الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 60130
تحميل: 7522

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60130 / تحميل: 7522
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد يتّجه بعض المتفائلين إلى الجواب على هذا السؤال بالإيجاب ؛ نظراً إلى ما يتمتّع به إنسان الغَرْب اليوم مِن إمكانات عِلميّة هائلة :

أوَ ليس النظام الاجتماعيّ : هو النظام الذي يكفُل إشباع حاجات الإنسانيّة ، بأفضل طريقةٍ ممكنة ؟؟ أوَ لَيست حاجات الإنسان أشياء واقعيّة قابلة للقياس العِلميّ والتجربة ، كسائر ظواهر الكون ؟! .

أوَ ليست أساليب إشباع هذه الحاجات تعني أعمالاً محدودة ، يمكن للمنطق العلميّ أنْ يقيسها ويُخضعها للتجربة ، ويدرس مدى تأثيرها في إشباع الحاجات ، وما ينجم عنها مِن آثار ؟! .

فلماذا لا يمكن إرساء النظام الاجتماعيّ على أساس مِن هذه التجارب ؟! لماذا لا يمكن أنْ نكتشف بالتجربة على شخصٍ أو عدّة أشخاص ، مجموع العوامل الطبيعيّة والفسيولوجيّة والسيكولوجيّة ، التي تلعب دَوراً في تنشيط المواهب الفِكريّة وتنميـة الذكاء ؛ حتّى إذا أرَدنا أنْ نُنظّم حياتنا الاجتماعيّة ، بشكلٍ يكفُل تنمية المواهب العقليّة والفِكريّة للأفراد ، حرصْنا على أنْ تتوفّر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد ؟!! .

وقد يذهب بعض الناشئة في التصوّر إلى أكثر مِن هذا ، فيُخيَّل له : أنّ هذا ليس ممكناً فحَسْب ، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربيّة ، منذ رفضَتْ الدِين والأخلاق ، وجميع المقولات الفِكريّة والاجتماعيّة ، التي مارسَتْها الإنسانيّة في تجاربها الاجتماعيّة عِبر التاريخ ، واتّجهت في بناء حياتها على أساس العِلم ، فقفزَتْ في مجراها التاريخيّ الحديث ، وفتحت أبواب السماء ، وملكَتْ كنوز الأرض....

وقبل أنْ نجيب على السؤال الذي أثَرناه : ( السؤال عن مدى إمكان إرساء الحياة الاجتماعيّة ، على أساس التجارب العِلميّة ) ، يجب أنْ نناقش هذا التصوّر الأخير للحضارة الغربيّة ، وهذا الاتّجاه السطحيّ إلى الاعتقاد : بأنّ النظام الاجتماعيّ ، الذي يُمثِّل الوجه الأساسيّ لهذه الحضارة ، نتيجةً للعنصر العِلميّ فيها .

٢١

فإنّ الحقيقة هي : أنّ النظام الاجتماعيّ الذي آمنَت به أوروبا ، والمبادئ الاجتماعيّة التي نادت بها وطبّقتْها ، لم تكن نتيجةً لدراسةٍ عِلميّةٍ تجريبيّة ، بل كانت نظريّة أكثر منها تجريبيّة ، ومبادئ فلسفيّة مجرّدة أكثر منها آراء عِلميّة مجرّبة ، ونتيجةً لفَهْمٍ عقليٍّ وإيمانٍ بقِيَم عقليّة محدودة ، أكثر مِن كَونها نتيجةً لفَهمٍ استنتاجيٍّ ، وبحثٍ تجريبيٍّ في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجيّة والفسيولوجيّة والطبيعيّة .

فإنّ مَن يدرس النهضة الأوروبيّة الحديثة - كما يسمّيها التاريخ الأوروبيّ - بفَهْمٍ ، يستطيع أنْ يدرك : أنّ اتّجاهها العام في ميادين المادّة ، كان يختلف عن اتّجاهها العام في الحَقل الاجتماعيّ والمجال التنظيميّ للحياة فهي في ميادين المادّة كانت عِلميّـة ، إذ أقامت أفكارها عن دُنيا المادّة على أساس الملاحظة والتجربة ، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء ، أو عن قانون الجذب ، أو فَلْق الذرّة ، أفكار عِلميّة مستمدّة مِن الملاحظة والتجربة .

وأمّا في الميدان الاجتماعيّ : فقد تكوّن العقل الغربيّ الحديث على أساس المذاهب النظريّة ، لا الأفكار العِلميّة ، فهو ينادي مثلاً : بحقوق الإنسان العامّة ، التي أعلنَها في ثورته الاجتماعيّة ، ومِن الواضح أنّ فِكرة الحقّ نفسها ليست فِكرةً عِلميّة ؛ لأنّ حقّ الإنسان في الحرّية - مثلاً - ليس شيئاً مادّياً قابلاً للقياس والتجربة ، فهو خارج عن نطاق البحث العلميّ ، وإنّما الحاجة هي الظاهرة المادّيـة ، التي يمكن أنْ تُدرس علميّاً .

وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع ، الذي يعتبَر - مِن الوجهة النظريّة - أحد المبادئ الأساسيّة للحياة الاجتماعيّة الحديثة.. فإنّنا نجد أنّ هذا المبدأ لمْ يُستنتَج بشكلٍ علميٍّ مِن التجربة والملاحظة الدقيقة ؛ لأنّ الناس في مقاييس العِلم ليسوا متساوين ، إلاّ في صِفة الإنسانيّة العامّة ، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعيّة والفسيولوجيّة والنفسيّة والعقليّة ، وإنّما يعبِّر مبدأ المساواة عن قيمةٍ خُلُقيّة هي مِن مدلولات العقل ، لا مِن مدلولات التجربة .

٢٢

وهكذا نستطيع بوضوح : أنْ نميِّز بين طابع النظام الاجتماعيّ في الحضارة الغربيّة الحديثة ، وبين الطابع العِلميّ وندرك أنّ الاتّجاه العلميّ في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة.. لم يشمل حقْل التنظيم الاجتماعيّ ، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه أوروبا أنظمتها ، ومبادئها الاجتماعيّة ، في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع .

ونحن بهذا إنّما نقرّر الحقيقة ، ولسنا نريد أنْ نعيب على الحضارة الغربيّة إهمالها لقيمة المعرفة العلميّة ، في مجال التنظيم الاجتماعيّ ، أو نؤاخذها على عدم إقامة هذا النظام على أساس التجارب العلميّة الطبيعيّة ، فإنّ هذه التجارب العلميّة لا تصلح لأنْ تكون أساساً للتنظيم الاجتماعيّ .

صحيح أنّ حاجات الإنسان يمكن إخضاعها للتجربة في كثير مِن الأحايين ، وكذلك أساليب إشباعها.. ولكن المسألة الأساسيّة في النظام الاجتماعيّ ، ليست هي إشباع حاجات هذا الفرد أو ذاك ، وإنّما هي إيجاد التوازن العادل بين حاجات الأفراد كافّة ، وتحديد علاقاتهم ضمن الإطار الذي يتيح لهم إشباع تلك الحاجات .

ومِن الواضح أنّ التجربة العلميّة على هذا الفرد أو ذاك ، لا تسمح باكتشاف ذلك الإطار ، ونوعيّة تلك العلاقات ، وطريقة إيجاد ذلك التوازن.. وإنّما يكتشف ذلك خلال ممارسة المجتمع كلّه لنظامٍ اجتماعيٍّ ، إذ تتكشّف خلال التجربة الاجتماعيّة مَواطن الضَعف والقوّة في النظام ، وبالتالي ما يجب اتّباعه ؛ لإيجاد التوازن العادل المطلوب ، الكفيل بسعادة المجموع .

أضف إلى ذلك : أنّ بعض الحاجات أو المضاعفات لا يمكن اكتشافها في تجربة عِلميّة واحدة ، فخُذْ إليك مثلاً هذا الشخص الذي يعتاد الزنا ، فقد لا تجد في كيانه - بوَصفه إنساناً سعيداً - ما ينقصه أو يُكدّره ، ولكنّك قد تجد المجتمع الذي عاش - كما يعيش هذا الفرد - مرحلة كبيرة مِن عُمره ، وأباح لنفسه الانسياق مع شهَوات الجِنس .

٢٣

قد تجده بعد فترةٍ مِن تجربته الاجتماعيّة منهاراً قد تصدّع كيانه الروحيّ ، وفقَدَ شجاعته الأدبيّة ، وإرادته الحرّة ، وجَذوَته الفكريّة .

فليست كلّ النتائج - التي لا بدّ مِن معرفتها لدى وضع النظام الاجتماعيّ الأصلح - يمكن اكتشافها بتجربةٍ علميّة ، نمارسها في المختبرات الطبيعيّة والفسلجيّة ، أو في المختبرات النفسيّة.. على هذا الفرد أو ذاك ، وإنّما يتوقّف اكتشافها على تجارب اجتماعيّة طويلة الأمَد .

وبعد هذا استخدام التجربة العلميّة الطبيعيّة ، في مجال التنظيم الاجتماعيّ ، يُمنى بنفس النزعة الذاتية التي تهدّد استخدامنا للتجارب الاجتماعيّة فما دام للفرد مصالحه ومنافعه الخاصّة ، التي قد تتّفق مع الحقيقة التي تقرّرها التجربة ، وقد تختلف.. يظل ممكناً دائماً أنْ يتّجـه تفكيره اتّجاهاً ذاتيّـاً ، ويفقِد الموضوعيّة التي تتميّز بها الأفكار العِلميّة ، في سائر المجالات الأخرى .

