هوية التشيع

هوية التشيع16%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38697 / تحميل: 7479
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

مهجورة، فماذا تكون نِسبة مِثل هؤلاءِ إلى الأُمّة حتّى يُسمّون فِرقة. هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى إذا كانت كلّ فِرقة تؤاخَذ برأي فرد شاذٍّ مِنها، ويُسمّى ذلك الشاذُّ فِرقة، فإنّ كلّ فرد أُمّة برأسه، فلا يوجد شخص ليس له ما يمتاز به عن غيره في بعض الآراء السليمة، أمّا الآراء الشاذّة فما دامت لا تُعدُّ مِن الآراء السائدة، والمتعارف عليها عِند الفِرقة فلا تُعتَبَر مِن آرائها، وقد بادت بعضُ الفِرَق، ومع ذلك فلا تزال آراؤهم تُلقى على بَعض مَن يعيش اليوم مع أنّه بريء مِنها.

٣ - النُقطَةُ الثالثة:

يَتحتّم على كلّ كاتب إذا أراد أن يكون لرأيه وزن، أن يَشعُر بمسؤوليّة الكَلِمة؛ لما يترتَّبُ على الكلمة مِن آثار، ولوازم لها خطرها، وفعلها في المُجتَمَع، فلا بُدَّ حين الكتابة مِن أن يَعتمد على مصادر الفئة نفسها التي يكتب عنها، على أن يكون ذلك المصدر، أو الكتاب مِن الكُتُبِ المُعتَبَرَة عند الفئة، والمُتسالَم عليها أنّها تُمثّل الفئة، وتُشكّل مُحصَّل آرائهم، وإجماع مذهبهم، كالصِحاح عند السُنّة، والصِحاح عندَ الشيعة، فيما تَسالموا عليه مِن رواياتها، واعترفوا بِصحَّته، لا كلّ ما يَرِدُ فيها، فإنّ في كُتُب الصِحاح عند الفريقين ما لا يعترَفُ به (١) . كلّ ذلك مع اعتقاد الموضوعيّة، والبحث عن الحقيقة، فضلاً عن أن يَكتِب الباحث عن فِرقة، ويكون مَصدره في البحث عنها مِن مؤلَّفات خُصومها، وليت الخصوم الّذين يَستَند إليهم مِمَّن يُعرَف بالصدق والاستقامة، ولكنّهم يستندون إلى أقوال مَن عُرِفَ بالوضع والافتعال وعدم التحرُّج، فُيرسلون رأيه إرسال المُسلّمات، ويُرتِّبون على كلامه كلّ اللوازم لتلك الكلمات. وهذا وضعٌ مِن شأنه أن يُسقط كلّ أمثال هذه الكُتُب عن الاعتبار، فمتى كان الكَذب والوضع مَصدراً عن أحوال الناس، والله تعالى نهانا عن تصديق الفاسقين.

____________________

(١) دراسات في الكافي والصحيح لهاشم معروف، طبعة بيروت الأولى.

١٢١

٤ - النُقطَةُ الرابِعة:

أن يكون الكتاب الذي يؤخذ مصدراً منِ الكُتُب ذات الاختصاص بموضوعه، فلا يُمكن أخذ رأي فقهيّ لبعض الفِرَق مِن كِتاب أدَب أو قصص، ولا تُؤخَذ عَقيدة فئة مِن ديوان شِعر، كما رأينا البعض يفعله، فإنّ لكلِّ فرع مِن فُروع المعرفة كُتُباً تَختصُّ به، فينبغي الرُجوع إليها إذا كنّا نتوخّى الدِقّة فيما نكتب، وإلاّ فإنّ ما نكتبه سوف لا يوصف بالعلميّة.

إنّ المُلاحَظ أنّ كُتُب الأدب عندنا تَحفَل بالآراء العقائديّة والفقهيّة، ويتّخذها كثير مِن الكُتّاب مصدراً عمّا يكتبه مِن عقائد وأحكام الفِرَق، ولستُ أُريد أن أقول: إن جميع كُتُبِ الأدب عندنا لا يُعتَمد عليها، كلاّ، وإنّما المقصود: أنّ الكُتُب ذات الاختصاص تكون ألصق بموضوعها، وأكثر إحاطة، وبذلك توفِّر مصدراً موثوقاً.

٥ - النُقطَةُ الخامِسة:

إنّ مُعالجات كُتّاب الفِرَق فيما يَقومون به مِن تقييم للفِرَق هي مُعالجات غير عِلميّة؛ وذلك لأنّ المفروض أن تكون العقائد والأحكام عند الِفرَق مَصدرها واحداً مِن مصادر التشريع المُعتَرَف بها، والتي تقرُّها الشريعة، كالكتاب، والسُنّة، والإِجماع وغيرها، فإذا ذهب الشيعة مثلاً إلى نَظريّة التعيين في الخلافة، وأوردوا دليلاً مِن الكتاب أو السُنّة، فينبغي النظر إلى دليلهم، فإذا كان الدليل مُستوفِياً لشروط الصحَّة فَبِها، وإلاّ نوقش الدليل علميّاً. لا أن يقال: إنّ الفُرس يرون لملوكهم حقّاً إلهيّاً بالحكم، وبما أنّ الشيعة يقولون بالنصّ لا الشورى، فَهُم قد أخذوا ذلك مِن الفُرس. إنّ مِثل هذا المنطق لا يَصدر عن عقليّة ناضجة، فمتى كان مُجرَّد الالتقاء مع الآخرين بِنظريّة معناه الأخذ مِنهم.

إنّ الإِسلام مثلاً يذهب إلى التأميم في حالات معينة، إذا توقَّفت المصلحة العامَّة على ذلك، والشيوعيّة تَذهب إلى التأميم، فهل معنى ذلك أنّ الإِسلام شيوعيٌّ، أو الشيوعية إسلام؟؛ لأنّها التَقَت مع الإِسلام في موضوع مُعيَّن. إنّي أطلب مِن قارئ الكتاب أن يَعود إلى كُتُبِ الفِرَق، فإذا وَجَد

١٢٢

فيها مَنطقاً غير هذا المنطق فَليَقُل ما شاء. إنّ مُعظم أدلّة ابن حَزَم، والشهرستاني، وابن عَبد رَبّه الأندلسي، ومَن لَفَّ لَفَّهم مِن هذا النَمط، وبعضهم يُصدر فتاوى بدون دليل، وبدون شُبهة مِن دليل، وإنّما هي مُجرّد استحسان انقَدَح في نفسه، فأراد أن يُدوِّنه بدون مسؤوليّة. ودعني أضرب لك مثالاً واحداً: ذلك هو أنّ المُستَشرِق ولهوزن ذكر أنّ أصل الشيعة يهوديٌّ، واستند في ذلك إلى قول نُسِب للشعبي، وقد نقله أصحاب كُتُبِ الفِرَق: ابن حَزَم، والشهرستاني، وابن عَبد رَبّه الأندَلُسي. والقول المنسوب للشعبي هو:

قَولُ الشعبي

قال الشعبي: أُحذِّرك الأهواء المضلة، شرّها الرافضة، فإنّها يهودُ هذه الأُمّة، يبغضون الإِسلام كما يبغض اليهود النَصرانيّة، ولم يدخلوا الإِسلام رغبة، ولا رهبة مِن الله. إنّ محبَّة الرافضة محبَّة اليهود، قالت اليهود: لا يَكون المُلك إلا في آل داود، وقال الرافضة: لا يكون المُلك إلا في آل عليٍّ، وقالت اليهود: لا يكون جِهادٌ في سبيل الله حتّى يخرج المسيح، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتّى يخرُج المهدي، واليهود يؤخِّرون صلاة المغرب حتّى تشتبِك النُجوم، وكذلك الرافضة. انتهى بتلخيص (١) .

تَعقيبان

هذه القصّة استعرضها الدكتور عرفان عبد الحميد في كتابه دراساتٌ في الفِرَق، وعقَّب عليها ناقِداً ومُزيِّفاً بالأُمور التالية:

أولاً: إنّ العقد الفريد، وتاريخ الطبري هي كُتُب أدَب وتاريخ، وليست كُتُب عقائد.

وثانياً: إنّ الطبري استند في هذه الرواية إلى سيف بن عُمَر، وهو كذّاب

____________________

(١) العُقد الفريد: ٢/٤٠٩.

١٢٣

مُتَّهم بالوضع، وقد نصَّت على كَذِبه كُتُب الجرح والتعديل، ولم تأخذ بأقواله في شيء.

ثالثاً: إنّ الشعبي نفسه مُتَّهم بالتشيّع، فلا يَصدر مِنه مثل هذا القول، وإنّما اختاروه فوضعوا على لسانه هذه القصّة، وقد عدَّه ابن سعد والشهرستابي شيعيّاً (١) .

وأنا أُضيف إلى مُلاحضات الدكتور عرفان ما يلي:

أ - سؤال عن أنّه هل لليهود صلاة يشترط فيها وقت الغروب؟ هذا مِن جانب، والجانب الآخر هذه كُتُب الشيعة كافَّة في الفِقه، وأنا أتحدّى مَن يجد فيها رأياً واحداً، يذهب إلى أنّ وقت صلاة المغرب عند اشتباك النجوم، وإنّما إجماعهم أنّه بعد غروب الشمس مُباشرة ويحتاطون، فيشترط بعضهم ذهاب الحُمرة المشرقيّة، فليراجع القارئ أيّ كِتاب فِقه مِن كُتُبهم.

ب - أمّا الجهاد: فإنّ باب الجهاد في كلّ كُتُب الشيعة كفيل بالردِّ على هذه الفِرية، فإنّ حُكم الجهاد عندهم: أنّه قائم في كلّ وقت بشروطه كما هو عند سائر الفِرَق الإسلاميّة.

ج - أمّا كون الخلافة عِندهم في آل عليٍّ فليس ذلك مِنهم، وإنّما هو استناد إلى أدلّة الكتاب والسُنّة، وقد تقدّم بعضها، وسَيَرد قِسم آخر مِنها، فينبغي النظر في أدلّتهم، والحكم عليها هل هي تامة أم لا؟، ثمّ ينبغي توجيه هذا الانتقاد للنبي (ص)؛ لأنّه قال: (الأئمّة مِن قريش)، كما يذهب لذلك جمهور المُسلِمينَ.

إنّ هذا النمط مِن الكلام يوقفك على عقليّة هؤلاءِ الكُتّاب الّذين يكتبون عن الشيعة، ومصدرهم قولٌ وهميٌّ يُنسَب إلى شخص قبل ألف سَنَة، وبين أيديهم مصادر الشيعة، ولا يرجعون إليها فَما تسمّي هذا؟، وبعد هذا الاستطراد نعود للهويّة العقائدية عند الشيعة، إنّها لا تختلف بشيءٍ عمّا عند باقي فِرق المُسلِمينَ، إلاّ إذا استثنينا موضوع الإِمامة، وما يتّصل به مِن صفات الإِمام.

أمّا باقي نقاط الخلاف

____________________

(١) انظر دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص٣٠.

١٢٤

التي يفترق بها الشيعة عن باقي فِرَق المُسلِمينَ، فإنّ ما بين المذاهب الأربعة أنفسهم مِن نقاط الخلاف أضعاف ما يوجد بين السُنّة والشيعة، بل إنّ عُلماء المذهب الواحد وفُقهائهم بينهم مِن الخلاف أكثر مِمّا بين الشيعة والسُنّة بدون مُبالغة، ورُبّما يرد علينا ما يؤيّد هذه الدعوى خلال البحث في فقرات قادمة.

عقائدهم بأقلامهم

سأذكر هُنا جُملاً قصيرة عمّا كَتَبه عُلماء الشيعة أنفسهم عن آرائهم الدينيّة وعقائدهم؛ لتكون مُجرد مؤشِّر لِمَن يريد التوسُّع، ويبحث عن الحقيقة بعيداً عن الأهواء والعواطف.

١ - ابن بابويه القُمّي:

وكِتابه (عقائد الشيعة) مِن الكُتُب الرائدة في هذا الميدان، وقد ضَمَّنه كلّ عقائد الشيعة بدون مواربة، لذا كان كتابه مِن المصادر التي يُرجَع إليها، بالإِضافة إلى أنّ الرجل مِن أساطين المذهب، وعمالِقة الطائفة. وهذه نُبذة عمّا كَتبَه عن عقيدة الإماميّة بالإلوهية قال:

اعتقادنا بالتوحيد: أنّ الله تعالى واحد ليس مثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً حكيماً حيّاً قيّوماً عزيزاً قدوساً عالماً قادراً. لا يُوصف بِجَوهر، ولا جسم، ولا صورة، ولا عَرَض، خارج عن الحدَّين حَدّ الإِبطال وحَدّ التشبيه.

