الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 60190
تحميل: 7532

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60190 / تحميل: 7532
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النظريّة الماركسيّة :

في الاشتراكيّة مذاهب متعدّدة ، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظريّة الماركسيّة والمادّية الجَدَليّة ، التي هي عبارة عن : فلسفة خاصّة للحياة ، وفَهْمٍ مادّيٍّ لها على طريقةٍ ديالكتيكيّة.

وقد طبّق المادّيّون الديالكتيكيّون هذه المادّيّة الديالكتيكيّة على التاريخ والاجتماع والاقتصاد ، فصارت عقيدةً فلسفيّة في شأن العالَم ، وطريقةً لدرس التاريخ والاجتماع ، ومذهباً في الاقتصاد ، وخطّةً في السياسة .

وبعبارةٍ أخرى : أنّها تصوغ الإنسان كلّه في قالَبٍ خاصّ ، مِن حيث لون تفكيره ووِجهة نظَره إلى الحياة ، وطريقته العِلميّة فيها .

ولا رَيب في أنّ الفلسفة المادّية ، وكذلك الطريقة الديالكتيكيّة.. ليسَتا مِن بِدَع المذهب الماركسيّ وابتكاراته ، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي ، سافرةً تارةً ، ومتوارِيةً أخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق .

كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقةُ الجذور ، ببعض خطوطها في التفكير الإنسانيّ ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وإنّما جاء (كارل ماركس) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاها ، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة ، فقام بتحقيقَين :

أحدهما : أنْ فسَّر التاريخ تفسيراً مادّيّاً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة .

٤١

والآخر : زعَم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة ، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته مِن العامل(١) .

وأشاد على أساس هذَين التحقيقَين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسماليّ ، وإقامة المجتمع الشيوعيّ والمجتمع الاشتراكيّ ، الذي اعتبره خطوةً للإنسانيّة ، إلى تطبيق الشيوعيّة تطبيقاً كاملاً .

فالميدان الاجتماعيّ في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات ، وكلّ وَضْعٍ اجتماعيٍّ يسود ذلك الميدان ، فهو ظاهرة مادّيّة خالصة ، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّيّة ، ومتأثّرة بها ، غير أنّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه ، وينشب حينئذٍ الصراع بين النقائض في محتواه ؛ حتّى تتجمّع المتناقضات ، وتُحدِث تبدّلاً في ذلك الوضع ، وإنشاءاً لوضعٍ جديـد .

وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدةً ، وتتمثّل مصالح كلّ فردٍ في مصالح تلك الطبقة الموحّدة ، في تلك اللحظة يسود الوئام ، ويتحقّق السلام وتزول نهائيّاً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطيّ الرأسماليّ ؛ لأنّها إنّما كانت تتولّد مِن تعدّد الطبقة في المجتمع ، وهذا التعدّد إنّما نشأ مِن انقسام المجتمع إلى مُنتِجٍ وأجير.

_________________

(١) شرحنا هذه النظريّات مع دراسةٍ عِلميّةٍ مفصّلة في كتاب ( اقتصادنا ) .

٤٢

وإذاً فلابدّ مِن وضْع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام ، وذلك بإلغاء المِلكيّة ، وتختلف هنا الشيوعيّة عن الاشتراكيّة في الخطوط الاقتصاديّة الرئيسيّة ؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز :

أوّلاً : على إلغاء المِلكيّة الخاصّة ، ومحْوها محواً تامّاً مِن المجتمع ، وتمليك الثروة كلّها للمجموع ، وتسليمها إلى الدولة ، باعتبارها الوكيل الشرعيّ عن المجتمع في إدارتها ، واستثمارها لخير المجموع .

واعتقاد المذهب الشيوعيّ بضرورة هذا التأميم المطلَق ، إنّما كان ردّ الفِعل الطبيعيّ لمضاعفات المِلكيّة الخاصّة في النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ وقد برّر هذا التأميم : بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسماليّة ، وتوحيد الشعب في طبقةٍ واحدةٍ ؛ ليختم بذلك الصراع ، ويسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب ؛ لتضخيم ثروته ، إشباعاً لجَشَعِه ، واندفاعاً بدافع الإثرة وراء المصلحة الشخصيّة .

ثانياً : على توزيع السِلَع المنتَجة على حسَب الحاجات الاستهلاكيّة للأفراد ، ويتلخّص في النصّ الآتي : ( مِن كلٍّ حسَب قدرته ، ولكلٍّ حسب حاجته ) ؛ وذلك أنّ كلَّ فردٍ له حاجات طبيعيّة لا يُمكنه الحياة بدون توفيرها ، فهو يدفع للمجتمع كلّ جُهده ، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته ، ويقوم بمعيشته .

ثالثاً : على منهاجٍ اقتصاديٍّ ترسمه الدولة ، وتوفّق فيه بين حاجة المجموع ، والإنتاج في كمّيّته وتنويعه وتحديده ؛ لئلاّ يُمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزَمات ، التي حصلت في المجتمع الرأسماليّ حينما أطلَق الحرّيّات بغير تحديد .

٤٣

الانحراف عن العمليّة الشيوعيّة :

ولكن أقطاب الشيوعيّة الذين نادَوا بهذا النظام ، لم يستطيعوا أنْ يُطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحُكم ، واعتقدوا أنّه لابدّ لتطبيقه مِن تطوير الإنسانيّة في أفكارها ودوافعها ونزعاتها ، زاعمين : أنّ الإنسان سوف يجيء عليه اليوم ، الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصيّة والعقليّة والفرديّة ، وتحيا فيه العقليّة الجماعيّة والنوازع الجماعيّة ، فلا يفكّر إلاّ في المصلحة الاجتماعيّة ، ولا يندفع إلاّ في سبيلها .

