الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 60194
تحميل: 7532

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60194 / تحميل: 7532
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكذلك حين يقال : إنّ الاقتصاد الإسلامي ، مذهب اقتصادي ، وليس عِلماً للاقتصاد ، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورةٍ عامّة ، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الاقتصادية وطبيعة تكوّنها ، والفوارق بين المذهب الاقتصادي ، وعِلم الاقتصاد لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك ، هوية الاقتصاد الإسلامي ، وكونه مذهباً اقتصادياً ، لا عِلماً للاقتصاد .

وفي عقيدتي ، أنّ إيضاح هوية الاقتصاد الإسلامي - على أساس التمييز الكامل ، بين المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد ، وإدراك أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهب ، وليس عِلماً - أنّ هذا الإيضاح ، سوف يساعدنا كثيراً ، على إثبات الدعوى - أي إثبات وجود اقتصادٍ في الإسلام - وينقض المبرّرات التي يستند إليها جماعة ممّن يُنكرون وجود الاقتصاد في الإسلام ، ويستغربون مِن القول بوجوده .

وعلى هذا الأساس ، سوف نقوم بدراسةٍ للمذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد ، بصورةٍ عامّة ، وللفوارق بينهما .

المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد :

كلّ إنسانٍ منّا يواجه لَونين مِن السؤال في حياته الاعتيادية ، ويدرك الفرْق بينهما فحين نريد أن نسأل الأب عن سلوك ابنه مثلاً ، قد نسأله : كيف ينبغي أن يسلك ابنك في الحياة ؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟ .

وحين نوجّه السؤال الأوّل إلي الأب ، ونقول له كيف ينبغي أنْ يسلك ابنك في الحياة ؟ يستوحي الأب جوابه ، مِن القيَم والمُثُل والأهداف ، التي يقدّسها ، ويتبنّاها في الحياة ، فيقول مثلاً : ينبغي أن يكون ولَدي شجاعاً جريئاً طموحاً ، أو يقول ينبغي أن يكون مؤمناً بربِّه ، واثقاً مِن نفْسه ، مضحّياً في سبيل الخير والعقيدة .

١٠١

وأمّا حين نوجّه السؤال الثاني للأب ، ونقول له : كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟ فهو لا يرجع إلى قيَمه ومُثُله ؛ ليستوحي منها الجواب ، وإنّما يجيب على هذا السؤال ، في ضوء اطّلاعاته عن سلوك ابنه ، وملاحظاته المتعاقبة له ، فقد يقول : هو فعلاً مؤمن واثق شجاع وقد يقول : إنّه يسلك سلوكاً متميّعاً ، ويتاجر بإيمانه ، ويجبُن عن مواجهة مشاكل الحياة .

فالأب يستمدّ جوابه على السؤال الأوّل مِن قيَمه ومُثُله ، التي يؤمن بها ، ويستمدّ جوابه على السؤال الثاني ، مِن ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة .

ويمكننا أنْ نستخدم هذا المثال ؛ لتوضيح الفرْق بين المذهب الاقتصادي ، وعِلم الاقتصاد فإنّنا في الحياة الاقتصادية ، نواجه سؤالين متميّزَين ، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه ، فتارة نسأل : كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الاقتصادية ؟ وأخرى نسأل : كيف تجري الأحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية .

والمذهب الاقتصادي ، يعالج السؤال الأوّل ، ويجيب عليه ويستلهم جوابه مِن القيَم والمُثُل التي يؤمن بها ، وتصوّراته عن العدالة ، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأوّل ، مِن قيَمه ومُثُله .

وعِلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني ، ويجيب عليه ، ويستلهم جوابه مِن الملاحظة والتجربة فكما كان الأب يجيب على السؤال الثاني ، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه ، وتجربته له ، كذلك عِلم الاقتصاد ، يشرح حركة الأحداث في الحياة الاقتصادية ، على ضوء الملاحظة والخبرة .

وهكذا نعرف ، أنّ عِلم الاقتصاد ، يمارس عملية الاكتشاف لِما يقع في الحياة الاقتصادية مِن ظواهر اجتماعية وطبيعية ، ويتحدّث عن أسبابها وروابطها ، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ، ويحدّد كيف ينبغي أن تكون ، وفْقاً لتصوّراته عن العدالة ، وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها ؟ .

١٠٢

العِلم يكتشف ، والمذهب يقيِّم .

العِلم يتحدّث عمّا هو كائن ، وأسباب تكوّنه ، والمذهب يتحدّث عمّا ينبغي أن يكون ، وما لا ينبغي أن يكون .

ولنبدأ بالأمثلة ، للتمييز بين وظيفة العِلم ، ومهمّة المذهب بين الاكتشاف والتقييم .

المثال الأوّل : ولنأخذ هذا المثال : مِن ارتباط الثمن في السوق ، بكمّية الطلَب ، فكلّنا نعلم مِن حياتنا الاعتيادية ، أنّ السلعة إذا كثُر عليها الطلَب ، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور ، ارتفع ثمنها فكتاب نؤلّفه في الرياضيات ، قد يباع بربُع دينار ، فإذا قرّرت المعارف تدريسه ، وأدّى ذلك إلى كثرة الطلب عليه مِن التلاميذ ، ارتفع ثمنه في السوق ، تبَعاً لزيادة الطلب وهكذا سائر السلع ، فإنّ ثمنها ، يرتبط بكمّية الطلب عليها في السوق ، فكلّما زاد الطلب ارتفع الثمن .

وارتباط الثمن هذا بالطلب ، يتناوله العِلم والمذهب معاً ، ولكن كلاًّ منهما يعالجه مِن زاويته الخاصّة .

فعِلم الاقتصاد يَدرسه ، بوَصفه ظاهرة تتكوّن وتوجد في السوق الحرّة ، التي لمْ يفرض عليها أثمان السلع مِن جهةٍ عُليا كالحكومة ويشرح كيفية تكوّن هذه الظاهرة ، نتيجةً لحرّية السوق ، ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن ، وكمّية الطلب .

ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن ، والزيادة النسبية في الطلب ، فهل يتضاعف الثمن ، إذا تضاعف الطلب ، أو يزداد بدرجةٍ أقلّ .

ويشرح ما إذا كان ارتباط الثمن بكمّية الطلب ، بدرجةٍ واحدةٍ في جميع السلع ، أو أنّ بعض السلع ، يؤثّر عليها ازدياد طلبها ، على ارتفاع ثمنها أكثر ، ممّا يؤثّره في سلَعٍ أخرى .

١٠٣

كلّ هذا يَدْرسه العِلم ؛ لاكتشاف جميع الحقائق التي تتّصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب ، وشرح ما يجري في السوق الحرّة ، وما ينجم عن حرّيته ، شرحاً عِلمياً ، قائماً على أساليب البحث العِلمي والملاحظة المنظّمة .

والعِلم في ذلك كلّه ، لا يضيف منه شيئاً إلى الواقع ، وإنّما هدفه الأساسي ، تكوّن فكرة دقيقة عمّا يجري في الواقع ، وما ينجم عن السوق الحرّة مِن ظواهر ، وما بين تلك الظواهر مِن روابط ، وصياغة القوانين التي تعبّر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي ، بمنتهى الدقّة الممكنة .

وأمّا المذهب الاقتصادي : فهو لا يدرس السوق الحرّة ؛ ليكتشف نتائج هذه الحرّية ، وأثَرها على الثمن ، وكيف يرتبط الثمن بكمّية الطلب في السوق الحرّة ، ولا يلقي على نفْسه سؤال : لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرّة ، إذا زاد الطلب عليها ؟ .

إنّ المذهب لا يصنع شيئاً مِن ذلك ، وليس مِن حقّه هذا ؛ لأنّ اكتشاف النتائج والأسباب ، وصياغة الواقع في قوانين عامّةٍ تعكسه وتصوّره ، مِن حقّ العِلم ، بما يملك مِن وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج .

وإنّما يتناول المذهب ، حرّية السوق ، ليُقيِّم هذه الحرّية ، ويقيِّم ما تُسفر عنه مِن نتائج ، وما تؤدّي إليه مِن ربْط الثمن بكمّية الطلب الذي يغزو السوق .

ونعني بتقييم الحرّية ، وتقييم نتائجها ، الحُكم عليها مِن وجْهة نظر المذهب إلى العدالة فإنّ كلّ مذهبٍ اقتصاديٍّ ، له تصوّراته العامّة عن العدالة ويرتكز تقييمه لأيّ منهجٍ مِن مناهج الحياة الاقتصادية ، على أساس القدَر الذي يجسّده ذلك المنهج مِن العدالة ، وفْقاً لتصوّر المذهب لها .

فحرّية السوق ، إذا بُحثت على الصعيد المذهبي ، فلا تُبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع ، لها نتائجها ، وقوانينها العِلمية ، بل بوَصفها منهجاً اقتصادياً ، يراد اختبار مدى توفّر العدالة فيه .

١٠٤

فالسؤال القائل : ما هي نتائج السوق الحرّة ، وكيف يرتبط الثمن بكمّية الطلب فيها ، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخَر يجيب عليه عِلم الاقتصاد .

والسؤال القائل : كيف ينبغي أن تكون السوق ، وهل أنّ حرّيتها كفيلة بتوزيع السلَع توزيعاً عادلاً ، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الاجتماعية ؟ إنّ هذا السؤال ، هو الذي يجيب عليه المذهب الاقتصادي .

وعلى هذا الأساس ، فمِن الخطأ أن نترقّب مِن أيّ مذهبٍ اقتصاديٍّ ، أن يشرح لنا ، مدى ارتباط الثمن ، بكمّية الطلب في السوق الحرّة ، وقوانين العَرْض والطلب ، التي يتحدّث عنها علماء الاقتصاد ، في دراستهم لطبيعة السوق الحرّة .

المثال الثاني : مِن رأي ريكاردو ، أنّ أُجور العمّال ، إذا كانت حرّة وغير محدودة مِن جهةٍ عُليا - كالحكومة - تحديداً رسمياً ، فلا تزيد عن القدَر الذي يُتيح للعامل معيشة الكفاف ولو زادت أحياناً عن هذا القدَر ، كان ذلك شيئاً موقّتاً ، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرّةً أخرى .

ويقول ريكاردو في تفسير ذلك : إنّ أُجور العمّال ، إذا زادت عن الحدّ الأدنى مِن المعيشة ، أدّى ذلك إلى ازديادهم ؛ نتيجةً لتحسّن أوضاعهم ، وإقبالهم على الزواج والإنجاب وما دام عمل العامل سلعةً في سوقٍ حرّة ، لمْ تحدّد فيها الأُجور والأثمان ، فهو يخضع لقانون العَرْض والطلب ، فإذا ازداد العمّال ، وكثُر عَرْض العمل في السوق انخفضت الأجور .

وهكذا ، كلّما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف ، وجدت العوامل التي تحتّم انخفاضها مِن جديد ، ورجوعها إلى حدّها المحتوم كما أنّها إذا نقصت عن هذا الحدّ ؛ نتج عن ذلك ازدياد بؤس العمّال ، وشيوع المرض والموت فيهم ، حتّى ينقص عددهم ، وإذا نقص عددهم ارتفعت الأجور ، ورجعت إلى مستوى الكفاف ؛ لأنّ كلّ سلعةٍ إذا نقصت كمّيتها وقلَّت ، ارتفع ثمنها في السوق الحرّة .

١٠٥

وهذا ما يطلق عليه ريكاردو اسم ( القانون الحديدي للأجور ) .

وريكاردو في هذا القانون ، إنّما يتحدّث عمّا يجري في الواقع ، إذا توفّرت السوق الحرّة للإجراء ويكتشف المستوى الثابت للأجور ، في كنَف هذه السوق ، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخّل في تثبيت هذا المستوى ، والحفاظ عليه ، كلّما تعرّض الأجر لارتفاعٍ أو هبوط استثنائيّين .