واعتقادنا في القرآن: أنّه كلام الله ووحيه وتنزيله وكتابه، وأنّه لا يأتيه الباطل مِن بين يديه، ولا مِن خلفه، وأنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر مِن ذلك، ومَن نَسَب إلينا أنّا نَقول: إنّه أكثر مِن ذلك فهو كاذب. هذا ما كتبه ابن بابويه الذي عاش وسَطَ القرن الرابع، وتُوفّي سَنَة ٣٨١ هـ (١) .

____________________

(١) دراسات في عقائد والفِرَق الإسلاميّة، ص١٨.

١٢٥

٢ - الشَيخ المُفيد مَحمّد بن النُعمان، قال في (أوائل المقالات):

إنّ الله عزّ وجلّ واحدٌ في الإِلهيّة والأزليّة، لا يشبهه شيء ولا يجوز أن يماثله شيء، وإنّه فَرد في المعبوديّة، لا ثاني له فيها على الوجوه كلّها والأسباب، على هذا إجماع أهل التوحيد إلا مَن شذَّ مِن أهل التشبيه، وإنّ الله عزَّ وجلّ حيّ لنفسه لا بحياة، وعالِم لنفسه لا كما ذهب إليه المشبِّهة، وقادر لنفسه.

وأقول: إنّ القرآن كلام الله ووحيه، وإنّه مُحدّث كما وصفه الله تعالى، وأمنع مِن إطلاق القول عليه بأنّه مَخلوق، وإنّ الله عالم بكلِّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلاّ وِقد عَلِمَهُ قَبل حُدوثِه، ولا معلوم، وممكن أن يكون مَعلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لهذا اقتضت دلائل العُقول، والكتاب المسطور.

ثمّ تحدّث الشيخُ المُفيد، وأشار إلى قول مَن يدَّعي أنّ القرآن حُذِف مِنه شيء، فأوّل هذا القول، بأنّ المحذوف هو الشُروح والتفسيرات، ولا شيء مِن أصل القرآن محذوف، وذكر أنّه مِن الذاهبين إلى هذا الرأي، فقال في ذلك:

وقال جماعة مِن أهل الإِمامة: إنّه لم ينقص مِن آية، ولا مِن كلمة، ولا مِن سورة، ولكن حُذف ما كان في مِصحف عليٍّ مِن تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزليه، وذلك كان ثابتاً، وإن لم يكن مِن كلام الله تعالى، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: ١١٤، فقد سمّى تأويل القرآن قُرآناً، وعندي أنّ هذا القول أشبه مِن مَقال مَن ادّعى نُقصان كَلِم نَفس القرآن (١).

٣ - السيد محسن الأمين العاملي قال:

وعقيدة الشيعة: أنّ كلّ مَن شَكّ في وجود الباري أو وحدانيّته، أو نبوَّة

____________________

(١) أوائل المقالات للمُفيد: ص٥٣ إلى آخر الفصل.

١٢٦

النبيّ (ص)، أو جعل له شريكاً في النُبوّة، فهو خارج عن دين الإِسلام، وكلّ مَن غالى في أحد مِن الناس مِن أهل البيت، أو غيرهم، وأخرجه عن دَرَجَة العبوديّة لله تعالى، وأثبت له نُبوّة، أو مُشاركة فيها، أو شيئاً مِن الصفات الإِلهية، فهو خارج عن رِبقة الإِسلام، والشيعة يبرأون مِن جميع الغُلاة والمفوّضة وأمثالهم. انتهى بتلخيص (١) .

٤ - محمّد رِضا المُظفّر قال:

نعتقد أنّ الله واحد ليس كَمثله شيء، قَديم لم يزل ولا يزال هو الأوّل والآخر، عليم حكيم عادل قادر حيّ غنيّ سميع بصير، لا يوصف بما تُوصَف به المخلوقات، ونعتقد بأنّه يجب توحيد الله تعالى مِن جميع الجهات، بأنّه واحد في ذلك، وصفاته عَينُ ذاته، وكذلك يجب توحيده في العبادة، ونعتقد أنّ النُبوّة وظيفة إلهيّة، وسفارة ربانيّة يجعلها الله لِمَن يختاره مِن عباده الصالحين، فيرسلهم إلى سائر الناس لإِرشادهم، ونعتقد أنّ الإِمامة أصلٌ مِن أُصول الدين لا يتمُّ الإِيمان إلاّ بالاعتقاد بها، ويجب النظر فيها كما يجب النَظر في التوحيد والنبوَّة، وهي كالنبوَّة لُطفٌ من الله تعالى. ونعتقد أنّ القرآن هو الوحي الإِلهي المنزل مِن الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، ومَن ادّعى فيه غير ذلك فهو مُخترق أو مُغالط، وكلُّهم على غير هُدى، فإنّه كلام الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه، ولا مِن خلفه (٢) .

هذه أربع مُقتطفات أورِدتها بتَلخيص؛ لتكون مؤشِّراً لمَن يُريد التوسُّع في معرفة عقائد الشيعة، وليرجع إلى المؤلَّفات في ذلك، وراعيت فيها أن تكون ممتدَّة على أبعاد التاريخ الشيعي، فإنّ اثنين مِمَّن ذكرتهم وهُما الصدوق والمفيد عاشا في القرن الرابع، أمّا الآخران فقد عاشا في القرن الرابع عشر. ومِن المُضحِك حقّاً بأن نُسجِّل أنّنا قوم مسلمون، ولكنّ كثيراً مِن الأُمور المُضحكة قد يُرغم الإِنسان

____________________

(١) أعيان الشيعة للأمين: ١/٩١.

(٢) عقائد الإماميّة للمُظفّر: ص٤٣ فصاعداً.

١٢٧

على عَملها بحُكم الضرورة، فما نصنع ونحن ما زِلنا هدفاً للرُماة، وأيسر ما نرمى به هو ما يُخرِج عن الإِسلام، وما يؤدّي إلى الكفر. وقد أردّتُ بوضع هذه المقتطفات في صَدر البحث؛ لتكون مجرَّد مُذكِّر للقارئ، وهو يمشي معي بهذه المسيرة التي سأُطلِعه خلالها على ما يُنسَب للشيعة مِن دواهي، والقارئ الذي أقصدُه: هو القارئ السُنّي خاصّة مِن دون باقي القُرّاء؛ لأنّ في ذهنه عن الشيعة صور مِن العسير جدّاً انتزاعها، إلاّ أنّ أَمَلي بعون الله، وإخلاص قصدي في تخليص هذا الطريق مِن الشوائب، يفتح لي باب أمَل في وضع لَبِنَة بِصَرح وحدة المُسلِمينَ.

١٢٨

الفَصلُ الثاني

عبد الله بن سَبَأ

بالرغم مِن وفرة المصادر عن الشيعة، وبالرغم مِن خُطورة موضوع الكتابة عن العقائد، وبالرغم مِن الواقع المُجسّد للشيعة مِن مؤسّسات دينيّة، وفعاليّات عقائديّة، ومساجد تُردِّد كلمة التوحيد ليل نهار، برغم ذلك كُلّه فإنّنا ما زِلنا نَرى مَن يكتب عن الشيعة ويترك هذا الواقع القائم وراء ظهره، ويولي وجههُ شَطرَ كتابات صَدرت مِن قومٍ كَتبوا، ومِن خَلفهم دوافع غير سليمة لمُختَلف الأسباب، فبدلاً مِن أن يعودوا إلى مؤلّفات الشيعة أنفسهم، رأيناهم يرجعون إلى أقوالٍ صاغها الوهم، وافترضها الحقد، وخلقتها الخصومة، وقد يكون الجهل أحد عوامل وجودها. ومما افترضه هؤلاءِ الكُتّاب: أنّ عقائد الشيعة الأساسيّة وضعها يهوديٌّ حاقد اندسَّ في صُفوف المُسلِمينَ، اسمه عبد الله بن سَبَأ.

وهذا العبد المفترض موضوعه طريف جدّاً، فقد صنعه قوم، واخترعوه اختراعاً، وأعطوه مِن الصفات والنعوت ما هو مِن المُعجزات، وصنعوا له مِن القابليّات ما لا يمكن نِسبته إلا إلى عفاريت الأساطير، ومَرَدَة الجنِّ، وما تعجز عن تحقيقه أُمّة قويّة فضلاً عن فَرد، وإنّ مثل هذا الكلام يُجسِّد فجيعتنا بعقولنا قبل أن يُجسّد هذه الخُرافات في تاريخنا، وسَنَرى مَن الذي حاك عبد الله بن سَبَأ؟

ومَن هو؟

وما الذي عمله؟

ولماذا تُربَطُ الشيعة به؟.

١٢٩

مَنْ الَذي حَاكَ عَبدَ اللهِ بِن سَبَأ

إنّ الذي يُريد التعرُّف على مَصدر ولادة عبد الله بن سَبَأ، سَيَجد أنّه وُلِد مِن روايات الطبري، وروايات الطبري تستند في هذا الموضوع على ركيزتين هُما:

أ - الرَكيزَةُ الاُولى:

سيف بن عُمَر، وتقول عنه كُتُب التراجُم ما يلي بالحرف الواحد.

يقول ابن حيّان: كان سيف بن عُمَر يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا إنّه كان يَضع الحديث، واتُهِمَ بالزندقة، كما يقول عنه الحاكم النيسابوري: اتُّهِم سيف بالزندقة، وهو بالرواية ساقط، ويقول عنه ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامّتها مُنكرة لم يُتابَع عليها، ويقول عنه ابن معين: ضعيف الحديث، فليس فيه خير، وقال ابن حاتم: متروك الحديث، يشبه حديثُه حديثَ الواقدي، وقال عنه أبو داود صاحب السنن: ليس بشيء، وقال عنه النسائي صاحب السنن: ضعيف، وقال عنه السيوطي: إنّه وضّاع، وقال عنه محمّد بن طاهر بن عليّ الهندي: سيف بن عُمَر متروك، اتُّهِم بالوضع والزندقة، وكان وضّاعاً (١) .

ب - الرَكيزَةُ الثانية:

السري بن يحيى كما يُسميه الطبري، وهو ليس بالسري بن يحيى الثِقة؛ لأنّ السري بن يحيى الثقة يكون زمانه أقدم مِن الطبري، فقد توفّي سَنَة ١٦٧ هـ. في حين وُلِد الطبري سَنَة ٢٢٤، فالفَرْقُ بينهما سَبعة وخمسون عاماً، ولا يوجد عند الرواة سري بن يحيى غيره، ولذلك يَفترِض أهلُ الجرح والتعديل: أنّ السري الذي يَروي عنه الطبري يجب أن يكون واحداً مِن اثنين، كلّ منهما

____________________

(١) تهذيب التهذيب لابن حَجَر: ٤/٢٩٥، والغدير للأميني: ٨/٦٨.

١٣٠

كذّاب وهُما: السري بن إسماعيل الهَمداني الكوفي، وهو أوّلهما، وثانيهما: السري ابن عاصم الهمداني نزيل بغداد المُتوفّى سَنَة ٢٥٨، والذي أدرَك ابن جرير الطبري وعاصره أكثر مِن ثلاثين عاماً. وكلّ مِن هذين قد كَذَّبه أهل الحديث، واتّهموه بالوضع، فقد كذّبهما صاحب تهذيب التهذيب، وصاحب ميزان الإِعتدال، وصاحب تذكرة الموضوعات، وصاحب لسان الميزان، وغيرهم، واتّهموا كلّ واحد مِنهما بالوضع، وبوسع القارئ مُراجعة المصادر التي ذَكرتُها في ترجمة المذكورين (١) .

وقد ذكر النُقّادُ للطبري سبعمائة حديث وحديثاً واحداً، وهذه الأحاديث تُغطّي زمن الخُلفاء الثلاثة، وأسانيد هذه الروايات كُلُّها عن السري الكذّاب، وعن شُعيب المجهول، وعن سيف الوضّاع المُتّهم بالزندقة.

ومِن تلك الروايات: رواياته في أحوال عبد الله بن سَبَأ، وسنده عن شعيب، وعن سيف بن عُمَر، وكُلُّ مَن كَتَب عن عبد الله بن سَبَأ فهو عيال على الطبري، وعنه أخذ، وإليه استند (٢) .