ولأجل ذلك كان مِن الضروريّ - في عُرف هذا المذهب الاجتماعيّ - إقامة نظامٍ اشتراكيٍّ قبل ذلك ؛ ليتخلّص فيه الإنسان مِن طبيعته الحاضـرة ، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعيّ وهذا النظام الاشتراكيّ أُجريَت فيه تعديلات مهمّة ، على الجانب الاقتصاديّ مِن الشيوعيّة فالخطّ الأوّل مِن خطوط الاقتصاد الشيوعيّ - وهو إلغاء المِلكيّة الفرديّة - قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط ، وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجيّة والتجارات الداخليّـة ، ووَضْعها جميعاً تحت الانحصار الحكوميّ .

وبكلمةٍ أخرى : إلغاء رأس المال الكبير ، مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وترْكها للأفراد ؛ وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعيّ اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانيّة ، الذي أشرنا إليه ، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ، ويتهرّبون مِن واجباتهم الاجتماعيّة ؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدّ حاجاتهم .

كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجُهد ، مهما كان شديداً لأكثر مِن ذلك ؟ فعلامَ إذن يجهد الفرد ويكدح ويجِـدّ ، ما دامت النتيجة في حسابه ، هي النتيجة في حالَيْ الخمول والنشاط ؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره ، وشراء راحة الآخَرين بعَرَقِه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته ، ما دام لا يؤمن بقيمةٍ مِن قِيَم الحياة إلاّ القيمة المادّيّة الخالصة؟؟! .

٤٤

فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلَق ، كما اضطرّوا أيضاً إلى تعديل الخطّ الثاني مِن خطوط الاقتصاد الشيوعيّ أيضاً : وذلك بجَعْل فوارق بين الأجور ؛ لدفْع العمّال إلى النشاط والتكامل في العمل ، معتذرين بأنّها فوارق موقّتة ، سوف تزول حينما يقضي على العقليّة الرأسماليّة ، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً وهُم لأجل ذلك يُجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصاديّة وأساليبهم الاشتراكيّة ، لتدارك فشَل كلّ طريقةٍ بطريقةٍ جديـدة .

ولم يُوَفّقوا حتّى الآن للتخلّص مِن جميع الركائز الأساسيّة في الاقتصاد الرأسماليّ ، فلمْ تُلغَ مثلاً القروض الربَوِيّة نهائيّاً ، مع أنّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعيّ في الاقتصاد الرأسماليّ .

ولا يعني هذا كلّه : أنّ أولئك الزعماء مقصّرون ، أو أنّهم غير جادّين في مذهبهم ، وغير مخلصين لعقيدتهم.. وإنّما يعني : أنّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق ، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات ، التي تضعها الطبيعة الإنسانيّة أمام الطريقة الانقلابيّة للإصلاح الاجتماعي ، الذي كانوا يبشّرون به ، ففرض عليهم الواقع التراجع آملين أنْ تتحقّق المعجزة ، في وقتٍ قريبٍ أو بعيد .

وأمّا مِن الناحية السياسيّة : فالشيوعيّة تستهدف في نهاية شَوطها الطويل إلى مَحْو الدولة مِن المجتمع ، حين تتحقّق المعجزة وتعمّ العقليّة الجماعيّة كلّ البشَر ، فلا يفكّر الجميع إلاّ في المصلحة المادّية للمجموع ، وأمّا قبل ذلك مادامت المعجزة غير محقّقـة ، وما دام البشَر غير موحَّدين في طبقة ، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسماليّة وعمّاليّة ، فاللازم أنْ يكون الحُكم عمّاليّاً خالصاً ، فهو حُكمٌ ديمقراطيٌّ في حدود دائرة العمّال ، ودكتاتوريٌّ بالنسبة إلى العموم .

وقد علّلوا ذلك : بأنّ الدكتاتوريّة العمّاليّة في الحُكم ضروريّة في كلّ المراحل ، التي تَطْويها الإنسانيّة بالعقليّة الفرديّة ؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العاملة ، وخنقاً لأنفاس الرأسماليّة ، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان مِن جديد .

٤٥

والواقع أنّ هذا المذهب ، الذي يتمثّل في الاشتراكيّة الماركسيّة ، ثمّ في الشيوعيّة الماركسيّة ، يمتاز عن النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ : بأنّه يرتكز على فلسفة مادّيّة معيّنة ، تتبنّى فَهْماً خاصّاً للحياة ، لا يعترف لها بجميع المُثُل والقِيَم المعنويّة ، ويعلّلها تعليلاً لا موضع فيه لخالقٍ فوق حدود الطبيعة ، ولا لجزاءٍ مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة ، وهذا على عكس الديمقراطيّة الرأسماليّة ، فإنّها وإنْ كانت نظاماً مادّياً ، ولكنّها لمْ تُبنَ على أساسٍ فلسفيٍّ محدّد ، فالربط الصحيح بين المسألة الواقعيّة للحياة والمسألة الاجتماعيّة ، آمنت به الشيوعيّة المادّية ، ولمْ تؤمن به الديمقراطيّة الرأسماليّة ، أو لمْ تحاول إيضاحه .

