الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 60106
تحميل: 7522

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60106 / تحميل: 7522
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ونحن نعلم أنّ الشيء الأساسيّ الذي يُميّز حرّية الإنسان عن حرّية الحيوان بشكلٍ عامّ ، أنّهما وإنْ كانا يتصرّفان بإرادتهما ، غير أنّ إرادة الحيوان مسخّرة دائماً لشهَواته وإيحاءاتها الغريزيّة ، وأمّا الإنسان فقدْ زُوِّد بالقُدرة التي تمكّنه مِن السيطرة على شهَواته ، وتحكيم منطقِه العقليّ فيها .

فسِرّ حرّيّته - بوَصفه إنساناً إذَن - يكمُن في هذه القدرة فنحن إذا جمّدناها فيه ، واكتفَينا بمَنحِه الحرّية الظاهريّة في سلوكه العِلميّ ، ووفّرنا له بذلك كلّ إمكانات ومُغرَيات الاستجابة لشهَواته - كما صنعت الحضارات الغربيّة الحديثة - فقد قضَينا بالتدريج على حرّيّته الإنسانيّة ، في مقابل شهَوات الحيوان الكامِن في أعماقه ، وجعلنا منه أداةَ تنفيذٍ لتلك الشهَوات ، حتّى إذا التفَتَ إلى نفْسه في أثناء الطريق وجَد نفْسه محكوماً لا حاكماً ، ومغلوباً على أمْرِه وإرادته .

وعلى العكس مِن ذلك : إذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمُن فيها سِرّ الحرّية الإنسانيّة ، فأنمَيناها وغذَّيناها ، وأنشأنا الإنسان إنشاءً إنسانيّاً لا حيوانيّاً ، وجعلناه يعي أنّ رسالته في الحياة أرفع مِن هذا المصير الحيوانيّ المبتذَل ، الذي تسوقُه إليه تلك الشهَوات ، وأنّ مَثَله الأعلى الذي خُلِق للسعي في سبيله أسمى مِن هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة ، التي يحصل عليها في لذائذه الماديّة .

أقول : إذا صنعنا ذلك كلّه حتّى جعلنا الإنسان يتحرّر مِن عبوديّة شهَواته ، وينعتق مِن سلطانها الآسِر ، ويمتلك إرادته ، فسوف يُخلَق الإنسان الحرّ القادر على أنْ يقول : لا أو نعم ، دون أنْ تُكمِّم فاه ، أو تغلّ يدَيه هذه الشهْوة الموقوتة ، أو تلك اللذّة المبتذَلة.

وهذا ما صنَعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحيّ الخاصّ ، وطوّر مِن مقاييسه ومُثُلِه ، وانتزعه مِن الأرض وأهدافها المحدودة ، إلى آفاقٍ أرحب ، وأهدافٍ أسمى :

٨١

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (١) .

هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخليّ للإنسان ، وهي في نفْس الوقت الأساس الأوّل والرئيس ؛ لتحرير الإنسانيّة في نظَر الإسلام ، وبدونها تصبح كلّ حرّية زَيفاً وخِداعاً ، وبالتالي أسْراً وقيداً .

ونحن نجد في هذا الضوء القرآنيّ ، أنّ الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانيّة مِن رِبقة الشهَوات ، وعبوديّات اللذّة ، هي الطريقة العامّة التي يستعملها الإسلام دائماً ، في تربية الإنسانيّة في كلّ المجالات : طريقة التوحيد .

فالإسلام حين يحرّر الإنسان مِن عبوديّة الأرض ولذائذها الخاطفة ، يربطه بالسماء وجنانها ومُثُلِها ورضوان مِن الله ؛ لأنّ التوحيد عند الإسلام هو سَنَد الإنسانيّة في تحرّرها الداخليّ مِن كلّ العبوديّات ، كما أنّه سنَد التحرّر الإنسانيّ في كلّ المجالات .

ويكفينا مَثل واحد - مَرّ بنا في فصلٍ سابق - لنعرف النتائج الباهرة التي تَمخّض عنها هذا التحرير ، ومدى الفَرْق بين حرّية الإنسان القرآنيّ الحقيقيّة ، وتلك الحرّيات المصطنعة التي تزعمها شعوب الحضارات الغربيّة الحديثة .

فقد استطاعت الأمّة التي حرّرها القرآن - حين دعاها في كلمةٍ واحدةٍ إلى اجتناب الخمْر - أنْ تقول لا ، وتمحو الخمْر مِن قاموس حياتها ، بعد أن كان جزءاً مِن كيانها وضرورةً مِن ضروراتها ؛ لأنّها كانت مالكة لإراداتها ، حرّةً في مقابل شهَواتها ودوافعها الحيوانيّة .

وبكلمةٍ مختصرة : كانت تتمتّع بحرّيةٍ حقيقيّةٍ تسمح لها بالتحكّم في سلوكها .

_________________

(١) آل عمران ١٤ ، ١٥ .

٨٢

وأمّا تلك الأمّة التي أنشأتْها الحضارة الحديثة ، ومنحتْها الحرّية الشخصيّة بطريقتها الخاصّة ، فهي بالرغم مِن هذا القناع الظاهريّ للحرّية ، لا تملِك شيئاً مِن إرادتها ، ولا تستطيع أن تتحكّم في وجودها ؛ لأنّها لمْ تحرّر المحتوى الداخليّ لها ، وإنّما استسلمتْ إلى شهَواتها ولذائذها تحت ستارٍ مِن الحرّية الشخصيّة ، حتّى فقدَت حرّيّتها إزاء تلك الشهَوات واللذائذ ، فلمْ تستطع أكبر حملةٍ للدعاية ضدّ الخمْر جنّدتْها حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، أنْ تُحرّر الأمّة الأمريكيّة مِن الخمْر ، بالرغم مِن الطاقات المادّية والمعنويّة الهائلة التي جنّدتْها السلطة الحاكمة ، ومختلَف المؤسّسات الاجتماعيّة في هذا السبيل .