ومِن ذلك تعرف مقدار ما في موضوع عبد الله بن سَبَأ مِن وثاقة وصدق، وفي رأيي أنّ مِن العَبَث أن نُلفت أنظار هؤلاءِ الّذين يُصرّون على وجوده، وما قام به مِن أعمال؛ لأنّهم يوجدونه حتّى لو لم يكن موجوداً؛ وذلك لأُمور في نفوسهم.

١ - مَن هو عبد الله بن سَبَأ:

للتعرُّف على هُويَّة عبد الله بن سَبَأ، سوف أبدأ بالمنبع الأساس، وهو تاريخ الطبري، وأُعقّبه بباقي المصادر عنه، وسأنقل قول الطبري مِن خلال ما نقله أبو زُهرة، قال: كان عبد الله بن سَبَأ يهوديّاً مِن أهل صَنعاء، أُمّه سوداء، أسلم أيّام عُثمان، ثمّ تَنقَّل في بُلدان المُسلِمينَ يحاول إضلالهم، فبدأ ببلاد الحِجاز، ثمّ البصرة، ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يُريد عند أحد مِن أهل الشام، فأخرجوه حتّى أتى مِصر، فقال لهم فيما يقول: العجب مِمَّن يَزعم أنّ عيسى يَرجِع، ويُكَذِّبُ بأنّ محمداً

____________________

(١) لسان الميزان: ٣/١٢، والغدير للأميني: ٨/١٤٣.

(٢) انظر الغدير للأميني: ٩/٢١٨.

١٣١

يرجع، وقد قال الله تعالى: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) القَصص: ٨٥.

ثمّ إنّ محمداً أحقُّ بالرجعة مِن عيسى، ثمّ قال: ذلك إنّه كان ألف نبيّ، ولكلِّ نبيٍّ وصيٌّ، وعليّ وصيُّ محمّد، ومحمّد خاتم النبيّين، وعليٌّ خاتَم الأوصياء (١) .

وهنا نُقاط ذكرها، أُريد أن أُؤكِّد عليها للمقارنة مع غيرها، وهي:

أولاً: إنّه ابن السوداء، وثانياً: إنّه مِن أهل صنعاء، وثالثاً: إنّه يُؤكِّد رُجوع النبيّ (ص) للدنيا، ورابعاً: إنّه ذكر أنّ عليّاً وصيُّ النبيّ، وخامساً: إنّه أسلم أيّام عُثمان. وبعد ذلك نعود لأبي زُهرة، وفي نفس كتابه المذكور - تاريخ المذاهب الإسلاميّة - قال في مورد آخر: عبد الله بن سَبَأ كان يَهوديّاً مِن أهل الحيرة، أظهر الإِسلام، وأخَذَ ينشر بين الناس، أنّه وَجَدَ في التوراة: أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد، وأنّ عليّاً أراد قَتلَه، ولكن نهاه عبد الله بن عبّاس، فنفاه للمدائن بَدَل قتله (٢) .

وبين هذين المُقتطفتين الفُروق التالية، أُلفِت النظر إليها وهي:

أنّه في الأُولى مِن أهل صَنعاء، وفي الثانية مِن أهل الحيرة، وأنّه في الأُولى أسلم أيّام عُثمان، وفي الثانية أظهر الإِسلام ولم يُحدِّد وقت إسلامه، وأنّ الإِمام أراد قَتلَه كما ذَكَر في الثانية في حين لم يذكر ذلك في الأُولى، وأنّه مِن المُقتطفة الثانية قرأ فِكرَة الوصاية في التوراة في حين في الأُولى لم يَذكر مَصدَر فِكرة الوصاية، فلنحفظ هذا لنرى ما بين المقتطفات مِن فُروق وخصائص قد تتضارب.

٢ - محمّد فريد وجدي في دائرة المعارف، قال:

السبائيّة أتباع عبد الله بن سَبَأ، الذي غلا في الانتصار لعليٍّ، وزَعم أنّه كان نبيّاً، ثمّ غلا فزعم أنّه الله، ودعا إلى ذلك قوماً مِن أهل الكوفة، فاتّصَل خبرهم بعليٍّ، فأمر بإحراق قوم مِنهم، ثمّ خاف مِن إحراق الباقين أن يَنتَقض عليه قوم، فنفى

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ١/٣٢.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ١/٤٣.

١٣٢

ابن سَبَأ للمدائن، فلّما قُتِل عليٌّ زعم ابن سَبَأ أنّه ليس المقتول عليّاً، وإنّما هو شيطان صُوِّرَ على صورته، وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر إنّما هو عليّ، وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً مِن أهل الحيرة، فأظهر الإِسلام، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة، فذَكَر لهم أنّه وجد في التوراة: أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد (ص)، فلّما سمعوا ذلك قالوا لعليٍّ إنّه مِن مُحبّيك، فرفع عليّ قدره، وأجلسه تحت دَرجَة مِنبره، ثمّ بَلَغه عنه غُلوُّه فيه فَهمَّ بقتله، فنهاه عبد الله بن عبّاس إلى المدائن (١) .

وفي هذه المُقتطفة: أنّه مِن أهل الحيرة لا صَنعاء، وأنّه ابن السوداء، وأنّ الإِمام عليّاً خُدِعَ به، وأنّه ادَّعى النُبوّة لعليٍّ، ثمّ ادَّعى له الإلوهيّة. وإلى هُنا يُمكن الجمع بين هذا الخلط العجيب، ولكن كيف يمكن بعد ذلك أن نجمع بين كونه يُنسِب له الإلوهيّة، ثمّ يَجعله وصيّاً لمحمّد؟! أترِكُ تَقدير هذا إلى العقول الجبّارة كمحمد فريد وجودي، ونظائره مِمَّن يقود خُطى الجماهير في دُروب الثقافة، والحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه، ولا تَستعجل أيها القارئ، فَسَتَسمع أُموراً أُخرى مِن المقتطفات القادمة تَصطدم مع ما مَرَّ.

٣ - أحمد عطيّة الله، قال حفظه الله:

ابن سَبَأ رأس الفِرقة السبائيّة مِن الشيعة، وهو عبد الله بن سَبَأ، كان مِن يهود صنعاء، وأظهر إسلامه في خلافة عُثمان، يُعرَف بابن السوداء، انتقل إلى المدينة، وبَثَّ فيها أقوالاً وآراء مُنافيةً لِروح الإِسلام ونابعة مِن يَهوديَّته، ومِن مُعتقداتٍ فارسيّة كانت شايعة في اليمن، بَرز في صورة المُنتصر لحقِّ عليٍّ، وادّعى أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد، كما ادّعى أنّ في عليٍّ جُزءً إلهيّاً، طاف بأنحاء العراق ناشراً دعوته، فطرده عبد الله بن عامر مِن البصرة، فَنَزَل الكوفة، وأوغر صُدور الناس على عُثمان، وانتقل إلى دِمشق في ولاية مُعاوية، وفيها التقى بأبي ذر الغِفاري، وحَرَّضه على الثورة مُدّعياً أنّه ليس مِن حقِّ الأغنياء أن يقتنوا مالاً، وأُخرِج مِن الشام، فَنَزَل مِصر، فالتفَّ حوله الناقِمون على عُثمان، وفيهم محمّد بن أبي

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين: ٥/١٧ فصاعداً.

١٣٣

بكر وأبو حذيفة، ووضع على لسان عليٍّ أقوالاً لم يَقُلها كادِّعاء عِلم الغيب، وبعد استشهاد عليٍّ أنّه قال: إنّه لم يُقتَل، وسَيَرجع، وبذلك وضع فكرة الرجعة بين الشيعة (١) .

وفي هذه المُقتَطفة التي رواها عَطيّة الله أُمور:

مِنها: أنّ ابن سَبَأ جَمَع إلى عقائده اليهوديّة مُعتقدات أُخرى، فَنَقَلها للتشيُّع، ومِنها الرجعة، ولكنّ الرجعة هُنا لعليٍّ، وليست لمحمّد كما هي عند أبي زُهرة، ومنها أنّه أعطى لعليٍّ جُزءً مِن الإلوهيّة لا كُلّها، حتّى يُمكن الجمع بين كونه جُزء إلهٍ، وبين كونه وصيّاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: الكشفُ عن هذه الطاقات الهائلة عند ابن سَبَأ، بحيث إنّ كلّ الثورات على عُثمان ومعاوية كانت مِن فِعله.

٤ - وبِنفس هذا المضمون المُتضارب كتب كلٌّ مِن: أحمد أمين في فجر الإِسلام، ومحمّد بن يحيى في التمهيد والبيان في مَقتل عُثمان، والزركلي في الأعلام (٢) .

ولا أُريد أن أُطيل عليك، فإنّ كلّ خَلَف يأخذ عن سلفه بدون تمحيص؛ مِمّا أدّى إلى هذا الخلط والاضطراب في الروايات، فهو في هذه الأخبار تارةً مِن أهل الحيرة، وأُخرى مِن أهل صنعاء، وهو عند ابن حَزم والشهرستاني وغيرهما ابن السوداء، بينما يذهب ابن طاهر البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق والأسفرايني في كتابه التبصرة في الدين: أنّ ابن السوداء شَخص آخر ليس عبد الله بن سَبَأ (٣) .

وهو في بَعض هذه الروايات يَدَّعي الرجعة للنبيّ، وفي بعضها الآخر يدَّعي الرجعة لعليٍّ، وهو تارة يدَّعي بأنّ في عليٍّ جُزءاً مِن الإلوهيّة، وأُخرى أنّه إله كامل، وفي هذه الروايات نجد عليّاً مَرَّة يَحرِق الغُلاة ولا يخاف، وأُخرى يَخاف أن يَحرق ابن السوداء مع أنّه يهوديٌّ بسيط لا يأبه له أحد، وهكذا نَقع في هذا الخليط المضطرب، وأهمُّ هذه الأُمور في نظرنا هو أنّه: مرَّة يكون داعياً لفضل عليّ

____________________

(١) القاموس الإِسلامي: ٣/٢٢٢.

(٢) انظر فجر الإِسلام: ص٢٧٦، والتمهيد والبيان: ص٩٦، والأعلام للزركلي: ٤/٢٢٠.

(٣) انظر هامش منهاج السُنّة لابن تيميّة: ص٢٢٠.

١٣٤

فقط، وأُخرى يكون مُحرِّضاً على عُثمان، وواضعاً لأهمِّ عقائد الشيعة مِن وصيّة، وعِلمِ غيب للأئمة، وقول بالرجعة. وهذان الأمران هُما روح الموضوع، فإنّ مِن صَنَعَ فِرية عبد الله بن سَبَأ، رمى فيها عُصفورين بِحَجر واحد، وأراد هذين الأمرين:

الأوّل: أنّ عُثمان قُتِل بتحريض مِن السبائيّة، لا أنّه صَنع أشياء نَقِمَ فيها عليه المسلمون، واشتركوا في قَتلِه، وفيهم صحابة النبيّ، مِمّا ذكره التاريخ مُفصَّلاً، بل كلّ ما في الأمر أنّ يَهوديّاً حاقداً حَرَّك المُسلِمينَ، فانساقوا مَعَه بِغَباء، وبِدون تفكير حتّى ارتكبوا هذه الجناية، وقتلوا الخليفة بدون أن يَصدُر منه ذَنب.

والثاني: أنّ عقائد الشيعة لا سَنَد لها مِن الإِسلام، وإنّما هي مِن هذا اليهوديّ العبقري، عبد الله بن سَبَأ، فالشيعة إذاً: يهود لا صِلَة لهُم بالمسلمين.

وعلى كلّ حال، إنّ هذا الاضطراب في الصورة المرسومة لعبد الله بن سَبَأ أيقظ الباحثين، ودَفَعَهم لإِلقاء الضوء على هذه الشَخصيّة الأسطوريّة، فأصحروا بآرائهم، وكَسروا الطوق، وأعلنوا للناس زَيف هذه الفِرية التي لا سبيل للجمع بين أبعادها وأجزائها، وبدأ الواقع يتَّضح رُويداً رُويداً، والأهداف مِن وراء أُسطورة ابن سَبَأ كَشَفت عن وجهها، وسأذكُر لك آراء كثير مِن النُقّاد، بعدَ أن أذكر ما عندي في هذه المسألة؛ لِنَصل إلى صورة واضحة في هذا الموضوع.