أهمّ المذاهب الاجتماعية :

والآن وقد عرفنا مدى قدرة الإنسان على حلّ المشكلة الاجتماعيّة ، والجواب على السؤال الأساسيّ فيها.. نستعرض أهمّ المذاهب الاجتماعيّة التي تسود الذهنيّة الإنسانيّة العامّة اليوم ، ويقوم بينها الصراع الفِكري أو السياسي ، على اختلاف مدى وجودها الاجتماعيّ في حياة الإنسان وهي مذاهب أربعة :

١ - النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ .

٢ - النظام الاشتراكيّ .

٣ - النظام الشيوعيّ .

٤ - النظام الإسلاميّ .

والثلاثة الأُولى مِن هذه المذاهب تمثّل ثلاث وجْهات نظَرٍ بشَريّة ، في الجواب على السؤال الأساسيّ : ما هو النظام الأصلـح ؟ فهي أجوبة وضَعها الإنسان على هذا السؤال ، وفقاً لإمكاناته وقدرته المحدودة ، التي تبيّنّا مداها قبل لحظة .

٢٤

وأمّا النظام الإسلاميّ : فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعيّ ، بوَصفه دِيناً قائماً على أساس الوحي ومعطىً إلهيّاً ، لا فِكراً تجريبيّاً منبثقاً عن قدرة الإنسان وإمكاناته .

ويتقاسم العالَم اليوم اثنان مِن هذه الأنظمة الأربعة : فالنظام الديمقراطيّ الرأسماليّ هو أساس الحُكم في بقعةٍ كبيرةٍ مِن الأرض ، والنظام الاشتراكيّ هو السائد في بقعةٍ كبيرةٍ أخرى .

وكلٌّ مِن النظامَين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويُسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطالها ، في سبيل الحصول على قيادة العالَم ، وتوحيد النظام الاجتماعيّ فيه .

وأمّا النظام الشيوعيّ والإسلاميّ ، فوجودهما بالفِعل فكريّ خالص .

غير أنّ النظام الإسلاميّ ، مَرّ بتجربةٍ مِن أروع تجارب النظُم الاجتماعيّة وأنجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد أنْ خلا الميدان مِن القادة المبدئيّين أو كاد ، وبقِيَت التجربة في رحمة أُناس لمْ ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجَوهره ، فعجزَتْ عن الصمود والبقاء ، فتقوّض الكيان الإسلاميّ ، وبقِيَ نظام الإسلام فِكرةً في ذهن الأمّة الإسلاميّة ، وعقيدةً في قلوب المسلمين ، وأمَلاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون .

وأمّا النظام الشيوعيّ فهو فِكرة غير مجرّبة حتّى الآن تجربةً كاملة ، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكيّ اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعيٍّ له ، بعد أنْ عجزَتْ عن تطبيقه حين ملكَتْ زمام الحُكم ، فأعلنت النظام الاشتراكيّ ، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعيّة الحقيقيّة .

فما هو موضعنا مِن هذه الأنظمة ؟

وما هي قضيّتنا التي يجب أنْ ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة إلى شاطئها ؟ .

٢٥

الديمقراطيّة الرأسماليّة

* الحرّيات الأربع في النظام الرأسماليّ .

* الاتّجاه المادّي في الرأسماليّة .

* موضع الأخلاق مِن الرأسماليّة

* مآسي النظام الرأسماليّ .

٢٦

ولنبدأ بالنظام الديمقراطيّ الرأسماليّ : هذا النظام الذي أطاح بلون مِن الظلم في الحياة الاقتصاديّة ، وبالحُكم الدكتاتوريّ في الحياة السياسيّة ، وبجمود الكنيسة ، وما إليها في الحياة الفكريّة ، وهيّأ مقاليد الحُكم والنفوذ لفئةٍ حاكمة جديدة حلّت محلّ السابقيـن ، وقامت بنفس دَورهم الاجتماعيّ في أسلوبٍ جديد .

وقد قامت الديمقراطيّة الرأسماليّة : على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له ، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفُل - بصورة طبيعيّة - مصلحة المجتمع في مختلف الميادين ، وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة ، فلا يجوز لها أنْ تتعدّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عمَلِها .

الحرّيات الأربع في النظام الرأسماليّ :

ويتلخّص النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ : في إعلان الحرّيّات الأربع : السياسيّة ، والاقتصاديّة ، والفكريّة ، والشخصيّة .

فالحرّية السياسيّة : تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً ، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للأمّة ، ووَضع خططها ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها ؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعيّ للأمّة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألة تتّصل اتّصالاً مباشراً بحياة كلّ فردٍ مِن أفرادها ، وتؤثّر تأثيراً حاسماً ، سعادته أو شقائه ، فمِن الطبيعي حينئذٍ أنْ يكون لكلٍّ حقّ المشاركة في بناء النظام والحُكم .