وبهذا كان المذهب الشيوعيّ حقيقاً بالدرس الفلسفيّ ، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة ، التي ركّز عليها وانبثق عنها ، فإنّ الحُكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفيّة ، في تصوير الحياة وإدراكها .

ومِن السهل أنْ ندرك في أوّل نظرة نُلقيها على النظام الشيوعيّ المخفّف ، أو الكامل : أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع ، وجعله آلة مسخّرة ؛ لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها فهو على النقيض تماماً مِن النظام الرأسماليّ الحُرّ ، الذي يجعل المجتمع للفرد ، ويسخّره لمصالحه فكأنّه قـد قدّر للشخصيّة الفرديّة ، والشخصيّة الاجتماعيّة - في عُرف هذين النظامَين - أنْ تتصادما وتتصارعا.

فكانت الشخصيّة الفرديّة هي الفائزة في أحد النظامين ، الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتيّة ، فمُنيَ المجتمع بالمآسي الاقتصاديّة التي تُزعزِع كيانه ، وتشوّه الحياة في جميع شُعَبِها .

وكانت الشخصيّة الاجتماعيّة هي الفائزة في النظام الآخَر ، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق ، فساند المجتمع ، وحَكَم على الشخصيّة الفرديّة بالاضمحلال والفناء ، فأُصيب الأفراد بمِحَنٍ قاسيةٍ قضتْ على حرّيتهم ، ووجودهم الخاصّ ، وحقوقهم الطبيعيّة في الاختيار والتفكير .

٤٦

المؤاخذات على الشيوعيّة :

والواقع أنّ النظام الشيوعيّ وإنْ عالَج جملةً مِن أدواء الرأسماليّة الحرّة ، بمَحوِه للمِلكيّة الفرديّة ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعيّة تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفْس ، لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطُرُق والأساليب هذا مِن ناحية ، ومِن ناحيةٍ أخرى هو علاج ناقص ، لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعيّ كلّه ؛ لأنّه لمْ يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالَم في ظلّ الأنظمة الرأسماليّة ، فبقيَت تلك النقطة محافظة على موضعها مِن الحياة الاجتماعيّة في المذهب الشيوعيّ .

وبهذا لمْ تظفر الإنسانيّة بالحلّ الحاسم لمشكلتها الكبرى ، ولمْ تحصل على الدواء الذي يُطبِّب أدواءها ، ويستأصل أعراضها الخبيثة .

أمّا مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدّاً : فإنّ مِن شأنه القضاء على حرّيّات الأفراد ، لإقامة المِلكيّة الشيوعيّة مقام المِلكيّات الخاصّة ؛ وذلك لانّ هذا التحويل الاجتماعيّ الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانيّة العامّة ، إلى حدّ الآن على الأقلّ ، كما يعترف بذلك زعماؤه ، باعتبار أنّ الإنسان المادّي لا يزال يفكّر تفكيراً ذاتيّاً ، ويحسب مصالحه مِن منظاره الفرديّ المحدود .

ووَضع تصميمٍ جديدٍ للمجتمع ، يذوب فيه الأفراد نهائيّاً ، ويقضي على الدوافع الذاتيّة قضاءً تامّاً.. موضع التنفيذ ، يتطلّب قوّةً حازمةً تُمسِك زمام المجتمع بيدٍ حديديّةٍ ، وتحبس كلّ صَوت يعلو فيه ، وتخنق كلَّ نَفَسٍ يتردّد في أوساطه ، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشْر ، وتضرب على الأمّة نطاقاً لا يجوز أنْ تتعدّاه بحالٍ ، وتعاقب على التُهمة والظِنّة ؛ لئلاّ يفلت الزمام مِن يدها فجأةً .

وهذا أمْرٌ طبيعيٌّ في كلّ نظامٍ ، يُراد فرضه على الأمّة ، قبل أنْ تنضُج فيها عقليّة ذلك النظام ، وتعمّ روحيّته .

٤٧

نعَمْ ، لو أخَذ الإنسان المادّي يفكّر تفكيراً اجتماعيّاً ، ويعقل مصالحه بعقليّةٍ جماعيّةٍ ، وذابتْ مِن نفْسه جميع العواطف الخاصّة ، والأهواء الذاتيّة والانبعاثات النفسيّة.. لأمكن أنْ يقوم نظام يذوب فيه الأفراد ، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعيّ الكبير .

ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادّي ، الذي لا يؤمن إلاّ بحياةٍ محدودةٍ ، ولا يعرف معنىً لها إلاّ اللذّة المادّية ، يحتاج إلى معجزةٍ تخلُق الجنّة في الدنيا ، وتنزل بها مِن السماء إلى الأرض .

والشيوعيّون يَعِدوننا بهذه الجنّة ، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الإنسان ، ويخلُقُه مِن جديد إنساناً مثاليّاً في أفكاره وأعماله ، وإنْ لم يكن يؤمِن بذرَّةٍ مِن القِيَم المثاليّة والأخلاقيّة ولو تحقّقت هذه المعجزة ، فلنا معهم حينئذٍ كـلامٌ .

وأمّا الآن ، فوضْع التصميم الاجتماعيّ الذي يرومونه ، يستدعي حبْس الأفراد في حدودِ فِكرة هذا التصميم ، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته ، والاحتياط له بكَبْت الطبيعة الإنسانيّة والعواطف النفسيّة ، ومنعها عن الانطلاق بكلّ أسلوبٍ مِن الأساليب .