رأينا في عبد الله بن سَبَأ

إنّنا نرى أنّ عبد الله بن سَبَأ شخصيّة وهميّة مُختَرَعة، ونُدلّل على وهميّتها بالأُمور التالية:

١ - الاختلاف في أنّه هو ابن السوداء أم لا، مع أنّ الذي قام بكلِّ المصائب هو ابن السوداء، وابن طاهر والأسفرايني يقولان: إنّ ابن السوداء شخصٌ آخر شارك عبد الله بن سَبَأ بمقالته.

٢ - الاختلاف في وقت ظُهوره، فالطبري وجماعة يُصرِّحون بأنّه ظَهر أيّام عُثمان، بينما يَذهب جماعة آخرون إلى أنّه ظَهر أيّام عليٍّ (ع)، أو بعد موته، ومِن هؤلاءِ:

١٣٥

سعد بن عبد الله الأشعري في كتابه المقالات (١) ، وابن طاهر في الفَرقُ بينَ الفِرَق (٢) وغيرهما كثير.

٣ - الاضطراب في الروايات في أصل دعوته، فبينما رأينا الطبري وجماعة معه يقولون: إنّ دعوته اقتصرت على الغُلوِّ في عليٍّ، والانتصار لِحقِّه، وكلّ ما يدور حول عليٍّ فقط، نَجِد جماعة مِن المتأخّرين يذهبون - ومعهم أسانيدهم طبعاً - إلى أنّه كان في كلّ بَلد له دعوة خاصّة، يقول محبّ الدين الخطيب بأسانيده التي ذكرها:

ومِن دَهاء ابن سَبَأ ومكره: أنّه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعليٍّ، وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير (٣) .

٤ - إنّ بَعض الروايات ذكرت أنّه: كان مُقتصِراً على الإِشادة بفضل عليٍّ (ع) فقط، في حين ذهب آخرون إلى أنّه كان يُحرِّض على عُثمان، ويدسّ الدسائس، وهو الذي دَفع أبا ذر للثورة، إمّا على معاوية، أو على عُثمان بروايات أُخرى.

٥ - لم يُعلِّل لنا واضعوا خُرافة ابن سَبَأ، لماذا سَكَت عنه عُثمان وولاته مع أنّهم ضربوا المعارضين بمنتهى الشدّة والقسوة؟ وهُم مِن خيرة الصحابة كعمّار وابن مسعود وغيرهم.

٦ - لماذا تَخلوا المصادر الصحيحة مِن ذكر قصَّة ابن سَبَأ كالبلاذري وابن سعد وغيرهما مِمَّن يُعتدُّ بتاريخهم.

٧ - إنّ رواية عبد الله بن سَبَأ رواها الوضّاعون الكذّابون كما أسلفنا فيما مَرَّ.

٨ - يساعد على أنّ الرواية موضوعة، أنّها ليست الوحيدة التي وُضِعَت ضدّ الشيعة؛ وإنّما هي جُزء مِن كلٍّ، مِمّا سنذكره لك فيما يأتي، ونُبرهِن على كَذِبِه؛ حتّى تَعرف أنّ قصَّة عبد الله بن سَبَأ خََرَجت مِن نَفس المَقلع، ولنفس الهدف.

____________________

(١) المقالات والفِرَق: ص١٥.

(٢) انظر هامش منهاج السُنّة لابن تيميّة: ص١٥.

(٣) الإِمام الصادق لأسد حيدر: ٦/٢٣٧.

١٣٦

والآن لنستعرض آراء النُقّاد والباحثين في هذه القُصّة؛ لنصل إلى الحقيقة.

رأي طه حسين

استعرض الدكتور طه حسين الصورة التي رُسِمت لابن سَبَأ، ومزَّقها بعد تَحليل دَقيق، وانتهى إلى أنّ ابن سَبَأ شخصيّة وهميّة خَلَقها خُصوم الشيعة، ودَعم رأيه بالأُمور التالية:

أولاً: إنّ كلّ المؤرِّخين الثُقاة لم يُشيروا إلى قُصّة عبد الله بن سَبَأ، ولم يذكروا عنها شيئاً.

ثانياً: إنّ المصدر الوحيد عنه سيف بن عُمَر، وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وَضّاع.

ثالثاً: إنّ الأُمور التي أُسندت إلى عبد الله بن سَبَأ تستلزم مُعجزات خارقة لفرد عادّي، كما تَستلزم أن يكون المسلمون الّذين خدعهم عبد الله بن سَبَأ، وسخَّرهم لمآربه، وهم يُنفِّذون أهدافه بدون اعتراض في مُنتهى البلاهة والسُخف.

رابعاً: عدم وجود تفسير مُقنع لسكوت عُثمان وعُمّاله عنه مع ضربهم لغيره مِن المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وعمّار وغيرهم.

خامساً: قِصة الإحراق، وتعيين السَنة التي عُرِض فيها ابن سَبَأ للإِحراق تخلو مِنها كُتُب التاريخ الصحيحة، ولا يوجد لها في هذه الكُتُب أثَر.

سادساً: عَدم وجود أثر لابن سَبَأ ولجماعته في واقعة صِفّين، وفي حرب النّهروان، وقد انتهى طه حسين إلى القول: إنّ ابن سَبَأ شخص ادَّخره خُصوم الشيعة للشيعة، ولا وجود له في الخارج (١) ، ويَشترك مع طه حسين كثير مِن

____________________

(١) طه حسين الفتنة الكبرى: فصل ابن سَبَأ.

١٣٧

المُستشرقين في وَهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ ومنهم:

آراء المُستَشرِقين

١ - الدكتور برناد لويس

قال: ولكن التحقيق قد أظهر أنّ هذا استباق للحوادث، وأنّه - أيّ ابن سَبَأ - صورة مُثِّل بها في الماضي، وتخيَّلها مُحدِّثوا القرن الثاني للهجرة مِن أحوالهم وأفكارهم السائدة حينئذٍ.

٢ - فلهوزن:

ذهب إلى أنّ المؤامرة والدعوة والفعاليات المنسوبة لابن سَبَأ مِن اختلاق المُتأخِّرين، وقد مَحَّص النُصوص، ودرس الموضوع، وقام بتحليل دقيق.

٣ - فريدليندر:

اشترك مع فلهوزن، وانتهى لنفس النتيجة معه.

٤ - كايتاني:

شكّ في وجود عبد الله بن سَبَأ، وقال عمّا يُنسب له مِن أعمال ضخمة ومؤامرة مثل هذه: بهذا التفكير، وهذا التَنظيم لا يمكن أن يتصوَّرها العالَم العربيّ المعروف عام خمسة وثلاثين بنظامه القائم على سلطان الأبوّة، إنّها تَعكس أحوال العصر العبّاسي الأوّل بجلاء (١) .

آراءٌ إسلاميّة أُخرى بابن سَبَأ

هناك آراء أُخرى في عبد الله بن سَبَأ، تتراوح بين وجوده، وعدم صِلته بالشيعة، وبين عدم التصديق بما يُنسب إليه؛ لأنّه مِن غير المُمكن صُدور تلك الأعمال مِن شخص عادّي، وبين نِسبة هذه الأعمال لشخص آخر سُمّي بابن السوداء، فلِنَستمع لهذه الآراء.

أ - محمّد كرد علي قال في خطط الشام:

أمّا ما ذهب إليه بعض الكتّاب مِن أنّ مَذهب التَشَيُّع مِن بدعة عبد الله بن

____________________

(١) انظر آراء المستشرقين المذكورة في نَظريّة الإِمامة لأحمد محمود: ص٣٧.

١٣٨

سَبَأ، المعروف بابن السوداء، فهو وهمٌ، وقلَّة عِلمٍ بتحقيق مذهبهم، ومِن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومِن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك علم مبلغ هذا القول مِن الصواب (١) .

ب - الدكتور أحمد محمود صبحي في نَظريّة الإِمامة قال:

وليس ما يَمنع أن يستغلَّ يهوديٌّ الأحداث التي جَرت في عهد عُثمان؛ ليُحدث فتنة، وليزيدها اشتعالاً؛ وليؤلّب الناس على عُثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكنّ السابق لأوانه أن يكون لابن سَبَأ هذا الأثر الفِكري العَميق، فيُحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة مِن المُسلِمينَ (٢) .

ج - الدكتوران علي الوردي، وكامل الشيبي التقيا في الآتي:

إنّ المقصود بابن السوداء عمّار بن ياسر، وقد رَمَزت له قُريش بابن السوداء، ولم تُصرِّح باسمه؛ لأنّ له ثقلاً ومركزاً بين الصحابة، وكان على رأس الثائرين على عُثمان، فلم ترد قريش أن تضعه مُقابل عُثمان، وبجانب عليٍّ؛ لأنّه يُرجّح كفَّة عليٍّ، ويهبط بكفة عُثمان، فرمزوا له، وسموه بابن السوداء؛ لأنّ أُمّه أمَة سوداء، ولا وجود لابن سوداء غيره.

إنّ رأي الدكتورين يَلتقي مع رأي الأسفرايني، وابن طاهر البغدادي الذي أشرنا إليه، فيما مضى عند ذكرنا لتعيين هُويَّة ابن سَبَأ.

وبعد هذه الجولة مِن الآراء اتّضح أنّه لا وجود لابن سَبَأ؛ لأنّ تسليمنا بوجوده يُفضي إلى إلغاء عُقولنا. ولأنّ منهج البحث العلمي يأبى وجوده، لأنّ مصادره مختلفة. ولأنّ مَن خَلقوا عبد الله بن سَبَأ خلقوا له أُخوة مِن الإِدعاءات، سنوقِفُك عليها قريباً، وإن كانت سَتَهز مشاعرك، وتُدمِّر ثِقتك بمَن قد تعتبرهم مِن القِمم في دُنيا الإِسلام. ولأن الخوارق التي تنسب لابن سَبَأ لا يمكن تصديقها، ولأنّ سُكوت عُثمان عنه عجيب مع أنّه نفى أبا ذر للرَبَذَة - مع أنّ أبا ذر مِن كبار

____________________

(١) خطط الشام: ٦/٢٥١.

(٢) نَظريّة الإِمامة: ص٣٧، وُعّاظ السلاطين: ص٢٧٩، والصلة بين التصوُّف والتَشَيُّع: ص٨٤.

١٣٩

الصحابة - لأنّ أبا ذرٍّ كان له رأي في البَذَخ في أموال المُسلِمينَ أيّام عُثمان، فلماذا هذا الحُلم عن ابن سَبَأ؟

ولأنّ عليّاً - وهو الخشن في ذات الله - لماذا سَكت عن ابن سَبَأ، ولم يحرقه كغيره؟

ولأنّ مُعاوية وهو الذي يَقتِل على التُهمة والظِنَّة، كيف سَكت عن ابن سَبَأ؟

والحال هو الذي دفع بِسر للغارة على خُصومه، وأدّت الغارة إلى قَتل ثلاثين ألفاً مِن الناس (١) .

إنّ كلّ هذه الأُمور تَجعل حديث ابن سَبَأ حديثَ خُرافة، وإنّما اختُرع لما ذكرنا سابقاً؛ ليُصنَع مِنه مَصدراً لِعقائد الشيعة كُلّها كما جعله مصدراً لعقائد الشيعة كُلٌّ مِن: مُحيي الدين عبد الحميد في تعليقته على كِتاب مقالات الإِسلاميّين، وعلي سامي النشّار في كتابه نشأة الفِكر الفلسفي (٢) ، وما كان كلٌّ مِن النشّار، ومحيي الدين عبد الحميد بالذي يَجهل عقائد الشيعة، أو لا يهتدي إلى مَصادرها، وبين أيديهما مِن المصادر ما ينهض بالمطلوب، وأمام بَصَرهما مِن المُمارسات العقائديّة ما هو واضح في تَجسيد عقائد الشيعة، ومع ذلك كُلّه كَتَبا عن الشيعة ما لا يجتمع وأمانة التاريخ، وروح الإِسلام، ولا ينبغي أن يَفتَّ في عضُد المُصلحين أمثال هؤلاءِ مِمَّن هُم على أحسن الفُروض أصداء بلهاء لِغيرهِم، وإلاّ فعلامات الاستفهام موجودة إزاء ما كتباه، في حين يؤكِّد الكُتَّاب الموضوعيّين: أنّ حديث ابن سَبَأ خُرافة.