فريكاردو ، إنّما يجيب في هذا القانون على سؤال : ماذا يجري في الواقع ؟ لا عمّا ينبغي أنْ يجري ، ولأجل هذا كان بحثه في نطاق عِلم الاقتصاد ؛ لأنّه بحثٌ يستهدف اكتشاف ما يجري مِن أحداث ، وما تتحكّم فيها مِن قوانين .

والمذهب الاقتصادي ، حين يتناول أجور العمّال ، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرّة وإنّما يوجِد طريقةً لتنظيمها ، تتّفق مع مفاهيم العدالة عنده فهو يتحدّث عن الأساس الذي ينبغي أنْ تنظّم بموجبه الأجور ، ويبحث عمّا إذا كان مبدأ الحرّية الاقتصادية ، يصلح أن يكون أساساً لتنظيم الأجور ، مِن وجْهة نظَره عن العدالة أوّلاً .

وهكذا لا نرى ، أنّ المذهب الإقتصادي يحدّد كيف ينبغي أن تنظّم السوق ، مِن وجْهة نظَره إلى العدالة هل تنظّم على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ، أو على أساسٍ آخَر ؟ وعِلم الاقتصاد يدرس السوق المنظّمة ، على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية - مثلاً - ليتعرّف على ما يحدث في السوق المنظّمة ، وفقاً لهذا المبدأ مِن أحداث ، وكيف تحدّد فيها أثمان السلَع وأجور العمّال ، وكيف ترتفع وتنخفض .

وهذا معنى قولنا : إنّ العِلم يكتشف ، والمذهب يُقيِّم ويقدّر .

المثال الثالث : ولنأخذ المثال الثالث مِن الإنتاج ، ولنحدّد الزاوية التي منها يدرس عِلم الاقتصاد الإنتاج ، والزاوية التي منها يدرس الإنتاج في المذهب الاقتصادي ونتبيّن الفارق بين الزاويتين .

١٠٦

فعِلم الاقتصاد ، يدرس مِن الإنتاج الوسائل العامّة ، التي تؤدّي إلى تنمية الإنتاج ، كتقسيم العمل ، والتخصّص ، فيقارن مثلاً ، بين مشروعين لإنتاج الساعات ، يشتمل كلّ منهما على عشرة عمّال ، يكلّف كلّ عامل في أحد المشروعين ، بإنتاج ساعةٍ كاملة.

وأمّا في المشروع الآخَر ، فيقسّم العمل ، ويوكَل إلى كلّ عاملٍ نوعٌ واحدٌ مِن العمليات ، التي يتطلّبها إنتاج الساعة فهو يكرّر هذا النوع الواحد مِن العملية باستمرارٍ ، دون أنْ يمارس العمليات الأخرى ، التي تمرّ بها الساعة خلال إنتاجها .

إنّ البحث العِلمي في الاقتصاد ، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين ، وأثَر كلٍّ منهما على الإنتاج ، وعلى العامـل .

وهكذا يدرس عِلم الاقتصاد أيضاً ، كلّ ما يرتبط بالإنتاج الاقتصادي مِن قوانينَ طبيعية ، كقانون تناقص العِلّة في الإنتاج الزراعي القائل : إنّ نسبة زيادة الإنتاج الزراعي مِن الأرض تقلّ عن نسبة زيادة النفقات(١) .

_________________

(١) بمعني أنّ الشخص الذي يُنفق مئة دينار ، على استثمار أرضه ، ويحصل منها على عشرين أردباً مِن القمح لو أراد أنْ يضاعف النفَقـات ، فأنفَق على الأرض مئتين ، بدلاً مِن مئة دينار ، لمْ يحصل على ضِعف الناتج السابق أي أنّه لا يظفر بأربعين أردباً مِن القمح ، بل يحصل على أقلّ مِن الضِعف ولو أنفق ثلاثمئة ، لمْ يحصل على ثلاثة أضعاف مِن القمح ، بل على زيادةٍ أقلّ نسبياً مِن الزيادة التي يحصل عليـها ، بإنفاق مئتين وهكذا تظَلّ الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات ، تتناقض نسبياً ، حتّى تنعدم نهائياً ، ويعود الإنفاق عبَثاً باطلاً.

وسبب هذا : أنّ الأرض نفْسها ، هي عامل أساسي في الإنتاج ، فمضاعفة النفَقات ، لا تكفي لمضاعفة الإنتاج ، ما دامت كمّية العامل الأساسي في الإنتاج - أي الأرض - ثابتة لمْ تضاعَف .

١٠٧

كلّ هذا يدرسه عِلم الاقتصاد ؛ لأنّه يعبّر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي ، كما تجري ، ويحدّد العوامل التي تؤثّر بطبيعتها على الإنتاج ، تأثيراً موافقاً أو معاكساً .

وأمّا المذهب ، فهو يبحث الأمور التالية :

هل ينبغي أنْ يبقى الإنتاج حرّاً ، أو يجب إخضاعه لتخطيطٍ مركزيٍّ مِن قِبَل الدولة ؟

هل ينبغي اعتبار تنمية الإنتاج هدفاً أصيلاً ، أو وسيلةً لهدفٍ أعلى ؟

وإذا كانت تنمية الإنتاج وسيلةً لهدفٍ أعلى ، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى ، على هذه الوسيلة ؟ .

وهل يجب أنْ تكون سياسة الإنتاج أساساً لتنظيم التوزيع ، أو العكس ؟ بمعنى : أنّ أيّهما يجب أن ينظّم لمصلحة الآخَر ؟ فهل ننظّم توزيع الثروة بالشكل الذي يوفّر الإنتاج ، ويساعد على تنميته ، فتكون مصلحة الإنتاج ، أساساً للتوزيع (فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج ، تشريع الفائدة على القروض التجارية ، لجذب رؤوس الأموال ، إلى مجال الإنتاج اتُّخذت الإجراءات بهذا الشأن ، ونُظّم التوزيع على أساس الاعتراف بحقّ رأس المال في الفائدة ).

أو تنظّم توزيع الثروة ، وِفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية ، ونحدّد تنمية الإنتاج ، بالمناهج والوسائل التي تتّفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية ؟ .