والفرد في ظِلِّ هذا النظام ، وإنْ كسَب تأميناً كاملاً ، وضماناً اجتماعيّاً لحياته وحاجاته ؛ لأنّ الثروة الجماعيّة تمدّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة ، ولكن أليس مِن الأحسن بحال هذا الفرد : أنْ يظفر بهذا التأمين دون أنْ يخسر استنشاق نسيم الحرّية المهذّبة ، ويضطرّ إلى إذابة شخصه في النار ، وإغراق نفْسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم ؟! .

وكيف يمكن أنْ يطمع بالحرّية - في ميدان مِن الميادين - إنسانٌ حُرِم مِن الحرّية في معيشته ورُبطتْ حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معيّنة ، مع أنّ الحرّية الاقتصاديّة والمعيشيّة هي أساس الحرّيات جميعاً .

٤٨

ويعتذر عن ذلك المعتذرون ، فيتساءلون : ماذا يصنع الإنسان بالحرّية والاستمتاع بحقّ النقْد ، والإعلان عن آرائه ، وهو يرزح تحت عِبءٍ اجتماعيٍّ فظيع ؟! وماذا يُجديه أنْ يناقش ويعترض ، وهو أحوَج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج ، الذي تُنتجُه له الحرّية ؟!.

وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطيّة الرأسماليّة ، كأنّها القضية الاجتماعيّة الوحيدة ، التي تنافس قضيّتهم في الميدان ، فانتقصوا مِن قِيمة الكرامة الفرديّة وحقوقها ؛ لأنّهم رأَوا فيها خطراً على التيّار الاجتماعيّ العامّ .

ولكن مِن حقّ الإنسانيّة أنْ لا تُضحّي بشيءٍ مِن مقوّماتها وحقوقها ، ما دامت غير مضطرّة إلى ذلك ، وأنّها إنّما تقف موقف التخيير : بين كرامةٍ هي مِن الحقّ المعنويّ للإنسانيّة ، وبين حاجةٍ هي مِن الحقّ المادّي لها ، إذا أعْوَزها النظام الذي يجمع بين الناحيتَين ، ويوفّق إلى حلّ المشكلتَين .

إنّ إنساناً يعتصر الآخَرون طاقاته ، ولا يطمئن إلى حياةٍ طيّبة ، وأجْرٍ عادلٍ ، وتأمينٍ في أوقات الحاجة.. لَهُوَ إنسانٌ قد حُرِم مِن التمتّع بالحياة ، وحِيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرّة .

كما أنّ إنساناً يعيش مهدّداً في كلِّ لحظةٍ ، محاسَباً على كلِّ حركةٍ ، معرّضاً للاعتقال بدون محاكمة ، وللسجن والنفي والقتْل لأدنى بادرة.. لَهُوَ إنسان مروّع مرعوب ، يسلُبْه الخوف حلاوة العَيش ، ويُنغِّص الرعبُ عليه مَلاذّ الحياة .

والإنسان الثالث المطمئنّ إلى معيشته ، الواثق بكرامته وسلامته ، هو حُلُم الإنسانيّة العذِب ، فكيـف يتحقّق هذا الحلُم ؟ ومتى يصبح حقيـقـةً واقعـة ؟ .

وقد قلنا : إنّ العلاج الشيوعيّ للمشكلة الاجتماعيّة ناقصٌ ، مضافاً إلى ما أشرنا إليه مِن مضاعفات فهو : وإنْ كان تتمثّل فيه عواطف ومشاعر إنسانيّة ، آثارها الطغيان الاجتماعيّ العامّ ، فأهاب بجملةٍ مِن المفكّرين إلى الحلّ الجديد ، غير أنّهم لمْ يضعوا أيديهم على سببِ الفساد ؛ ليقضوا عليه ، وإنّما قضَوا على شيءٍ آخَر ، فلمْ يُوفّقوا في العلاج ، ولم ينجحوا في التطبيب .

٤٩

إنّ مبدأ المِلكيّة الخاصّة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسماليّة المطلَقة ، التي زعزعت سعادة العالَم وهناءه ، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين مِن العمّال ، في سبيل استثمار آلةٍ جديدةٍ تقضي على صناعاتهم ، كما حدَث في فجْر الانقلاب الصناعيّ ، ولا هو الذي يفرض التحكّم في أجور الأجير وجهوده بلا حساب ، ولا هو الذي يفرض على الرأسماليّ أنْ يُتلف كمّيات كبيرة مِن منتوجاته ، تحفّظاً على ثمن السِلعة ، وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها ، ولا هو الذي يدعوه إلى جعْل ثروته رأس مالِ كاسبٍ يضاعفه بالربا ، وامتصاص جهود المَدِينين بلا إنتاج ولا عمل .

ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكيّة مِن الأسواق ؛ ليحتكرها ويرفع بذلك مِن أثمانها ، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواقٍ جديدة ، وإنْ اُنتهكت بذلك حرّيات الأُمم وحقوقها ، وضاعت كرامتها وحرّيتها...

كلّ هذه المآسي المروّعة لمْ تنشأ مِن المِلكيّة الخاصّة ، وإنّما هي وليدةِ المصلحة المادّية الشخصيّة ، التي جُعِلت مقياساً للحياة في النظام الرأسماليّ ، والمبرّر المطلَق لجميع التصرّفات والمعاملات .