يقول أحمد عبّاس الصالح: عبد الله بن سَبَأ، رَجُلٌ خرافيٌّ بغير شكّ، فأنّى هو مِن هذه الأحداث جميعاً، وساذجٌ - بغير شكّ - الذي يَتّجه إلى خلق شخصيّة كهذه؛ ليعطيها أثراً، أيُّ أثرٍ فيما حدث مِن الأحداث.

إنّ كلّ ما حيك مِن قصص حول عبد الله بن سَبَأ مِن وضع المتأخِّرين، فلا دليل على وجوده في المراجع (٣) .

____________________

(١) مُروج الذهب للمسعودي: ٣/٣٠.

(٢) نشأة الفكر الفلسفي: ص٢٨.

(٣) مجلة الكاتب: عدد آذار/ ١٩٦٥.

١٤٠

الفصلُ الثالث

لِماذا تُنْسَبُ الشِيعةُ لابنِ سَبَأ؟

في الإِجابة على هذا السؤال يكمُن مركز الثقل في قصة عبد الله بن سَبَأ كلّها؛ فإنّ الفكر الشيعي في الإِمامة، وما يَلحَق بها، والمواقف المُتساجِلة بين فِرَق المُسلِمينَ مِن الشيعة وغيرهم، إذا شُدَّت إلى جَذرها مِن أدلّتها مِن الكتاب والسُنّة، فقد يَختلُّ الميزان؛ لأنّ فكرة الوصيَّة والعِصمة وغيرهما تُبعِد عن الحُكم - في نَظَر الشيعة - مَن لا تتوفَّر فيه هذه الشُروط، وتلك هي الطامَّة الكُبرى، وأيُّ فِكر أخطر مِن هذا الفكر؟

فَلِمَ لا يُربَط فِكر الشيعة بجذر يهوديٍّ، وتُختَرع له شخصيّة تكون كبش الفداء، فَيُلقى اللومُ عليها، وعلى الّذين أخذوا عنها، ويُشارُ إليهم بأنّهم: مارقون ألغَموا تاريخ الأُمّة، ودسّوا في عقائدها عقائد غريبة عن الإِسلام، وهكذا صَنع عبد الله بن سَبَأ، ولو كان صُنعه على حساب الحقيقة، وعلى رَغْمِ أنف العُقول والمقاييس.

وبالإِضافة لِما ذكرنا، هُناك سَبَب آخر، دفع إلى خلق عبد الله بن سَبَأ، أشار إليه الدكتور أحمد محمود صُبحي، وذلك بعد أن استعرض آراء الدكتور طه حسين في وهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ، قال الدكتور أحمد صبحي:

ويبدو أنّ مُبالغة المؤرِّخين، وكُتّاب الفِرق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ يرجع إلى سَبَب آخر غير ما ذكره الدكتور طه حسين، فَلَقَد حَدَثَت في الإِسلام أحداث سياسيّة ضخمة كمقتل عُثمان، ثمّ حرب الجمل، وقد شارك فيها

١٤١

كِبار الصحابة وزوجة الرسول، وكلُّهم يتفرَّقون ويتحاربون، وكلّ هذه الأحداث تَصدِم وجدان المُسلِم المتتبِّع لتاريخه السياسي، أن يبتلي تاريخ الإِسلام هذه الابتلاءات، ويشارك فيها كِبار الصحابة الّذين حاربوا مع رسول الله (ص)، وشاركوا في وضع أُسس الإِسلام، كان لا بُدَّ أن تلقى مسؤوليّة هذه الأحداث الجِسام على كاهل أحَد، ولم يكن مِن المعقول أن يَتحمَّل وزر ذلك كُلّه صحابةٌ أجِلاّء أبلوا مع رسول الله (ص) بلاءً حسناً، فكان لا بُدَّ أن َيقع عبء ذلك كُلّه على ابن سَبَأ، فهو الذي أثار الفِتنة التي أدت لقتل عُثمان، وهو الذي حَرَّض الجيشين يوم الجَمَل على الالتحام على حين غفلة مِن عليٍّ وطلحة والزُبير، أمّا في التاريخ الفكري، فعلى عاتقه يَقع أكبر انشقاق عقائديّ في الإِسلام بظهور الشيعة، هذا هو تفسير مُبالغة كُتّاب الفِرق، وأصحاب المذاهب لا سيَّما السلفيين والمؤرِّخين في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ. ولكن أليس عجيباً أيضاً أن يعبث دَخيل في الإِسلام كلّ هذا العَبث، فيحرِّك تاريخ الإِسلام السياسي والعقائدي على النحو الذي تمَّ عليه، وكبارُ الصحابة شُهود؟! (1) .

وبعد هذه الإلمامة بمُلابسات موضوع عبد الله بن سَبَأ التي انتهينا مِنها إلى مَسكِ طَرَف الخيط فيما نظنُّ، ألا وهو رَبط عقائد الشيعة بعبد الله بن سَبَأ، وما أسندوه إليه مِن عقائد الشيعة، ولنتبيّن مصدرها الإِسلامي. وبذلك نكتفي عن الإِصرار على وجود ابن سَبَأ أو عدم وجوده؛ لأنّه قد ثَبَت أنّ هذه العقائد مصدرها الإِسلام، فلا يبقى بعد ذلك قيمة لِعدم وجود ابن سَبَأ أو لوجوده، لنبدأ مِن ذلك بموضوع الوصية.

1 - الإِمامُ عليّ وصيّ النبيّ (ص):

قُلنا فيما سَبق، إنّ مِن أحكام الإِسلام: ضرورة أن يوصي الإِنسان قَبلَ موته بما يُريد التصرُّف به بعد موته فيها يملك مِن أُمور ماديَّة، وذكرنا أنّ سيرة النبيّ (ص) أنّه كان لا يَخرج مِن المدينة في سَفَرٍ - ولو ليوم واحد - حتّى يَستخلِف على

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص39.

١٤٢

المدينة، فكيف يترك أمر هذه الأُمّة مِن بعده سدى، ويُعرِّضها إلى الفِتن دون أن يوصي أو يُرشِّح للأمر شخصاً مِن بعده؟!

وبما أنّ هذه المسألة قد أشبعتها أقلام الباحثين مِن مُختَلَف الفِرق الإسلاميّة، فلا أُريد العودة إلى ما دار حولها، وكلّ ما يعنيني هُنا أن أُبيّن: أنّ مسألة الوصيّة مصدرها القرآن والسُنّة، أمّا القرآن: فَقد أشرك عليّاً بالولاية العامَّة، وجعل إمامته امتداداً للنُبوَّة حين تُختَم النُبوّة بموت الرسول، فقال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وقد ذكرنا نُزول هذه الآية في عليٍّ (ع)، وما يترتَّب عليها مِن لَوازم في مكان آخر مِن هذا الكِتاب. وأمّا السُنّة الشريفة: فإنّ الروايات المُعتبرة متظافرة بأنّ رسول الله (ص) نصَّ على عليٍّ بالوصيّة في أكثر مِن مَورد، ومِن تلك الموارد:

لَمّا نَزل عليه قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشُعراء: 214، فجمع أقاربه، وعَدَدُهم أربعون على فَخِذ شاة، وطلب مِنهم أن يؤازروه على الدعوة، فلم يَقُم إليه إلاّ عليّ، فأخذ برقبته وقال: ( هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكُم، فاسمِعوا له وأطيعوا ) (1) ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تَسمع لابنك وتطيع.

هذا، وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة فصلاً مُمتِعاً في موضوع وصاية الإِمام عليّ (ع) للنبي، وأشبَع الموضوع، وبوسع القارئ الرُجوع إليه.

وها أنت قد سمعت أن الوصية جاءت على لسان النبيّ (ص) لفظاً ومعنى، ومع ذلك تَرى هؤلاءِ يَقولون: إنّ موضوع الوصيّة اخترعه عبد الله بن سَبَأ، وسَتَسمع لو قلت لهم: إنّ الوصيّة لها مصادرها مِن السُنّة، مَن يقول لك هذه أحاديث دسّها الشيعة على لِسان السُنّة.

2 - العِصمَة:

موضوع العصمة، موضوع مُهمّ في الفكر الشيعي خاصّة، والإِسلامي عامّة

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 2/216، وتاريخ ابن الأثير: 2/28، وتفسير الدرّ المنثور للسيوطي: 45/97 طبعة أوفست.

١٤٣

وسأضطرّ للإِطالة فيه؛ لأنّه يرتبط بأُمور هامّة، لا بُدَّ مِن التَعرُّف عليها.

فالعصمة لُغة: هي المَنع، ومنه قوله تعالى: ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) سورة هود: 43.

أمّا في الإِصلاح الكلامي، فالعصمة: لطفٌ يفعله الله تعالى بالمكلّف لا يكون مَعه داعٍ إلى ترك الطاعة، وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (1) .

وواضح مِن هذا التعريف أنّ العصمة لا إلجاء فيها، وإنّما هي مُجرّد مدد مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد، فهي أشبه شيءٍ بأُستاذ يُقبِل على تِلميذه؛ لأنّه وجد عند التلميذ استعداداً أكثر مِن غيره لتلقّي العِلم.

وقد أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على عِصمة الأنبياء عن تَعمُّد الكَذب فيما يُبلِّغونه عن الله تعالى، واختلفوا بعد ذلك في صدور ما يُنافي العِصمة مِنهم على سبيل السَهو أو النسيان، سواء كانت أدلتهم في ذلك سمعيّة أو عقليّة على صُدور أو عدم صُدور ما يُنافي العِصمة، ذهب بعض أئمَّة السُنّة إلى جواز وقوع كلّ ذَنب مِنهم، صغيراً كان أو كبيراً حتّى الكُفر.

وبوسع القارئ الرجوع إلى آراء الباقلاّني، والرازي، والغزالي مُفصَّلاً في نَظريّة الإِمامة (2) ، بينما البعض الآخر فَصَّل في ذلك، ولم يصل إلى هذا الحدّ في تجريدهم مِن العصمة.

أمّا الشيعة، فقد ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مُطلقاً، قبل البعثة وبعدها (3) ، وقد ساقوا لذلك أدلّة كثيرة.

وقد تَعرّض الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء، وكذلك الشيخ المجلسي في البحار مُفصِّلاً لذلك.

والذي يهمّني هُنا عصمة الأئمّة؛ لأنّها موضع البحث.

إنّ عصمة الأئمّة أمرٌ مفروغ عند الشيعة، وقد أثبتها الشيعة للإِمام بأدلّة مِن العقل والنقل، أقتصر على ذكر بعضها، وبوسع طالب المزيد أن يَرجع إلى الكتب والبحوث المطوّلة في ذلك.

____________________

(1) توفيق التطبيق للكيلاني: ص16.

(2) نَظريّة الإِمامة: ص111 و112.

(3) معالم الفلسفة لمُغنيّة: ص193.

١٤٤

عِصمّة الأئمّة وأدِلَّتِها العَقْلِيّة

1 - الدليل الأوّل:

يقول العَلاّمة الحلّي في كتابه الألفين: المُمكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى عِلّة ليست مِن جنسها، إذ لو كانت مِن جِنسها لاحتاجت إلى عِلّة أُخرى واجبة غير مُمكنة، كذلك الخطأ مِن البشر مُمكن، فإذا أردنا رَفع الخطأ الممكن، يجبُ أن نرجع إلى المُجرَّد مِن الخطأ، وهو المعصوم. ولا يمكن افتراض عدم عِصمته؛ لأدائه إلى التسلسُل أو الدور.

أمّا التَسلسُل: فإنّ الإِمام إذا لم يكن مَعصوماً، احتاج إلى إمام آخر؛ لأنّ العلّة المحوجة إلى نَصبه هي جواز الخطأ على الرعيّة، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصوماً، وإلاّ لَزم التسلسل.

وأمّا الدور: فلِحاجَة الإِمام - إذا لم يكن معصوماً - للرعيّة؛ لتردَّه إلى الصواب مع حاجة الرعية للإِقتداء به (1) .

2 - الدليل الثاني:

يقول الشيعة: إنّ مفهوم الإِمام يتضمَّن معنى العِصمة؛ لأنّ الإِمام لُغة: هو المُؤتّم به كالرداء اسم لِما يُرتَدى به. فلو جاز عليه الذنب، فَحال إقدامه على الذنب إمّا أن يُقتدى به أو لا، فإن كان الأوّل: كان الله تعالى قد أمرَ بالذنب، وهذا مُحال، وإن كان الثاني: خرج الإِمام عن كونه إماماً، فيستحيل رفع التناقض بين وجوب كونه مُؤتّماً به، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إلا بتصوّر أنّ العِصمة مُتَضَمَنة في مَفهوم الإِمام، ولازِمَة لوجوده (2) .