كلّ هذا يدخل في نطاق المذهب الاقتصادي ، لا عِلم الاقتصاد ؛ لأنّه يرتبط بتنظيم الإنتاج ، وكيف ينبغي أن تصمّم سياسته العامّة .

١٠٨

استخلاص مِن الأمثلة السابقة :

يمكننا أن نستخلص مِن الأمثلة السابقة ، الخطّين المتميّزَين للعِلم والمذهب : خطّ الاكتشاف والتعرّف على أسرار الحياة الاقتصادية ، وظواهرها المختلفة ، وخطّ التقييم ، وإيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، وفْقاً لتصوّرات معيّنة عن العدالة .

وعلى هذا الأساس ، يمكننا أنْ نميّز بين الأفكار العِلمية والأفكار المذهبية فالفكرة العِلمية تدور حول اكتشاف الواقع - كما يجري - والتعرّف على أسبابه ونتائجه ، وروابطه فهي بمثابة منظارٍ عِلميٍّ للحياة الاقتصادية ، فكما أنّ الشخص حين يضع منظاراً على عينيه ، يستهدف رؤية الواقع ، دون أن يضيف إليه ، أو يغيّر فيه شيئاً ، وكذلك التفكير العِلمي يقوم بدَور منظارٍ للحياة الاقتصادية ، فيعكس قوانينها وروابطها فالطابع العامّ للفكرة العِلمية هو الاكتشاف .

وأمّا الفكرة المذهبية ، فهي ليست منظاراً للواقع ، بل هي تقدير خاصّ للموقف ، على ضوء تصوّرات عامّة للعدالة فالعِلم يقول : هذا هو الذي يجري في الواقع والمذهب يقول : هذا هو الذي ينبغي أنْ يجري في الواقع .

عِلم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق :

وهذا الفرْق الذي تبيّنّاه ، بين عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي - بين البحث عمّا هو كائن ، والبحث عمّا ينبغي أن يكون - يمكننا أن نجد نظيره بين عِلم التاريخ والبحوث الأخلاقية فإنّ عِلم التاريخ ، يتّفق مع عِلم الاقتصاد في خطّه العِلمي العامّ ، والبحوث الأخلاقية : كالمذهب الاقتصادي في التقييم والتقدير .

والناس يتّفقون عادةً ، على التفرقة بين عِلم التاريخ ، والبحوث الأخلاقية فهم يعرفون أنّ علماء التاريخ ، يحدّثونهم - مثلاً - عن الأسباب التي أدّت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية ، في أيدي الجرمان ، والعوامل التي دعت إلى شنّ الحمَلات الصليبية على فلسطين وفشلها جميعاً والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر ، وهو في قمّة انتصاره ومجده ، أو على قتْل عثمان ابن عفّان والثورة عليه .

١٠٩

كلّ هذه الأحداث ، يدرسها عِلم التاريخ ، ويكتشف أسبابها وروابطها ، مع سائر الأحداث الأخرى ، وما تمخّضت عنه مِن نتائج وتطوّرات ، في مختلف الميادين وهو بوَصفه عِلماً ، يقتصر على اكتشاف تلك الأسباب ، والروابط ، والنتائج ، بالوسائل العِلمية ولا يقيِّم تلك الأحداث مِن الناحية الخُلُقية .

فعِلم التاريخ ، لا يحكُم في نطاقه العِلمي ، بأنّ اغتيال قيصر أو قتْل عثمان ، كان عملاً صحيحاً خُلُقياً ، أو منحرفاً عن المقاييس التي تحتّم القيَم العُليا إتّباعها في السلوك وليس مِن شأنه ، أن يقيِّم الحمْلات الصليبية ، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان ، ويحكُم بأنّها حملات عادلة أو ظالمة

وإنّما يرتبط تقييم تلك الأحداث - جميعاً - بالبحوث الأخلاقية ، فعلى ضوء ما تتبنّى مِن مقاييس للعمل في البحث الأخلاقي ، نحكُم بأنّ هذا عدْلٌ أو ظلمٌ ، وأنّ هذه استقامةٌ أو انحراف .

فكما أنّ عِلم التاريخ يصف السلوك والحادثة ، كما وقعَت ، ويأتي البحث الخُلُقي بمقاييسه العامّة ، فيقيِّمها كذلك عِلم الاقتصاد ، يصف أحداث الحياة الاقتصادية ، والمذهب يقيّم تلك الأحداث ، ويحدّد الطريقة التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها ، وِفقاً لتصوّراته العامّة عن العدالة .

عِلم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق :

وهذا الفرْق الذي تبيّنّاه ، بين عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي - بين البحث عمّا هو كائن ، والبحث عمّا ينبغي أن يكون - يمكننا أن نجد نظيره بين عِلم التاريخ والبحوث الأخلاقية فإنّ عِلم التاريخ ، يتّفق مع عِلم الاقتصاد في خطّه العِلمي العامّ ، والبحوث الأخلاقية : كالمذهب الاقتصادي في التقييم والتقدير .

١١٠

والناس يتّفقون عادةً ، على التفرقة بين عِلم التاريخ ، والبحوث الأخلاقية فهم يعرفون أنّ علماء التاريخ ، يحدّثونهم - مثلاً - عن الأسباب التي أدّت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية ، في أيدي الجرمان ، والعوامل التي دعت إلى شنّ الحمَلات الصليبية على فلسطين وفشلها جميعاً والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر ، وهو في قمّة انتصاره ومجده ، أو على قتْل عثمان ابن عفّان والثورة عليه .

كلّ هذه الأحداث ، يدرسها عِلم التاريخ ، ويكتشف أسبابها وروابطها ، مع سائر الأحداث الأخرى ، وما تمخّضت عنه مِن نتائج وتطوّرات ، في مختلف الميادين وهو بوَصفه عِلماً ، يقتصر على اكتشاف تلك الأسباب ، والروابط ، والنتائج ، بالوسائل العِلمية ولا يقيِّم تلك الأحداث مِن الناحية الخُلُقية .