وإذا كانت المسألة الاجتماعيّة - كما قلنا - مسألة حياة أو موت ، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين ، الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة فمِن الطبيعيّ ، أيضاً أنْ لا يُباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفردٍ ، أو لمجموعة مِن الأفراد - مهما كانت الظروف - ما دام لم يوجد الفرد ، الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله ، على الأهواء والأخطاء .

٢٧

فلا بدّ إذن مِن إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسيّة للمواطنين كافّة ؛ لأنّهم يتساوون في تحمّل نتائج المسألة الاجتماعيّـة ، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة .

وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العام ، الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم - بكلّ سُلُطاته وشُعَبِه - عن أكثريّة المواطنين .

والحرّية الاقتصاديّة : ترتكز على الإيمان بالاقتصاد ، الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح ، وتُقرّر فتْح جميع الأبواب وتهيئة كلّ الميادين ، أمام المواطن في المجال الاقتصادي ، فيُباح التملّك للاستهلاك وللإنتاج معاً ، وتُباح هذه الملكيّة الإنتاجيّة ، التي يتكوَّن منها رأس المال مِن غير حدٍّ وتقييد ، وللجميع على حدٍّ سَواء .

فلكلّ فرد مطلق الحرّية في إنتاج أيّ أسلوب ، وسلوك أيّ طريق ، لكسْب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها ، على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصيّة .

وفي زعْم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصاديّة : أنّ قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أصولٍ عامّة بصورة طبيعيّة ، كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه .

وأنّ المصلحة الشخصيّة ، التي هي الحافز القويّ ، والهدف الحقيقيّ للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعيّة العامّة

وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة ، نتيجة لتساوي المُنتجين والمتّجرين في حقّهم مِن الحرّية الاقتصاديّة ، يكفي وحده لتحقيق روح العدْل والإنصاف ، في شتّى الاتّفاقات والمعاملات .

٢٨

فالقوانين الطبيعيّة للاقتصاد ، تتدخّل - مثلاً - في حِفظ المستوى الطبيعيّ للثمن ، بصورة تكاد أنْ تكون آليّة ؛ وذلك : أنّ الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعيّة العادلة ، انخفض الطلب بحُكم القانون الطبيعي الذي يحكم : ( بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب ) ، وانخفاض الطلب بدَوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعيٍّ آخر ، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك .

والمصلحة الشخصيّة تفرض على الفرد دائماً التفكير في كيفيّة زيادة الإنتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ؛ وذلك يحقّق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يُعتبَر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً.

والتنافس يقضي - بصورة طبيعيّة - تحديد أثمان البضائع ، وأجور العمّال والمستخدمين بشكلٍ عادل ، لا ظُلم فيه ولا إجحاف ؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى مِن رفْع أثمان بضائعه ، أو تخفيض أجور عمّاله ، بسبب منافسة الآخرين له مِن البائعين والمُنتجين .

والحرّية الفكريّة : تعني أنْ يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادُهم ، أو ما تُوحِيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم ، بدون عائقٍ مِن السلطة .

فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فردٍ ، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها ، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وِجهات نظَره واجتهاده .

والحرّية الشخصيّة : تعبّر عن تحرّر الإنسان في سلوكه الخاصّ مِن مختلف ألوان الضغط والتحديد، فهو يملك إرادته وتطويرها وِفقاً لرغباته الخاصّة ، مهما نجَم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ مِن مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخَرين على سلوكه

٢٩

فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصيّة لكلّ فرد : حرّية الآخَرين ، فما لم يمسّها الفرد بسوء ، فلا جُناح عليه أنْ يُكيِّف حياته باللون الذي يحلو له ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذْوِقها ؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله وما دام يملك هذا الكيان ، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء .

وليست الحرّية الدينيّة - في رأي الرأسماليّة التي تنادي بها - إلاّ تعبيراً عن الحرّية الفكريّة في جانبها العقائدي ، وعن الحرّية الشخصيّة في الجانب العِلمي ، الذي يتّصل بالشعائر والسلوك .

ويُستخلَص مِن هذا العَرض :

إنّ الخطّ الفِكري العريض لهذا النظام - كما ألمَحنا إليه - هو : أنّ مصالح المجتمع مرتبطة بمصالح الأفراد ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أنْ يرتكِز عليها النظام الاجتماعيّ ، والدولة الصالحة : هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القويّة لحفظ مصالحه وحمايتها .

هذه هي الديمقراطيّة الرأسماليّة في ركائزها الأساسيّة ، التي قامت مِن أجلها جملة مِن الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير مِن الشعوب والأُمم ، في ظلّ قادةٍ كانوا حين يُعبّرون عن هذا النظام الجديد - ويعدّونهم بمحاسنه - يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتـها ، وما تحفل به مِن انطلاقٍ وهناءٍ وكرامةٍ وثراء ، وقد أُجريت عليها بعد ذلك عدّة مِن التعديلات ، غير أنّها لم تمسّ جَوهرها بالصميم، بل بقِيَت محتفظة بأهمّ ركائزها وأُسُسها .