____________________

(1) الألفين للعلاّمة الحلّي: ص54.

(2) الأربعين للرازي: ص434.

١٤٥

3 - الدليل الثالث:

الإِمام حُجّة الله في تبليغ الشرع للعباد، وهو لا يُقرّب العباد مِن الطاعة، ويُبعّدهم عن المعصية مِن حيث كونه إنساناً، ولا مِن حيث سلطته، فإنّ بعض الرُؤساء الّذين ادّعوا الإِمامة كانوا فَجَرَة لا يصحُّ الإِقتداء بهم، فإذا أمَروا بطاعة الله كانوا مصداق قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) البقرة: 44.

وفي مثل هذه الحالات لا يثق المُكلّف بقولهم، وله عذره.

فثبت أنّ تقريب الناس مِن طاعة الله لا مِن حيث كون الإِمام إماماً، وإنّما مِن حيث كونه مَعصوماً حيث لا يكون للناس عُذر في عصيانه تصديقاً لقوله تعالى: ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165، والأئمة حُجج الله كالرُسُل، سواء بسواء؛ لأنّ الإِمام منصوب مِن قِبَلِ الله تعالى لهداية البشر (1) .

هذه ثلاثة أدلّة مِن كثير مِن الأدلّة العقليّة التي اعتمدوها في التدليل على العِصمة.

الأدِلَّةُ النَقليَّة على عِصمة الإِمام

أ - قال الله تعالى في سورة البقرة، الآية: 124 لنبيه إبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) دَلّت هذه الآية على العصمة؛ لأنّ المُذنب ظالم ولو لنفسه لقوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) فاطر: 32.

ب - قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: 49، والدليل فيها: أنّ أُولي الأمر الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى؛ لتجب لهم هذه الطاعة، ولا يتسنّى هذا إلاّ بعصمتهم؛ إذ لو وقع الخطأ مِنهم لوجب الإِنكار عليهم، وذلك يُنافي أمر الله بالطاعة لهم (2) .

____________________

(1) نهاية الإِقدام للشهرستاني: ص85.

(2) كشف المُراد للعلاّمة الحلّي: ص124.

١٤٦

ج - ذَهَبت الآية الثانية والثلاثين مِن سورة الأحزاب إلى عصمة أهل البيت الّذين نَزلت فيهم، وهي قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فبعد إثبات نُزولها في أهل البيت، الذي نصَّ عليه كلٌّ مِن الإِمام أحمد في مُسنده، ومستدرك الصحيحين، والدر المنثور، وكَنز العُمّال، وسُنن الترمذي، وتفسير الطبري، وخصائص النِسائي، وتاريخ بغداد، والاستيعاب لابن عبد البر، والرياض النَضِرة للمحب الطبري، ومُسند أبي داود وأُسد الغابة، جميع هؤلاءِ قالوا إنّها نَزلت في النبيّ (ص) وعليّ (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع) (1) .

ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس؛ لينتهوا إلى أنّه نَفيُ كلّ ذنب وخطأ عنهم، والإِرادة هُنا تكوينيّة لا تشريعيّة؛ لوضوح أنّ التشريعيّة مُرادة لكلّ الناس. ولا يَلزم منه الإِلجاء؛ لما سبق أن ذكرناه مِن أنّ العصمة مَدَدٌ مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد.

هذه بعض أدلّة الشيعة في العِصمة، وهي كما ترى مُنتَزعة مِن الكتاب والسُنّة والعقل، فما وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وأين موضع الصدق مِن تلك النسبة؟

إنّ القارئ مِن حقِّه أن يسأل هؤلاءِ الكُتّاب: هل اطّلَعوا على مَصادر الفِكر الشيعي عندما كَتبوا عن الشيعة أو لا؟

فإن كان الأوّل، فما معنى هذا الخبط، وهذه النِسب الباطلة؟ وإن كان الثاني، فما هو المُبرِّر لَهُم للخوض في أُمور لم يَطَّلعوا عليها؟ أليس لهم رادع مِن مقاييس الأدب الإِسلامي، الذي رسمه الله تعالى بقوله: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء: 36، وفي الوقت ذاته إنّ المنهج العِلمي يأبى عليهم هذه التَخرُّصات، ونسبة الأشياء إلى غير مصادرها.

إذاً ففكرة العصمة حتّى ولو كانت أدلّتها غير ناهضة، فلا يَجوز أن تُنحى عن مصدرها، وتُنسب إلى شخصيَّة وهميّة خلقها الحِقد، وافتعلها الهوى.

____________________

(1) انظر فضائل الخمسة مِن الصحاح السِتّة: 5/ 219 فصاعداً.

١٤٧

مَوقِفُ السُنّة مِن العِصمَة

قَبل الدُخول بالموضوع، أُلفت النَظَر إلى قصّة تُحكى، ولها دلالتها في موضوعنا وهي: إنّ شخصاً مَدينَاً جُلِب إلى الحاكم، فسأله الحاكم: هل أنت مَدين لهذا المُدّعي؟ قال: نعم، أنا مَدين ولكنّي مُنكر للدَّين.

إنّ هذه القُصّة تشبه تماماً موقِف مَن يُنكر علينا القول بالعصمة، وفي الوقت ذاته يقول بها. على أننا إنّما نَشتَرط العِصمة في الإِمام؛ لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المُفارقات التي قد تنشأ مِن كون الإِمام غير معصوم، ولا نريد مِن العصمة أن تكون وِساماً نَضعه على صُدور الأئمّة، فإنّ لهُم مِن فَضائلهم ما يَكفيهم، كما إنّنا لا نَسبح في بحر مِن الطوبائيّة؛ لأننا نعيش دُنيا الواقع بكلّ مُفارقاتها.

إنّنا مِن وراء القول بالعصمة نربأ بالإِمام أن يكون مِن سِنخ مَن نراهم مِن الناس؛ لأنّه لو كان مِن نفس السِنخ والسلوكيّة، فما هي ميزته حتّى يَحكم الناس، وفي الناس مَن هو أكثر مِنه استقامة ومؤهّلات وقابليّة.

تلك هي الأُمور التي نريدها مِن وراء العصمة، لا أنّ المعصوم مِن نوع آخر غير نوع الإِنسان كما قد يَتصوّر البعض. فالعصمة في نظرنا: ضابط يُؤدّي إلى حِفظ شريعة الله تعالى نظريّاً، وصيانتها مِن البعث تطبيقيّاً، وأساطين السُنّة يذهبون لِمثل ذلك، ولكنّهم في الوقت نفسه يُنكرون علينا القول بها، وإليك نَماذج مِن أقوالهم؛ لتعرف صحّة ما نسبناه لهم:

1 - الرازي:

يذهب الرازي - في مَعرض ردِّه على عصمة الإِمام عند الشيعة - إلى أنْ لا حاجة إلى إمام مَعصوم، وذلك لأنّ الأُمّة حال إجماعها تكون مَعصومة؛ لاستحالة اجتماع الأُمّة على خطأ بمقتضى حديث رسول الله (ص): (لا تجتمع أُمّتي على

١٤٨

ضلالة) (1) .

ومع غضِّ النظر عن صحَّة وعدم صحَّة هذا الحديث، نسأل: هل مِثل هذا الإِجماع مُمكن بحيث يَضمُّ كلَّ مُسلِم في شرق الأرض وغربها؟.

قد يكون الجواب: إنّ المُسلِمينَ يُمثّلون في هذا الإِجماع بأهل الحلِّ والعقد.

وهنا نسأل: مَن هُم؟ وما عددهم؟ وهل هم محصورون في مكان مُعيّن؟ وما الدليل على ذلك؟

ثمّ نسأل: هل المجموع إلاّ ضَمُّ فَرد إلى فرد؟ فإذا جاز الخطأ على الأفراد، جاز على المجموع المُكوَّن مِن الأفراد.

إنّ الإِمام ابن تيميّة يُجيبُ على ذلك بأنّه: لا يَلزم أن يخطأ المجموع إذا أخطأ الأفراد؛ لأنّ للجمع خاصيّة لا توجد في الأفراد، ومَثَلُها مَثَلُ اللُقمة الواحدة لا تُشبع، ومجموع اللُقم يُشبع، والعصا الواحدة تُكسَر في حين مجموع العصيّ لا يُكسَر. إلى أن يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد) (2) .

وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللُقَم تُشبع بعكس اللُقمة الواحدة، وبين كون المجموع يَعصِمُ، والأفراد لا تَعصِم؟ وذلك لأنّ اللُقمة تحمل قابليّة الإِشباع بِنسبة مُعيّنة، فإذا ضُمَّت إلى مِثلِها اجتمعت هذه الأفراد مِن قابلية الإِشباع فكوّنت إشباعاً كاملاً، وكذلك العصا تَحمل نِسبة مِن القوَّة، فإذا ضُمَّت لمثلها كوَّنت قوَّة كافية. وأين هذا مِن الفرد المُخطئ؟ فإنّه لا يكوِّن نسبة مِن الصِحّة إذا ضُمَّت لغيرها كَوَّنت مجموعاً صحيحاً، بل بالعكس فالفرد يُمثِّل هُنا نِسبة مِن الخطأ، إذا ضُمَّت لمثلها تَضاعَف الخطأ وكوّن خطأً كبيراً.

إنّ هذا القياس مع الفارق، هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى فإنّ ابن تيميّة لم يَنفِ فِكرة العِصمة، وإنّما نفى أن يكون لواحد ليس إلاّ، فكأنّ العُقدة أن تكون لواحد، أمّا لو نُسِبَت لجماعة فلا إشكال، ومِن ناحية ثالثة: إنّه إنّما اشترط العصمة للأُمّة مِن أجل الثقة وضمان سلامة الأحكام، وهو عين الهَدف الذي تذهب إليه الشيعة، وأنا أنقل لك رأيه مُفصّلاً:

____________________

(1) المُستصفى، مبحث أركان الإِجماع.

(2) نَظريّة الإِمامة: 117.

١٤٩

رأي ابن تيميّة في العِصمة

قال ابن تيميّة عند رده على الشيعة، عند قولهم: إنّ وجود الإِمام المعصوم لا بُدَّ منه بعد موت النبيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تتجدّد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغيَّر، وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القرآن، وفي فَهم الأحاديث وغير ذلك. ولو كانت عِصمة النبيّ (ص) وكمال الدين كافيين لَما حَدث الاختلاف، فثبت أنّه لا بدَّ مِن إمام مَعصوم يُبيّن لنا معاني القرآن، ويُعيّن لنا مَقاصد الشَرع كما هو مُراده إلى آخر ما ذكروه في المقام، فقال ابن تيميّة: لا يُسلّم أهل السُنّة أن يكون الإِمام حافظاً للشَرع بعد انقطاع الوحي؛ لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشَرع إذا نَقله أهلُ التواتُر كان ذلك خيراً مِن نقل الواحد، فالقُرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفُقهاء مَعصومون في الكلام والاستدلال (1) .

ويختلف هُنا ابن تيميّة عن الرازي، فإذا كانت العِصمة عند الرازي لمجموع الأُمّة، فهي عند ابن تيميّة لجماعة مِن الناس كالقرّاء والفقهاء والمُحدّثين. وهنا يَشترط ابن تيميّة العصمة؛ لضمان حِفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الآخرين مِن الشيعة وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟

إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يَتجاوز الأربعة عَشَر، وهُم مجموعة مُنتَخبة خَصّها الله تعالى بكثير مِن الفضائل بإجماع فِرَق المُسلِمينَ، فلماذا نَستكثر عليهم العِصمة، ونجيزها لغيرهم؟ مجرد سؤال.

رأي جُمهورِ السُنّةِ في العِصمَة

يمكن القول أنّ جُمهور السُنّة يُصحّحون الحديث المرويَّ عن النبيّ (ص)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (2) ، ولازم هذا الحديث عِصمة الصحابة كما سَيرِد به التصريح مِن بعضهم؛ لأنّ صحَّة الإِقتداء

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: 120.

(2) طبقات الفُقهاء للشيرازي: ص3.