وليس هذا الفشل المريع إلاّ نتيجة فقدان الإنسان الغربيّ للحرّية الحقيقيّة فهو لا يستطيع أنْ يقول : لا ، كلّما اقتنع عقليّاً بذلك كالإنسان القرآنيّ ، وإنّما يقول الكلمة حين تَفرض عليه شهْوته أنْ يقولها .

ولهذا لمْ يستطع أنْ يعتق نفْسه مِن أسْر الخمْر ؛ لأنّه لمْ يكن قد ظفَر في ظلّ الحضارة الغربيّة بتحريـرٍ حقيقيٍّ ، في محتـواه الروحيّ والفكريّ(١) .

وهذا التحرير الداخليّ أو البناء الداخليّ لكِيان الإنسان ، هو في رأي الإسلام حَجَر الزاوية في عمليّة إقامة المجتمع الحرّ السعيد فما لمْ يملك الإنسان إرادته ، ويُسيطر على مَوقفه الداخليّ ، ويحتفظ لإنسانيّته المهذّبة بالكلمة العُليا في تقرير سلوكه ، لا يستطيع أنْ يحرّر نفْسه في المجال الاجتماعيّ ، تحريراً حقيقيّاً يصمد في وَجه الإغراء ، ولا أنْ يخوض معركةَ التحرير الخارجيّ بجدارةٍ وبسالة :( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٢) ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) (٣) .

_________________

(١) لاحظ مقالنا : ( الحرّية في القرآن ) الأضواء العدد الأوّل : س ٢ .

(٢) الرعد : ١١.

(٣) الإسراء : ١٦.

٨٣

الحرّية في المجال الاجتماعيّ

كما يخوض الإسلام معركةَ التحرير الداخليّ للإنسانيّة ، كذلك يخوض معركةً أخرى ؛ لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعيّ ، فهو يُحطّم في المحتوى الداخليّ للإنسان أصنامَ الشهْوة التي تسلُبُه حرّيّته الإنسانيّة ، ويُحطّم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنامَ الاجتماعيّة ، ويُحرّر الإنسان مِن عبوديّتها ، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان :

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) .

فعبوديّة الإنسان لله تجعل الناس كلّهم يقِفون على صعيدٍ واحد بين يدَي المعبود الخالق ، فلا توجد أمّة لها الحقّ في استعمار أمّةٍ أخرى واستعبادها ، ولا فئة مِن المجتمع يُباح لها اغتصاب فئةٍ أخرى ولا انتهاك حرّيّتها ، ولا إنسان يحقّ له أنْ ينصب نفْسه صنماً للآخَرين .

ومرّةً أخرى نجِد أنّ المعركة القرآنيّة الثانية مِن معارك التحرير ، قد استُعين فيها بنفْس الطريقة التي استُعملت في المعركة الأُولى : ( معركة الإنسانيّة داخليّاً مِن الشهَوات ) ، وتستعمل دائماً في كلّ ملاحم الإسلام ، وهي : التوحيد

فما دام الإنسان يُقرّ بالعبوديّة لله وحْده ، فهو يرفض بطبيعة الحال كلّ صنمٍ ، وكلَّ تأليهٍ مزوّرٍ لأيّ إنسانٍ وكائن ، ويرفع رأسه حرّاً أبيّاً ، ولا يستشعر ذُلّ العبوديّة والهَوان أمام أيّ قوّةٍ مِن قوى الأرض أو صنمٍ مِن أصنامها ؛ لأنّ ظاهرة الصنميّة في حياة الإنسان نشأت عن سببَين :

احدهما : عبوديّته للشهْوة التي تجعله يتنازل عن حرّيّته إلى الصنم الإنسانيّ ، الذي يقْدر على إشباع تلك الشهْوة وضمانها له .

والآخر: جَهْله بما وراء تلك الأقنعة الصنميّة المتألّهة مِن نقاط الضعف والعجز .

_________________

(١) آل عمران : ٦٤ .

٨٤

والإسلام حرّر الإنسان مِن عبوديّة الشهْوة - كما عرفنا آنفاً - وزيّف تلك الأقنعة الصنميّة الخادعة :( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (١) ، فكان طبيعيّاً أنْ ينتصر على الصنميّة ، ويمحو مِن عقول المسلمين عبوديّة الأصنام بمختلف أشكالها وألوانها .

وعلى ضوء الأُسُس التي يقوم عليها تحرير الإنسان مِن عبوديّات الشهْوة في النطاق الشخصيّ ، وتحريره مِن عبوديّة الأصنام في النطاق الاجتماعيّ - سواءً كان الصنم أمّةً ، أمْ فئةً ، أمْ فرداً - نستطيع أنْ نعرف مجال السلوك العمليّ للفرد في الإسلام ، فإنّ الإسلام يختلف عن الحضارات الغربيّة الحديثة ، التي لا تضع لهذه الحرّية العمليّة للفرد حدّاً إلاّ حرّيات الأفراد الآخَرين ؛ لأنّ الإسلام يهتمّ قبل كلّ شيءٍ - كما عرفنا - بتحرير الفرد مِن عبوديّة الشهَوات والأصنام ، ويسمح له بالتصرّف كما يشاء ، على أنْ لا يخرج عن حدود الله ، فالقرآن يقول :

( خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (٣) .

وبذلك يضع الكَون بأسْره تحت تصرّف الإنسان وحرّيّته ، ولكنّها حرّية محدودة بالحدود التي تجعلها تتّفق مع تحرّره الداخليّ مِن عبوديّة الشهْوة وتحرّره الخارجيّ مِن عبوديّة الأصنام

_________________

(١) الأعراف : ١٩٤ .