فالمجتمع حين تُقام أُسُسه على هذا المقياس الفرديّ ، والمبرّر الذاتيّ لا يمكن أنْ يُنتظَر منه غير ما وقع فإنّ مِن طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعَنات والوَيلات على الإنسانيّة كلّها ، لا مِن مبدأ المِلكيّة الخاصّة ، فلو أُبدل المقياس ووُضِعت للحياة غايةٌ جديدة مهذّبة ، تنسجم مع طبيعة الإنسـان ؛ لتحقّق بذلك العلاج الحقيقيّ للمشكلة الإنسانيّة الكبرى .

٥٠

الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة

* التعليل الصحيح للمشكلة

* كيف تُعالَج المشكلة ؟

* رسالة الدِين

٥١

التعليل الصحيح للمشكلة :

ولأجل أنْ نصل إلى الحلَقة الأُولى في تعليل المشكلة الاجتماعيّة ، علينا أنْ نتساءل عن تلك المصلحة المادّية الخاصّة - التي أقامها النظام الرأسماليّ ، مقياساً ومبرّراً وهدفاً وغاية - نتساءل : ما هي الفكرة التي صحّحت هذا المقياس في الذهنيّة الديمقراطيّة الرأسماليّة ، وأَوحَت به ؟ فإنّ تلك الفكرة هي الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعيّ ، وفَشَل الديمقراطيّة الرأسماليّة في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته ، وإذا استطعنا أنْ نقضي على تلك الفكرة ، فقد وضعنا حدّاً فاصلاً لكلّ المؤامرات على الرفاه الاجتماعيّ ، والالتواءات على حقوق المجتمع وحرّيته الصحيحة ، ووُفِّقنا إلى استثمار المِلكيّة الخاصّة لخير الإنسانيّة ورُقِيّها ، وتقدّمها في المجالات الصناعيّة ، وميادين الإنتاج .

فما هي تلك الفكرة ؟.

إنّ تلك الفكرة تتلخّص في التفسير المادّي المحدود للحياة ، الذي أشاد عليه الغَرْب صَرْحَ الرأسماليّة الجبّار فإنّ كلّ فردٍ في المجتمع ، إذا آمَن بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم : هو حياته المادّية الخاصّة ، وآمن أيضاً بحرّيته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها ، وإنّه لا يمكن أنْ يكسب مِن هذه الحياة غايةً ، إلاّ اللذّة التي توَفّرها له المادّة .

وأضاف هذه العقائد المادّية إلى حبّ الذات ، الذي هو مِن صميم طبيعته ، فسوف يسلك السبيل الذي سلَكَه الرأسماليّون ، ويُنفّذ أساليبهم كاملة ، ما لم تحرِمْه قوّةٌ قاهرة مِن حرّيته ، وتسدّ عليه السبيل .

وحبّ الذات : هو الغريزة التي لا نعرف غريزةً أعمّ منها وأقْدَم ، فكلّ الغرائز فروعُ هذه الغريزة وشُعَبِها ، بما فيها غريزة المعيشة فإنّ حبّ الإنسان ذاته - الذي يعني حبّه للّذّة والسعادة لنفسه ، وبُغضه للألم والشقاء لذاته - هو الذي يدفع الإنسان إلى كسْب معيشته ، وتوفير حاجيّاته الغذائيّة والمادّية ؛ ولذا قد يضع حدّاً لحياته بالانتحار ، إذا وجَدَ أنّ تحمّل ألَم الموت أسهل عليه مِن تحمّل الآلام التي تزخر بها حياته .

٥٢

فالواقع الطبيعيّ الحقيقيّ إذن ، الذي يكمُن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها ، ويوجّهها بأصابعه هو : حبّ الذات ، الذي نُعبّر عنه بحبّ اللذّة وبُغض الألم ، ولا يمكن تكليف الإنسان أنْ يتحمّل مختاراً مَرارة الألَم ، دون شيءٍ مِن اللذّة ، في سبيل أنْ يلتذّ الآخَرون ويتنعّموا ، إلاّ إذا سُلبت منه إنسانيّتـه ، وأُعطِيَ طبيعةً جديدةً ، لا تتعشّق اللذّة ، ولا تكره الألَم .

وحتّى الألوان الرائعة مِن الإيثار ، التي نشاهدها في الإنسان ، ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة أيضاً لتلك القوّة المحرّكة الرئيسيّة : ( غريزة حبّ الذات ).

فالإنسان قد يؤثّر ولَدُه أو صديقُه على نفسه ، وقد يُضحّي في سبيل بعض المُثُل والقِيَم ، ولكنّه لن يقدِم على شيءٍ مِن هذه البطولات ما لمْ يحسّ فيها بلذّةٍ خاصّة ، ومنفعة تفوق الخسارة ، التي تنجم عن إيثاره لولَدِه وصديقه ، أو تضحيَته في سبيل مَثَل مِن المُثُل التي يؤمن بها .

وهكذا يمكننا أنْ نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة ، في مجالات الأنانيّة والإيثار على حدٍّ سواء ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياءٍ متنوّعة : مادّية كالالتذاذ بالطعام والشراب ، وألوان المُتعة الجنسيّة ، وما إليها مِن اللذائذ المادّية أو معنويّة كالالتذاذ الخُلُقيّ والعاطفيّ ، بقِيَمٍ خُلُقيّة أو أليفٍ روحيٍّ أو عقيدةٍ معيّنة ، حين يجد الإنسان أنّ تلك القِيَم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزء مِن كيانه الخاصّ .

وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المُتَع المتنوّعة ، تختلف في درجاتها عند الأشخاص ، وتتفاوت في مدى فِعليّتها.. باختلاف ظروف الإنسان ، وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة ، كاستعداده للالتذاذ الجنسيّ مثلاً ، نجد أنّ ألواناً أخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان ، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نُضجها وتفتّحها .

٥٣

وغريزة حبّ الذات مِن وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدّد سلوك الإنسان ، وِفقاً لمدى نُضج تلك الاستعدادات ، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعامٍ على آخَر وهو جائع ، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخَر لإيثار الغير بالطعام على نفسه ؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقِيَم الخُلُقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً ، ولمْ تتحْ له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميَته ، بينما ظفر الآخَر بهذا اللون مِن التربية ، فأصبح يلتذّ بالقيَم الخلُقيّة والعاطفيّة ، ويُضحّي بسائر لذّاته في سبيلهـا .

فمتى أردنا أنْ نُغيِّر مِن سلوك الإنسان شيئاً ، يجب أنْ نغيّر مِن مفهوم اللذّة والمنفعة عنده ، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حبّ الذات .

فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة مِن دنيا الإنسان ، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن : طاقـة مادّية محدودة ، وكانت اللذّة عبارة : عمّا تهيّئه المادّة مِن مُتَعٍ ومسرّات ، فمِن الطبيعيّ أنْ يشعر الإنسان بأنّ مجال كسْبه محدود ، وأنّ شَوطه قصير ، وأنّ غايته في هذا الشوط أنْ يحصل على مقدارٍ مِن اللذّة المادّية وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصَب الحياة المادّية وهو المال ، الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهَواته .

هذا هو التسلسل الطبيعيّ في المفاهيم المادّية ، الذي يؤدّي إلى عقليّةٍ رأسماليّة كاملة .

أفترى أنّ المشكلة تُحلّ حلاًّ حاسماً ، إذا رفضنا مبدأ المِلكيّة الخاصّة ، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة ، كما حاول أولئك المفكّرون ؟! وهل يمكن أنْ ينجو المجتمع مِن مأساة تلك المفاهيم ، بالقضاء على المِلكيّة الخاصّة فقط ، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره ؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف - إلى حدٍّ بعيد - على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية ، في ميدان العمل والتنفيذ .

٥٤

والمفروض في هؤلاء المسؤولين ، أنّهم يعتنقون نفْس المفاهيم المادّية الخالصة ، عن الحياة التي قامت عليها الرأسماليّة ، وإنّما الفرْق : أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالِب فلسفيّة جديدة ، ومِن الفرْض المعقول الذي يتّفق في كثيرٍ مِن الأحايين ، أنْ تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع ، وأنْ يكون الفرد ، بين خسارةٍ وألَمٍ يتحمّلهما لحساب الآخَرين ، وبين ربْحٍ ولذّةٍ يتمتّع بهما على حسابهم ، فماذا تقدّر للأمّة وحقوقها ، وللمذهب وأهدافه ، مِن ضمان في مِثل هذه اللحظات الخطيرة ، التي تمُرُّ على الحاكمين ؟!.

والمصلحة الذاتيّة لا تتمثّل فقط في المِلكيّة الفرديّة ؛ ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه ، بإلغاء مبدأ المِلكيّة الخاصّة ، بل هي تتمثّل في أساليب وتتلوّن بألوان شتّى ودليل ذلك ما أخَذ يكشف عنه زعماء الشيوعيّة اليوم ، مِن خيانات الحاكمين السابقيـن ، والتوائهم على ما يتبنَّون مِن أهداف .

إنّ الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسماليّة في ظِلّ الاقتصاد المطلق ، والحرّيات الفرديّة ، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية.. تُسلّم - عند تأميم الدولة لجميع الثروات ، وإلغاء المِلكيّة الخاصّة - إلى نفْس جهاز الدولة ، المكوَّن مِن جماعةٍ تسيطر عليهم نفْس المفاهيم المادّية عن الحياة ، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصيّة بحُكم غريزة حبّ الذات ، وهي تأبى أنْ يتنازل الإنسان عن لذّةٍ ومصلحة بلا عِوَض .

وما دامت المصلحة المادّية هي القوّة المسيطرة ، بحُكم مفاهيم الحياة المادّية ، فسوف تُستأنَف مِن جديد ميادين للصراع والتنافس ، وسوف يعرض المجتمع لأشكال مِن الخطر والاستغلال .

فالخطر على الإنسانيّة يكمُن كلّه في تلك المفاهيم المادّية ، وما ينبثق عنها مِن مقاييس للأهداف والأعمال .

٥٥

وتوحيد الثروات الرأسماليّة - الصغيرة أو الكبيرة - في ثروةٍ كبرى يُسلّم أمرها للدولة ، مِن دون تطويرٍ جديدٍ للذهنيّة الإنسانيّة.. لا يدفع ذلك الخطر ، بل يجعل مِن الأمّة جميعاً عمّال شركةٍ واحدة ، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها .

نعَمْ إنّ هذه الشرِكة تختلف عن الشرِكة الرأسماليّة ، في أنّ أصحاب تلك الشرِكة الرأسماليّة هُم الذين يملكون أرباحها ، ويصرفونها في أهوائهم الخاصّة .