٣٠

الاتّجاه المادّي في الرأسماليّة

ومِن الواضح : أنّ هذا النظام الاجتماعيّ نظام مادّي خالص ، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه ، وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعيّ مِن حياته المادّية ، وافترض على هذا الشكل .

ولكن هذا النظام في نفس الوقت ، الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية.. لم يُبنَ على فلسفةٍ مادّية للحياة ، وعلى دراسةٍ مفصّلة لها .

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام ، فُصِلت عن كلّ علاقةٍ خارجةٍ عن حدود المادّية والمنفعة ، ولكن لم يُهيّأ لإقامة هذا النظام فَهْم فلسفيّ كامل لعملية الفصل هذه ، ولا أعني بذلك أنّ العالَم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها ، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية ، تأثّراً بالعقليّة التجريبيّة التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي(١) ، وبروح الشكّ والتبَلبُل الفكريّ

_________________

(١) فإنّ التجربة اكتسبت أهمّية كبرى في الميدان العِلمي ، ووُفّقتْ توفيقاً لم يكن في الحسبان إلى الكشف عن حقائقٍ كثيرة، وإزاحة السِتار عن أسرارٍ مدهشة ، أتاحت للإنسانيّة أنْ تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العمَليّة وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قُدسيّة في العقليّة العامّة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة ، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة ، حتّى صار الحسّ التجريبي - في عقيدة كثيرٍ مِن التجريبيّين - الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم وقد أوضحنا في ( فلسفتنا ) : أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفِكر العقليّ ، وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل ، الذي يُدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ ، كما يُدرك الحقائق المحسوسة .

٣١

الذي أحدَثه انقلاب الرأي ، في طائفةٍ مِن الأفكار كانت تُعَدُّ مِن أوضح الحقائق وأكثرها صحّة (١) ، وبروح التمرّد والسخط على الدِين المزعوم ، الذي كان يُجمّد الأفكار والعقول ، ويتملّق للظُلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعيّ ، في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين (٢) .

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير مِن العقليّات الغربيّة...

كلّ هذا صحيح ، ولكن النظام الرأسماليّ لم يُركّز على فَهْمٍ فلسفيٍّ مادّيٍّ للحياة ، وهذا هو التناقض والعجْز ، فإنّ المسألة الاجتماعيّة للحياة ، تتّصل بواقع الحياة ، ولا تتبلوَر في شكلٍ صحيحٍ ، إلاّ إذا أُقيمت على قاعدةٍ مركزيّة تشرح الحياة وواقعها وحدودها .

_________________

(١) فإنّ جملةً مِن العقائد العامّة ، كانت في درجةٍ عالية مِن الوضوح والبداهة في النظَر العامّ ، مع أنّها لم تكن قائمة على أساسٍ مِن منطقٍ عقليّ أو دليلٍ فلسفيّ ، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم فلمّا انهارت هذه العقائد في ظِلّ التجارب الصحيحـة ، تزعزَعَ الإيمان العامّ ، وسيطرت موجة مِن الشكّ على كثيرٍ مِن الأذهان ، فبعثت السلطة اليونانيّة مِن جديد متأثّرة بروح الشكّ ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ ، الذي تولّد مِن تناقض المذاهب الفلسفيّة ، وشدّة الجدَل بينها .

(٢) فإنّ الكنيسة لعبت دَوراً هامّاً في استغلال الدِين استغلالاً شنيعاً ، وجَعْل اسمه أداة لمآربها وأغراضها ، وخنْق الأنفاس العِلمية والاجتماعيّة ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المُقدَّرات ، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدِين والسخط عليه ؛ لأنّ الجريمة ارتُكِبت باسمه ، مع أنّه في واقعه المصَفّى ، وجَوهره الصحيح لا يقلّ عن أولئك الساخطين والمتبرّمين ضِيقاً بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها .

٣٢

والنظام الرأسماليّ يفْقِد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداعٍ وتظليل ، أو على عجلَةٍ وقلّةِ أناة ، حين تُجمَّد المسألة الواقعيّة للحياة ، وتُدرس المسألة الاجتماعيّة منفصلة عنها ، مع أنّ قِوام الميزان الفكريّ للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحيـاة ، التي تموّن المجتمع بالمادّة الاجتماعيّة - وهي العلاقات المتبادلة بين الناس - وطريقة فَهْمه لها ، واكتشاف أسرارها وقِيَمها .

فالإنسان في هذا الكوكب : إنْ كان مِن صُنع قوّة مدبّرة مُهيمنة عالِمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه ، قائمة على تنظيمه وتوجيهه.. فمِن الطبيعي أنْ يخضع في توجيهه ، وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة ؛ لأنّها أبصر بأمرِه ، وأعلم بواقعه ، وأنزه قصداً ، وأشدّ اعتدالاً منه .