١٥٠

بأيٍّ مِنهم ومتابعته في الظُلم لو حصلت حال كونه مُرتكباً للذنب - وهو الحاصل مِن كونه غير معصوم - فمعناه الأمر مِن الله تعالى باتّباع العاصي والظالم ولو لنفسه، وإذا لم يُتابع ويعمل بما أراده النبيّ، فإنّ معناه تركُ أمر القرآن؛ لأنّه قال: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (1) ، والصحابيُّ هُنا ينقل أمرَ الرسول.

فإن قُلت: إنّ الله تعالى أمَرَنا بأن نأخذ الحديث مِن العادل الثِقة لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ) الحجرات: 6 التي دلَّت بمفهومها على حُجيّة خَبر العادل، ونحن لا نأخذ الأمر إلاّ مِن العادل مِنهم.

قُلت: إنّ ذلك يدلُّ بالمفهوم على أنّ فيهم غيرُ العادل حينئذ وهو المطلوب.

وعلى العموم، إنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سَمعنا مَن يُنكر على هؤلاءِ، فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمّتهم يُنتَقدون؟

التفتازاني والعصمة

يقول التفتازاني - وهو مِن أجلاء علماء السُنّة - في كِتابه شرح المقاصد: احتجَّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإِجماع على إمامة أبي بَكر وعُمر وعُثمان (رض) مع الإِجماع على أنّهم لم تَجب عِصمتهم، وإن كانوا مَعصومين بمعنى أنّهم مُنذ آمنوا كان لهم مَلَكة اجتناب المعاصي مع التَمكّن مِنها (2) ، وفي هذا النصّ أُمور:

1 - إنّ التفتازاني هُنا يُصرِّح بعصمة الخُلفاء الثلاثة.

2 - يقول: إنّ عِصمتهم غير واجبة. بمعنى أنّهم لا يقسرون عليها، وإلاّ فلا يُتصور تَعلّق الأحكام بالأُمور التكوينيّة، وإنّما مجال الأحكام السُلوك الاختياري، والاستعداد لقبول العِصمة أمرٌ مخلوق فيهم.

3 - مفاد كلامه: أنّ العصمة ملَكَةٌ تمنع صاحبها مِن مُقارفة الذنب لا على

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) شرح المقاصد بِتوسّط الغدير للأميني: 9/375.

١٥١

نحو سَلب الاختيار، وهذا عين ما يقوله الشيعة في أئمتهم، وليرجع مَن شاء إلى بحث العصمة في كُتُب الكلام الشيعيّة، وعلى هذا، فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون؟!

شَمسُ الدين الأصفهاني ونور محمّد والعصمة

يذهب الحافظ نور محمّد وشمس الدين الأصفهاني، الأوّل في تاريخ مزار شريف، والثاني كما نَقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عُثمان معصوم (1) ، وقد نَقله عن كتابه مطالع الأنظار. والرجُلان مِن علماء أهل السُنّة.

الإِيجي والعصمة

يذهب عبد الرحمان الإِيجي صاحِب كتاب المواقف في نفس الكتاب إلى عِصمة الخُلفاء، وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه، أي أنّها مَلَكة فيهم لا توجب سلب الاختيار (2) ، وهو مِن عُلماء السُنّة، وقد كَشَفت لنا هذه الجولة، أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعِصمة، بل عُلماء السُنّة يذهبون لذلك.

إذاً فما هو وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟

أنا لا أُريد أن أحُشِّد للقارئ نَقد كُتُب السُنّة ومؤلَّفيهم حول موضوع العِصمة، فإنّ كُتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين، وفي عصر الذرَّة بالذات، وهو وأَيم الحق مِن أكثر أهل السُنّة الّذين قرأتُ لهُم اعتدالاً في الكتابة عن الشيعة، ولكن مع ذلك كُلّه تبقى الرواسب في النُفوس تعمل عَملها.

إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كُتُب الشيعة وغيرهم قبل أن يَكتُب كِتابه؛ وذلك لِما رأيت له مِن كَثرة المصادر مع افتراض أنّه اطّلع على آراء أهل السُنّة في هذه المواضيع، فلماذا الإِنكار على الشيعة دون الآخرين، وإذا كان لم يطَّلِع - وهو ما أَستبعده - فلماذا يكتب؟

____________________

(1) الغدير نفس: 9/375.

(2) الغدير لأميني: 7/140. المواقف: ص399.

١٥٢

موقفنا مِن الغُلوِّ والغُلاة

وبعد شرح مناشئ الغُلوّ أو أهمّها نقول: إنّ الشيعة تبعاً لمواقف أئمّتهم وقفوا موقِفاً حازماً مِن الغلُوّ والغُلاة؛ فسلّطوا عليهم الأضواء وتبرّأوا مِنهم، وكافحوهم، وشهَّروا بهم، وهُم بذلك لا يتعدَّون موقف أمير المؤمنين (ع) حينما يقول: (هلك فيَّ اثنان: مُحبٌّ غالٍ، وعدوٌّ قال)، وموقف الإِمام الصادق (ع) حينما يقول: (ما نحن إلاّ عَبيد الذي خَلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله مِن حُجّة، ولا مَعَنا مِن الله براءة، وإنّا لميّتون وموقوفون، ومسؤولون، مَن أحبَّ الغُلاة فقد أبغضنا، ومَن أبغضهم فقد أحبّنا، الغُلاة كُفّار، والمُفوّضة مُشركون، لعنَ الله الغُلاة ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدريّة ألا كانوا مُرجّئة، ألا كانوا حروريّة) (1) .

والإِماميّة لا يورثون الغُلاة، وإليك نَصّ عبارتهم في ذلك: يَرث المُحقُّ مِن المُسلِمينَ مِن مُبطِلهم، ومُبطلهم مِن مُحقِّهم ومبطلهم، إلاّ الغُلاة يرث مِنهم المسلمون، وهم لا يرثون المُسلِمينَ، كما أنّ الإماميّة لا يُغسِّلون موتى الغُلاة ولا يدفنونهم، ويُحرِّمون تزويجهم وإعطائهم الزكاة.

وتجد هذه الأحكام موزّعة في كُتُب فقه الإماميّة في أبواب الطهارة والزكاة والإِرث.

إنّ الإماميّة لا يعتبرون الغُلاة مُسلمين:

يقول الشهيدان الأوّل والثاني في اللُمعة وشرحها في باب الوقف! عنه تعريف المُسلِمينَ: والمسلمون مَن صلّى إلى القبلة، أي اعتقد الصلاة إليها، وإن لم يصلِّ لا مستحلاً، إلاّ الخوارج والغُلاة، فلا يدخلون في مََفهوم المُسلِمينَ، وإن صلّوا إليها للحُكم بكُفرهم (2) وألحقا بهم المشبهة والمجسمة في الحكم، بل إنّ

____________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي: 3/51.

(2) اللُمعة الدِمشقيّة: 1/288 طبع إيران.

١٥٣

الإِمام الصادق (ع) يعتبر الجُلوس إلى المُغالي، وتصديقه بحديثه مُخرجاً مِن الإِيمان كما روى ذلك المُفَضّل بن يزيد قال: قال لي أبو عبد الله الصادق، وقد ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: (لا تُقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا تورثوهم)، وقال الصادق لمرازم - أحد أصحابه -: (قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فُسّاقٌ مشركون) (1) .

آراء بعض الباحثين

وانطلاقاً مِن ذلك يقول الشيخ المُفيد: الغُلاة مِن المتظاهرين بالإِسلام، وهم الّذين نَسبوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وذريته إلى الإلوهيّة، والنبوّة، ووصفوهم مِن الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخرجوا عن القصد، فهُم ضُلاّل كُفّار (2) .

ولا أحتاج إلى حَشد النُصوص والأدلة على براءة الشيعة مِن الغُلاة، وأي موقف أشدُّ صراحةً مِن هذه المواقف التي ذكرتها.

ولا يسع مؤمناً يؤمن بالله ورسوله، ويصدر عن تعاليم الإِسلام في سلوكه، ثمّ يَنزع إلى الغلو في عقيدة أو بَشر، إلاّ مَن ضَرب الله على بصيرته.

ولأجل وضوح موقف الشيعة مِن الغُلاة انطلقت الأصوات الموضوعيّة تَشهد ببراءتهم مِن ذلك، ومِن هذه الأصوات: مؤلفو دائرة المعارف الإسلاميّة، فقد جاء في دائرة المعارف:

الزيديّة والإِماميّة الّذين يؤلّفون المذهب الوسط يحاربون الشيعة الحلوليين حرباً شعواء - الحلولي لا نعتبره مِن الشيعة كما مرَّ - ويعتبرونهم غُلاة يُسيئون إلى المَذهب، بل يعتبرونهم مارقين عن الإِسلام (3) .

ويقول الدكتور أحمد محمود في نَظريّة الإِمامة عند ذكره للبابيّة والبهائيّة:

____________________

(1) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 4/150.

(2) شرح عقائد الصدوق للشيخ المفيد: باب الغُلاة.

(3) دائرة المعارف الإسلاميّة: 14/63.

١٥٤

وفي البابيّة آراء غالية جعلت مِنها مذهباً منشقاً تماماً عن الإِسلام، واتّفق عُلماء الأزهر في مصر، وعُلماء الشيعة في العراق وإيران على تكفير البابيّة والبهائيّة، وأُغلق المَحفل البهائي في مصر (1) .

وقد استعرض الدكتور أحمد أمين حَرَكة الغُلاة فقال: إنّ أفراداً بُسطاء هُم الغُلاة الّذين يؤلِّهون عليّاً، وإنّ الشيعة تبرأ مِنهم، ولا يجوز عندهم الصلاة عليهم (2) .

هذه أمثلة بسيطة في موضوع الغلوّ والغُلاة، أضعها أمام الّذين دأبوا على رمي الشيعة بالغلو، ولست أنفي أن يكون بعضَ مَن شمِله اسم الشيعة بمعنى انتمائه إلى الفِئة التي تُفضِّل عليّاً، أو قل: للتشيُّع بمعناه اللغوي قد نسبت له آراء وأقوال تُفيد الغُلوّ، وقد بادوا، وبادت معهم آراؤهم، ولا يوجد اليوم مِنهم أحد إلاّ في بُطون الكُتُب.

ومِن ذلك ما ذكره البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق حيث قال: الإماميّة مِن الرافضة، هم خمس عشرة فِرقة هي: الكامليّة، والمحمديّة، والباقريّة، والناووسيّة، والشمطيّة، والعماريّة، والإِسماعيليّة، والمُباركيّة، والموسويّة، والقطعيّة، والاثنا عشريّة، والهشاميّة، والزراريّة، واليونسيّة، والشيطانيّة (3) .

وتعقيباً على قول البغدادي نَذكر: أن الإماميّة هُم الاثنا عشريّة، وهم جمهور الشيعة اليوم، ولا يوجد مِن الشيعة غيرهم، وغير الزيديّة والإسماعيليّة في هذه الآونة، ثمّ إنّ الاثني عشريّة الّذين هُم مدار بحثنا يمتازون عن غيرهم بعقائدهم، ولا يصحُّ أن تُنسب إليهم آراء غيرهم؛ لأنّه يجمعه معهم الاسم، وشيء آخر هو أنّ مَن ذكرهم البغدادي قد يُمثِّلون لكلِّ فرقة ذكرها بضعة أفراد ليس إلاّ، وهذا اللون مِن الخبط والتساهُل تعلّمنا أن نرى مِثله كثيراً في كِتاب الفِرَق لابن طاهر، وغيره، خذ مثلاً ما يقول ابن طاهر في كتابه الفَرقُ بينَ الفِرَق عن جابر بن يزيد الجُعفي يقول:

جابر بن يزيد الجعفي مِن المحمديّة، وهم أصحاب محمّد بن عبد الله بن الحسن ينتظرون ظهوره، وكان يقول برجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة (4) .

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص436 هامش.

(2) فجر الإِسلام: ص2371.

(3) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص53.

(4) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص44.

١٥٥

ولم يكن جابر مِن أتباع محمّد بن عبد الله بن الحسن، ولا كان يقول برجعة مُطلق الأموات، وإنّما كان يقول برجعة بعض أهل البيت؛ لروايات سمِعها ليس إلاّ، وهكذا يكون التحقيق عند أمثال ابن طاهر مِن الكُتّاب، كأنّ مسألة العقائد أمرٌ بهذه السُهولة بحيث ينسب للناس ما لم يقولوه، ويرجعهم إلى فئة ليسوا مِنها.