فعِلم التاريخ ، لا يحكُم في نطاقه العِلمي ، بأنّ اغتيال قيصر أو قتْل عثمان ، كان عملاً صحيحاً خُلُقياً ، أو منحرفاً عن المقاييس التي تحتّم القيَم العُليا إتّباعها في السلوك وليس مِن شأنه ، أن يقيِّم الحمْلات الصليبية ، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان ، ويحكُم بأنّها حملات عادلة أو ظالمة

وإنّما يرتبط تقييم تلك الأحداث - جميعاً - بالبحوث الأخلاقية ، فعلى ضوء ما تتبنّى مِن مقاييس للعمل في البحث الأخلاقي ، نحكُم بأنّ هذا عدْلٌ أو ظلمٌ ، وأنّ هذه استقامةٌ أو انحراف .

فكما أنّ عِلم التاريخ يصف السلوك والحادثة ، كما وقعَت ، ويأتي البحث الخُلُقي بمقاييسه العامّة ، فيقيِّمها كذلك عِلم الاقتصاد ، يصف أحداث الحياة الاقتصادية ، والمذهب يقيّم تلك الأحداث ، ويحدّد الطريقة التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها ، وِفقاً لتصوّراته العامّة عن العدالة .

١١١

عِلم الاقتصاد كسائر العلوم :

وما قلناه ، في تحديد وظيفة عِلم الاقتصاد ، وأنّها مقتصرة على الاكتشاف ، دون التقدير والتقييم لا يخصّ عِلم الاقتصاد فحسب ، فإنّ الوظيفة الأساسية لجميع العلوم ، هي الاكتشاف خاصّة ولا فرْق بين العالِم الاقتصادي ، وعلماء الفيزياء والذرّة والفلَك والنفْس ، سوى أنّه يمارس وظيفته في الحقل الاقتصادي مِن حياة الإنسان ، وأولئك يمارسون نفْس الوظيفة ، وهي اكتشاف الحقائق ، وروابطها وقوانينها ، في حقولٍ أخرى متنوّعة طبيعية أو بشَرية .

فالعالِم في الفيزياء الاعتيادية ، يدرس مثلاً السرعات المختلفة للنور والصوت وغيرهما ، ويكتشف المعادلات الدقيقة لها .

والعالِم الذرّي ، يدرس تركيب الذرّة ، وعدد كهاربها ، ونوع شحناتها المخبوءة فيها ، والقوانين التي تتحكّم في حركتها .

والعالِم الفلَكي ، يدرس الأجرام الكبيرة في الفضاء ، والقوانين التي تنظّم حركتها .

والعالِم النفْسي ، يدرس مثلاً عملية الإبصار ، ومحتواها السيكولوجي والعوامل المؤثّرة فيها .

والعالِم الاقتصادي ، يكتشف مِن ناحيته - أيضاً - قوانين الظواهر الاقتصادية : سواء كانت طبيعية ، كظاهرة تناقص الغَلّة أو اجتماعية ، كظاهرة انخفاض الثمن وارتفاعه ، في السوق الحرّة ، وِفقاً لكمّية الطلَب .

فكلّ هؤلاء بوَصفهم العِلمي ، يكتشفون ولا يُقيِّمون .

١١٢

الفارق في المهمّة لا الموضوع :

في ضوء ما تقدّم ، تعرف أنّ الفارق بين عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، ينبع مِن اختلافهما في المهمّة ، نظراً إلى أنّ مهمّة عِلم الاقتصاد : اكتشاف ظواهر الحياة الاقتصادية وروابطها ومهمّة المذهب : إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، كما ينبغي أن تنظّم ، وِفقاً لتصوّراته عن العدالة .

وعلى هذا الأساس ، نُدرك الخطأ في المحاولات التي ترمي إلى التمييز بين عِلم الاقتصاد ، والمذهب الاقتصادي ، مِن ناحية الموضوع ، عن طريق القول بأنّ عِلم الاقتصاد : يبحث في الإنتاج وقوانينه ، والعوامل التي تساعد في تنميته والمذهب الاقتصادي يبحث في التوزيع ، وأحكامه ، والروابط التي تنشأ بين أفراد المجتمع على أساسه .

إنّ هذه المحاولات خاطئة ؛ لأنّنا رأينا في الأمثلة السابقة التي قدّمناها للتفرقة بين العِلم والمذهب ، أنّ المذهب الاقتصادي يتناول الإنتاج ، كما يتناول التوزيع ، ( راجع المثال الثالث ) وعِلم الاقتصاد يتناول التوزيع ، كما يتناول الإنتاج ، ( راجع المثال الأوّل والثاني ) فقانون الأجور الحديدي ، الذي سبق في المثال الثاني ، قانون عِلمي ، بالرغم مِن أنّه يتّصل بالتوزيع وتنظيم الإنتاج ، على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ، أو على أساس التوجيه المركزي مِن الدولة ، يعتبر قضيةً مِن قضايا المذهب ، بالرغم مِن كَونه بحثاً في الإنتاج .

فمِن الخطأ أن نحكُم على أيّ بحثٍ ، بأنّه عِلمي ، إذا كان يتناول الإنتاج ، وأنّه مذهبي ، إذا كان يتناول التوزيع .

بل العلامة الفارقة للبحث العِلمي ، عن البحث المذهبي ، هي علاقة البحث بالواقع ، أو العدالة فإن كان بحثاً عن الواقع في الحياة الاقتصادية ، وكيف هو ، فالبحث علميٌّ وإن كان بحثاً عن العدالة ، وكيف ينبغي أن تُحقّق ، فالبحث مذهبيٌّ أي ارتباط الفكرة بالعدالة هو العلامة الفارقة للمذهب بشكلٍ عامّ ، عن البحوث العِلمية التي يضمّها عِلم الاقتصاد .

١١٣

المذهب قد يكون إطاراً للعِلم :

عرفنا أنّ عِلم الاقتصاد ، كما يبحث في الإنتاج ويكتشف قانون الغَلّة المتناقصة - مثلاً - كذلك يبحث في التوزيع ويكتشف قانوناً ، كالقانون الحديدي للأجور .