(٢) البقرة : ٢٩

(٣) الجاثية : ١٣ .

٨٥

وأمّا الحرّية العمليّة في عبادة الشهْوة والالتصاق بالأرض ومعانيها ، والتخلّي عن الحرّية الإنسانيّة بمعناها الحقيقيّ ، وأمّا الحرّية العمليّة في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحقّ ، وعبادة الأصنام البشريّة والتقرّب إليها ، والانسياق وراء مصالحها ، والتخلّي عن الرسالة الحقيقيّة الكبرى للإنسان في الحياة ، فهذا ما لا يأذن به الإسلام ؛ لأنّه تحطيم لأعمق معاني الحرّية في الإنسان ؛ ولأنّ الإسلام لا يفهم مِن الحرّية إيجاد منطلق للمعاني الحيوانيّة في الإنسان ، وإنّما يفهمها بوَصفها جزءاً مِن برنامجٍ فكريٍّ وروحيٍّ كامل ، يجب أن تقوم على أساسه الإنسانيّة .

[ المدلول الغربيّ للحرّيّة السياسيّة : ]

ونحن حين نبرز هذا الوجه التحريريّ الثوريّ للإسلام في النطاق الاجتماعيّ ، لا نعني بذلك أنّه على وِفاق مع الحرّيّات الاجتماعيّة الديمقراطيّة في إطارها الغربيّ الخاصّ فإنّ الإسلام كما يختلف عن الحضارة الغربيّة في مفهومه عن الحرّية الشخصيّة - كما عرفنا قبل لحظة - كذلك يختلف عنها في مفهومه عن الحرّية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة .

فالمدلول الغربيّ للحرّية السياسيّة : يُعبّر عن الفكرة الأساسيّة في الحضارة الغربيّة القائلة : إنّ الإنسان يملك نفْسه ، وليس لأحدٍ التحكّم فيه ، فإنّ الحرّية السياسيّة كانت نتيجةً لتطبيق تلك الفكرة الأساسيّة على الحقل السياسيّ ، فما دام شكل الحياة الاجتماعيّة ولَونها وقوانينها يمسّ جميع أفراد المجتمع مباشرةً ، فلابدّ للجميع أن يشتركوا في عمليّة البناء الاجتماعيّ ، بالشكل الذي يحلو لهم ، وليس لفردٍ أن يفرض على آخَر ما لا يرتضيه ، ويُخضعه بالقوّة لنظامٍ لا يقبله .

وتبدأ الحرّية السياسيّة تتناقض مع الفكرة الأساسيّة منذ تواجه واقع الحياة ؛ لأنّ مِن طبيعة المجتمع أن تتعدّد فيه وجْهات النظر وتختلف ، والأخْذ بوجْهة نظر البعض يعني سَلْب الآخَرين حقّهم في امتلاك إرادتهم ، والسيطرة على مصيرهم .

٨٦

ومِن هنا جاء مبدأ الأخْذ برأي الأكثريّة ، بوَصفه توفيقاً بين الفكرة الأساسيّة والحرّية السياسيّة ، ولكنّه توفيق ناقص ؛ لأنّ الأقليّة تتمتّع بحقّها في الحرّية ، وامتلاك إرادتها كالأكثريّة تماماً ، ومبدأ الأكثريّة يحرّمها مِن استعمال هذا الحقّ ، فلا يعدو مبدأ الأكثريّة أن يكون نظاماً تستبدّ فيه فئةٌ بمقدّرات فئةٍ أخرى ، مع فارقٍ كمّيٍّ بين الفئتَين.

ولا ننكر أنّ مبدأ الأكثريّة قد يكون بنفْسه مِن المبادئ التي يتّفق عليها الجميع ، فتحرص الأقليّة على تنفيذ رأي الأكثريّة ، باعتباره الرأي الأكثر أنصاراً ، وإن كانت في نفْس الوقت تؤمِن بوجْهة رأيٍ أخرى ، وتعمل لكسْب الأكثريّة إلى جانبه ولكن هذا فرضٌ لا يمكن الاعتراف بصحّته في كلّ المجتمعات ، فهناك توجد كثيراً الأقليّات التي لا ترضى عن رأيها بديلاً ، ولو تعارَض ذلك مع رأي الأكثريّة .

ونستخلص مِن ذلك : أنّ الفكرة الأساسيّة في الحضارة الغربيّة ، لا تأخذ مجراها في الحقل السياسيّ ، حتّى تبدأ تتناقض وتصطدم بالواقع ، وتتّجه إلى لَونٍ مِن ألوان الاستبداد والفرديّة في الحُكم ، يتمثّل على أفضل تقديرٍ في حُكم الأكثريّة للأقليّة .

والإسلام لا يؤمِن بهذه الفكرة الأساسيّة في الحضارة الغربيّة ؛ لأنّه يقوم على العقيدة بعبوديّة الإنسان لله ، وأنّ الله وحْده هو ربّ الإنسـان ومُربّيـه ، وصاحب الحقّ في تنظيم منهاج حياته :( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * إِن الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ .. ) (١) .

وينعى على الأفراد الذين يسلّمون زمام قيادهم للآخَرين ، ويمنحونهم حقّ الإمامة في الحياة والتربية والربوبيّة :( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (٢)

فليس لفردٍ ولا لجموعٍ أنْ يستأثر مِن دون الله بالحُكم ، وتوجيه الحياة الاجتماعيّة ووضْع مناهجها ودساتيرها .

_________________

(١) يوسف : ٣٩ ، ٤٠ .

