يزال قائماً.

كيف تعالج المشكلة

والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر، وإقامة دعائم المجتمع المستقر:

أحدهما: أن يبدل الإنسان غير الإنسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة، ومكاسب حياته المادية المحدودة.. في سبيل المجتمع ومصالحه، مع ايمانه بأنه لا قيم إلا قيم تلك المصالح المادية، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنما يتم إذا انتزع من صميم طبيعته حب الذات، وأبدل بحب الجماعة، فيولد الإنسان وهو لا يحب ذاته، إلاّ باعتبار كونه جزءاً من المجتمع، ولا يلتذ لسعادته ومصالحه، إلاّ بما انها تمثل جانباً من السعادة العامة ومصلحة المجموع. فان غريزة حب الجماعة تكون ضامنة حينئذ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلباتها، بطريقة ميكانيكية واسلوب آلي.

والسبيل الآخر، الذي يمكن للعالم سلوكه لدرء الخطر عن

٨٣

حاضر الإنسانية ومستقبلها هو: أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها وما ييسها وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق.

والسبيل الأول هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها، ويعدون العالم بأنهم سوف ينشؤونها انشاءاً جديداً، يجعلها تتحرك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل أن يتم هذا العمل الجبار، يجب أن نوكل قيادة العالم اليهم، كما يوكل أمر المريض إلى الجراح، ويفوض اليه تطبيقه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوج منها. ولا يعلم أحد كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جراح. وإن استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي الذي خدعها بالحريات المزعومة، وسلب منها أخيراً كرامتها وامتص دماءها، ليقدمها شراباً سائغاً للفئة المدللة التي يمثلها الحاكمون.

والفكرة في هذا الرأي، القائل: بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وانشائها من جديد.. ترتكز على مفهوم الماركسية عن حب الذات. فان الماركسية تعتقد: ان حب الذات ليس ميلا طبيعياً وظاهرة غريزة في كيان الإنسان، وانما هو نتيجة للوضع الإجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية، فإن

٨٤

الحالة الإجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكون المحتوى الروحي والداخلي للإنسان، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فاذا حدثت ثورة في الأسس التي يقوم عليها الكيان الإجتماعي وحلت الملكية الجماعية والإشتراكية محل الملكية الخاصة.. فسوف تنعكس الثورة في كل أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية الى مشاعر جماعية، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعه الخاصة الى حب لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق: بين حالة الملكية الإسلاسية ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.

والواقع أن هذا المفهوم الماركسي لحب الذات، يقدر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حب الذات)، وبين الأوضاع الإجتماعية بشكل مقلوب. وإلاّ فكيف نستطيع أن نؤمن: بأن الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصة، والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟!. فان الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين، ما دام لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!. فالحقيقة أن المظاهر الإجتماعية للانانية في الحقل الإقتصادي والسياسي.. لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتي، لغريزة حب الذات. فهذا

٨٥

الدافع أعمق منها في كيان الإنسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بازالة تلك الآثار، فان عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنها معها في الجوهر والحقيقة.

أضف إلى ذلك: أنا لو فسرنا الدافع الذاتي: (غريزة حب الذات) تفسيراً موضوعياً، بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الإجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصة - كما صنعت الماركسية. فلا يعني هذا أن الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الإجتماعي، بإزالة الملكية الخاصة لأنها وان كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنها ليست هي الوحيدة من نوعها - فهناك - مثلاً - ظاهرة الادارة الخاصة التي يحتفظ بها حتى النظام الإشتراكي. فان النظام الاشتراكي وان كان يلغي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، غير أنه لا يلغي إدارتها الخاصة من قبل هيئات الجهاز الحاكم، الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ويحتكر الاشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها. إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية إشتراكية، من قبل أفراد المجتمع كافة. فالنظام الإشتراكي يحتفظ إذن بظواهر فردية بارزة ومن الطبيعي لهذه الظواهرالفردية أن تحافظ على الدافع الذاتي وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع

٨٦

ظاهرة الملكية الخاصة.

وهكذا نعرف قيمة السبيل الاول لحل المشكلة: السبيل الشيوعي الذي يعتبر الغاء تشريع الملكية الخاصة ومحورها من سجل القانون.. كفيلاً وحده بحل المشكلة وتطوير الإنسان.

واما السبيل الثاني - الذي مر بنا - فهو الذي سلكه الإسلام، ايماناً منه بأن الحل الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر الى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله، وانما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية، وما اليه من أنظمة.. فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية. فان نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء والوان المآسي.. هي النظرة المادية الى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في: افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط.

إن الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار

٨٧

والفشل المحقق في نظر الإسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها، لان الإسلام يختلف في طريقته المنطقية، واقتصاده السياسي، وفلسفته الاجتماعية.. عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية - كما اوضحنا ذلك في كتابي: «فلسفتنا» و«اقتصادنا» - ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي، خال من تلك التناقضات المزعومة.

بل مراد الفشل والوضع الفاجع، الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام.. الى مفاهيمها المادية الخالصة، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها.

فلابد إذن من معين آخر - غير المفاهيم المادية عن الكون - يستقي منه النظام الاجتماعي، ولا بد من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى، ويسعى الى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم، واكتساحه لكل وعي سياسي آخر، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية.. يمكن ان يدخل العالم في حياة جديدة، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.