وأمّا أصحاب هذه الشرِكة فهُم لا يملكون شيئاً مِن ذلك ، في مفروض النظام ، غير أنّ ميادين المصلحة الشخصيّة لا تزال مفتوحة ، والفَهْم المادّي للحياة - الذي يجعل مِن تلك المصلحة هدفاً ومبرّراً - لا يزال قائماً .

كيف تعالَج المشكلة ؟

والعالَم أمامه سبيلان إلى دفْع الخطر ، وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ :

أحدهما : أنْ يُبدّل الإنسان غير الإنسان ، أو تُخلَق فيه طبيعة جديدة تجعله يُضحّي بمصالحه الخاصّة ، ومكاسب حياته المادّية المحدودة.. في سبيل المجتمع ومصالحه ، مع إيمانه بأنّه لا قِيَم إلاّ قِيَم تلك المصالح المادّية ، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة .

وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع مِن صميم طبيعته حبّ الذات ، وأُبدل بحبّ الجماعة ، فيولَد الإنسان وهو لا يحبّ ذاتـه ، إلاّ باعتبار كَونه جزءاً مِن المجتمع ، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه ، إلاّ بما أنّها تمثّل جانباً مِن السعادة العامّة ومصلحة المجموع فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنةً حينئذٍ للسعيِ وراء مصالحها ، وتحقيق متطلّباتها ، بطريقةٍ ميكانيكيّة وأسلوبٍ آليٍّ .

٥٦

والسبيل الآخر الذي يمكن للعالَم سلوكه ؛ لدرْء الخطر عن حاضر الإنسانيّة ومستقبلها هو : أنْ يُطوَّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة ، وبتطويره تتطوّر طبيعيّاً أهدافها ومقاييسها ، وتتحقّق المعجزة حينئذٍ مِن أيسر طريق .

والسبيل الأوّل هو الذي يحلُم أقطاب الشيوعيّين بتحقيقه للإنسانيّة في مستقبلها ، ويَعِدون العالَم بأنّهم سوف يُنشئونها إنشاءً جديداً ، يجعلها تتحرّك ميكانيكيّاً إلى خدمة الجماعة ومصالحها .

ولأجْل أنْ يتمّ هذا العمل الجبّار ، يجب أنْ نوكِل قيادة العالَم إليهم ، كما يوكَل أمْر المريض إلى الجرّاح ، ويُفوّض إليه تطبيقه وقطْع الأجزاء الفاسدة منه ، وتعديل المُعوَج منها ولا يعلم أحدٌ كمْ تطول هذه العمليّة الجراحيّة ، التي تجعل الإنسانيّة تحت مبضع جرّاح .

وإنّ استسلام الإنسانيّة لذلك لهُوَ أكبر دليل على مدى الظلم ، الذي قاستْه في النظام الديمقراطيّ الرأسماليّ ، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة ، وسلَب منها أخيراً كرامتها وامتصّ دماءها ؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون .

والفِكرة في هذا الرأي ، القائل : بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانيّة ، وإنشائها مِن جديد.. ترتكز على مفهوم الماركسيّة عن حبّ الذات فإنّ الماركسيّة تعتقد : أنّ حبّ الذات ليس مَيلاً طبيعيّاً ، وظاهرة غريزة في كيان الإنسان ، وإنّما هو نتيجة للوضْع الاجتماعيّ القائم على أساس المِلكيّة الفرديّة ، فإنّ الحالة الاجتماعيّة للمِلكيّة الخاصّة هي التي تُكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلُق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية .

٥٧

فإذا حدَثت ثورة في الأُسُس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعيّ ، وحَلّت المِلكيّة الجماعيّة والاشتراكيّة محلّ المِلكيّة الخاصّة ، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع ، وفي المحتوى الداخلي للإنسان ، فتنقلب مشاعره الفرديّة إلى مشاعر جماعيّة ، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبٍّ لمنافع الجماعة ومصالحها ؛ وِفقاً لقانون التوافق : بين حالة المِلكيّة الأساسيّة ، ومجموع الظواهر الفَوقيّة التي تتكيّف بموجِبها .

والواقع أنّ هذا المفهوم الماركسيّ لحبّ الذات ، يُقدّر العلاقة بين الواقع الذاتيّ ( غريزة حبّ الذات ) ، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكلٍ مقلوب وإلاّ فكيف نستطيع أنْ نؤمن : بأنّ الدافع الذاتيّ وليد المِلكيّة الخاصّة ، والتناقضات الطبَقيّة التي تنجم عنها ؟! فإنّ الإنسان لو لمْ يكن يملِك سلَفاً الدافع الذاتيّ لَما أَوجد هذه التناقضات ، ولا فكّر في المِلكيّة الخاصّة والاستئثـار الفرديّ .

ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخَرين ، ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتيّ في أعماق نفْسه ؟! .

فالحقيقة أنّ المظاهر الاجتماعيّة للأنانيّة في الحقل الاقتصاديّ والسياسيّ.. لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتيّ ، لغريزة حبّ الذات فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أنْ يزول وتُقتلَع جذوره بإزالة تلك الآثار ، فإنّ عمليّةً كهذه لا تعدو أنْ تكون استبدالاً لآثار بأخرى ، قد تختلف في الشكل والصورة ، لكنّها معها في الجوهر والحقيقة .