وأيضاً ، فإنّ هذه الحياة المحدودة : إنْ كانت بداية الشوط لحياةٍ خالدةٍ تنبثق عنها ، وتتلوّن بطابعها ، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأُولى ونزاهتها.. فمِن الطبيعي أنْ تنظّم الحياة الحاضرة ، بما هي بداية الشوط لحياةٍ لا فناء فيها ، وتقام على أُسُسِ القِيَم المعنويّة والمادّية معاً .

وإذن فمسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ، ليست مسألةً فكريّةً خالصةً لا علاقة لها بالحياة ؛ لتُفصَل عن مجالات الحياة ، ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها ، مع إغفال تلك المسألة وفصْلِها ، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً .

والدليل على مدى اتّصالها بالحياة مِن الديمقراطيّة الرأسماليّة نفسها : أنّ الفِكرة فيها ، تقوم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصيّة أو مجموعة مِن الأفراد ، بلَغَت مِن العِصمة في قصدها ومَيْلها ، وفي رأيها واجتهادها ، إلى الدرجة التي تُبيح إيكال المسألة الاجتماعيّة إليها ، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأمّة عليها .

وهذا الأساس بنفسه لا موضع ولا معنى له ، إلاّ إذا أُقيم على فلسفةٍ مادّيةٍ خالصة ، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام ، إلاّ عن عقلٍ بشَريٍّ محدود .

٣٣

فالنظام الرأسماليّ مادّيّ بكلّ ما للّفظ مِن معنى ، فهو إمّا أنْ يكون قد استبطن المادّية ، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربْطه بها وارتكازه عليها وإمّا أنْ يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي ، بين المسألة الواقعيّة للحياة ، ومسألتها الاجتماعيّة .

وعلى هذا فهو يفقِد الفلسفة ، التي لا بدّ لكلّ نظامٍ اجتماعيٍّ أنْ يرتكز عليها .

وهو - بكلمة - : نظامٌ مادّيٌّ ، وإنْ لم يكن مُقاماً على فلسفةٍ مادّيّةٍ واضحةِ الخطوط .

موضع الأخلاق مِن الرأسماليّة

وكان مِن جرّاء هذه المادّية ، التي زخر النظام بروحها : أنْ أُقصيَت الأخلاق مِن الحساب ، ولم يُلحَظ لها وجود في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأعلنت المصلحة الشخصيّة كهدفٍ أعلى ، والحرّيّات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجّ به العالَم الحديث مِن مِحنٍ وكوارث ، ومآسي ومصائب .

وقد يُدافع أنصار الديمقراطيّة الرأسماليّة ، عن وِجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصيّة ، قائلين : إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعيّة ، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقِيَمها الروحيّة ، تحقّق في المجتمع الديمقراطيّ الرأسماليّ ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها .

فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعيّة يحقّق بذلك مصلحةً شخصيّة أيضاً ، باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخصٍ تعرّضت للخطر ، فقد أفاد نفسه أيضاً ؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعيّة ، فيعود عليه نصيب منها ، وإذن فالدافع الشخصيّ والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعيّة وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ، ومنافع فرديّة .

٣٤

وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال فتصوّر بنفسك : أنّ المقياس العمَلي في الحياة لكلّ فردٍ في الأمّة ، إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة توفّر للفرد حرّيّاته ، وتقدّسه بغير تحفّظ ولا تحديد فما هو وَضع العمل الاجتماعيّ مِن قاموس هؤلاء الأفراد ؟! وكيف يمكن أنْ يكون اتّصال المصلحة الاجتماعيّة بالفرد ، كافياً لتوجيه الأفراد نحو الأعمال ، التي تدعو إليها القِيَم الخُلُقيّة ؟! .

مع أنّ كثيراً مِن تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيءٍ مِن النفْع ، وإذا اتّفق أنْ كان فيها شيءٌ مِن النفْع باعتباره فرداً مِن المجتمع ، فكثيراً ما يزاحم هذا النفع الضئيل ، الذي لا يُدركه الإنسان ، إلاّ في نظرة تحليليّة ، بفوات منافع عاجلة أو مصالح فرديّة ، تجد في الحرّيّات ضماناً لتحقيقها ، فيُطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي .

مآسي النظام الرأسماليّ :

وإذا أردنا أنْ نستعرض الحلقات المتسلسلة مِن المآسي الاجتماعيّة ، التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل ، لا على أساس فلسفيّ مدروس.. فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ، ولذا نلمح إليها :

فأوّل تلك الحلَقات : تحكّم الأكثريّة في الأقلّيّة ، ومصالحها ومسائلها الحيوية .