ولكن بالرغم مِن ذلك ، يوجد أحياناً فرْق بين البحث العِلمي في الإنتاج ، والبحث العِلمي في التوزيع ولنأخذ قانون الغلّة المتناقصة ، والقانون الحديدي للأجور مثالين على ذلك .

فالقانون الأوّل ، يمثّل البحث العِلمي في الإنتاج والقانون الثاني ، يمثّل البحث العِلمي في التوزيع.

ونحن ، إذا لاحظنا قانون الغلّة المتناقصة ، نجد أنّه يشتمل على حقيقةٍ عن الإنتاج الزراعي ، تصدق على الأرض في كلّ مجتمعٍ بشَريٍّ ، مهما كان نوع المذهب الاقتصادي الذي يتبنّاه ، فالأرض في المجتمع الرأسمالي ، تتناقص غلّتها وِفقاً لذلك القانون ، كما تتناقص في المجتمع الاشتراكي أو الإسلامي وهذا يعني : أنّ قانون الغلّة المتناقصة ، ليس متوقّفاً على وضْعٍ مذهبيٍّ معيّن ، بل يعبّر عن حقيقةٍ عِلميةٍ مطلقة .

وأمّا القانون الحديدي للأجور ، الذي مَرّ شرحه في المثال الثاني ، فهو يكتشف ، كما رأينا المستوى الثابت لأجور العمل في مجتمع تسوده الحرّية الاقتصادية ، ويقرّر أنّ المجتمع الذي تسوده الحرّية ، تظلّ فيه أجور العمّال على مستوى الكفاءة ، وإذا ارتفعت أو انخفضت ، لسببٍ طارئ عادت مرّةً أخرى ، وبصورةٍ طبيعية إلى ذلك المستوى .

وهذا القانون عِلميٍّ بطبيعته ومضمونه وهدفه ؛ لأنّه يحاول اكتشاف الواقع ، والتعرّف على حركة الأجور واتّجاهها ، كما يحدث في المجتمع ولكنّه يقرّر في نفْس الوقت ، أنّ هذه الحقيقة التي يتحدّث عنها ، إنّما تصدق على مجتمعٍ تسوده الحرّية الاقتصادية الرأسمالية ، ولا تنطبق على مجتمعٍ موجّه اقتصادياً ، تفرض الدولة فيه تحديداً عالياً للأجور .

١١٤

فالحرّية الرأسمالية ، شرط لصدق القانون العِلمي عن الأجور ، أو هي الإطار العامّ ، الذي يتحقّق القانون الحديدي ضِمنه وهذا معنى أنّ القانون مضمونه عِلميٌّ ، وإطاره العامّ - شرط صدقه - مذهبيٌّ .

وأكبر الظنّ ، أنّ عدم التمييز بين المضمون والإطار ، أو بين القانون العلمي وشروطه ، هو الذي أدّى إلى القول : بأنّ بحوث التوزيع كلّها مذهبية ، وليس للعِلم ، أن يبحث في حقل التوزيع فإنّ إشراط القوانين العِلمية في التوزيع ، بإطارٍ مذهبيٍّ معيّن ، جعل أصحاب هذا القول يتخيّلون أنّ تلك القوانين مذهبية بطبيعتها .

النتائج المستخلَصة :

نستخلص ممّا سبق ، النتائج التالية :

أوّلاً : أنّ عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، يختلفان في مهمّتهما الأساسية ؛ لأنّ مهمّة العِلم : اكتشاف الحياة الاقتصادية وظواهرها ، كما توجد في الواقع ومهمّة المذهب : إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، كما ينبغي أن توجد ، وفْقاً لتصوّراته العامّة عن العدالة فالعِلم يعمل لتجسيد الواقع ، والمذهب يعمل لتجسيد العدالة .

ثانياً : أنّ عِلم الاقتصاد ، يبحث في الإنتاج والتوزيع معاً ، كما أنّ المذهب الاقتصادي ، يبحث في الإنتاج والتوزيع أيضاً ، ولا أساس للتفرقة بينهما - على أساس الموضوع - يجعل الإنتاج موضوعاً للعلم ، والتوزيع موضوعاً للمذهب ؛ لأنّ العِلم والمذهب يختلفان في مهمّة البحث وطريقتـه ، لا في موضوعه .

وثالثاً : أنّ قوانين عِلم الاقتصاد ، في الإنتاج ، تعبّر عن حقائق ثابتة في مختلف المجتمعات ، مهما كان نوع المذهب الاقتصادي المطبّق عليها وأمّا قوانين عِلم الاقتصاد في التوزيع ، فهي تشرط عادةً بإطارٍ مذهبيٍّ معيّن ، بمعنى أنّ العالِم الاقتصادي يفترض مجتمعاً يطبّق مذهباً - كالرأسمالية والحرّية الاقتصادية - ثمّ يحاول أن يكتشف قوانينه ، وحركة الحياة الاقتصادية فيه .

١١٥

المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية :

عرفنا مِن التحليلات السابقة للمذهب والعِلم ، أنّ مهمّة المذهب التعبير عن مقتضيات العدالة ، بينما يكون على العِلم مهمّة اكتشاف الأحداث الاقتصادية كما تقع ، بأسبابها وروابطها .

وهذا الاختلاف في المهمّة الأساسية بينهما ، يفرض اختلافهما في وسائل البحث حتماً بمعنى : أنّ عِلم الاقتصاد بوَصفه عِلماً - يكتشف ما يقع في الكون والمجتمع ، ممّا يتّصل بالحياة الاقتصادية - يستعمل الوسائل العلمية ، مِن الملاحظة أو التجربة وتتبّع الأحداث التي تزخز بها الحياة الاقتصادية ؛ لكي يستنبط - على ضوء ذلك - روابطها وقوانينها العامّة .

ومتى كانت قضية مِن القضايا موضعاً للشكّ ، ولمْ يعلم مدى صدقها وتصويرها للواقع ، أمكن للعالِم الاقتصادي ، أن يرجع إلى المقاييس العلمية وملاحظاته المنظّمة للأحداث المتعاقبة ؛ لكي يكتشف مدى صحّة تلك القضية وصدقها في تصوير الواقع .