أضِف إلى ذلك : أنّا لو فسّرنا الدافع الذاتيّ ( غريزة حبّ الذات ) تفسيراً موضوعيّاً ، بوَصفه انعكاساً لظواهر الفرديّة في النظام الاجتماعيّ ، كظاهرة المِلكيّة الخاصّة - كما صنعت الماركسيّة - فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتيّ سوف يفقِد رصيده الموضوعيّ ، وسببه مِن النظام الاجتماعيّ ، بإزالة المِلكيّة الخاصّة ؛ لأنّها وإنْ كانت ظاهرة ذات طابع فرديّ ، ولكنّها ليست هي الوحيدة مِن نَوعها .

٥٨

فهناك - مثلاً - ظاهرة الإدارة الخاصّة ، التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكيّ فإنّ النظام الاشتراكيّ وإنْ كان يلغي المِلكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج ، غير أنّه لا يلغي إدارتها الخاصّة مِن قِبَل هيئات الجهاز الحاكم ، الذي يمارس دكتاتوريّة البروليتاريا ، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها ، إذ ليس مِن المعقول أنْ تُدار وسائل الإنتاج ، في لحظة تأميمها إدارةً جماعيّةً اشتراكيةً ، مِن قِبَل أفراد المجتمع كافّة.

فالنظام الاشتراكيّ يحتفظ إذن بظواهر فرديّة بارزة ، ومِن الطبيعيّ لهذه الظواهر الفرديّة أنْ تُحافظ على الدافع الذاتيّ ، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار ، كما كانت تصنع ظاهرة المِلكيّة الخاصّة.

وهكذا نعرف قِيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة : السبيل الشيوعيّ الذي يَعتبِر إلغاء تشريع المِلكيّة الخاصّة ، ومَحْوِها مِن سِجلّ القانون.. كفيلاً وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان .

وأمّا السبيل الثاني - الذي مَرّ بنا - فهو الذي سلَكَه الإسلام ، إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة : تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة فلم يبتدر إلى مبدأ المِلكيّة الخاصّة ليُبطلَه ، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة ، ووضَع للحياة مفهوماً جديداً ، وأقام على أساس ذلك المفهـوم نظاماً ، لمْ يجعل فيه الفرد آلةً ميكانيكيّةً في الجهاز الاجتماعيّ ، ولا المجتمع هيئةً قائمةً لحساب الفرد ، بل وضَع لكلِّ منهما حقوقه ، وكفَل للفرد كرامته المعنويّة والمادّية معاً .

فالإسلام وضع يدَه على نقطة الداء الحقيقيّة في النظام الاجتماعيّ للديمقراطيّة ، وما إليه مِن أنظمة.. فمحاها محْواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانيّة فإنّ نقطة الارتكاز الأساسيّة لِما ضجّت به الحياة البشَريّة ، مِن أنواع الشقاء وألوان المآسي.. هي النظرة المادّية إلى الحياة ، التي نختصرها بعبارةٍ مقتضبةٍ في : افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا ، هي كلّ ما في الحساب مِن شيء ، وإقامة المصلحة الشخصيّة مقياساً لكلّ فعّاليّةٍ ونشاط .

٥٩

إنّ الديمقراطيّة الرأسماليّة نظامٌ محكومٌ عليه بالانهيار والفشل المحقَّق في نظر الإسلام ، ولكن لا باعتبار ما يزعمُه الاقتصاد الشيوعيّ مِن تناقضات رأس المال بطبيعته ، وعوامل الفناء التي تحْمِلها المِلكيّة الخاصّة في ذاتها ؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقيّة ، واقتصاده السياسيّ ، وفلسفته الاجتماعيّة عن مفاهيم هذا الزَعْم ، وطريقته الجدَليّة - كما أوضحنا ذلك في كتابَي : ( فلسفتنا ) و( اقتصادنا ) - ويضمن وضْع المِلكيّة الفرديّة في تصميمٍ اجتماعيٍّ ، خالٍ مِن تلك التناقضات المزعومة .

بل إنّ مَردّ الفشَل والوضْع الفاجع ، الذي مُنيَت به الديمقراطيّة الرأسماليّة في عقيدة الإسلام.. إلى مفاهيمها المادّية الخالصة ، التي لا يُمكن أنْ يسعَدَ البشَر بنظامٍ يستوحي جوهره منها ، ويستمدّ خطوطه العامّة مِن روحها وتوجيهها .

فلابدّ إذن مِن معينٍ آخَر - غير المفاهيم المادّية عن الكَون - يُستقى منه النظام الاجتماعيّ ، ولا بدّ مِن وعْيٍ سياسيٍّ صحيح ، ينبثق عن مفاهيم حقيقيّة للحياة ، ويتبنّى القضيّة الإنسانيّة الكبرى ، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ، ويدرس مسائل العالَم مِن هذه الزاوية .

وعند اكتمال هذا الوعي السياسيّ في العالَم ، واكتساحه لكلّ وعيٍ سياسيٍّ آخَر ، وغَزْوِه لكلّ مفهومٍ للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسيّة.. يمكن أنْ يدخل العالَم في حياةٍ جديدةٍ ، مشرقةٍ بالنور عامرةٍ بالسعادة .

إنّ هذا الوعي السياسيّ العميق ، هو رسالة السلام الحقيقيّ في العالَم ، وإنّ هذه الرسالة المُنقِذة لهيَ رسالة الإسلام الخالدة ، التي استمدّت نظامها الاجتماعيّ - المختلف عن كلّ ما عرضناه مِن أنظمة - مِن قاعدةٍ فكريّةٍ جديدةٍ للحياة والكَون.

٦٠