(٢) التوبة : ٣١

٨٧

وفي هذا الضوء نعرف أنّ تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسيّ ، إنّما يقوم على أساس الإيمان بمساواة أفراد المجتمـع ، في تحمّل أعباء الأمانة الإلهيّة ، وتضامنهم في تطبيق أحكام الله تعالى :( كلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيّته ) (١) فالمساواة السياسيّة في الإسلام تتّخذ شكلاً يختلف عن شكلها الغربيّ ، فهي مساواة في تحمّل الأمانة ، وليست مساواة في الحُكم .

ومِن نتائج هذه المساواة : تحرير الإنسان في الحقل السياسيّ مِن سيطرة الآخَرين ، والقضاء على ألوان الاستغلال السياسيّ وأشكال الحُكم الفرديّ والطَبَقيّ .

ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم شجَب حُكم فرعون والمجتمع الذي كان يحكمه ؛ لأنّه يُمثّل سيطرة الفرد في الحُكم ، وسيطرة طبَقة على سائر الطَبَقات :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ... ) (٢) فكلّ تركيب سياسيّ يسمح لفردٍ أو لطبَقةٍ باستضعاف الأفراد ، أو الطبَقات الأخرى والتحكّم فيها ، لا يقرّه الإسلام ؛ لأنّه ينافي المساواة بين أفراد المجتمع في تحمّل الأمانة ، على صعيد العبوديّة المخلصة لله تعالى .

[ الحرّيّة الاقتصاديّة بمفهومها الرأسماليّ : ]

وأمّا الحرّية الاقتصاديّة فهي بمفهومها الرأسماليّ ، حرّية شكليّة تتلخّص في : فسْح المجال أمام كلّ فردٍ ؛ ليتصرّف في الحقل الاقتصاديّ كما يريد ، دون أن يجد مِن الجهاز الحاكم أيّ لَونٍ مِن ألوان الإكراه والتدخّل ولا يهمّ الرأسماليّة بعد أن تسمح للفرد بالتصرّف كما يريد ، أن تضمَن له شيئاً ممّا يريد ، وبتعبيرٍ آخَر لا يهمّها أن تُتيح له أن يريد شيئاً ؛ ولهذا نجد أنّ الحرّية الاقتصاديّة في مفهومها الرأسماليّ خاوية ، لا تحمل معنىً بالنسبة إلى مَن لمْ تسمح له الفُرَص بالعَيش ، ولمْ تهيّئ له ظروف التنافس والسباق الاقتصاديّ مجالاً للعمل والإنتاج .

_________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٥ ، ص٣٨ .

(٢) القصص : ٤ .

٨٨

وهكذا تعود الحرّية الرأسماليّة شكلاً ظاهريّاً فحَسْب ، لا تُحقّق لهؤلاء شيئاً مِن معناها إلاّ بقدَر الحرّية ، التي تمنحها للأفراد الذين يعجزون عن السباحة إذا قلنا لهم : أنتم أحرار فاسبحوا كما يحلو لكم ، أينما تريدون

ولو كنّا نريد حقّاً أن نوفّر لهؤلاء حرّية السباحة ، ونعطيهم فرصةَ التمتّع بهذه الرياضة ، كما يتمتّع القادرون على السباحة ؛ لكفلْنا لهم حياتهم خلالها ، وطلبنا مِن الماهرين فيها الحفاظ عليهم ، ومراقبتهم وعدم الابتعاد عنهم في مجال السباحة ؛ لئلاّ يغرقوا ، فنكون بذلك قد وفّرنا الحرّية الحقيقيّة ، والقدرة على السباحة للجميع ، وإن حدّدنا شيئاً مِن نشاط الماهرين ؛ لضمان حياة الآخَرين .

وهذا تماماً ما فعله الإسلام في الحقل الاقتصاديّ ، فنادى بالحرّية الاقتصاديّة وبالضمان معاً ، ومزَج بينهما في تصميمٍ مـوحّدٍ ، فالكلّ أحرار في المجال الاقتصاديّ ، ولكن في حدودٍ خاصّة فليس الفرد حرّاً حين يتطلّب ضمان الأفراد الآخَرين والحفاظ على الرفاه العامّ ، التنازل عن شيءٍ مِن حرّيّته .

وهكذا تآلفتْ فكرتا الحرّية والضمان في الإسلام(١) .

_________________

(١) لأجل التوسّع لاحظ دراستنا للحرّية الرأسماليّة في كتاب اقتصادنا : ص ٢٤٧ - ٢٦٩ .

٨٩

وأمّا الحرّية الفكرية ، فهي تعني في الحضارة الغربية : السماح لأيّ فردٍ أن يفكّر ، ويعلن أفكاره ويدعو إليها كما يشاء ، على أن لا يمسّ فكرة الحرّية والأسس التي ترتكز عليها بالذات ، ولهذا تسعى المجتمعات الديمقراطية إلى مناوأة الأفكار الفاشستية ، والتحديد مِن حرّيتها أو القضاء عليها بالذات ؛ لأنّ هذه الأفكار تحارب نفْس الأفكار الأساسية والقاعدة الفكرية ، التي تقوم عليها فكرة الحرّية والأسس الديمقراطية .

والإسلام يختلف عن الديمقراطية الرأسمالية في هذا الموقف ؛ نتيجةً لاختلافه عنها في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبنّاها وهي : التوحيد وربط الكون بربٍّ واحد .

فهو يسمح للفكر الإنساني أن ينطلق ويعلن عن نفْسه ، ما لمْ يتمرّد على قاعدته الفكرية التي هي الأساس الحقيقي لتوفير الحرّية للإنسان في نظر الإسلام ، ومنحه شخصيّته الحرّة الكريمة التي لا تذوب أمام الشهَوات ، ولا تركع بين يدي الأصنام فكلٌّ مِن الحضارة الغربية والإسلام يسمح بالحرّية الفكرية ، بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الأساسية ، وبالتالي على الحرّية نفْسها .