إنّ العالِم الاقتصادي كالعالِم الطبيعي ، مِن هذه الناحية(١) ، فالعالِم الطبيعي ، إذا أراد أن يكتشف درجة الغليان في الماء أمكنه أن يقيس حرارة الماء قياساً علمياً ، بوَصفها ظاهرةً طبيعيةً ، ويلاحظ درجة الحرارة ، التي تبدأ عندها الغليان .

والعالِم الاقتصادي ، إذا أراد أن يكتشف دَورية الأزمات الاقتصادية المشهورة ، التي تنتاب المجتمع الرأسمالي بين حينٍ وآخَر ، فعليه أن يرجع إلى أحداث الحياة الاقتصادية ، كما تسلسلت ووقعت ؛ ليحدّد الفاصل التاريخي بين كلّ أزَمة وأخرى ،

_________________

(١) لا نعني بذلك ، أنّ الوسائل العلمية التي يستعملها العالِم الطبيعي ، هي نفْس الوسائل التي يستعملها العالِم الاقتصادي ، وإنّما نعني : أنّ الوسائل التي يستعملها العالِمان ، موضوعية وليست ذاتية .

١١٦

فإذا وجد أنّ الفاصل التاريخي بين كلّ أزَمة وسابقتها واحدٌ ، استطاع أن يحدّد دَورة تلك الأزَمات ، وبالتالي يبحث عن أسبابها ، والعوامل المؤثّرة فيها .

وعلى العكس مِن ذلك ، المذهب الاقتصادي ، فإنّه لا يمكنه أن يقيس الموضوعات التي يعالجها قياساً علمياً ؛ لأنّه يدرس تلك الموضوعات مِن زاوية العدالة ، ويحاول إيجاد طريقة للتنظيم ، وِفقاً لمقتضيات العدالة .

ومِن الواضح ، أنّ العدالة تختلف عن حرارة الماء وغليانه ، وعن الأزَمات الاقتصادية ودَورتها ؛ لأنّها ليست مِن الظواهر الكونية ، أو الاجتماعية التي تقبل الملاحظة الموضوعية ، والقياس العِلمي ، وأساليب التجربة المتعارفة في العِلم ففي المذهب الاقتصادي لا يكفي أن نطلّ برأسنا على الواقع ، ونلاحظ الأحداث ملاحظةً عِلمية ؛ لنعرف ما هي العدالة في التنظيم ، كما يطلّ العالِم الاقتصادي ويدرس الأزمات الاقتصادية ؛ ليعرف دَورتها وقانونها .

ولنأخذ العدالة في التوزيع - مثلاً على ذلك - فهناك مَن يقول : إنّ العدالة في التوزيع ، تتحقّق في نظامٍ يكفُل المساواة بين أفراد المجتمع في الرزق والثروة .

وهناك مَن يعتبر المساواة بين أفراد المجتمع في الحرّية ، بدلاً عن الرزق ، هي الأساس العادل للتوزيع ، وإن أدّت ممارسة الأفراد لحقّهم في الحرّية إلى اختلافهم في الرزق ، وزيادة ثروة بعضهم على ثروة الآخَرين ما دام الآخرون يتمتّعون بنفْس الحرّية الممنوحة للجميع بدرجةٍ واحدةٍ .

وهناك مَن يرى عدالة التوزيع تتحقّق في ضمان مستوىً عامّ مِن الرزق للجميع ، ومنْح الحرّية لهم خارج حدود ذلك المستوى ، كما يصنع الإسلام :

فإذا أردنا أن نعرف ، ما هو طريق تحقيق العدالة في التوزيع ، هل هو التسوية في الرزق والثروة ، أو إعطاء كلّ فردٍ الحرّية في ممارسة مختلَف ألوان النشاط الاقتصادي ، وتحديد نصيبه مِن الرزق ، وفْقاً لطريقة ممارسته للحرّية أو أسلوب ثالث بين هذا وذاك .

١١٧

إذا أردنا أن نعرف ، ما هو طريق العدالة مِن هذه الأساليب ، فلا يمكننا أن نقيس ونستعمل وسائل البحث العِلمي ؛ لأنّ العدالة ليست ظاهرة طبيعية ، كالحرارة والغليان ؛ لكي نحسّ بها ، ببصرنا أو لمْسنا أو سائر حواسنا ، وليست ظاهرة اجتماعية كالأزمات الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي ؛ لتُقاس وتلاحظ وتجرّب .

إنّ العِلم يمكنه أن يقيس الناس أنفسهم ، فيعرض مدى تساويهم أو اختلافهم في صفاتهم الجسَدية والنفْسية ، ولكنّه لا يستطيع أن يقيس حقّهم في الرزق ؛ ليعرف ما إذا كان مِن العدْل أن يتساوَوا في الرزق ، أوْ لا ؛ لأنّ العدالة والحقّ ليس مِن الصفات الموضوعية ، الخاضعة للقياس العِلمي والحسّ كصفات الجسد وظواهر الحياة .

خُذ إليك رأسمالياً ، يؤمِن بأنّ الناس سواسية في حقّ الحرّية وإن اختلفت أرزاقهم واشتراكياً ، يؤمِن بأنّ الناس سواسية في حقّ الرزق ، واسألهما : هل يوجد مقياس زئبقي للعدالة كالمقياس الزئبقي للحرارة ؛ لكي أعرف درجة العدالة ، في مجتمعٍ تتساوى أرزاق أفراده ، ومجتمعٍ تتساوى حرّيات أفراده ، وإن اختلفت أرزاقهم ؟ وهل أنّ الحقّ الذي يتمتّع به أفراد المجتمع ظاهرة مِن الظواهر ، التي يمكن الإحساس بها ، كما نحسّ بألوانهم وطول قامتهم ، ومدى نباهتهم ، ونوع أصواتهم ؛ لكي ندرس الحقّ ، بأساليب البحث العِلمي القائمة على أساس الحسّ والتجربة .