فإنّ الحرّية السياسيّة كانت تعني : أنّ وَضع النظام والقوانين ، وتمشِيَتها مِن حقّ الأكثريّة ، ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثّل الأكثريّة في الأمّة ملَكَت زمام الحُكم والتشريع ، وهي تحمل العقليّة الديمقراطيّة الرأسماليّة ، وهي عقليّة مادّية خالصةفي اتّجاهها ، ونزعاتها وأهدافها ، فماذا يكون مصير الفئة الأخرى ؟ أو ماذا ترتقب للأقلّيّة مِن حياةٍ في ظِلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثريّة ، ولحِفظ مصالحها ؟! وهل يكون مِن الغريب حينئذٍ إذا شرّعت الأكثريّة القوانين ، على ضوء مصالحها الخاصـّة ، وأهملت مصالح الأقلّيّة ، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مُجحفاً بحقوق الآخرين ؟ .

٣٥

فمَن الذي يحفظ لهذه الأقلّيّة كيانها الحيَوي ، ويذبّ عن وجهها الظُلم ، ما دامت المصلحة الشخصيّة هي مسألة كلّ فرد ، وما دامت الأكثريّة لا تعرف للقِيَم الروحيّة والمعنويّة مفهوماً في عقليّتها الاجتماعيّة ؟؟.

وبطبيعة الحال : أنّ التحكّم سوف يبقى في ظِلّ النظام ، كما كان في السابق ، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخَرين ومصالحهم.. ستحفظ في الجوّ الاجتماعيّ لهذا النظام ، كحالها في الأجواء الاجتماعيّة القديمة ، وغاية ما في الموضوع مِن فَرْقٍ : أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانيّة كان مِن قِبَل أفرادٍ بأُمّة ، وأصبح في هذا النظام مِن الفئات التي تمثّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلّيّات ، التي تُشكّل بمجموعها عدداً هائلاً مِن البشَر .

ولَيت الأمْر وَقْف عند هذا الحدّ ، إذاً لكانت المأساة هيّنة ، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض مِن دموع ، بل إنّ الأمْر تفاقَم واشتدّ حين برزَت المسألة الاقتصاديّة مِن هذا النظام بعد ذلك ، فقرّرت الحرّية الاقتصاديّة على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً ، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً ، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه ، وضمِنَتْ تحقيق ما أعلنت عنه .

في الوقت الذي كان العالَم يحتفل بانقلابٍ صناعيٍّ كبير، والعِلم يتمخّض عن ولادة الآلة التي قلَبَتْ وجْه الصناعة ، وكسحتْ الصناعات اليدوِيّة ونحوها ، فانكشف الميدان عن ثراءٍ فاحش مِن جانب الأقلّيّة مِن أفراد الأمّة ، ممّن أتاحت لهم الفُرَص وسائل الإنتاج الحديث ، وزوّدتهم الحرّيات الرأسماليّة غير المحدودة بضمانات كافية ؛ لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدّ ، والقضاء بها على كثيرٍ مِن فئات الأمّة ، التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها ، وزعزعت حياتها ، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيّار ، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصاديّة ، وبحقوق الحرّيات المقدّسة كلّها .

٣٦

وهكذا خلا الميدان إلاّ مِن تلك الصفوة مِن أرباب الصناعات والإنتاج ، وتضاءلت الفئة الوسطى ، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض ، وصارت هذه الأكثريّة المحطّمة تحت رحمة تلك الصفوة ، التي لا تفكّر ولا تحسب ، إلاّ على الطريقة الديمقراطيّة الرأسماليّة .

ومِن الطبيعي حينئذٍ أنْ لا تُمدّ يَدُ العطف والمعونة إلى هؤلاء ، لتنتشِلَهم مِن الهُوّة ، وتُشرِكهم في مغانمها الضخمة ولماذا تفعل ذلك ؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة ، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل ، وما دام النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ يضيق بالفلسفة المعنويّة للحياة ، ومفاهيمها الخاصّة ؟! .

فالمسألة إذاً يجب أنْ تُدرس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام ، وهي : أنْ يستغِل هؤلاء الكُبراء حاجة الأكثريّة إليهم ومقوّماتهم المعيشيّة ، فيفرض على القادرين العمل في ميادينهم ومصانعهم ، في مدّةٍ لا يمكن الزيادة عليها ، وبأثمانٍ لا تفي إلاّ بالحياة الضروريّة لهم .

هذا هو منطق المنفعة الخالص ، الذي كان مِن الطبيعي أنْ يسلكوه ، وتنقسم الأمّة بسبب ذلك إلى : فئةٍ في قمّة الثراء ، وأكثريّةٍ في المهوى السحيق .

وهنا يتبلوَر الحقّ السياسي للأمّة مِن جديد بشكلٍ آخر ، فالمساواة في الحقوق السياسيّة بين أفراد المواطنين ، وإنْ لم تُمحَ مِن سِجِلّ النظام ، غير أنّها لمْ تُعَد بعد هذه الزعازع ، إلاّ خيالاً وتفكيراً خالصاً : فإنّ الحرّية الاقتصاديّة حين تُسجّل ما عرضناه مِن نتائج ، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مَرّ في العرض ، وتكون هي المسيطرة على الموقف ، والماسكة بالزمام ، وتقهر الحرّية السياسيّة أمامها.