ان هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي

٨٨

في العالم، وأن هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدت نظامها الاجتماعي - المختلف عن كل ما عرضناه من أنظمة - من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.

وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان الى حياته. فجعله يؤمن: بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وانها اعداد للإنسان الى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً خلقياً جديداً في كل خطواته وأدواره، وهو: رضا الله تعالى. فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، وكل ما يؤدي الى خسارة شخصية فهو محرم غير مستساغ.. بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو الرضا الإلهي والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال انما هو مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس والإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يحقق هذا الهدف، والشخصية الإسلامية الكاملة هي الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدى هذا الهدف، وضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العام.

وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخلقية وموازينه وأغراضه.. يعني تغيير الطبيعة الإنسانية، وانشاءها انشاءاً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية. فحب الذات -: أي حب الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة - طبيعي في الإنسان، ولا نعرف استقراءاً في ميدان تجريبي، أوضح من

٨٩

استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يبرهن على ذاتية حب الذات. بل لو لم يكن حب الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول قبل كل تكوينة اجتماعية - الى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين، تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار، ولما كان حب الذات يحتل هذا الموضع من طبيعة الإنسان. فأي علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب ان يقوم على اساس الإيمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلب عليها، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان.

رسالة الدين

ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا ان تحقق أهدافها البناءة واغراضها الرشيدة إلاّ على اسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحب الذات المرتكزة في فطرته.

وفي تعبير آخر: ان الدين يوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.

٩٠

إن المقياس الفطري يتطلب من الإنسان: أن يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.

فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين، لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟.

إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة، وتتخذ العملية اسلوبين:

الاسلوب الاول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدمة تمهيدية إلى حياة اخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي - أو رضا الله تعالى -: يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان الى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه، التي تحقق رضا الله تعالى، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه باعظم العوض واجله.

٩١

فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة، فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلاّ إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الإسلام، فانه يوسع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق الى مصالحه ومنافعه ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الارباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:

«من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها». «ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مءؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب». «يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخصمة في سبيل الله ولا يطؤن موطناً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا.. إلاّ كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً.. إلاّ كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون».

هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالاً على الأسلوب

٩٢

الأول، الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن: بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية - التي يحددها الإسلام - مترابطتان(١) .

وأما الاسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الإجتماعية: فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، تعني بتغذية الإنسان روحياً، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه. فان في طبيعة الإنسان - كما ألمعنا سابقاً - طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان - إذا ترك لنفسه - أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله. فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على

____________________

(١) انظر اقتصادنا ص ٣٠٧.

٩٣

احترامها ويستبسل في سبيلها ويزيح عن طريقها ما يقف امامها من مصالحه ومنافعه وليس معنى ذلك أن حب الذات يمحى من الطبيعة الإنسانية بل أن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة الخاصة بذلك.

فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية، ويتلخص أحدهما في: اعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل.. بل لاجل ضبط الإنسان بالمقياس الخلقي الصحيح، الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.

ويتلخص الآخر في: التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف، التي تضمن إجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.

فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام.. هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.

ولنعبر دائماً عن فهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية: بالفهم المعنوي للحياة ولنعبر أيضاً عن المشاعر والاحاسيس، التي

٩٤

تغذيها التربية الخلقية: بالاحساس الخلقي بالحياة.

فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد، الذي يضعه الإسلام للإنسانية وهو: رضا الله تعالى. ورضا الله - هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة - هو الذي يقود السفينة البشرية الى ساحل الحق والخير والعدالة.

فالميزة الاساسية للنظام الإسلامي تتمثل: فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر اليه الدولة وتشرع لحسابه.

وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والاحساس فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات واشد الأخطار. وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائماً للانتكاس على يد منشئيه ما دام هؤلاء يحملون نزعات فردية أيضاً، وما دامت هذه النزعات تجد لها - بكبت النزعات الفردية الاخرى وتسلم

٩٥

القيادة الحاسمة - مجالاً واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال.

وكل فهم معنوي للحياة احساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والاحساس والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما.. أقول: أن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجو وتخفيفاً من الويلات وليست علاجاً محدوداً وقضاء حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه. وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ينبثق عنهما نظام يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم.

وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها: فهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هدفاً، اعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه.

واما ان يقضي على الفهم المعنوي للحياة، ويجرد الإنسان عن احساسه الخلقي بها، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادية، والعامل الاقتصادي هو الخلاق لكل القيم والمعنويات وترجى بعد ذلك سعادة للإنسانية، واستقرار اجتماعي لها، فهذا الرجاء الذي لا يتحقق إلاّ اذا تبدل البشر

٩٦

الى أجهزة ميكانيكية يقوم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.

وليست اقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها عملاً شاقاً وعسيراً، فان الاديان في تاريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خلقية، ومشاعر وعواطف نبيلة.. تعليل أوضح واكثر منطقية من تعليل ركائزها واسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الاديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.

وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور، بعد ان بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية انسانية وأقام دولة فكرية، أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: احداهما : تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والاخرى: مراقبته من خارج وارجاعه الى القاعدة الفكرية اذا انحرف عنها عملياً.

ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية

٩٧

من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو: الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.

وكل وعي سياسي آخر فهو اما ان يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر الى العالم إلاّ من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة.. أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.

٩٨

٩٩

١٠٠