إنّ الجواب على كلّ هذا ، بالنفي طبعاً فليس للعدالة مقياس زئبقي ؛ لأنّها ليست مِن الظواهر ، التي يمكن إدراكها بالحسّ والمشاهدة وليس حقّ الناس في الرزق ، أو حقّ الناس في حرّية اكتسابه ظاهرة مِن ظواهرهم ، كطول قامَتهم أو سرعة بديهتهم ؛ لنحكِّم العِلم في تحديد ذلك الحقّ .

ونخرج مِن ذلك كلّه ، بأنّ المذهب لا يمكنه - ما دام يدرس القضايا مِن زاوية العدالة والحقّ - أن يكتفي بأساليب البحث العلمي ، بل لا بدّ له أن يستلهم الطريقة التي يفضّلها في تنظيم الحياة الاقتصادية ، مِن تصوّراته الذاتية للعدالة وقيَمه ومُثُله ، التي يؤمن بها ، ونظرته العامّة إلى الحياة .

١١٨

الاقتصاد الإسلامي كما نؤمِن به

أحسب أنّ البحث السابق ، يكفي لتكوين فكرةٍ محدّدةٍ عن المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد ، ووظيفة كلٍّ منهما ووسائله في البحث ؛ ولأجل هذا ، فسوف نستطيع الآن أن نوَضّح طبيعة فَهْمنا للاقتصاد الإسلامي ، وما نعنيه بتأكيدنا على وجود اقتصادٍ ، أو نظامٍ اقتصاديٍّ في الإسلام .

إنّ الاقتصاد الإسلامي كما مَرّ بنا ، في مستهلّ هذه الدراسة عبارة عن مذهبٍ اقتصاديٍّ ، وليس عِلماً للاقتصاد فنحن حين نقول : إنّ الإسلام جاء بمذهبٍ اقتصاديٍّ ، لا نحاول أن نزعم أنّ الإسلام جاء بعِلمِ الاقتصاد ؛ وذلك أنّ الإسلام لمْ يجئ ليكتشف أحداث الحياة الاقتصادية وروابطها وأسبابها ، وليس مِن مسؤوليّاته ذلك .

كما ليس مِن مسؤوليته أن يكشف للناس قوانين الطبيعة ، أو الظواهر الفلَكية وروابطها وأسبابها فكما لا يجب أن يشتمل الدِين على عِلم الفلَك وعلوم الطبيعة ، كذلك لا يجب أن يشتمل على عِلم الاقتصاد .

وإنّما جاء الإسلام ؛ لينظّم الحياة الاقتصادية بدلاً عن كشْفها ، ويضع التصميم الذي ينبغي أن تنظّم به ، وِفقاً لتصوّراته عن العدالة .

فالاقتصاد الإسلامي ، يصوّر وجْهة نظر الإسلام عن العدالة وطريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية ، ولا يعبّر عن كشوف عِلمية لروابط الحياة الاقتصادية وعلاقاتها - كما تجري في الواقع - وهذا معنى كون الاقتصاد الإسلامي مذهباً لا عِلماً .

وبتعبيرٍ آخَر : لو أنّ الإسلام جاء ليحدّثنا عن الحياة الاقتصادية في الحجاز ، وما هي الأسباب التي تؤدّي في المجتمع الحجازي - مثلاً - إلى ارتفاع سعر الفائدة الربَوِيّة ، التي يتقاضاها المُرابون ؟ لكان حديثه عِلمياً ، ومِن عِلم الاقتصاد ولكنّه بدلاً عن ذلك ، جاء ليقيِّم نفْس الفائـدة الربَوية ، فحرّمها ، ونظّم العلاقة بين رأس المال وصاحب المشروع ، على أساس المضاربة بدلاً عن الربا والفائدة وبذلك كان الإسلام يتّخذ في اقتصاده الموقف المذهبي ، لا العِلمي .

١١٩

ونحن إذا عرفنا بوضوح طبيعة الاقتصاد الإسلامي ، وكونه مذهباً اقتصادياً لا عِلماً للاقتصاد ، أمكننا أن ندحض أكبر العقبات ، التي تحول دون الاعتقاد بوجود اقتصادٍ في الإسلام .

ما هي أكبر العقَبات :

وهذه العقَبة الكبيرة ، التي يستند إليها كثير مِن الناس لرفض الاقتصاد الإسلامي ، نشأت مِن عدم التمييز بين عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي فإنّ هؤلاء الذين لمْ يُتَح لهم التمييز بين العِلم والمذهب ، إذا سمعوا شخصاً يقول : إنّ في الإسلام اقتصاداً ، يبادرون قائلين : وكيف يمكن أن يكون في الإسلام اقتصاد ؟ ونحن لا نجد فيه بحوثاً ، كالبحوث التي نجدها عند علماء الاقتصـاد ، كآدم سميث ، وريكاردو ، وغيرهما .

فالإسلام لمْ يحدّثنا عن قانون الغَلّة المتناقصة ، ولا عن قوانين العَرض والطلَب ، ولمْ يأت بقانونٍ يناظر القانون الحديدي للأجور ، ولمْ تؤثَر عنه فكرة ، عن تحليل القيمة ودرسها عِلمياً كما درَسها علماء الاقتصاد وكيف يطلب منّا أن نصدّق بالاقتصاد الإسلامي ، ونحن جميعاً نعلم بأنّ بحوث عِلم الاقتصاد إنّما نشأت وتكاملت خلال القرون الأربعة الأخيرة ، على يد روّاد الفكر الاقتصادي الأوائل كآدم سميث ، ومَن سبَقه مِن التجاريين والطبيعيين .

يقول المنكرون للاقتصاد الإسلامي كلّ هذا ظناً منهم بأنّا ندّعي قيام الإسلام ، بالبحث العِلمي في الاقتصاد .

وأمّا بعد أن نعرف الفرْق ، بين عِلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، وأنّ الاقتصاد الإسلامي مذهبٌ وليس عِلماً فلا يبقى موضع لكلّ ذلك القول ؛ لأنّ وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام ، لا يعني تحدّث الإسلام إلى الناس عن قوانين العَرض والطلَب ، بل يعني أنّ الإسلام دعا إلى تنظيم متميّز للحياة الاقتصادية ، وحدّد ما ينبغي أن تقام عليه تلك الحياة مِن أُسس ودعائم .

١٢٠