فإنّ الفئة الرأسماليّة بحُكم مركزها الاقتصاديّ مِن المجتمع ، وقُدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية ، وتمكّنها مِن شراء الأنصار والأعوان.. تُهيمن على مقاليد الحُكم في الأمّة ، وتتسلّم السلطة ؛ لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها ، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعيّ خاضعاً لسيطرة رأس المال ، بعد أنْ كان المفروض في المفاهيم الديمقراطيّة أنّه مِن حقّ الأمّة جمعاء .

٣٧

هكذا تعود الديمقراطيّة الرأسماليّة في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلّيّة ، وسُلطاناً يحمي به عدّةٌ مِن الأفراد كيانَهم على حساب الآخَرين ، بالعقليّة النفعيّة التي يستوحونها مِن الثقافة الديمقراطيّة الرأسماليّة .

ونصل هنا إلى أفظع حلَقات المأساة التي يمثّلها هذا النظام ، فإنّ هؤلاء السادة الذين وضَع النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ في أيديهم كلَّ نفوذ ، وزوّدهم بكلّ قوّة وطاقة.. سوف يمدّون أنظارهم - بوحيٍ مِن عقليّة هذا النظام - إلى الآفاق ، ويشعرون - بوحيٍ مِن مصالحهم وأغراضهم - أنّهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة ؛ وذلك لسببَين :

الأوّل : إنّ وُفرة الإنتاج تتوقّف على مدى توفّر الموادّ الأوّلية وكثرتها ، فكلّ مَن يكون حظّه مِن تلك الموادّ أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر .

وهذه الموادّ منتشرة في بلاد الله العريضة وإذا كان مِن الواجب الحصول عليها ، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملِك الموادّ ؛ لامتصاصها واستغلالها .

الثاني : إنّ شدّة حركة الإنتاج وقوّتها بدافعٍ مِن الحرص على كَثرة الربح مِن ناحية ، وانخفاض المستوى المعيشي لكثير مِن المواطنين ، بدافع مِن الشَرَه المادّي للفئة الرأسماليّة ، ومغالبتها للعامّة على حقوقها بأساليبها النفعيّة ، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها...

كلّ ذلك يجعل كِبار المنتجين في حاجةٍ ماسّة إلى أسواق جديدة ؛ لبَيع المنتجات الفائضة فيها ، وإيجاد تلك الأسواق يعني : التفكير في بلادٍ جديدة .

وهكذا تُدرَس المسألة بذهنيّة مادّية خالصة ومِن الطبيعي لمِثل هذه الذهنيّة - التي لم يرتكز نظامها على القيَم الروحيّة والخُلُقيّة ، ولمْ يعترف مذهبها الاجتماعيّ بغايةٍ إلاّ إسعاد هذه الحياة المحدودة ، بمختلف المُتع والشهوات - أنْ ترى في هذين السببَين مبرّراً ومسوّغاً منطقيّاً للاعتداء على البلاد الآمنة ، وانتهاك كرامتها والسيطرة على مقدّراتها ومواردها الطبيعيّة الكبـرى ، واستغلال ثرواتها ؛ لترويج البضائع الفائضة .

٣٨

فكل ذلك أمْرٌ معقول وجائز في عُرف المصالح الفرديّة ، التي يقوم على أساسها النظام الرأسماليّ ، والاقتصاد الحرّ .

وينطلق مِن هنا عملاقٌ يغزو ويحارب ، ويُقيِّد ويكبِّل ، ويستعمر ويستثمر ، إرضاءً للشهوات ، وإشباعاً للرغبات .

فانظُر ماذا قاست الإنسانيّة مِن وَيلات هذا النظام ، باعتباره مادّياً في روحه وصياغته وأساليبه وأهدافه ، وإنْ لم يكن مركّزاً على فلسفة محدودة تتّفق مع تلك الروح والصياغة ، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف ، كما ألمعنا إليه ؟!! .

وقدِّر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه مِن السعادة والاستقرار ، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة ، والتراحم والتعاطف الحقيقي ، وجميع الاتّجاهات الروحيّة الخيِّرة ، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنّه المسؤول عن نفسه وحده ، وأنّه في خطرٍ مِن قِبَل كلّ مصلحة مِن مصالح الآخَرين ، التي قد تصطدم به فكأنّه يحيا في صراعٍ دائم ومغالبة مستمرّة ، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصّة ، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصّة .

٣٩

الاشتراكيّة والشيُوعيّة

* النظريّة الماركسيّة .

* الانحراف عن العمليّة الشيوعيّة .

* المؤاخذات على الشيوعيّة .

٤٠