ومِن المعطَيات الثورية للحرّية الفكرية في الإسلام : الحرب التي شنّها على التقليد وجمود الفكر ، والاستسلام العقلي للأساطير أو لآراء الآخَريـن ، دون وعيٍ وتمحيص ، والهدف الذي يرمي إليه الإسلام مِن ذلك : تكوين العقل الاستدلالي أو البرهاني عند الإنسان ، فلا يكفي لتكوين التفكير الحرّ لدى الإنسان أن يُقال له : فكّر كما يحلو لك ، كما صنعَت الحضارة الغربية ؛ لأنّ هذا التوسّع في الحرّية سوف يكون على حسابها ، ويؤدّي في كثير مِن الأحايين إلى ألوان مِن العبودية الفكرية ، تتمثّل في التقليد والتعصّب وتقديس الخرافات ، بل لا بدّ في رأي الإسلام لإنشاء الفكر الحرّ أن يُنشئ في الإنسان العقل الاستدلالي أو البرهاني ، الذي لا يتقبّل فكرةً دون تمحيص ، ولا يؤمِن بعقيدةٍ ما لم تحصل على برهان ؛ ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرّية الفكرية ، وعاصماً للإنسان مِن التفريط بها ، بدافعٍ مِن تقليد أو تعصّب أو خرافة .

٩٠

وفي الواقع أنّ هذا جزءٌ مِن معركة الإسلام ؛ لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان ، فهو كما حرّر الإرادة الإنسانية مِن عبودية الشهَوات كما - عرفنا سابقاً - كذلك حرّر الوعي الإنساني مِن عبودية التقليد والتعصّب والخرافة وبهذا وذاك فقط أصبح الإنسان حرّاً في تفكيره ، وحرّاً في إرادته .

( .. فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) (١) ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢) .( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (٣) .( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة : ١١١

الضمان في الإسلام والماركسية

يختلف الضمان في الإسلام عن الضمان الاشتراكي القائم على الأُسس الماركسية في ملامح عديدة ، مردّها إلى اختلاف الضمانَين في الأسس والإطارات والأهداف .

ولا يمكننا في هذا المجال إلاّ استعراض بعض جوانب الاختلاف اكتفاءاً بدراستنا الموسّعة لذلك في كتاب ( اقتصادنا ) .

١ - الضمان الاجتماعي في الإسلام : حقّ مِن حقوق الإنسان التي فرضها الله تعالى ، وهو بوَصفه حقّاً إنسانياً لا يتفاوت باختلاف الظروف والمستويات المدَنية .

_________________

(١) الزمر : ١٧ - ١٨ .

(٢) النحل : ٤٤ .

(٣) البقرة : ١٧٠ .

٩١

وأمّا الضمان لدى الماركسية فهو حقّ الآلة ، وليس حقّاً إنسانياً فالآلة ( وسائل الإنتاج ) متى وصلَت إلى درجةٍ معيّنة ، يصبح الضمان الاشتراكي شرطاً ضرورياً في نموّها واطراد إنتاجها ، فما لم تبلغ وسائل الإنتاج هذه المرحلة ، لا معنى لفكرة الضمان ؛ ولأجل ذلك تعتبر الماركسية الضمان خاصّاً بمجتمعات معيّنة ، في دورة محدّدة مِن التاريخ .

٢ - مفهوم الإسلام عن تطبيق الضمان الاجتماعي : أنّه نتيجة للتعاطف الأخَويّ الذي يسود أفراد المجتمع الإسلامي ، فالأخوّة الإسلامية هي الإطار الذي تؤدّى فريضة الضمان ضِمنه وقد جاء في الحديث :( المسلم أخُ المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرِمه ) ، فيحقّ على المسلمين الاجتهاد والتواصل والتعاون والمواساة لأهل الحاجة .

وأمّا الماركسية فهي : ترى أنّ إيجاد الضمان الاشتراكي ليس إلاّ ثمرة لصراعٍ هائل مَرير ، يجب إيقاده وتعميقه ، حتّى إذا قامت المعركة الطبَقية ، وأُفنيت إحدى الطبَقتين ، وتم الانتصار للطبَقة الأخرى سادَ الضمان الاشتراكي المجتمع فالضمان عند الماركسية ليس تعبيراً عن وحدة مرصوصة وأخوّة شاملة ، وإنّما يرتكز على تناقض مستقطَب وصراعٍ مدمّر .

٣ - إنّ الضمان في الإسلام - بوَصفه حقّاً إنسانياً - لا يختصّ بفئةٍ دون فئة ، فهو يشمل حتّى أولئك الذين يعجزون عن المساهمة في الإنتاج العامّ بشيء ، فهم مكفولون في المجتمع الإسلامي ، ويجب على الدولة توفير وسائل الحياة لهم .

وأمّا الضمان الماركسي ، فهو يستمدّ وجوده مِن الصراع الطبَقي بين الطبَقة العاملة والطبَقة الرأسمالية ، الذي يكلّل بظفَر الطبَقة العاملة ، وتضامنها واشتراكها في تلك الثورة ؛ لأجل ذلك لا يوجد مبرّر ماركسي لضمان حياة أولئك العاجزين ، الذين يعيشون بعيدِين عن الصراع الطبَقي ، ولا يساهمون في الإنتاج العامّ ؛ لأنّهم لمْ يشتركوا في المعركة لعدم انتمائهم إلى الطبَقة العاملة ، ولا إلى الطبَقة الرأسمالية ، فليس لهم حقّ في مكاسب المعركة وغنائمها .

٩٢

٤ - إنّ الضمان في الماركسية مِن وظيفة الدولة وحْدها ، وأمّا في الإسلام ، فهو مِن وظيفة الأفراد والدولة معاً ؛ وبذلك وضع الإسلام المبدأين :

أحدهما : مبدأ التكافل العامّ ،والآخر : مبدأ الضمان الاجتماعي .