وأعود لموضوع الغُلاة فأقول: قد اتّضح للقارئ موقف الشيعة مِن الغُلاة، ولكن مع ذلك تجد باحثاً كالزبيدي صاحب تاج العروس يُعرِّف الإماميّة في كتابه التاج فيقول: الإماميّة هُم فرقة مِن غُلاة الشيعة (1) .

وتجد الدكتور محمود حِلمي في كتابه تَطوّر المُجتمع الإِسلامي العربي يقول: وقد سُمّوا بالشيعة؛ لأنّهم شايعوا عليّاً، وقدّموه على سائر أصحاب رسول الله (ص)، واستشهد أهل الشيعة بنُصوص مِن القرآن الكريم، فسروها على حسب نظريّتهم، وغالى بعضُ الشيعة في تبرير أحقيّة عليِّ بن أبي طالب، وأضفى عليه بعض صِفات التقديس والإلوهيّة (2) .

إنّك لَتستغرب لهجة هؤلاءِ الكُتّاب، خُصوصاً بعض كُتّاب مصر، فإنّهم يُصوّرون الشيعة كأنّهم أُناس لا إيمان لهم ولا دين، يتلاعبون بالنصوص مِن دون رقيب مِن الله تعالى، ولا ضوابط مِن عِلم وخُلُق، وإنّهم واللهِ أولى بذلك، وإلاّ فما الدليل على ما ذكره محمود حلمي، وهذه كُتُب الإماميّة بين يديه، فليدلّنا على مكان تَنسب فيه الشيعة الحلول والإلوهيّة إلى عليٍّ، وسوف لا يجد ذلك قطعاً.

إنّهم يَصدُرون فيما يقولون عن عدم شعورٍ بالمسؤوليّة: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: 5 والأنكى مِن ذلك أن تجد مَن تأثّر بهؤلاء الكُتّاب مِن قريب أو بعيد، وهو مِن الشيعة وتراه يكتب بنفس الأُسلوب، ورحم الله مَن يقول:

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضة

على المرءِ مِن وقع الحُسام المُهنّدِ

يقول الدكتور كامل مصطفى في كتابه: وبذلك يتبيّن أنّ الغُلاة - وإن كانوا مغضوباً عليهم - مِن الشيعة المعتدلين، وأئمّتهم قد أسّسوا العقائد الأصليّة للتشيُّع

____________________

(1) تاج العروس: 8/194.

(2) تَطوّر المُجتمع الإِسلامي: ص48.

١٥٦

في بداء، ورجعة، وعِصمة، وعِلم لَدُنّي بحيث صارت مبادئ رسميّة للتشيُّع فيما بعد، ولكن على صورة مُلطّفة، انتهى.

وظهر لي أنّ الدكتور كامل أخذ ذلك مِن تصريح ابن نوف - وهو أحد أصحاب المُختار - وهو قد أخذها مِن المُختار (1) ، وأُعيد إلى الذاكرة أنّ العقائد قد أخذها الشيعة مِن القرآن والسُنّة كما بَرهنّا عليه فيما مرَّ، ثمّ لو قُدِّرَ أنّ ابن نَوف هذا أو المُختار قد قالا قولاً خاصّاً بهما، فما ذنب الشيعة، ومَن هو ابن نوف حتّى يُمثِّل الشيعة؟!

وإذا كان الدكتور كامل يَعترف بأنّ الغُلاة مَغضوب عليهم مِن الشيعة وأئمّتهم، فكيف تأخذ الشيعة مِنهم؟! وهي إنّما غضبت عليهم لغلوِّهم. إذا كانت هذه العقائد مِن الغلوّ، وهو ليس منه في شيء، أليس هذا هو التناقض بِعينه؟ وإذا كنّا نعذر حلمي وأمثاله؛ لأنّهم لم يأخذونا مِن مصادرنا، فما عُذر مثل كامل الشيبي، وهو مِن الشيعة، ويعيش بين مصادرهم.

وليس هذا بالاستنتاج الوحيد مِن الدكتور كامل الذي لا نقرّه عليه، بل له استنتاجات كثيرة مِن هذا النوع، ومنها:

أنّه عندما استعرض مصادر القول بالرجعة عنه الشيعة ذكر أنّ مِن مصادرها كلمات للإِمام عليٍّ (ع) - وَرَدَت في نهج البلاغة - عندما أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل، وقال له بعض أصحابه: وددّتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له أمير المؤمنين (ع): (أَهَوى أخيك معنا؟) قال: نعم، قال: (فقد شَهِدَنا) ولعلّ الإِمام يشير إلى الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: 169. ولكنّ الخَبَر يتوجّه إلى الرجعة بكلّ ما فيها مِن عِبرة وعمق، بل إنّ بقيّة الخبر تنفذ إلى أغوار بعيدة مِن فلسفة الرجعة وحكمتها، فإنّ الإِمام يقول:

(ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال، وأرحام النساء سَيَرعف بهم الزمن، ويقوى بهم الإِيمان)

ومِن ذلك يبدو أنّ عليّاً لا يكتفي بتقرير عودة الماضين في الجهاد ليقطفوا ثمرة جهادهم، بل يُقرّر أنّ المجاهدين الآتين يحضرون هذا النصر؛ ليزيد ذلك مَن أيدهم، ويربط على قلوبهم، وتلك أُمور فيها مِن

____________________

(1) الصِلَة بين التصوّف والتَشَيُّع، فصل الغُلاة.

١٥٧

الأفلاطونيّة القديمة والحديثة مدخل كبير انتهى كلامه (1) .

وأنا أضع هذا النصّ بين يدي القارئ؛ ليرى ما هو مقدار الصواب مِن هذه الاستنتاجات التي أوردها الدكتور، والآثار التي رَتّبها عليها، والاكتشافات الأفلاطونيّة التي ذكرها، وأُعقِّب على ذلك بما يلي:

أولاً: إذا كان هذا النصّ وارداً في الرجعة، فمعنى هذا أنّ الإِمام عليّاً (ع) هو الذي وضع عقيدة الرجعة، وليس الغُلاة كما يقول الدكتور كامل.

ثانياً: إنّ هذا النصّ - وبكل بساطة - أجنبي كما ذكره الدكتور، ولا صِلة له بالمَرّة بالمعاني التي ذكرها، وكلّ ما في الأمر أنّ هذا النصّ يُفيد معنى الرواية (مَن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم، وشاركهم في عملهم)، ولذلك سأل الإِمام عليّ (ع) الرجل عن هوى أخيه، هل هو مع أمير المؤمنين (ع) وأصحابه؟ فلّما أجابه بنعم قال: (لقد شهدنا) أي شاركنا بمشاعره، ثمّ قال له الإِمام: إنّ جميع مَن سيرعف بهم الزمان، وهُم على رأينا سيشاركوننا بعد ذلك بحصول الثواب والفرح بالنصر، وكم لهذا الموضوع مِن نظائر، ومِن ذلك ما رواه مؤرّخوا واقعة الطفِّ حيث قالوا: إنّ جابر بن عبد الله زار الحسين (ع) بعد قَتله، فقال في زيارته: (أشهدُ أنّا شاركناكم فيما أنتم فيه)، فقال له رفيقه الأعمش: إن القوم قُطعت رؤوسهم، وجاهدوا حتّى قُتلوا، فكيف شاركناهم نحن فيما هُم فيه؟! فقال له جابر: إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحاب الحسين.

ذكر ذلك أصحاب المزارات كافّة.

هذا هو معنى كلام الإِمام عليّ (ع)، لا كما ذهب إليه الدكتور.

أينَ مَوضِعُ الغُلوِّ

أعود بعد ذلك لأضع بين يدي الأستاذ فرغل بضع روايات مِن مئات مِن نوعها تدله على موضع الغُلوِّ؛ ليعلم أنّ الغُلوَّ عند غير الشيعة، وعلى أسوأ

____________________

(1) الصِلة بين التَصوّف والتَشَيُّع: ص114.

١٥٨

الفروض، فإنّ عند السُنّة أضعاف ما عند الشيعة، وسأبدأ معه مِن الخلافة وأتسلسل معه.

1 - الشاهدُ الأوّل:

ذكر الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه عُمدة التحقيق في بشائر آل الصِدّيق، قال رويَ أنّ النبيّ (ص) قال يوماً لعائشة: (إنّ الله لمّا خَلق الشمس، خَلقها مِن لؤلؤة بيضاء بِقَدر الدُنيا مائة مَرّة وأربعين مَرّة - مع مُلاحظة أنّ حجم الشمس كما يقول الفلكيّون مليون وثلثمائة ألف مَرّة تقريباً - وجعلها على عَجَلَة، وخلق للعجلة ثمانمائة عُروة وستين عُروة، وجعل في كلّ عُروة سلسلة مِن الياقوت الأحمر، وأمر ستّين ألفاً مِن الملائكة المُقرَّبين أن يَجرّوها بتلك السلاسل مع قوتهم التي اختصَّهم الله بها، والشمس مِثل الفلك على تلك العَجَلَة، وهي تجول في القُبّة الخَضراء، وتجلو جَمالها على أهل الغبراء، وفي كلّ يوم تقف على خط الاستواء فوق الكعبة؛ لأنّها مركز الأرض - ملاحظة: خط الاستواء ليس فوق الكعبة - وتقول: يا ملائكة ربّي، إنّي لأستحيي مِن الله عزّ وجل إذا وصلت إلى مُحاذاة الكعبة التي هي قِبلة المُسلِمينَ أن أجوز عليها، والملائكة تَجرُّ الشمس؛ لتعبر على الكعبة بكلِّ قوّتها، فلا تَقبل مِنهم، وتعجز الملائكة عنها فالله تعالى يوحي إلى الملائكة، ومِن الإِلهام فَيُنادون: أيتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كُنت فيه مِن السير، فإذا سمعت ذلك تَحرّكت بقُدرة المالك.) فقالت عائشة:

يا رسول الله مَن الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟

قال: (هو أبو بكر الصِدّيق، يا عائشة قَبلَ أن يخلق الله العالم، عَلِمَ بعلمه القديم أنّه يَخلق الهواء، ويخلق على الهواء هذه السماء، ويخلق بحراً مِن الماء، ويخلق عليه عَجَلَة مركباً للشمس المُشرقة على الدنيا، وإنّ الشمس تَتمرَّد على الملائكة إذا وصلت الاستواء، وإنّ الله قدَّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّاً مُفضَّلاً على الأنبياء، وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره أعني أبا بكر صِدّيق

١٥٩

المصطفى، فإذا أقسَمَتْ الملائكة عليها به زالت الشمس، وعادت إلى سيرها بقدرة المولى، وكذلك إذا مرَّ العاصي مِن أُمتي على نار جهنَّم، وأرادت النار أن تَهجم على المؤمن، فلحُرمة مَحبّة الله في قَلبه، ونقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة) (1) .

2 - الشاهد الثاني:

ذكر محمّد بن عبد الله الجرداني في مصباح الظلام قال: روي عن ابن عبّاس جاء جبرئيل وقال: (يا محمّد اقرأ عُمَر السلام، وأخبره أنّ رضاه عِزٌّ، وغضبه حِلمٌ، وليبكِ الإِسلام بعد موتك على موت عُمَر.)

فقال: (يا جبرئيل أخبرني عن فضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى؟) فقال: (يا محمّد لو جلستُ معك قدر ما لبث نوح لم أستطع أن أُخبرك بفضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى) (2) .

3 - الشاهد الثالث:

ذكر الإِمام أحمد في مسنده بإسناده عن عائشة: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله (ص)، وكان مُضطجعاً في بيته كاشفاً عن فَخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتَحدّث، ثمّ استأذن عُمَر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثمّ استأذن عُثمان، فجلس رسول الله (ص) وسوّى ثيابه، فلّما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُمَر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُثمان فجلس، فجلست وسوّيت ثيابك!

فقال: (ألا أستحي مِن رجل تستحي منه الملائكة) (3) .

هذا ثلاثة نماذج مِن عشرات مِن الروايات: التي يأباها الخُلفاء أنفسهم، فإنّ لهم مِن مواقفهم ومَناقبهم ما يكفيهم. إنّهم ليسوا بحاجة إلى أن تُشاد لهم صُروح مِن خيال أبله، كما أّنّ تاريخنا الإِسلامي أعزَّ علينا مِن أن نرضى بأن تكون

____________________

(1) عُمدة التحقيق: ص184.

(2) مصباح الظلام: 2/216.

(3) مصباح الظلام: 2/16.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237