فمبدأ التكافل يعني : أنّ كلّ فردٍ مسلم مسؤول عن ضمان معيشة الآخَرين وحياتهم في حدود معيّنة ، وِفقاً لقدرته ، وهذا المبدأ يجب على المسلمين تطبيقه حتّى في الحالات التي يفقدون فيها الدولة ، التي تطبّق أحكام الشرع فقد جاء في الحديث :( أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه ، وهو يقدر عليه مِن عنده أو مِن عند غيره.. أقامَه الله يوم القيامة مسودّاً وَجهه مزرقّةً عيناه ، مغلولةً يداه إلى عُنقه ، فيقال : هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ، ثمّ يؤمر به إلى النار ) .

ومبدأ الضمان الاجتماعي يقرّر مسؤولية الدولة في هذا المجال ، ويحتّم عليها ضمان مستوى مِن العَيش المرفّه الكريم للجميـع ، مِن موارد ملكية الدولة والملكية العامّة وموارد الميزانية(١) .

وقد جاء في الحديث لاستعراض هذا المبدأ :( إنّ الوالي يأخذ المال ، فيوجّهه الوجه الذي وجّهه الله له على ثمانية أسهم : للفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلّفة ، وفي الرقاب والغارمين ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ثمانية أسهم يقسّمها بينهم بقدَر ما يستغنون في سنَتهم ، بلا ضيقٍ ولا تقيّة ، فإن فَضُل مِن ذلك شيء رُدّ إلى الوالي ، وإن نقُص مِن ذلك شيء ، ولمْ يكتفوا به ، كان على الوالي أن يموّنهم مِن عنده بقدَر سِعَتهم حتّى يستغنون ) .

النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

_________________

(١) لأجل التفصيل راجع اقتصادنا ( المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها ) ، ص ٣٢٨ .

٩٣

ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي ؟

بسِم اللّهِ الرحمَنِ الرحيم

[ مقدّمة ]

منذ مدّة ، وأنا أواجه طلباً متزايداً على المدرسة الإسلامية ، وإلحاحاً مِن القرّاء الأعزّاء على إصدار حلَقات جديدة منها .

وكنت أتماهل في تلبية هذا الطلَب ، رغبةً في إنجاز الكتاب الثاني مِن اقتصادنا ، والتوفّر على إكماله ، وكان صدور هذا الكتاب سبباً جديداً لازدياد الطلب على إصدار حلقات صغيرة ، تتناول بحوثه بالتوضيح والتبسيط بقدَر الإمكان ؛ لكي تكون متيسّرةً ، ومفهومةً لعددٍ أكبر .

وعلى هذا الأساس كتبتُ هذه الحلَقة ، متوخّياً فيها التبسيط ومتجنّباً ذلك المستوى الذي التزمتُه ، مِن الدقّة والتعمّق في بحوث اقتصادنا فقد آثرت في عدّة مواضع توضيح الفكرة ، على إعطائها صيغتها الدقيقة التي حصلت عليه في كتبنا الموسّعة .

وسوف أحاول هنا ، وأنا أعرّف هذه الحلَقة للقرّاء ، أن أُلخّص لهم أفكارها ، وأُفهرس بحوثها ؛ ليساعدهم ذلك على فهْمها ومتابعة فصولها .

إنّ هذه الحلَقة تشتمل على إثارة سؤالٍ واحدٍ ، ومحاولة الإجابة عليه .

والسؤال هو : هل يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي ؟

ونجيب في هذه الحلَقة ، على هذا السؤال بالإيجاب ، نعم يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي .

ونسير مِن السؤال إلى الجواب ، بتدرّج ، فبَعد أن نطرح السؤال نشغل بإيضاحه ، وتوضيح ما يتّصل به ثمّ ندرس الجـواب ، في ضوء مفهومنا عن الإسلام وندعم الجواب بالشواهد ، ونناقش ما يُثار عادةً مِن اعتراضات .

٩٤

توضيح السؤال :

نقصد بالمذهب الاقتصادي ، إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، وِفقاً للعدالة فنحن حين نتساءل عن المذهب الاقتصادي في الإسلام ، نريد أن نعرف هل جاء الإسلام بطريقةٍ لتنظيم الحياة الاقتصادية ، كما جاءت الرأسمالية مثلاً ، بمبدأ الحرّية الاقتصادية ، واتّخذت منه طريقتها العامّة ، في تنظيم الحياة الاقتصادية .

حاجتنا إلى هذا السؤال :

وحاجتنا إلى هذا السؤال ، نابعة مِن أسبابٍ عديدةٍ ، قد يكون مِن أهمّها سلبية الإسلام تجاه الرأسمالية والماركسية - النظامَين الحاكمَين في العالم اليوم - فإنّ رفْض الإسلام لهما ، يجعل الإنسان المسلم ينتظر مِن الإسلام الإتيان بطريقةٍ أخرى في تنظيم الحياة الاقتصادية ؛ لأنّ المجتمع الإسلامي لا يستغني عن طريقة في التنظيم ، مهما كان شكلها .

الخطأ في فَهْم السؤال :

وبعد أنْ نطرح السؤال ، ونوضّحه ، ونشرح أهمّيته ، نستعرض الخطأ الذي قد يقع فيه بعض الناس في فَهْم السؤال ، إذ لا يميّزون بين المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد في الإسلام ، مع أنّنا نريد المذهب الاقتصادي لا عِلم الاقتصاد .

تصحيح الخطأ بالتمييز بين المذهب والعِلم :

ولأجل تصحيح هذا الخطأ في فَهْم السؤال ، توسّعنا في توضيح الفرْق بين المذهب الاقتصادي ، وعِلم الاقتصاد والحقيقة أنّ الفرْق بينهما كبير ، فإنّ المذهب الاقتصادي - كما عرفنا - يتكفّل إيجاد طريقةٍ لتنظيم الحياة الاقتصادية ، وفقاً للعدالة .

وأما عِلم الاقتصاد ، فهو لا يوجد طريقة للتنظيم ، وإنّما يأخذ طريقةً مِن الطُرُق المتّبعة في المجتمعات ، فيدرس نتائجها وآثارها ، كما يدرس العالِم الطبيعي نتائج الحرارة وآثارها .

٩٥

مثال على الفرْق بين المذهب والعِلم :

وقد استعملنا الأمثلة العديدة ؛ لتوضيح الفرْق بين المذهب الاقتصادي ، وعِلم الاقتصاد فالمذهب الرأسمالي مثلاً يُنظّم الحياة الاقتصادية ، على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ؛ ولذلك فهو يُنظّم السوق ، على أساس حرّية البائعين في تعيين أثمان السلع وعِلم الاقتصاد لا يحاول الإتيان بطريقةٍ أخرى ؛ لتنظيم السوق ، وإنّما مهمّته أنْ يدرس وضْع السوق في ظِلّ الطريقة الرأسمالية ، ويبحث عن حركة الثمن ، وكيف يتحدّد ، ويرتفع وينخفض ، في السوق الحرّة ، التي نُظّمت بالطريقة الرأسمالية .

فالمذهب يوجِد طريقةً للتنظيم ، وِفقاً لتصوّره للعدالة ، والعِلم يدرس نتائج هذه الطريقة ، حين تطبّق على المجتمع .

التأكيد على أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهب :

وبعد أنْ سردنا الأمثلة العديدة ؛ لتوضيح الفرْق بين المذهب والعِلم ، أكّدنا على أنّ المذهب الاقتصادي الذي نتساءل عن وجوده في الإسلام ، ونجيب بالإيجاب ، لا نعني به عِلم الاقتصاد ؛ لأنّ الإسلام بوَصفه دِيناً ليس مِن وظيفته أن يتكلّم في عِلم الاقتصاد ، أو عِلم الفلَك والرياضيات وإنّما هو عن إيجاد الإسلام ، طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، لا عن قيام الإسلام بدراسة عِلمية للطُرُق الموجودة ، في عصره ، ولِما ينجم عنها مِن نتائج ، كما يفعل علماء الاقتصاد .

وجْهة النظَر في الجواب :

وتصل الحلَقة ، بعد ذلك ، إلى شرح وجْهة النظر في الجواب ، فتعطي المفهوم الصحيح عن الشريعة ، واستيعابها وشمولها لشتّى الميادين وتستدلّ على ذلك ، مِن طبيعة الشريعة ونصوصها ثمّ نستعرض بعد ذلك ، بعض الشبُهات التي تُثار في وجه الإيمان بالاقتصاد الإسلامي ، ونجيب عليها .

٩٦

وأخصّ بالذِكر ، الشُبهة التي تقول : إنّ الإسلام جاء بتعاليم أخلاقية ، ولمْ يجئ باقتصادٍ ينظّم الحياة ، فهو واعظ وليس منظّماً وقد أوضحنا ، كيف أنّ هذه الشُبهة استغلّت الجانب الأخلاقي في الإسلام ؛ لطمْس معالم التنظيم الاجتماعي ، مع أنّ الشريعة عالجت كِلا المجالَين فقد مارست الجانب الأخلاقي ، بوَصفها دِيناً ؛ لتربية الفرد ، ومارست التنظيم الاجتماعي ، باعتبارها النظام المختار مِن السماء للمجتمع البشري .

هذه صورة عن بحوث الرسالة وموضوعاتها ، وإليكم الآن تفصيلات تلك البحوث والموضوعات.

هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد

قد يكون مِن أكثر الأسئلة ، التي تتردّد في كلّ فكرٍ ، وعلى كلّ لسان ، ومع كلّ مشكلة تمرّ بها الأمّة في حياتها ، ويزداد إلحاحاً باستمرار ، هو السؤال عن المذهب الاقتصادي في الإسلام .

فهل يوجد في الإسلام اقتصاد ؟ .

وهل يمكننا أنْ نجد حلاًّ لهذا التناقض المستقطب ، بين الرأسمالية والماركسية ، الذي يسود العالَم اليوم ، في بديلٍ جديدٍ مستمدٍّ مِن الإسلام ، ومأخوذ مِن طريقته في التشريع وتنظيم الحياة ؟ .

وما هو مدى قُدرة هذا البديل الجديد الإسلامي ، على توفير الحياة الكريمة ، وأداء رسالته للأمّة ، التي تعاني اليوم محنةً عقائديةً قاسية ، في خِضَمّ ذلك التناقض الشديد ، بين الرأسمالية والماركسية .

٩٧

وليس التفكير في هذا البديل الجديد ، أو التساؤل عن حقيقته ومحتواه الإسلامي ، مجرّد ترَف فكري ، يمارسه الإنسان المسلم للمتعة ، وإنّما هو تعبير عن يأس الإنسان المسلم ، مِن النقيضَين المتصارعَين ، وإحساسه مِن خلال مختلَف التجارب التي عاشها ، بفشلهما - أي فشَل النقيضين المتصارعين ، وهما الرأسمالية والماركسية - في مِلء الفراغ العقائدي والمبدئي للأمّة .

والتفكير في البديل الإسلامي ، أو التساؤل عنه ، إضافةً إلى تعبيره عن يأس الإنسان المسلم ، مِن النقيضين المتصارعين يعبّر كذلك أيضاً ، عن بوادر اتّجاهٍ جديدٍ إلى الإسلام ، ويعكس وعْياً إسلامياً بدأ يتبلور ، ويتّخذ مختلف المستوَيات الفكرية في الأذهان ، تبَعاً لمدى استعدادها ، ونوع تجاوبها مع الإسلام .

فبذور الوعي الإسلامي ، تعبّر عن وجودها في بعض الأذهان على مستوى تساؤلٍ عن الإسلام ، وفي نفوس آخرين على مستوى مَيلٍ إليه ، وعاطفةٍ نحوه وفي عقولٍ أخرى ، على مستوى الإيمان به ، وبقيادته الرشيدة ، في كلّ المجالات ، إيمانها بالحياة.

فالوعي الإسلامي ، الذي يتحرّك الآن في عقول الأمّة ، ويتّخذ مختلف المستويات ، هو الذي يطرح الأسئلة تارةً ، ويوحي بالجواب في صالح الإسلام أخرى ، ويتجسّد حيناً آخَر ، صرْحاً إيمانياً واعياً شامخاً ، في التربة الصالحة مِن عقول الأمّة ، التي تمثّل الإسلام بين المسلمين .

٩٨

ومِن ناحية أخرى ، فإنّ الإسلام بنفْسه ، يضطرّ المسلمين إلى إلقاء هذا السؤال على الإسلام ، أو على عُلَمائه الممثّلين له ، ومطالبتهم بتقديم البديل الأفضل ، للنقيضين المتخاصمين - الرأسمالية والماركسية - لأنّ الإسلام ، إذ يُعلن في قرآنه ، ونصوصه التشريعية ، ومختلف وسائل الإعلان التي يملكها ، وبشكلٍ صريح ، عدم رضاه عن الرأسمالية والماركسية معاً ، فهو مسؤول بطبيعة الحال ، أن يحدّد للأمّة موقفاً إيجابياً ، إلى صفِّ ذلك الموقف السلبي ، وأنْ يأخذ بيدها في طريقٍ آخَر يتّفق مع وجْهة نظره ، وإطاره العامّ ؛ لأنّ الموقـف السلبي ، إذا فصل عن إيجابية بنّاءة ، ترسم الأهداف ، وتحدّد معالم الطريق يعني الانسحاب مِن معترك الحياة ، والتميّع الاجتماعي نهائياً ، لا المساهمة مِن وجْهة نظرٍ جديدة .

فلابدّ للإسلام إذن ، ما دام لا يقرّ الاندماج في إطارات رأسمالية واشتراكية وماركسية ، أن يوفّر البديل أو يرشد إليه ، ويصبح مِن الطبيعي ، أن يتساءل المسلمون الذين عرفوا موقف الإسلام السلبي مِن الرأسمالية والماركسية ، وعدم رضاه عنهما أن يتساءلوا عن مدى قوّة الإسلام ، وقدرته على إعطاء هذا البديل ، ومدى النجاح الذي يحالفنا ، إذا أردنا أن نكتفي بالإسلام ذاتياً ، ونستوحي منه نظاماً اقتصادياً .

وجوابنا على كلّ ذلك ، أنّ الإسلام قادر على إمدادنا بموقفٍ إيجابيٍّ غنيٍّ بمعالمه التشريعية ، وخطوطه العامّة ، وأحكامه التفصيلية التي يمكن أن يصاغ منها اقتصاد كامل ، يمتاز عن سائر المذاهب الاقتصادية ، بإطاره الإسلامي ، ونسَبه السماوي وانسجامه مع الإنسانية ، كلّ الإنسانية ، بأشواطها الروحية والمادّية ، وأبعادها المكانية والزمانية

وهذا ما سوف نراه في البحوث الآتية .

٩٩

مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي ؟

ماذا نعني بوجود اقتصادٍ في الإسلام ؟ .

وما هي طبيعة هذا الاقتصاد الإسلامي ، الذي تساءلنا في البدء عنه ، ثمّ أكّدنا وجوده وإيماننا به ؟ .

إنّ هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كلّ شيء ؛ لأنّنا حين ندّعي وجود اقتصادٍ في الإسلام ، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى ، ما لمْ تكن محدّدة ومفهومة ، وما لمْ نشرح للقارئ ، المعنى الذي نريده مِن الاقتصاد الإسلامي .

إنّنا نريد بالاقتصاد الإسلامي ، المذهب الاقتصادي لا عِلم الاقتصاد .

والمذهب الاقتصادي ، هو عبارة عن : إيجاد طريقةٍ لتنظيم الحياة الاقتصادية ، تتّفق مع وجْهة نظرٍ معيّنة عن العدالة .

فنحن حين نتحدّث عن اقتصاد الإسلام ، إنّما نعني طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية ، وفْقاً لتصوّراته عن العدالة .

ولا نريد بالاقتصاد الإسلامي ، أيّ لَون مِن ألوان البحث العلمي في الاقتصاد .

وهذا النوع مِن التحديد للاقتصاد الإسلامي ، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد فما دام الاقتصاد الإسلامي مذهباً اقتصادياً ، وليس عِلماً للاقتصاد ، فيجب أن نعرف بوضوحٍ أكبر ، ما معنى المذهب الاقتصادي ، وما معنى عِلم الاقتصاد ، وما هي معالم التمييز بينهما ؟ وما لمْ يتّضح ذلك وضوحاً كافياً ، مدعماً بالأمثلة ، فسوف تظَلّ هوية الاقتصاد الإسلامي ، مكتنفة بالغموض .

إنّنا حين نصف شخصاً بأنّه مهندس ، وليس طبيباً ، يجب أن نعرف معنى المهندس ، وما هي وظيفته ، وثقافته ، وما هو نوع عمله ، وبماذا يفترق عن الطبيب ، لكي نتأكّد مِن صدق الوَصف ، على ذلك الشخص ، وكونه مهندساً حقّاً لا طبيباً .

١٠٠